المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ القول في الحس المشترك - رسالة النفس

[ابن رشد الحفيد]

الفصل: ‌ القول في الحس المشترك

وأما حس اللمس فهو يدرك هذه المتضادة من غير غلط لاحق له في إدراكها، فكان جهة إدراكها له غير الجهة التي يدركها سائر الحواس، ولذلك قد نرى أيضاً انه خاص بها.

وبالجملة ليس يخلو الأمر فيه إما أن يكون من المحسوسات المشتركة لكن يكون مع هذا حاسة اللمس أصدق في تميزه أو يكون من جهة خاصة لهذه الحاسة ومن جهة مشتركاً. فإن الجهة التي بها يدرك أيضاً سائر الحواس الثقل والخفة وقد ندركها من تلك الجهة حاسة اللمس ويعرض لها الغلط فيه كما يعرض لتلك وهي السرعة والبطوء.

وأما الجهة الخاصة التي منها لدرك هذه القوة المتضادة، وهي جهة إحساسها بالميل المحرك فليس يعرض لها فيه غلط أصلاً لكن هذه المضادة، أعني الثقل والخفة لما كانت أيضاً من جهة ما مشتركة للملموسات قد نرى أنه ليس، ينبغي أن نجعل القوة المدركة لها قوة أخرى غير قوة اللمس، حتى تكون قوة سادسة. وأيضاً فإن الآلة التي بها تدرك هذه القوة الحرارة والبرودة والثقل والخفة هي آلة واحدة، وقد قلنا أن أحد ما يكون به القوة واحدة هي أن تكون آلتها واحدة. فأما تفرق الاتصال فليس جنساً آخر من الحس على ما يراه ابن سينا ولا هاهنا محسوسات غير هذه التي عددناها، وإنما تحس هذه القوة، أعني قوة اللمس الأذى اللاحق عن تفرق الاتصال بما يحدث عنه من الحرارة واليبوسة التابعين لحركة الجسم الذي يفرق الاتصال ولذلك كلما كانت الأجسام التي تفعل ذلك ألطف وأقل خشونة كان تفرق الاتصال أقل حساً، وكلما كانت أغلظ وأخشن كان الأمر بالعكس..

وابعد من هذا كله ما يراه جالينوس من أن هذه القوة إنما تدرك محسوساتها الخاصة بها بتوسط إدراكها تفرق الاتصال، فإن التفرق ضد الاتحاد، وهذه هي من المحسوسات المشتركة ونفس التفرق ليس يحدث عنه وجع كما ظنه جالينوس، لكن الأمر في هذا كما قلناه بعكس ما ظن جالينوس، وجالينوس نفسه نجد يسلم هذا المعنى في موضع آخر، وذلك عند شرحه قول أبقراط أنه لو كان الجسم مؤلفاً من أشياء من طبيعة واحدة لما كان يألم عندما يغمز بشيء تفرق أجزاءه، وإذا كان ذلك كذلك فإذن تفرق الاتصال إنما يحس من جهة الاستحالة التي تعرض للمركب المتصل من جهة الجسم المفرق لاتصاله، وذلك من جهة الضدية الموجودة فيه. فقد قلنا ما هذه القوة وما محسوساتها، وبالجملة ما به تتقوم بأوجز ما أمكننا فلنسر إلى‌

‌ القول في الحس المشترك

.

القول في الحس المشترك

وهذه القوى الخمس التي عددناها يظهر من أمرها أن لها قوة واحدة مشتركة، وذلك أنه لما كانت هاهنا محسوسات لها مشتركة فهاهنا إذن لها قوة مشتركة بها تدرك المحسوسات المشتركة، سواء كانت مشتركة لجميعها كالحركة والعدد أو لاثنين منها فقط كالشكل والمقدار المدركان بحاسة البصر وحاسة اللمس.

وأيضاً فلما كنا بالحس ندرك التغاير بين المحسوسات الخاصة بحاسة حاسة حتى نقضي مثلاً على هذه التفاحة أنها ذات لون وريح وطعم وأن هذه المحسوسات متغايرة فيها، وجب أن يكون هذا الإدراك لقوة واحدة، وذلك أن القوة التي نقضي على أن هذين المحسوسين متغائرين هي ضرورة قوة واحدة، فإن القول بأن القوة التي بها ندرك التغاير بين شيئين محسوسين ليست بقوة واحدة بمنزلة القول بأني أدرك المخالفة التي بين المحسوس الذي أحسسته أنا والمحسوس الذي أحسسته أنت وأنا لم أحسه وهذا بين بنفسه.

