المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول في القوة الحساسة - رسالة النفس

[ابن رشد الحفيد]

الفصل: ‌القول في القوة الحساسة

وهاهنا قوة أخرى منسوبة إلى النبات هي كالكمال والصورة للقوة الغاذية، إذ كانت لا يمكن أن توجد خلوا من الغاذية، ويمكن أن توجد الغاذية خلوا منها وهي القوة النامية، وهذه القوة هي القوة التي من شأنها عندما تولد الغاذية من الغذاء أكثر مما تحلل من الجسم أن تنمي الأعضاء في جميع أجزائها وأقطارها على نسبة واحدة، وهو بين أن هذه القوة مغايرة بالماهية للغاذية. فإن فعل التنمية غير فعلِ الحفظ، فإن هذه القوة قوة فاعلة، فبين مما رسمناها به كذلك أيضاً كونها نفساً.

وأما السبب الغائي الذي من اجله وجدت هذه القوة فإنه لما كانت الأجسام الطبيعية لها أعظام محدودة وكان لا يمكن في الأجسام المتنفسة أن توجد لها من أول الأمر العظم الذي يخصها احتيج إلى هذه القوة، ولذلك إذا ما بلغ الموجود العظم الذي له بالطبع كفت هذه القوة.

وبين مما قبل أيضاً في النفس الغاذية أن آلة هذه القوة هي الحرارة الغريزية، فأما كيف تكون هذه الحركة وبماذا تكون فقد لخص القول في ذلك في كتاب الكون والفساد، وليس هذا الفعل فقط ينسب لهذه النفس، أعني النمو بل وضده وهو الاضمحلال. فإن هذه الحركة أيضاً محدودة مرتبة وذلك أنها إذا عرضت تعرض في كل نقطة وجزء محسوس من أجزاء المضمحل على السواء وليس مثل هذا الاضمحلال ما يمكن أن ينسب إلى ما من خارج فقط.

ولما كانت أيضاً هذه الأجسام المتنفسة منها متناسلة، ومنها غير متناسلة، وكانت المتناسلة هي التي يمكن فيها أن توجد مثلها بالنوع أو شبيهاً بها وذلك بما يوجد عنها من البزور والمني، فإذن هاهنا قوة أخرى تفعل من الغذاء ما شأنه أن يتكون عنه مثل الشخص الذي توجد له هذه القوة.

وبين من هذا أن هذه القوة فاعلة وأنها نفس، وأن آلتها هي الحرارة الغريزية، إذ كان لا فرق بين هذه القوة والقوة الغاذية، إلا أن هذه القوة شأنها أن تفعل مما هو بالقوة شخص من نوعه شخصاً بالفعل، والغاذية إنما تفعل جزء شخص، وإنما جعلت هذه القوة في الأشياء التي هي موجودة فيها لا على جهة الضرورة، كالحال في القوة الغاذية والنامية بل على جهة الأفضل لتكون لهذه الموجودات حظ من البقاء الأزلي بحسب ما يمكن في طباعها. فإن اقرب شيء إلى الوجود الضروري بالشخص هو هذا الوجود، وكانت هذه الموجودات أعطيت من أول الأمر وجودها وقوة تحفظ بها وجودها.

وأما غير المتناسلة فلم تعط إلا وجودها فقط لأنه لم يمكن فيها أكثر من ذلك.

فهاهنا إذن ثلاث قوى: أولها الغاذية هي كالهيولى لهاتين القوتين، أعني النامية، والمولدة. إذ كان قد توجد الغاذية دونهما وليس توجد أن دون الغاذية. أما المولدة فكأنها تمام القوة النامية، ولذلك ما تصرف الطباع الفضلة من الغذاء الذي كان بها النمو عند كمال النمو إلى التوليد فتكون منها البزور والمني، وهذه القوة أعني قوة التوليد قد يمكن أيضاً أن تفارق الغاذية، وذلك في آخر العمر. وأما مفارقة الغاذية فهو موت، فقد تبين من هذا القول ما النفس الغاذية والمنمية والمولدة، وأي آلة آلتها، ولم كان كل واحد منها في الجسم المتنفس فلنقل في القوة التي تتلو هذه في الحيوان وهي قوة الحس.

‌القول في القوة الحساسة

وهذه القوة بين من أمرها أنها قوة منفعلة، إذ كانت توجد مرة بالقوة ومرة بالفعل، وهذه القوة منها قريبة ومنها بعيدة والبعيدة كالقوة التي في الجنين على أن يحس، والقريبة كقوة النائم والمغمض عينه على أن يحس، وبين مما تقدم أن ما بالقوة من جهة ما هو بالقوة منسوب إلى الهيولى، وأن خروج القوة إلى الفعل تغير أو تابع لتغير، وأن كل متغير فله مغير ومحرك يعطي المتحرك شبيه ما في جوهره. وإذا كان ذلك كذلك فينبغي أن نتعرف من أمر هذه القوة أي وجود وجودها وما المحرك لها وعلى أي جهة تقبل التحريك.

فنقول أما القوة البعيدة وهي التي تكون في الجنين فقد تبين أي وجود وجودها في كتاب الحيوان، والمحرك لها هو ضرورة غير المحرك للقوة القريبة، إذ كان بهذا تكون القوتان اثنين، وقد تبين وجود هذا المحرك في كتاب الحيوان.

