الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: شبهات والجواب عليها
الشيهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعاس رضي الله عنهما
…
الفصل الرابع: شبهات والجواب عليها
يورد المخالفون في هذا الموضوع بعض الاعتراضات والشبهات، ليدعوا رأيهم الخاطىء، ويوهموا العامة بصحته، ويلبسوا الأمر عليهم، وأعرض فيما يلي هذه الشبهات واحدة إثر واحدة، وأرد عليها رداً علمياً مقنعاً إن شاء الله، بما يقرر ما بينته في الفصل السابق وينسجم معه، ويقنع كل مخلص منصف، ويدحض كل افتراء علينا بالباطل، وبالله تعالى وحده التوفيق، وهو المستعان.
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما:
يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث أنس السابق: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون"1.
فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله
1 رواه البخاري وغيره، وانظر ص 40.
كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون. وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بزعمهم وتوسله بدلاً منه بالعباس رضي الله عنه، فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير.
وفهمهم هذا خاطىء، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة اهمها:
1-
إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر:"كنا نتوسل إليك بنبينا.. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" شيئاً محذوفاً، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: كنا نتوسل بجاه نبينا، وإنا نتوسل إليك بجاه" عم نبينا على رأيهم هم، أو يكون: "كنا نتوسل إليك بـ"دعاء" نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ"دعاء" عم نبينا" على رأينا نحن.
ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء.
ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في دراه، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعوا ربهم قائلين: اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث. مثلاً أم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ذاته فعلاً، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق صلى الله عليه وسلم طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطُّرُقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليس غير.
ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 1.
ومن أمثلة ذلك ما مر معنا في حديث أنس السابق الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سورة النساء: الآية 64.
يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وصفه ربه بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1 فدعا صلى الله عليه وسلم لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت.
ومن ذلك أيضاً مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل صلى الله عليه وسلم فاستجاب له ربه جل شأنه أيضاً.
ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم
…
" الحديث2 وفيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه، وصلى بالناس، فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول، وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم
1 سورة التوبة: الآية 128.
2 رواه أبو داود "1173" وقال: هذا حديث غريب إسناده جيد وهو كما قال وصححه جمع وبيانه في صحيح أبي داود "1064".
حتى بدت نواجذه، وقال:"أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله".
فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تُبين بما لا يقبل الجدال أو الممارة أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به، وعرضه حاله له، وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه، ليحقق طلبه، فيستجيب هذا له، ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى.
2-
وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس وفي استعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أ، موظف مثلاً، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالباً فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان "الوسيط" عندك، ومنزلته لديك اقضي لي حاجتي.
وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه:"اللهم إنا منا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا" أي: كنا إذا قل
المطر مثلاً نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطلب منه ان يدعو لنا الله جل شأنه.
3-
ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر رضي الله عنه: وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.
تُرى لماذا عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، مع العلم ان العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر امام شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه؟
أما الجواب برأينا فهو: لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه:{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 1.
ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية آخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي
1 سورة المؤمنون: الآية 100.
صلى الله عليه وسلم، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ممكناً، وما كان من المعقول ان يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبداً، لأن الإنصراف عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالإنصراف عن الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى الإقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، كما نرى ذلك واضحاً في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس، فأقيم؟ قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف، فقال:"يا أبا بكر: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ " قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 1.
فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستسيغوا الاستمرار على الإقتداء بأبي بكر رضي الله عنه في صلاته عندما حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن أبا بكر رضي الله عنه لم تطاوعه نفسه على
1 رواه البخاري "376 مختصره" ومسلم "4/145- 149 بشرح النووي".
الثبات في مكانه مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، لماذا؟ كل ذلك لتعظيمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتأدبهم معه، ومعرفتهم حقه وفضله، فإذا كان الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم -لم يرتضوا الإقتداء بغير النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمكن ذلك، مع أنهم كانوا بدأوا الصلاة في غيابه صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف يتركون التوسل به صلى الله عليه وسلم أيضاً بعد وفاته، لو كان ذلك ممكناً، ويلجئون إلى التوسل بغيره؟ وكما لم يقبل ابوبكر أن يؤم المسلمين فمن البديهي أن لا يقبل العباس أيضاً أن يتوسل الناس به، ويدعوا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان ذلك ممكناً.
