الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان أيضاً يظهر بالتأمل انه ليس يتأتى هاهنا وجود آلة أخرى ولا هاهنا متوسط آخر فبين أنه ليس يمكن أن توجد هاهنا حاسة أخرى. فأما من أن يظهر إنه لا يمكن أن توجد هاهنا آلة أخرى ولا متوسط آخر تقدم، وذلك أنه ليس يوجد متوسط آخر غير الماء والهواء، وذلك أن الأرض بجساوتها لا يمكن. فيها أن يكون متوسطاً والنار لا يمكن أن يوجد فيها حيوان فضلاً عن أن يكون متوسطاً، وكذلك لا يمكن أيضاً أن توجد آلة أخرى. وذلك أن كل آلة إما أن تكون مركبة من ماء كالعين، وهواء كالحال في الأذنين، أو ممتزجة على غاية الاعتدال من الأسطقسات الأربعة على ما هو عليه اللحم. فإن الآلة بوجه ما يجب أن تكون مناسبة للمتوسط.
وقد يظهر ذلك أيضاً من انه أن وجدت هاهنا حاسة أخرى فتوجد لحيوان آخر غير الإنسان فيوجد للأنقص ما ليس يوجد للأكمل، ولذلك كانت الحواس على القصد الأولى من اجل القوى التي هي كمالات لها وبخاصة النطق على ما سنبين من أمره، وقد تلخص في كتاب الحيوان كيف نسبة الأعضاء التي توجد للحيوان من غير أن توجد هي بأعيانها للإنسان إلى الأعضاء. التي تقوم مقامها في الإنسان، وأن مثل هذه الأعضاء وجودها في الإنسان بوجه اشرف كالخرطوم للفيل، والجناح للطائر فإن اليد في الإنسان أتم فعلاً من هذه واشرف، وقد توجد تتلو هذه القوة، أعني قوة الحس في الحيوان الكامل وهو الذي يتحرك إلى المحسوس بعد غيبته عنه أو يتحرك إليه قبل حضوره قوة أخرى، وهي المدعوة بالتخيل، وينبغي أن نقول فيها.
القول في التخيل
وهذه القوة ينبغيِ أن نفحص من أمرها هاهنا عن أشياء أولها عن وجودها، فإن قوماً ظنوا أنها القوة الحسية بعينها، وقوماً ظنوا بها أنها قوة الظن، وقوم رأوا أنها مركبة منهما، ثم هل هي من القوة التي توجد تارة قوة وتارة فعلاً، وأن كان الأمر كذلك فهي ذات هيولى، فما هي هذه الهيولى وأي مرتبة مرتبتها، وما الموضوع لهذا الاستعداد والقوة، وأيضاً فما المحرك لها والمخرج من القوة إلى الفعل.
فنقول أما أن هذه القوة مغايرة للقوة الحسية فذلك يظهر عن قرب، وذلك انهما وأن اتفقتا في أنهما يدركان المحسوس فهما يختلفان في أن هذه القوة تحكم على المحسوسات بعد غيبتها، ولذلك كانت أتم فعلاً عند سكون فعل الحواس كالحال في النوم، وأما في حال الإحساس فإن هذه القوة يكاد أن لا يظهر لها وجود، وأن ظهر فيعسر ما يفترق من الحس، ومن هذه الجهة نظن أن هذه القوة ليست توجد لكثير جمن الحيوان كالدود والذباب وذوات الأصداف، وذلك إنا نرى هذا الصنف من الحيوان لا يتحرك إلا بحضور المحسوسات، ويشبه أن يكون هذا الصنف، إما أن لا يوجد له تخيلاً أصلاً وأن وجد فغير مفارق للمحسوس، والفحص عن هذا يكون عند النظر في القوة المحركة للحيوان في المكان. وقد تفارق أيضاً هذه القوة قوة الحس،. فإنا كثيراً ما نكذب بهذه القوة ونصدق بقوة الحس، ولا سيما في محسوساتها الخاصة ولذلك ما تسمى المحسوسات الكاذبة تخيلاً.
وأيضاً فقد يمكننا أن نركب بهذه القوة أموراً لم نحس بها بعد بل إنما أحسسناها مفردة فقط كتصورنا غزايل والغول وما أشبه ذلك من الأمور التي ليس لها وجود خارج النفمس، وإنما تفعلها هذه القوة ويشبه أن يكون هذا من فعل هذه القوة خاصاً للإنسان. وسنبين في كتاب الحس والمحسوس الأمور التي بها يباين الإنسان سائر الحيوان في هذه القوى وحيوان حيواناً، والأمور التي فيها تشترك وأيضاً فإن نحس من الأمور الضرورية لنا وليس كذلك التخيل بل لنا أن نتخيل الشيء وأن لا نتخيله، وهذا أحد ما تفارق به هذه القوة قوة الظن. وذلك أن الظن ضروري لنا، وقد تفارقها أيضاً من أن الظن إنما يكون أبداً مع تصديق، وقد يكون تخيل من غير تصديق مثل تخيلنا أشياء لم نعلم بعد صدقها من كذبها وإذا لم تكن هذه القوة ولا واحد من هاتين القوتين، أعني قوة الحس والظن فليس يمكن فيها أن تكون مركبة منهما كما رأى ذلك بعضهم، لأن المركب من الشيء إذا لم يكن على جهة الاختلاط يلزم فيه ضرورة أن، تحفظ خواص ما تركب منه.
