الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستيطان المساجد من أجل الذكر والصلاة وأقل ما تفيده الاستحباب وقد ذهب إليه ابن حزم رحمه الله فقال:
(ويستحب ملازمة المسجد لمن هو في غنى عن الكسب والتصرف)
وإنما قيده بهذا القيد وتبعناه على ذلك لما ثبت في الشريعة من وجوب السعي وراء الرزق وأن لا يكون المسلم عالة على الناس كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة / 10] فإذا كان غنيا عن ذلك أو بلغ من العمر عتيا بحيث لا يستطيع العمل أو غير ذلك كان معقولا أن يجعل وطنه بيت الله تعالى وأن يرابط فيه لذكر الله والصلاة
(ب) المناهي
(1 - الخروج من المسجد بعد الأذان قبل الصلاة لا يحل فقد (خرج رجل من المسجد بعدما أذن فيه [بالعصر] فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم
الحديث من رواية أبي هريرة نفسه رضي الله عنه وله عنه طريقان:
الأول: عن أبي الشعثاء قال. . . فذكره
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وابن ماجه وأحمد من طريق إبراهيم بن المهاجر وأشعث بن أبي الشعثاء والمحاربي عن أبي الشعثاء وقال الترمذي - والسياق له -:
(حديث حسن صحيح)
والزيادة له ولأبي داود وأحمد في رواية
ثم أخرجه هو والطيالسي من طريق شريك عن أشعث به وزاد:
(ثم قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي). قال المنذري:
(رواه أحمد وإسناده صحيح). وقال الهيثمي:
(ورجاله رجال الصحيح)
قلت: وهو بهذه الزيادة غير صحيح لأنه تفرد بها شريك وليس بالقوي فيما يتفرد به كما قال الدارقطني وفي (التقريب):
(صدوق يخطيء)
ثم هو لم يحتج به أحد (الصحيحين) وإنما أخرج له مسلم متابعة كما صرح الذهبي في (الميزان) فإطلاق الهيثمي أن رجاله رجال (الصحيح) ليس بصحيح لأنه يوهم أنهم كلهم محتج به في (الصحيح) وليس كذلك على أنه قد جاء الحديث مرفوعا من طريق أخرى عن أبي هريرة كما يأتي لكني شخصيا لم أقف على سنده لنحكم له أو عليه وإن كان ظاهر كلام المنذري والهيثمي يفيد أنه قوي كما سترى
الثاني: عن أبي صالح عنه أنه رأى رجلا. . . الحديث بدون الزيادة
أخرجه الطبراني في (الصغير) قال: ثنا محمد بن المديني - فستقة - البغدادي: ثنا سريج بن يونس: ثنا أبو حفص الأبار عن محمد بن حجادة عنه. وقال:
(لم يروه عن محمد بن حجادة إلا أبو حفص الأبار)
قلت: وهو ثقة حافظ واسمه عمر بن عبد الرحمن. وبقية رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين غير فستقة هذا وهو لقبه واسمه محمد بن علي بن الفضل أبو العباس وهو ثقة مات سنة (289) كما في (تاريخ بغدد) فالإسناد صحيح
والحديث تكلم فيه الشوكاني حيث قال:
(وفي إسناده إبراهيم بن المهاجر وقد وثق وضعف)
وقد خفي عليه أنه تابعه أشعث بن أبي الشعثاء وهو ثقة
ثم إن ظاهره أنه موقوف ولكنه في المعنى مرفوع عند الجمهور قال المنذري في (مختصر سنن أبي داود):
(ذكر بعضهم أن هذا موقوف وذكر أبو عمر النمري أنه مسند عندهم وقال: لا يختلفون في هذا وذاك أنهما مسندان مرفوعان. يعني: هذا وقول أبي هريرة: ومن لم يجب - يعني الدعوة - فقد عصى الله ورسوله). قال الحافظ:
(وقد أخرجه الطبراني في (الأوسط) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه فصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتخصيص ولفظه:
(لا يسمع النداء في مسجدي ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق)
قلت: وقال المنذري في (الترغيب):
(رواه الطبراني في (الأوسط) ورواته محتج بهم في (الصحيح). وقال الهيثمي في (المجمع) نحوه
قلت: وله شاهد من حديث عثمان بن عفان مرفوعا بلفظ:
(من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق)
أخرجه ابن ماجه عن عبد الجبار بن عمر عن [ابن] أبي فروة عن محمد بن يوسف مولى عثمان بن عفان عن أبيه عنه. وفي (الزوائد):
(إسناده ضعيف فيه ابن أبي فروة واسمه إسحاق بن عبد الله: ضعفوه وكذلك عبد الجبار بن عمر)
وشاهد آخر مرسل أخرجه الدارمي من طريق عبد الرحمن بن حرملة قال:
جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد) فقال إن أصحابي بالحرة قال: فخرج قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم رجال مسلم إلا أنه روى لعبد الرحمن متابعة كما في (تهذيب التهذيب) وزعم الحاكم في (المستدرك) أن مسلما احتج به وأفاد في موضع آخر أنه من رجال البخاري وهذا من أوهامه التي وافقه الذهبي عليها
والحديث هذا رواه عبد الرزاق في (مصنفه) من هذا الوجه كما في (نصب الراية) وعزاه المنذري لأبي داود في (مراسيله) وهو في (المختصر)
قال الشوكاني:
(والحديثان يدلان على تحريم الخروج من المسجد بعد سماع الأذان لغير الوضوء وقضاء الحاجة وما تدعو الضرورة إليه حتى يصلي فيه تلك الصلاة لأن ذلك المسجد قد تعين لتلك الصلاة قال الترمذي بعد أن ذكر الحديث: وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: أن لا يخرج أحد من المسجد [بعد الأذان] إلا من عذر: أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه. ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه.