وأما المحرك للقوة القريبة فبين من أمره أنه المحسوسات بالفعل، والذي ينبغي هاهنا أن نطلب أي وجود وجود هذه القوة وعلى أي جهة تقبل التحريك عن المحسوسات.

فنقول إنه من البين مما تقدم أن القوة تقال على ثلاثة أضرب:

ص: 5

أولاها بالتقديم والتحقيق القوة المنسوبة إلى الهيولى الأولى، إذ كانت الهيولى الأولى إنما الوجود لها من جهة ما هي قوة محضة. ولذلك لم يمكن في مثل هذه القوة أن تفارق بالجنس الصورة التي هي قوية أولاً عليها بل متى تعرت عن الصورة التي فيها تلبست بصورة أخرى من جنسها، كالحال في الماء والنار.

وبالجملة في الأجسام البسائط، ثم من بعد هذه القوة الموجودة في صور هذه الأجسام البسيطة على صور الأجسام المتشابهة الأجزاء، وهذه القوة هي متأخرة عن تلك، إذ كان يمكنِ فيها أن تفارق صورة الشيء الذي هي قوية عليه بالجنس، وهي أيضاً حين تقبل الكمال والفعل ليس تخلع صورتها كل الخلع، كالحال في القوة الموجودة في الأجسام البسيطة، ولذلك لسنا نقول أن صور الأسطقسات موجودة بالقوة في الجسم المتشابه الأجزاء على جهة ما نقول أن الماء بالقوة هواء أو نار بل بنحو متوسط على ما تبين في كتاب الكون والفساد. فكأن هذه القوة الثانية شأنها فعل ما، إذ كان السبب في وجودها القوة الأولى مقترنة بالصورة البسيطة لا القوة وحدها.

ثم تتلو هذه في المرتبة القوة الموجودة في بعض الأجسام المتشابهة الأجزاء كالقوة التي في الحرارة الغريزية مثلاً أو ما يناسبها الموضوعة في النبات والحيوان للنفس الغاذية. م وتفارق هذه القوة القوة التي في صور الأسطقسات على الأجسام المتشابهة الأجزاء أن هذه إذا قبلت ما بالفعل لم يتغير الموضوع لها ضرباً من التغير لا قليلاً ولا كثيراً، ولذلك كان فساد هذه ليس إلى الضد بل إلى العدم فقط، فكأن هذه القوة قد شابهت الفعل أكثر من تلك، ولذلك ما قبل أن معطي الصورة المزاجية التي بها شان موضوعها أن تقبل هذا الكمال أحد الأمرين: إما نفس في المتناسل من ذوات النفوس. وإما حرارة الكواكب في غير المتناسل لكن هذه القوة إذا وجدت على كمالها في النبات فليس يوجد فيها استعداد لقبول صورة أخرى.

وإما إذا وجدت في الحيوان فإنه يلفي فيها استعداداً لقبول صورة أخرى وهي الصورة المحسوسة، وإنما عرض لها ذلك من جهة اختلاف استعداد موضوعها في النبات والحيوان، إلا من جهة ما هي قوة غاذية. وهذا الاستعداد الذي يوجد في القوة الغاذية لقبول المحسوسات الذي هو الكمال الأول للحس ليس الموضوع القريب له شيئاً غير النفس الغاذية، وهذه القوة وهذا الاستعداد كأنه شيء ما بالفعل إلا انه ليس على كماله الأخير، فإن الحيوان النائم قد يرى أنه ذو نفس حساسة بالفعل.

ولذلك ما يشبه أرسطو هذه القوة بالقوة التي في العالم حين لا يستعمل علمه، لكن ليست هيِ بالقوة من جهة ما هي بالفعل. فإنما هي بالقوة شيئاً ما ليس هو شيئاً ما بالفعل مما هو قوي عليه، بل أن كان شيئاً ما بالفعل فلا من جهة ما هو قوي، إذ كان الفعل والقوة متناقضتين. لكن لما كانت القوة لا تعرى من الفعل لزم أن توجد إما فعل ما غير تام، وإما أن توجد مقترنة بصورة أخرى مغايرة للصورة التي هي قوية عليها من غير أن تكون هي في نفسها شيئاً، وإذا كانت القوة ذات صور فإما أن تكون الصورة التي في الموضوع مضادة للصورة الواردة فتفسد صورة الموضوع عند ورودها إما فساداً تاماً كالحال في صور البسائط، وإما فسادا ما غير محض كالحال في صور البسائط عند حلول صور المتشابهة الأجزاء فيها.

وإما أن لا تكون بينهما مضادة أصلاً ولا مغايرة بل مناسبة تامة، فيبقى الموضوع عند الاستكمال على حاله قبل الاستكمال، بل لا يمكن وجود الاستكمال إلا أن يبقى الموضوع على حاله قبل الاستكمال كالحال في القوة التي في المتعلم على التعلم، وهذه القوة التي هي فعل غير تام ليس يحتاج في وجودها إلى صورة هي موجودة إلا بالعرض، كالحال في النفس الغاذية مع الحسية التي هي الكمال الأول.

ص: 6