وكذلك يظهر هاهنا من قرب أن هذه القوة ليست عقلاً إذ كنا إنما نصدق أكثر ذلك بالمعقولات، ونكذب بهذه القوة.
والفرق بين التصور النطقي والتصور الخيالي وأن كان كلاهما يجتمعان في أنا لسنا نصدق بها أو نكذب، أن المتخيلات إنما نتصورها منِ حيث هي شخصية وهيولانية، ولذلك لا يمكن أن نتخيل ألواناً إلا مع عظم وأن كان سيظهر من أمرها أنها أرفع رتب المعاني الشخصية.
وأما تصور العقلي فهو تجريد المعنى الكلي من الهيولى لا من حيث له نسبة شخصية هيولانية في جوهره، بل أن كان ولابد فعلى أن ذلك لاحق من لواحق الكلي، أعني تتعدد بتعدد الأشخاص وأن توجد له نسبة هيولانية، وسيظهر هذا على التمام عند القول في القوة الناطقة.
فأما أن هذه القوة توجد تارة قوة وتارة فعلاً فذلك من أمرها بين، وذلك أنها في فعلها مضطرة أن يتقدمها الحس كما سنبين بعد، والإحساسات كما تبين قبل حادثة، وإذا كان ذلك كذلك فهذه القوة إذن هيولانية بوجه ما وحادثة.
وأما الموضوع لهذه القوة الذي فيه الاستعداد فهو الحس المشترك بدليل أن التخيل إنما يوجد أبداً مع قوة الحس وقد يوجد الحس دون التخيل.
وبالجملة يظهر من أمر القوة الحساسة أنها متقدمة بالطبع على هذه القوة وأن نسبتها إليها نسبة الغاذية إلى الحسية، ونعني بهذا نسبة الاستكمال الأول الذي في القوة الخيالية إلى الاستكمال الأول الذي للقوة الحساسة، وعلى الحقيقة فالموضوع لهذين الإستعدادين، أعني الاستعداد لقبول المحسوسات وقبول المتخيلات هي النفس الغاذية، إذ كان كما تبين من أمر هذه القوة أن الوجود لها من أول الأمر إنما هو من حيث هي فعل، والاستعدادات بما هي استعدادات إنما توجد مقترنة مع ما بالفعل، وليس بعضها موضوعاً لبعض إلا على جهة التشبيه، بمعنى أن بعضها يتقدم في الموضوع وجود بعض، وهكذا ينبغي أن يفهم الأمر في الاستعداد الخيالي مع الاستعداد الحسي، فإنا لسنا نقدر أن نقول أن الاحساسات بالفعل هي الموضوعة لهذا الاستعداد الخيالي على جهة ما نقول أن النفس الغاذية موضوعة للنفس الحسية، إذ تبين أن الاحساسات هي المحركة لهذه القوة التي تستكمل بها، لكن على كل حال فإن من الظاهر أن هذه القوة والاستعداد أكثر روحانية من الاستعداد الحسي، إذ كان حصوله في الرتبة الثانية وبعد حصول الاستعداد الحسي، وكأنه إنما ينسب إلى الهيولى بتوسط القوة الحسية.
وأيضاً فإن هذه القوة انفعالها ليس عن المحسوس بالفعل من خارج النفس بل من الآثار الحاصلة عن المحسوسات في القوة الحسية على ما سنبين بعد وما هذا شأنه فهو أكثر روحانية.
فقد تبين من هذا القول وجود هذه القوة، وأي هيولى هيولاها وما مرتبتها، ولما كان بالقوة، كما قيل في غير ما موضع إنما يصير إلى الفعل بمحرك يخرجه من القوة إلى الفعل، فما المحرك ليت شعري لهذه القوة.
أما المحرك في قوة الحس فالأمر في ذلك بين وهي المحسوسات بالفعل، وأما هذه القوة فلما كان استكمالها إنما هو بالمحسوسات أيضاً بوجه ما، وذلك بعد غيبتها. وكان أيضاً يظهر من أمرها أنها مضطرة في أن توجد على كمالها الأخير إلى المحسوسات، وذلك أنا إنما يمكننا أن نتخيل الشيء بالذات وعلى كنهه بعد أن نحسه فلا يخلو أن يكون المحرك لها أحد أمرين.
أما المحسوسات بالفعل خارج النفس فيكون على هذا الوجه هذه القوة حس ما، وذلك انه ليس يكون فرقاً بينها وبين قوة الحس إلا أن قوة الحس تدرك المحسوسات وهي حاضرة وهذه تتمسك بها بعد غيبتها فقط.
وأما أن يكون المحرك لهذه القوة ليست المحسوسات التي خارج النفس بل الآثار الباقية منها في الحس المشترك فإنه قد يظهر انه تبقى آثار ما من المحسوسات في الحس المشترك بعد غيبتها، ولا سيما المحسوسات القوية. ولذلك متى انصرف عنها إلى ما دونها من المحسوسات بسرعة لم يمكن أن يحسها.
وبالجملة ففي الحس المشترك قوة على التمسك بآثار المحسوسات وحفظها لكن متى أنزلنا نفس التخيل إنما هو في وجود هذه الآثار الباقية في الحس المشترك بعد ذهاب المحسوسات، لا بأن تكون هذه الآثار هي المحركة لقوة التخيل حتى يكون لها في هيولى التخيل وجوداً اكثر روحانية منها في الحس المشترك لزم أن نتخيل معاً أشياء كثيرة مبلغ عددها كمبلغ عدد الأمور التي أحسسناها.