انتهى
قال ابن رسلان في (شرح السنن): إن الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة قال القرطبي: هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل نسبته إليه وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية عليه)
قلت: ولذلك فالحديث دليل على التحريم كما قال الشوكاني وسبقه إلى ذلك ابن حزم حيث قال:
(ومن كان في المسجد فاندفع الأذان لم يحل له الخروج من المسجد إلا أن يكون على غير وضوء أو لضرورة)
والقول بالكراهة فقط خلاف ظاهر الحديث
(وهذا إذا كان لغير عذر وأما به فيجوز كما سيأتي في المباحات)
(2 - تشبيك الأصابع ما دام فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يقل هكذا: وشبك بين أصابعه)
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه
أخرجه الدارمي والحاكم - واللفظ له - من طريق إسماعيل بن أمية عن المقبري عنه. وقال الحاكم:
(صحيح على شرط الشيخين). ووافقه الذهبي
وهو كما قالا. ولم يرض ذلك المنذري في (الترغيب) حيث قال:
(وفيما قاله نظر)
قلت: ولعل وجهه أنه اختلف فيه على المقبري كما يأتي لكن إسماعيل ابن أمية ثقة ثبت كما في (التقريب)
وقد تابعه محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة
أخرجه الحاكم عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان. والحديث أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) أيضا كما في (الترغيب)
والاختلاف المشار إليه جاء على وجوه هذا أحدها
ثانيها: سفيان الثوري عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة مرفوعا به
أخرجه الدارمي
وتابعه أبو بكر بن عياش عند ابن ماجه وقران بن تمام أبو تمام وشريك بن عبد الله عند أحمد كلهم عن ابن عجلان به
ثالثهما: الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن رجل من بني كعب عن كعب
أخرجه الترمذي به
وتابعه ابن جريج إلا أنه قال: عن بعض بني كعب بن عجرة عن كعب
رواه أحمد
رابعها: ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن رجل من بني سالم عن أبيه عن جده عن كعب
أخرجه الطيالسي وأحمد
وهذا اختلاف شديد ولذلك قال الحافظ:
(أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان وفي إسناده اختلاف ضعفه بعضهم بسببه)
قلت: وقد غمزه البيهقي
قلت: ولعل الوجه الأول هو الصواب لاتفاق ثقتين عليه: إسماعيل بن أمية وابن عجلان وإن كان اختلف فيه على ابن عجلان أيضا كما رأيت لكن لا ندري أمنه هذا الاضطراب أم من شيخه سعيد؟ والظاهر الثاني. والله أعلم
على أن للحديث أصلا من رواية كعب بن عجرة من طريقين آخرين لا دخل لهذا الاختلاف فيهما:
الأول: عن داود بن قيس عن سعد بن إسحاق بن فلان بن كعب بن عجرة أن أبا ثمامة الخياط حدثه أن كعب بن عجرة حدثه قال. . . فذكره مرفوعا بنحوه
أخرجه أبو داود وأحمد. قال المنذري:
(بإسناد جيد)
وتبعه العلامة أحمد شاكر في (تعليقه على الترمذي)
وفيه عندي نظر فإن أبا ثمامة هذا وإن كان (قد ذكره ابن حبان في (الثقات) وأخرج له في (صحيحه) هذا الحديث) كما في (النيل) فإنه مجهول الحال كما قال الحافظ في (التقريب) وقال الدارقطني:
(لا يعرف يترك كما في (الميزان) للذهبي وقال: لا يعرف)
نعم من الممكن أن يقال: إنه حسن لغيره لما سبق ويأتي:
الثاني: أخرجه ابن حبان في (صحيحه) فقال: ثنا أبو عروبة: ثنا محمد ابن سعدان: ثنا سليمان بن عبد الله عن عبيد الله بن عمر [و] عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة مرفوعا. ذكره العيني في (العمدة) وسكت عليه ورجاله موثقون غير محمد بن سعدان فلم أعرفه ولعله محمد بن سعدان أبو جعفر البزار حدث عن أبي جعفر النفيلي وفيض بن وثيق وغيرهما روى عنه أبو عبد الله الحكيمي - له ترجمة في (تاريخ بغداد) - وقال:
(مات سنة سبع وسبعين ومائتين)
ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا إلا أن الحديث منقطع فإن سليمان بن عبد الله وهو ابن محمد بن سليمان الحراني مات سنة ثلاث وستين ومائتين
وعبيد الله بن عمرو - وهو الرفي - مات سنة ثمانين ومائة عن (79). فبين وفاتيهما (83) سنة فلعل بينهما محمد بن سليمان الحراني جد سليمان هذا فإنه يروي عنه
وله شاهد من حديث مولى أبي سعيد الخدري
أخرجه أحمد: ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: ثنا عبيد الله بن عبد الله بن موهب قال: ثني عمي يعني عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب - عن مولى لأبي سعيد الخدري قال:
بينما أنا مع أبي سعيد الخدري مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخلنا المسجد فإذا رجل جالس في وسط المسجد محتبيا مشبك أصابعه بعضها في بعض فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن الرجل لإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سعيد فقال:
(إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه)
ثم رواه عن وكيع عن عبيد الله به وعنه أخرجه ابن أبي شيبة كما في (العمدة) وقال الحافظ:
(وفي إسناده ضعيف ومجهول)
قلت: الأول هو عبيد الله وهو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب قال: في (التقريب):
(ليس بالقوي)
والآخر عمه عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب وهو مقبول كما في (التقريب)
ومنه تعلم أن قول المنذري ثم الهيثمي:
(رواه أحمد بإسناد حسن)
غير حسن. نعم الحديث حسن بل صحيح بمجموع هذه الطرق
وقد عارضه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه. . . الحديث
أخرجه البخاري وترجم له ب (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره)
وفيه دلالة على جواز التشبيك في المسجد فإما أن يقال: إن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام لما تقرر في الأصول أن قوله عليه الصلاة والسلام مقدم على فعله عند التعارض وإما أن يكون فعله مبينا لنهيه أنه ليس للتحريم بل للكراهة ولعله الأقرب والله أعلم. وانظر (نيل الأوطار)