ص: 15

وقد يوقف أيضاً على وجود هذه القوة من فعل آخر هاهنا ليس يمكننا أن ننسبه إلى واحد من الحواس الخمس، وذلك أنا نجد كل واحد من هذه الحواس تدرك محسوساتها وتدرك مع هذا أنها تدرك فهي تحس الإحساس، وكان نفس الإحساس هو الموضوع لهذا الإدراك، إذ كانت نسبته إلى هذه القوة نسبة المحسوسات إلى حاسة حاسة، ولذلك لسنا نقدر أن ننسب هذا الفعل إلى حاسة واحدة من الحواس الخمس، وإلا لزم أن تكون المحسوسات أنفسها هي الاحساسات أنفسها، وذلك أن الموضوع مثله للقوة الباصرة إنما هو اللون والموضوع لهذه القوة هو نفس إدراك اللون فلو كان هذا الفعل للقوة الباصرة لكان اللون هو نفس إدراكه وذلك محال، فإذن باضطرار ما يلزم عن هذه الأشياء كلها وجود قوة مشتركة للحواس كلها هي من جهة واحدة أو من جهة كثيرة، أما كثرتها فمن جهة ما تدرك محسوساتها بآلات مختلفة وتتحرك عنها حركات مختلفة، وأما كونها واحدة فلأنها تدرك التغاير بين الإدراكات المختلفة، ولكونها واحدة تدرك الألوان بالعين والأصوات بالأذن، والمشمومات بالأنف، والمذاقات باللسان، والملموسات باللحم، وتدرك جميع هذه بذاتها وتحكم عليها، وكذلك تدرك جميع المحسوسات المشتركة بكل واحدة من هذه الآلات فيدرك العدد مثلاً باللسان والأذن والعين واللحم والأنف، وهي بالجملة واحدة بالموضوع كثيرة بالقول وواحدة بالماهية كثيرة بالآلات، والحال في تصور هذه القوة واحدة من جهة وكثيرة من أخرى، والحال في الخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها فإن هذه الخطوط كثيرة بالأطراف التي تنتهي إلى المحيط واحدة بالنقطة التي تجتمع أطرافها عندها وهي المركز، وكذلك هذه الحركات التي تكون عن هذه المحسوسات ير من جهة المحسوسات والآلات كثيرة، وهي من جهة أنها تنتهي إلى قوة واحدة واحدة.

وهذا المثال قد جرت عادة المتكلمين في النفس من أرسطو ومن دونه من المفسرين أن يأخذوه في تفهم وجود هذه القوة، وهو وإن كان من جنس التعليم الذي يؤخذ فيه في تفهم جوهر الشيء بدل الشيء، وذلك إما شبيه كما فعل هاهنا أو غير ذلك وهو التعليم الشعري. فليس ذلك بضار إذا تقدم فعرف جوهر هذه القوة وعلمت الجهة التي بها وقعت المحاكات بينهما، وكان هذا النحو من التعليم إنما يدخل في التعليم البرهاني في الأشياء التي تصعب على الذهن أن يتصورها أولاً بذاتها، فتؤخذ أولاً في تفهيمها بدل جوهر الشيء تلك الأشياء على جهة التوطئة إلى أن ينتقل الذهن من محاكي الشيء إلى الشيء بعينه لأن المقصود من ذلك تصور الشيء بما يحاكيه فقط، كما نفصل ذلك بداية في التعليم الشعري.

فأما جوهر هذه القوة ما هو وأي وجود وجوده فذلك بين مما قلنا في الحس بإطلاق، وذلك إنا قد كنا عرفنا هنالك مرتبة هذه القوة من سائر القوى الهيولانية وعرفنا أن قبولها للمحسوسات ليس قبولاً هيولانياً، وبهذا صح لها أن تدرك المتضادات معاً في أن واحد وبقوة غير منقسمة. فهذا هو القول فيما يخص واحداً واحداً من هذه الحواس الخمس، وكيف يخصها، وفيما يشترك وكيف يشترك.

فأما أنه ليس يمكن أن توجد حاسة سادسة فذلك ظاهر من جهات: أحدها أنه لو كان هاهنا حاسة أخرى غير هذه الخمس لكان هاهنا محسوس آخر وهو بين بالتصفح أن المحسوسات الخاصة هي الخمسة فقط، وذلك أن المحسوسات ضرورة إما أن تكون ألواناً أو أصواتاً أو طعوماً أو روائح أو ملموسات أو ما يتبع هذه ويدرك بتوسطها وير المحسوسات المشتركة، وإذا كان هذا بينا بنفسه ولم يكن هاهنا محسوس آخر فليس هاهنا قوة حسية أخرى.

وأيضاً لو كان هاهنا حاسة أخرى لكانت هاهنا آلة أخرى ومتوسطات آخر أن فرضنا هذه الحاسة غير ملاقية لمحسوسها، وذلك أنه يظهر بالتصفح أنه لم يبق في هذه المتوسطات جهة تخدم بها محسوساً آخر غير الجهات التي سلفت، ولا يمكن أن تدرك بآلة واحدة محسوسين مختلفين. فإن الآلة الواحدة كما قلنا لمحسوس واحد، وإذا كان هذا هكذا ألزم أن وجدت هاهنا حاسة أخرى أن توجد آلة أخرى فقط أن فرضناها ملاقية لمحسوسها أو آلة أخرى ومتوسط أن فرضناها غير ملاقية لمحسوساتها.

ص: 16