"تنبيه": وهذا يدل من ناحية أخرى على سخافة تفكير من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم في قبره حي كحياتنا، لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبداً في منزلته وفضله. ولا يعترض احد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنا في قبري حي طري، من سلم علي سلمت عليه". وأنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم حي مثل حياتنا، فإذا توسل به سمعنا واستجاب لنا، فيحصل مقصودنا، وتتحقق رغبتنا، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله صلى الله عليه وسلم في حياته، وبين حاله بعد وفاته أقول: لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين:
الأول حديثي: وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ، كما أن لفظة "طري" لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقاً، ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمتَ؟ قال: يقولون: بَليتَ، قال:"إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء" 1 ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره" 3 وقوله: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام"4.
الجواب الثاني فقهي: وفحواه أن حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالانسان في الدنيا يأكل ويشرب، ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء عليه السلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته.
1 رواه أبو داود "1047" والنسائي وغيرهما هم أوس بم أوس وإسناده صحيح وراجع له "المشكاة" 1361 وغيره.
2 رواه أبو يعى والبزار وغيرهما عن أنس بن مالك وإسناده صحيح وهو مخرج كتابي "سلسلة الأحاديث الصحيحة- 62".
3 رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك أيضا.
4 رواه النسائي والدارمي وابن حبان والحاكم "2/21" عن ابن مسعود وصححه ووافقه الذهبي وابن حبان وهو كما قالوا. وهو مخرج في تخريج المشكاة- 924" و "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 21".
ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر في باب أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إن الأمر واضح جداً، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي، أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" 1 وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس، فنقول: إن تعليلهم لعدول عمر - رضي الله - عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب. إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر رضي الله عنه أو في
1 رواه أبو داود عن أبي هريرة وإسناده حسن وهو مخرج في كتابي "الأحاديث الصحيحة 2666" و "الأحاديث الضعيفة- 3/5" و "نقد الكتاني- 47" و "صحيح أبي داود 1799".
بال غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب، والشقاء والبؤس، يكادون يموتون جوعاً وعطشاً لشح الماء وهلاك الماشية، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب، فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه، وهي التوسل بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك جائزاً ويأخذ بالوسيلة الصغرى، التي لا تقارن بالأولى، وهي التوسل بالعباس، لماذا؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل!!
إن الشاهد والمعلوم أن الإنسان إذا حلّت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم، إذا كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده في أوقات العسر، كما قال تبارك وتعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1.
فنعلم منهذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواقر، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وأمر
1 العنكبوت: 65 والفلك: السفن.
آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك، وهو: هب أن عمر رضي الله عنه خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه.
4 – إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: "إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبد المطلب، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه رضي الله عنه، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والإنصاف.
5-
لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في الفتح "3/150" حيث قال: قد بين الزبير بن بكار في "الأنساب" صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من
نبيك، وهذا أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس.
وفي هذا الحديث:
أولاً: التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً.
ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسلهم بالعباس، وإذ تبين للقارىء – مما يأتي – أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه صلى الله عليه وسلم فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد.
أما أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: كانوا إذ قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر
…
فذكر الحديث، نقلته من "الفتح 2/399"، فقوله: فيستسقي لهم صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي النهاية لابن الأثير: الاستسقاء،
استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك.
إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية:"استسقوا به" أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية الأولى:"كنا نتوسل إليك بنبينا" أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا. ويؤيده.
ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء.
فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لو كان جائزاً، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!
اعتراض ورده:
وأما جواب صاحب "مصباح الزجاجة في فوائد قضاء الحاجة" عن
ترك عمر التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بقوله "ص25": "إن عمر لم يبلغه حديث توسل الضرير، ولو بلغه لتوسل به".