(3 - قربانه ممن أكل ثوما ونحوه من البقول والنباتات المنتنة فإن ذلك يحرم ما دامت الرائحة الكريهة فيه لقوله عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر: (من أكل من هذه الشجرة المنتنة [قال أول يوم: الثوم ثم قال: الثوم والبصل والكراث] فلا يقربن مسجدنا (وفي لفظ: مساجدنا وفي حديث ثاني: فلا يقربنا ولا يصلين معنا زاد في ثالث: ثلاثا [وليقعد في بيته] وفي رابع: حتى يذهب ريحه منه وفي خامس: ولا يؤذينا بريح الثوم) فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس وفي سادس: وقال: إن كنتم لا بد أكليهما فأميتوهما طبخا يعني: البصل والثوم)
الحديث جاء عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة يزيد بعضهم على بعض:
الأول: جابر بن عبد الله
وله عنه طرق:
1 -
كثير بن هشام عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عنه - والسياق له
أخرجه مسلم وأحمد ورواه الطبراني في (الصغير) من طريق يحيى بن راشد البراء: ثنا هشام بن حسان الفردوسي عن أبي الزبير به وزاد:
(الثوم والبصل والكراث والفجل). وقال:
(لم يروه عن هشام القردوسي إلا يحيى بن راشد)
قلت: وهو ضعيف كما قال الحافظ في (الفتح) وشيخه الهيثمي في (المجمع) وهي زيادة ثابتة من طريق أخرى كما يأتي دون قوله: (الفجل) فإنه لم يرد إلا في هذا الطريق
والحديث أخرجه ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن نمران الحجري عن أبي الزبير به:
أن نفرا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فوجد منهم ريح الكراث فقال:
(ألم أكن نهيتكم عن أكل هذه الشجرة إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان)
وعبد الرحمن بن نمران مجهول كما في (التقريب) لكن تابعه حماد بن سلمة: أنا أبو الزبير أتم منه
أخرجه أحمد
2 -
ابن جريج قال: أخبرني عطاء عنه
وفيه الزيادة الأولى عند مسلم والنسائي والسياق واللفظ الآخر له والترمذي وصححه من طريق يحيى بن سعيد عنه (1) ولفظ مسلم:
(الثوم) وقال مرة:
(البصل والثوم والكراث). قال الحافظ:
(1) ورواه أحمد (3/ 380) عن عبد الرزاق: أنا ابن جريج به
(ورواه أبو نعيم في (المستخرج) من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج مثله وعين الذي قال: (وقال مرة) ولفظه: قال ابن جريج وقال عطاء في وقت آخر: (الثوم والبصل والكراث) ورواه أبو الزبير عن جابر بلفظ: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث. وقال: ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم. هكذا أخرجه ابن خزيمة من رواية يزيد بن إبراهيم وعبد الرزاق عن ابن عيينة كلاهما عن أبي الزبير. قلت: وهذا لا ينفي التفسير المتقدم إذ لا يلزم من كونه لم يكن بأرضهم أن لا يجلب إليهم حتى لو امتنع هذا الحمل لكانت رواية المثبت مقدمة على رواية النافي)
ويريد الحافظ بالتفسير المشار إليه رواية البخاري من طريق أبي عاصم قال: أخبرنا جريج به بلفظ:
(من أكل من هذه الشجرة - يريد الثوم - فلا يغشانا في مسجدنا)
وهو رواية لمسلم من طريقين آخرين عن ابن جريج
ثم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي من طريق ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: ثني عطاء بن أبي رباح به وفيه الزيادة الثانية ولفظه:
(من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا) أو (أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته) وإنه أتي بقدر فيه خضروات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال: (قربوها) إلى بعض أصحابه فلما رآه كره أكلها قال: (كل فإني أناجي من لا تناجي)
وتابعه عبد الملك بن مروان عند أحمد والليث بن سعد عند الطبراني بدون قصة القدر. وقال الطبراني:
(ولم يرو الزهري عن عطاء حديثا غير هذا)
الثاني: أنس بن مالك
رواه عنه عبد العزيز بن صهيب قال: سئل أنس عن الثوم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا). وهو الحديث الثاني
الثالث: حذيفة بن اليمان مرفوعا بلفظ:
(من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا - ثلاثا -)
أخرجه أبو داود من طريق زر بن حبيش عن حذيفة أظنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإسناده صحيح على شرط الشيخين وعزاه المنذري في (الترغيب) لابن خزيمة فقط في (صحيحه) وهو قصور وأورده في مكان آخر بالشطر الأول منه وقال:
(رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما)
قلت: وهو الحديث الثالث
الرابع: أبو سعيد الخدري
وله عنه طرق أربعة:
1 -
عن أبي نضرة عنه قال: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم والناس جياع فأكلنا منها أكلا شديدا ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح فقال:
(من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد) فقال الناس: حرمت حرمت فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها)
2 -
عن ابن خباب عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على زراعة بصل هو وأصحابه فنزل ناس منهم فأكلوا منه ولم يأكل آخرون فرحنا إليه فدعا الذين لم يأكلوا البصل وأخر الآخرين) حتى ذهب ريحها
أخرجها مسلم وأخرجه البيهقي من الوجه الأول
3 -
عن بكر بن سوادة أن أبا النجيب مولى عبد الله بن سعد حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثه:
أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل قيل: يا رسول الله وأشد ذلك كله الثوم أفتحرمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(كلوه. ومن أكل منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه)
رواه أبو داود
وإسناده حسن في الشواهد رجاله كلهم ثقات رجال (الصحيح) غير أبي النجيب هذا وقد وثقه ابن حبان وحده ولم يذكروا راويا عنه غير بكر هذا وفي (التقريب):
(إنه مقبول)
قلت: ورواه ابن خزيمة في (صحيحه) كما في (الترغيب)(1/ 134)
وله شاهد وهو (السادس) وآخر وهو الذي بعده
4 -
عن بشر بن حرب: سمعت أبا سعيد الخدري يحدث قال:
غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك وخيبر قال: ففتح الله على رسوله فدك وخيبر فوقع الناس في بقلة لهم هذا الثوم والبصل قال فراحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد ريحها فتأذى به ثم عاد القوم فقال:
(ألا لا تأكلوه فمن أكل منها شيئا فلا يقربن مجلسنا)
الحديث أخرجه أحمد
وإسناده حسن إن شاء الله تعالى رجاله ثقات رجال الشيخين غير بشر هذا وهو صدوق فيه لين كما في (التقريب)
الخامس: أبو هريرة رضي الله عنه
رواه ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ:
(من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم)
أخرجه مسلم - واللفظ له - وابن ماجه وأحمد وعزاه المنذري للنسائي أيضا ولم أجد فيه ولعله في (سننه الكبرى) له وهذا هو الحديث الخامس وله في (المسند)
السادس: عبد الله بن عمر
رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عنه بلفظ:
(من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يقربن مسجدنا)
أخرجه البخاري والدارمي وزادا: (في غزوة خيبر) ومسلم وزاد في آخره: (حتى يذهب ريحها) وابن ماجه وأحمد وعنه أبو داود بلفظ: (المساجد) وفي نسخة لمسلم: (مساجدنا) وهو الذي نقله المنذري عنه ثم قال:
(وفي رواية لهما: (فلا يأتين المساجد)
قلت: هي رواية لمسلم وفيها الزيادة التي عند البخاري وأما هذه الرواية فلم أجدها عنده وقد عزاها الحافظ في (شرح البخاري) لمسلم وحده فلو كانت عند البخاري نفسه لعزاها إليه والله أعلم
السابع: المغيرة بن شعبة قال:
أكلت ثوما فأتيت مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:
(من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها أو ريحه)
فلما قضيت الصلاة جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لتعطيني يدك قال: فأدخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر (1)(شد جوفه بعصابة من الجوع) قال:
(إن لك عذرا)
أخرجه أبو داود: ثنا شيبان بن فروخ: ثنا أبو هلال: ثنا حميد بن هلال عن أبي بردة عنه
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير أبي هلال واسمه محمد بن سليم الراسبي وهو صدوق فيه لين كما في (التقريب)
وقد أخرجه أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عنه مختصرا
الثامن: قرة أبو معاوية:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين وقال:
(من أكلهما فلا يقربن مسجدنا) وقال: (إن كنتم. . .) الحديث
وهو السادس
أخرجه أبو داود وأحمد عن عبد الملك بن عمرو قال: ثنا خالد ابن ميسرة: ثنا معاوية بن قرة عن أبيه
(1) كان من عادتهم إذا جاع أحدهم أن يشد جوفه بعصابة وربما جعل تحتها حجرا. (نهاية)
وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال الشيخين غير خالد بن ميسرة وهو صدوق كما قال ابن عدي وقال الحافظ:
(إنه صالح الحديث)
التاسع: معقل بن يسار قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له فنزلنا في مكان كثير الثوم وإن أناسا من المسلمين أصابوا منه ثم جاؤا إلى المصلى يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عنها ثم جاؤا بعد ذلك إلى المصلى فنهاهم عنها ثم جاؤا بعد ذلك إلى المصلى فنهاهم عنها ثم جاؤا بعد ذلك إلى المصلى فوجد ريحها منهم فقال:
(من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا)
أخرجه أحمد والطبراني في (الصغير) مختصرا من طريق الحكم بن طهمان أبي عزة الدباغ عن أبي الرباب مولى معقل بن يسار عن معقل به. وقال الهيثمي بعد أن ساقه مختصرا:
(رواه أحمد والطبراني في (الكبير) و (الصغير) وفيه أبو الزيات وهو مجهول)
قلت: كذا وقع في نسختنا منه: الزيات. بالزاي ثم مثناة تحتية وأخرى فوقية والذي في (المسند) في موضعين منه والطبراني: الرباب بالراء المهملة ثم موحدتين (1) وأيا ما كان فإني لم أجد من ترجمه
(1) وكذا وقع في (التعجيل) وقد ذكره في شيوخ الحكم بن طهمان
والحكم بن طهمان هو ابن أبي القاسم قال في (التعجيل):
(قال أبو زرعة شيخ ثقة رجل صالح وقال أبو حاتم: لا بأس به صالح الحديث. وضعفه ابن حبان في (الذيل) قلت: وقد وثقه أيضا ابن معين)
العاشر: أبو ثلعبة الخشني قال:
غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر والناس جياع. . . الحديث. قال: ووجدنا في جنانها بصلا وثوما والناس جياع فجهدوا فراحوا فإذا ريح المسجد بصل وثوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربنا. . .) الحديث
أخرجه أحمد عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عنه
وهذا سند رجاله ثقات غير أن بقية مدلس وقد عنعنه
والحديث قال المنذري وتبعه الهيثمي:
(رواه الطبراني في (الكبير) بإسناد حسن)
قلت: فيه أولا أن الحديث في (المسند) فكان ينبغي عزوه إليه
وثانيا: فيه العنعنة من المدلس وهذا ينافي الحسن فلعل بقية قد صرح بالتحديث في رواية الطبراني
وفي هذه الأحاديث النهي الأكيد بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول
كل مسجد وهو مذهب كافة العلماء إلا ما حكي عن بعضهم أن النهي خاص بمسجده عليه الصلاة والسلام لقوله في اللفظ الأول: (مسجدنا) وهذا لا حجة فيه لأن الحديث الثالث دل على أن القول المذكور صدر منه عليه السلام عقب غزوة خيبر وفتحها فقوله: (مسجدنا) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته هناك أو يكون المراد بالمسجد الجنس والإضافة على المسلمين أي: فلا يقربن مسجد المسلمين ويؤيده اللفظ الثاني: مساجدنا
قلت: ويقوي ذلك التعليل بإيذاء المسلمين والملائكة وهذا متحقق في كل مسجد كما لا يخفى
ثم إن هذه العلة تقتضي أمرين لم ينص عليهما في الحديث:
الأول: إلحاق مجامع العبادة بالمساجد كمصلى العيد والجنائز ونحوها ويدل لذلك أيضا عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا يقربنا ولا يصلين معنا). قال الحافظ:
(وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى ونظيره قوله: (وليقعد في بيته)
الثاني: إلحاق كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها بالثوم وقد نقله النووي عن العلماء وقال:
(قال القاضي: ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ قال: وقال ابن
المرابط: ويلحق به من به بخر في فيه أو به جرح له رائحة)
قلت: وفيما قاله ابن المرابط نظر بين لأن المذكورين ليست الرائحة منهم بكسبهم ولا باختيارهم فلا يصح إلحاقهم بالأولين فإنهم مختارون في ذلك في طوقهم الابتعاد عنها إذا شاؤا ولذلك قال ابن المنير في (الحاشية):
(ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بأكل الثوم في المنع من دخول المسجد). قال:
(وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع والمجذوم علته سماوية)
قلت: فهو بذلك معذور فلا يمنع من الدخول ويؤيده أن المغيرة بن شعبة حين وجد عليه الصلاة والسلام منه رائحة الثوم أنكر عليه فلما أبدى له عذره - وهو أنه إنما أكله من الجوع - عذره كما سبق في الحديث السابع فالمجذوم ونحوه يعذر من باب أولى (1). وقال الحافظ:
(وألحق بعضهم بذلك من بفيه بخر أو به جرح له رائحة وزاد بعضهم فألحق أصحاب الصنائع كالسماك والعاهات كالمجذوم ومن يؤذي الناس
(1) إلا أنه قد يقال: إنه يجوز منع المجذوم لا لعلة الرائحة بل لأن داءه يعدي فيضر المصلي وهو مأمور بالابتعاد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: (فر من المجذوم فرارك من الأسد). ولما كان تطبيق هذا الأمر يستلزم ابتعاد المصلين جميعا أو بعضهم عن المسجد وتعطيل صلاة الجماعة أو تقليلها ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة ولذلك يقتضي أن يمنع المجذوم من هذه الوجهة ويلحق به كل من به داء معد. والله أعلم
بلسانه. وأشار ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي)
وبالجملة فالذي لا شك فيه ويكاد يكون متفقا عليه بن العلماء: أن علة الإيذاء تقتضي المنع من دخول كل من يتعاطى شيئا ذا رائحة كريهة سواء كان مأكولا أو مشروبا أو غير ذلك بشرط أن يكون مختارا في ذلك غير مضطر كمداواة أو كصنعة كالجزارة ونحوها
قلت: يكاد يكون متفقا لأنه قد خالف فيه ابن حزم رحمه الله حيث قال:
(ومن أكل ثوما أو بصلا أو كراثا ففرض عليه أن لا يصلي في المسجد حتى تذهب الرائحة وفرض إخراجه من المسجد إن دخله قبل انقطاع الرائحة فإن صلى في المسجد كذلك فلا صلاة له ولا يمنع أحد من المسجد غير من ذكرنا ولا أبخر ولا مجذوم ولا ذو عاهة)
ثم ساق حديث عمر الآتي وحديث جابر ثم قال:
(قال علي: لم يمنع عليه السلام من حضور المساجد أحدا غير من ذكرنا {وما ينطق عن الهوى} {وما كان ربك نسيا}
قلت: وهذا منه جمود على اللفظ دون النظر في المعنى فإن التعليل في حديث جابر بالإيذاء يدل دلالة واضحة على المنع من كل ما رائحته تؤذي على التفصيل الذي ذكرنا آنفا ولذلك نقول جازمين:
إن أول تلك الملحقات بالثوم: النبات الخبيث المعروف ب (التتن) لأن نتن
ريحه أشد إيذاء للمسلمين من الثوم وغيره مما نص عليه في الحديث كما يشهد بذلك كل من عافاه الله من هذه البلية التي لا يكاد ينجو منها إلا القليل بل يشهد بذلك المبتلون أنفسهم عافاهم الله منه ولن يعافيهم الله إلا إذا سلكوا سبيلها: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى} تلك هي سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا
وإنها لعقوبة شديدة أن يمنع هؤلاء وأمثالهم من دخول المساجد التي يجتمع فيها المؤمنون ويحضرها الملائكة المقربون فيحرموا بذلك شهود الخير الكثير الذي فيه تضعيف الصلاة بسبع وعشرين درجة وأشد من ذلك أن يخرجوا منها - إذا دخلوا - قهرا وبالقوة كما كان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي وإن في ذلك لعبرة {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر / 2]
قال في (الفتح):
(فائدة): حكم رحبة المسجد وما قرب منها حكمه ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في المسجد أمر بإخراج من وجدت منه إلى البقيع كما ثبت في مسلم)
قلت: ولعل التعبير بقوله: (فلا يقربن) لإفادة هذا المعنى بخلاف ما لو قال: فلا يدخلن فتأمل. ثم قال:
(تنبيه): وقع في حديث حذيفة عند ابن خزيمة: (من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا). وبوب عليه بوقت النهي على إتيان
الجماعة لأكل الثوم. وفيه نظر لاحتمال أن يكون قوله: (ثلاثا) يتعلق بالقول أي: قال ذلك ثلاثا بل هذا هو الظاهر لأن علة المنع وجود الرائحة وهي لا تستمر هذه المدة)
ثم إن النهي في الأحاديث المتقدمة للتحريم وقد ذهب إلى ذلك الظاهرية ومنهم ابن حزم وقد سبق نص كلامه في ذلك قريبا وهو الحق إن شاء الله تعالى وذلك لأمور:
أولا: أن الأصل في النهي التحريم فلا يجوز الخروج منه إلا لدليل أو قرينة ولا شيء من هذا هنا
الثاني: أنه اقترن بنون التأكيد المشددة وذلك يؤكد النهي والتحريم
الثالث: أنه مسقط لصلاة الجماعة وهي فرض في أصح الأقوال كما سيأتي بيانه في محله فتركها حرام فلو لم يكن دخول المسجد من المذكورين في الحديث أشد تحريما لما عاقبهم الشارع الحكيم بالمنع منه ولما أضاع عليهم التضعيف المذكور آنفا والله عز وجل يقول: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} [النساء / 40] وهو سبحانه وتعالى أعلم
ومما ذكرنا تعلم أن الاحتجاج بالحديث على أن الجماعة ليست فرض عين غير صواب لأن الشارع إنما حرمهم منها عقوبة لهم على إتيانها بما هو أعظم جرما من تركها بدون عذر
ومن الدليل على أن النهي للتحريم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج من وجد منه رائحة الثوم أو البصل من المسجد وليس هذا من شأن من ارتكب مكروها كما لا يخفى ولذلك قلنا:
(ويجب على المستطيع إخراجهم من المسجد لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا)
الحديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والطيالسي وأحمد من طريق قتادة عن سالم بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة اليعمري أن عمر بن الخطاب قال. . . فذكره. قال النووي:
(فيه إخراج من وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من المسجد وإزالة المنكر باليد لمن أمكنه). قال السندي رحمه الله:
(ولعل في الإخراج إلى البقيع تنبيها على أنه لا ينبغي له صحبة الأحياء بل ينبغي له صحبة الأموات الذين لا يتأذون بمثله أو هو للإشارة على أنه التحق بالأموات الذين لا يذكرون الله ولا يصلون حيث تسبب لمنع نفسه من المساجد ويحتمل أنهم وضعوا [في] تلك الجهة للتعزير)
قلت: وظاهر الأمر يفيد وجوب الإخراج وقد صرح بذلك ابن حزم كما
سبق فهو دليل آخر على تحريم دخول المسجد على هؤلاء لأنه المقابل للوجوب
(إلا من أكلها لعذر كجوع أو مداواة فإنه يدخل ولا يخرج لحديث المغيرة بن شعبة قال:
(أكلت ثوما فأتيت مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ريح الثوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال:
(من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها أو ريحه) فلما قضيت الصلاة جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله لتعطيني يدك قال: فأدخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر قال:
(إن لك لعذرا)
الحديث أخرجه أبو داود بإسناد حسن كما سبق في تخريج أحاديث الباب وأخرجه أيضا البيهقي في (سننه الكبرى)
وأما الحديث الذي أورده البخاري تعليقا فقال:
(وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أكل الثوم والبصل من الجوع أو غيره فلا يقربن مسجدنا) فقال الحافظ:
(ولم أر التقييد بالجوع وغيره صريحا لكنه مأخوذ من كلام الصحابي في بعض طرق حديث جابر وغيره فعند مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة. . . الحديث
وله من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس جياع. . . الحديث. قال ابن المنير في (الحاشية): ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بأكل الثوم في المنع من المسجد قال: وفيه نظر لأن آكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع والمجذوم علته سماوية قال: لكن قوله صلى الله عليه وسلم: من جوع أو غيره. يدل على التسوية بينهما. انتهى. وكأنه رأى قول البخاري في الترجمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر فظنه لفظ حديث وليس كذلك بل هو من تفقه البخاري وتجويزه لذكر الحديث بالمعنى)
فالحديث لا يدل على المعنى الذي ذهب إليه البخاري لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم أن الحاجة والجوع هو الذي دفعهم إلى الأكل بل هذا هو الظاهر لأنه عليه الصلاة والسلام لو علم ذلك لعذرهم كما في حديث المغيرة هذا وعليه فالحديث يدل على الفرق بين المحتاج وغيره لا على التسوية بينهما كما توهم ابن المنير بسبب رواية البخاري للحديث بالمعنى. فتأمل
(4 - اتخاذ مكان معين منه للصلاة فيه لا يجاوزه إلى غيره لحديث:
(نهى صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد (وفي لفظ: المقام الواحد وفي آخر: المكان الذي يصلي فيه) كما يوطن البعير)
الحديث من رواية عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال: نهى. . . الحديث
أخرجه أبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجه والحاكم والبيهقي واللفظ الآخر له وأحمد واللفظ الثاني له كلهم من طريق جعفر بن عبد الله ابن الحكم عن تميم بن محمد عنه. وقال الحاكم:
(صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي
ورواه ابن خزيمة وابن حبان أيضا في (صحيحيهما) كما في (الترغيب)
قلت: وفي صحة سنده نظر عندي ذلك لأن تميما هذا قد أورده الذهبي نفسه في (الميزان) وقال:
(قال البخاري: فيه نظر)
وذكره العقيلي والدولابي وابن الجارود في (الضعفاء) وأما ابن حبان فوثقه كما هي عادته في توثيق غير المشهورين بالرواية فإن هذا لم يذكروا له راويا غير جعفر بن عبد الله المذكور في هذا الإسناد وأما قول الذهبي:
(روى عنه عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي)
فخطأ واضح فإنه - أعني الطرائفي هذا - مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائتين فأنى له أن يروي عن تميم وهو من التابعين من الطبقة الرابعة عند ابن حجر في (التقريب) وذكر فيه أنه:
(لين)
قلت: إلا أن الحديث يتقوى بالشاهد الذي أخرجه أحمد في (المسند):
ثنا إسماعيل: أنا عثمان البتي عن عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نقرة الغراب وعن فرشة السبع وأن يوطن الرجل مقامه في الصلاة كما يوطن البعير
ورجاله ثقات غير عبد الحميد هذا فهو مجهول كما في (التقريب)
قوله: (وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير) قال الخطابي في (المعالم) وتبعه ابن الأثير في (النهاية):
(فيه وجهان: أحدهما: أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد لا يصلي إلا فيه كالبعير لا يأوي من عطنه إلا مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا لا يبرك إلا فيه. والوجه الآخر: أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود بروك البعير على المكان الذي أوطنه. وأن لا يهوي في سجوده فيثني ركبتيه حتى يضعهما بالأرض على سكون ومهل)
قلت: ولم يذكر ابن الأثير قوله: (وأن لا يهوي. . .) إلخ. ولعل السبب في ذلك كونه مباينا لما قبله حيث قال: (أن يبرك على ركبتيه. . . بروك البعير). وفي هذا يقول: (فيثني ركبتيه. . .) إلخ. والظاهر أن الخطابي رحمه الله يرى أن الاعتبار ليس هو وضع الركبتين قبل اليدين بل ما يحصل من وضعهما كذلك من هدة على الارض كما يسمع ذلك من البعير فإذا وضعهما كذلك على سكون ومهل بدون صوت فقد خرج عن التشبه بالحيوان فلم يشملهما النهي على القول الثاني لكن هذا لا يمكن عادة أعني وضعهما
قبل اليدين بدون هدة كما هو الشاهد ولذلك ثبت النهي عنه من قوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت أن هديه خلاف ذلك وهو أن السنة في السجود قولا منه صلى الله عليه وسلم وفعلا وضع اليدين قبل الركبتين خروجا من التشبه بالبعير الذي يبرك على ركبتيه اللتين في يديه خلافا لمن زعم خلاف ذلك وقد بينته في (التعليقات الجياد على زاد المعاد) وسيأتي بيانه أيضا في المكان المناسب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