فهو جواب باطل من وجوه:
الأول: أن حديث الضرير إنما يدل على ما دل عليه توسل عمر هذا من التوسل بالدعاء لا بالذات، كما سبق ويأتي بيانه.
الثاني: أن توسل عمر لم يكن سراً، بل كان جهراً على رؤوس الأشهاد، وفيهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فإذا جاز أن يخفى الحديث على عمر، فهل يجوز أن يخفى على جميع الموجودين مع عمر من الصحابة؟!
الثالث: أن عمر – كما سبق – كان يكرر هذا التوسل كلما نزل بأهل المدينة خطر، أو كلما دعي للاستسقاء كما يدل على ذلك لفظ "كان" في حديث أنس السابق أن عمر كان إذا قحَطوا استسقى بالعباس وكذلك روى ابن عباس عن عمر كما ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب""3/98"، فإذا جاز أن يخفى ذلك عليه أول مرة، أفيجوز أن يستمر على الجهل به كلما استسقى بالعباس، وعنده المهاجرون والأنصار، وهم سكوت لا يقدمون إليه ما عندهم من العلم بحديث الضرير؟! اللهم إن هذا الجواب ليتضمن رمي الصحابة جميعهم بالجهل بحديث الضرير مطلقاً، أو على الأقل بدلالته على جواز التوسل بالذات، والأول باطل لا يخفى بطلانه، والثاني حق فإن الصحابة لو كانوا يعلمون أن حديث الضرير يدل على التوسل المزعوم
لما عدلوا عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس كما سبق.
رابعاً: أن عمر ليس هو وحده الذي عدل عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالدعاء، بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان فإنه أيضاً عدل إلى التوسل بدعاء يزيد بن الأسود، ولم يتوسل به صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الصحابة وأجلاء التابعين، فهل يقال أيضاً إن معاوية ومن معه لم يكونوا يعلمون بحديث الضرير؟ وقل نحو ذلك في توسل الضحاك بن قيس بيزيد هذا أيضاً.
ثم أجاب صاحب المصباح بجواب آخر، وتبعه من لم يوفق من المتعصبين المخالفين فقال: إن عمر أراد بالتوسل بالعباس الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام العباس وإجلاله، وقد جاء هذا صريحاً عن عمر، فروى الزبير بن بكار في "الأنساب" من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: "استسقى عمر ابن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فخطب عمر فقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذوه وسيلة إلى الله
…
"، ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه به.
والجواب من وجوه أيضاً:
الأول: عدم التسليم بصحة هذه الرواية، فإنها من طريق داود ابن عاطاء وهو المدني، وهو ضعيف كما في "التقريب"، ومن طريق الزبير بن بكار عنه رواه الحاكم "3/334" وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله:"داود متروك" قلت: والرواي عنه ساعدة بن عبيد الله المزني لم
أجد من ترجمه، ثم إن في السند اضطراباً، فقد رواه – كما رأيت – هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال:"عن أبيه" بدل ابن عمر، لكن هشاماً أوثق من داود، إلا أننا لم نقف على سياقه، لننظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا؟ ولا تغتر بقولهم في "المصباح" عقب هذا الإسناد:"به" المفيد أن السياق واحد، فإن عمدته فيما نقله عن البلاذري إنما هو "فتح الباري" وهو لم يقل:"به". انظر "الفتح""2/399".
الثاني: لو صحت هذه الرواية، فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك، وأما أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لو كان جائزاً عندهم – إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا، ثم كلا، لأننا نعلم بالبداهة والضرورة – كما قال بعضهم – أنه لو أصاب جماعة من الناس قحط شديد، وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة، وإلى رحمة الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً أصيب بمكروه فادح، وكان أمامه نبي، وآخر غير نبي، وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من النبي، ولو طلبه من غير النبي، وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين، فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره، لو كان التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم جائزاً، فكيف وهو أفضل عند المخالفين من التوسل بدعاء العباس وغيره من الصالحين؟! لا سيما وقد تكرر ذلك منهم مراراً كما سبق، وهم لا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة، واستمر