غير أن هذا الوجه الثاني بعيد جدا عن الحديث لا سيما بمجموع ألفاظه المذكورة أعلاه فهي تعين أن المراد منه الوجه الأول وبه جزم جمع من الشراح فمنهم من اقتصر عليه فلم يتعرض لذكر الوجه الثاني إشارة إلى أنه لا اعتداد به كالمناوي وغيره. ومنهم من صرح باستبعاد الوجه المذكور كالسندي رحمه الله في (حاشيته) على النسائي والشيخ علي القاري في (المرقاة) ونص كلامه في ذلك قال:
(والمعنى الثاني لا يصح هنا لأنه لا يمكن أن يكون مشبها به. وأيضا لو كان أريد هذا المعنى لما اختص النهي بالمكان في المسجد فلما ذكر دل على أن المراد هو الأول. قال ابن حجر: وحكمته أن ذلك يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة والتقيد بالعادات والحظوظ والشهوات وكل هذه آفات وآفات فيتعين البعد عما أدى إليها ما أمكن)
وظاهر النهي يفيد تحريم هذه الثلاث المذكورات في الحديث وفي النهي
عن الأوليين أحاديث أخرى يأتي ذكرها في مواطنها إن شاء الله تعالى
وقد قال ابن الهمام:
(في (النهاية) عن الحلواني أنه ذكر في الصوم عن أصحابنا: يكره أن يتخذ في المسجد مكانا معينا فيه لأن العبادة تصير له طبعا فيه وتثقل في غيره والعبادة إذا صارت طبعا فسبيلها الترك وكذا كره صوم الأبد ا. هـ
فكيف من اتخذه لغرض آخر فاسد)
والكراهة إذا أطلقت عند علمائنا فهي للتحريم وهذا هو الحق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى
قال الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله في (إصلاح المساجد):
(يهوى بعض ملازمي الجماعات مكانا مخصوصا أو ناحية من المسجد إما وراء الإمام أو جانب المنبر أو أمامه أو طرف حائطه اليمين أو الشمال أو الصفة المرتفعة في آخره بحيث لا يلذ له التعبد ولا الإقامة إلا بها وإذا أبصر من سبقه إليها فربما اضطره إلى أن يتنحى له عنها لأنها محتكرة أو يذهب عنها مغضبا أو متحوقلا أو مسترجعا وقد يفاجئ الماكث بها بأنها مقامه من كذا وكذا سنة وقد يستعين بأشكاله من جهلة المتنسكين على أن يقام منها إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثر المساجد ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حدة تنشأ عن الجهل أو الرياء والسمعة وأن يقال: إنه لا يصلي إلا في المكان الفلاني أو إنه من أهل الصف الأول مما
يحبط العمل ملاحظته ومحبته نعوذ بالله. وهب أن هذا المتوطن لم يقصد ذلك فلا أقل أنه يفقد لذة العبادة بكثرة الإلف والحرص على هذا المكان بحيث لا يدعوه إلى المسجد إلا موضعه وقد ورد النهي عن ذلك)
قلت: ثم ذكر الحديث ثم قال:
(وفي (شرح الإقناع): يكره لغير الإمام مداومة موضع منه لا يصلي إلا فيه). ثم قال:
(في أغلب المساجد الكبيرة جماعة يلازمون منها ما وراء الإمام من قبالة المحراب فيأتون المسجد قبل الصلاة ويأخذون مصافهم وأمكنتهم المعينة لأن كل واحد منهم له مكان من تلك البقعة معين لا يحيد عنه غالبا فقد يتفق أن يأتي من الناس من يظن وجود فرجة هناك أو يأمل أن يفسح له فإن كان الآتي من ذوي الوجاهة في علم أومنصب اغتفروا له وإن كان من طبقة غيرهما فمنهم من يلصق في مكانه ولا يتفسح وإن كان المكان قابلا المتفسح ومنهم من إذا أحس بقدومه يتربع ليأخذ قدر الفراغ المظنون ويضيق عليه فإذا أقيمت الصلاة ودخل أحد فإن كان في المكان فيه اتساع بعد الإقامة تسامحوا في هجومه وإن لم يكن فيه اتساع كاف إلا أنه يمكن لهم أن يتسفحوا فهناك لا تسل عن غرائبهم فمنهم من يترك مكانه ويذهب للصف الثاني حردا وقد ملئ غيظا وغضبا ومنهم من يشير له بالرجوع ويقول: ما ثم مكان ومنهم من يلغط ويتأفف ويحوقل ويخاصم همسا وقد يكمل لغطه بعد الصلاة إذ يكون قدر في نفسه وهو في الصلاة ما يقرعه به ويوبخه على
فعله وقد يتفق أن يأتي أحد يلازم معهم جديدا فقد يسبق أحدهم إلى مكانه ويجلس فيه فإذا قدم هذا الملازم القديم ورأى مكانه أخذ فتارة يحرد إلى آخر الصف ويلحظ مكانه بطرف خفي متأسفا ومتغيظا على هذا الذي اغتصب مكانه وقد لا يسعه الصبر فتراه يجاهر ويقول له: (يا أخي لسنا أولاد البارحة واليوم في هذا الجامع نحن من أربعين سنة نصلي في هذا المكان فأين الذوق؟) فتأمل ما يأتي به هؤلا الجهلة وتأمل عبادتهم المحشوة رياء وعجبا وكبرا وهل مثل هؤلاء للخشية في قلوبهم أثر أو لثمرة الصلاة فيهم وجود؟ كلا فما أحوجهم إلى مرب ومؤدب والله المستعان)
قلت: وقد شاهدت واحدا من هؤلاء - وهو من العوام - لا يصلي إلا وراء الإمام لا يحيد يمنة أو يسرة قيد شعرة ومن زاحمه على ذلك ولو كان من أهل العلم فإنه ينظر إليه نظرة تكون كافية لإرجاعه عن مزاحمه وهذا مع وقوعه في النهي المذكور فقد خالف أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى). رواه مسلم وغيره وسيأتي وهذا من مساوئ مخالفته عليه السلام
ومثل هذا الرجل أحق بما فعله أبي بن كعب رضي الله عنه بقيس بن عباد قال: بينا أنا في المسجد بالمدينة في الصف المقدم فجبذني رجل من خلفي جبذة فنحاني وقام مقامي فوالله ما عقلت صلاتي فلما انصرف فإذا هو أبي بن كعب فقال: يا فتى لا يسؤك الله إن هذا عهد من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه. . . الحديث
أخرجه النسائي
وسنده صحيح رجاله رجال البخاري غير محمد بن عمر بن علي بن مقدم شيخ النسائي فيه وقد وثقه
ويوسف بن يعقوب فيه هو ابن أبي القاسم الضبعي
وله في (المسند) طريق أخرى عن قيس
وإسناده صحيح أيضا رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير إياس بن قتادة وقد وثقه ابن سعد وابن حبان
وأبو حمزة فيه هو عبد الرحمن بن عبد الله أو ابن أبي عبد الله المازني جار شعبة
(5 - جلوس الناس على هيئة الحلقة قبل صلاة الجمعة ولو للعلم والمذاكرة لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار [وأن تنشد فيه الضالة] [وعن الحلق (وفي لفظ: وأن يتحلق الناس) يوم الجمعة قبل الصلاة])
الحديث أخرجه أبو داود والنسائي مفرقا وكذا ابن ماجه والترمذي والطحاوي والبيهقي وأحمد والسياق له كلهم من طريق محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص. والزيادتان عند الجميع إلا النسائي والطحاوي - فليس عندهما الأولى منهما - وكذا
الترمذي إلا أنه أشار إليها في عنوان الباب حيث قال:
(باب ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد)
وليس عند ابن ماجه والبيهقي الزيادة الأخرى واللفظ الآخر فيه للترمذي. ثم قال:
(حديث حسن)
وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص قال محمد بن إسماعيل (يعني البخاري):
(رأيت أحمد وإسحاق - وذكر غيرهما - يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال محمد: وقد سمع شعيب بن محمد من جده عبد الله بن عمرو قال أبو عيسى: ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده قال علي بن عبد الله: وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال: حديث عمرو بن شعيب عندنا واه)
والحق أن حديثه (ليس من أعلى أقسام الصحيح بل هو من قبيل الحسن) كما قال الذهبي في (الميزان) بعد أن حكى أقوال الأئمة فيه. وإعلال من أعله بأنه لم يسمع من جده مردود بروايات ثبت فيه تصريحه بسماعه منه كما بين ذلك المحقق أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي فليراجعه من شاء
ثم إن محمدا بن عجلان فيه مقال وهو حسن الحديث كما سبق مرارا
وقد تابعه أسامة بن زيد عند أحمد مقتصرا على الجملة الأولى. وأورد الحافظ منه الجملة الثانية وقال:
(رواه ابن خزيمة في (صحيحه) والترمذي وحسنه وإسناده صحيح إلى عمرو فمن يصحح نسخته يصحح)
فلعله عند ابن خزيمة من طريق غير طريق ابن عجلان الذي رواه عنه الترمذي فإن إسنادا فيه ابن عجلان ما أعتقد أن الحافظ يصححه. والله أعلم
قال الخطابي في (المعالم):
(الحلق): مكسورة الحاء مفتوحة اللام: جماعة الحلقة وكان بعض مشايخنا يرويه أنه (نهى عن الحلق) بسكون اللام وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة يوم الجمعة فقلت له: إنما هو (الحلق) جمع الحلقة وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة والذكر فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك فقال: قد فرجت عني وجزاني خيرا وكان من الصالحين رحمه الله. وفي (المرقاة):
(وعلة النهي أن القوم إذا تحلقوا في الغالب عليهم التكلم ورفع الصوت وإذا كانوا كذلك لا يستمعون الخطبة وهم مأمورون باستماعها. كذا قاله
بعضهم وقال النوربشتي: النهي يحتمل معنيين: أحدهما: أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين والثاني: أن الاجتماع للجمعة خطب جليل لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ وتحلق الناس قبل الصلاة موهم للغفلة عن الأمر الذي ندبوا إليه. وفي (شرح السنة): في الحديث كراهة التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ولا بأس بعد ذلك. وفي (الإحياء): يكره الجلوس للحلق قبل الصلاة)
وفي (نيل الأوطار):
(حمل الجمهور النهي على الكراهة وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول وقال الطحاوي: التحلق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر. والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي واقد الليثي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم. . . الحديث. وأما التحلق في المسجد في أمور الدنيا فغير جائز وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة. ذكره العراقي في (شرح الترمذي)
قال: وإسناده ضعيف فيه بزيع أبو الخليل وهو ضعيف جدا)
قلت: حديث ابن مسعود هذا أورده الهيثمي في (المجمع) بهذا اللفظ وقال:
(رواه الطبراني في (الكبير) وفيه بزيع أبو الخليل ونسب إلى الوضع)
وقال الذهبي في (الميزان):
(متهم قال ابن حبان: يأتي عن الثقات بأشياء موضوعات كأنه المتعمد لها)
ثم ساق له الذهبي أحاديث هذا منها ثم قال:
(قال ابن عدي: له هكذا مناكير لا يتابع عليها)
لكن الحديث أورده المنذري في (الترغيب) بلفظ:
(وعن عبد الله - يعني: ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة). رواه ابن حبان في (صحيحه)
فالظاهر من هذا أن أبا الخليل لم ينفرد بالحديث وذلك لأمرين:
الأول: أن ابن حبان قد أساء القول فيه جدا كما سمعت فأستبعد جدا أن يروي له هذا الحديث في (صحيحه) فلا بد أن يكون رواه من طريق أخرى يدل على ذلك
الأمر الثاني: وهو أن المنذري صدره ب (وعن) إشارة إلى أنه صحيح أو
حسن أو ما قاربهما وهو لا يفعل ذلك (إذا كان في الإسناد من قيل فيه: كذاب أو وضاع أو متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو. . .) كما صرح في مقدمة الكتاب فمثل هذا يصدره بلفظة: (روي) إشارة إلى ضعفه وقد رأيت أن أبا الخليل متهم بالوضع فلا يعقل إذن أن يصدر ما رواه بلفظة (عن) فدل هذا وما قبله على أن الحديث عند ابن حبان من طريق أخرى ومع ذلك فإني شخصيا لا أستطيع الاعتماد على مجرد تصحيح ابن حبان له قبل الاطلاع على سنده ورواته لما علمنا من تساهله في ذلك حسبما نبهنا عليه مرارا في مناسبات شتى فإن وقفنا عليه وحكمنا بصحته أو على الأقل بحسنه وجب ذكره في أصل الكتاب والله تعالى ولي التوفيق (1)
ثم الحديث أورده الغزالي في (الإحياء) بلفظ:
(يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ولا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة) فقال
(1) ثم تحقق ما استظهرته فقد عثرت على الحديث في (تخريج الكشاف) للحافظ ابن حجر فقال (ص 73 رقم 94): (رواه الطبراني من رواية أبي وائل عن ابن مسعود رفعه: (سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا مناهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة) وفيه بزيع أبو الخليل راويه عن الأعمش عنه وهو متروك. وقال الدارقطني: إنه تفرد به وفيه نظر فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش بلفظ:. . . قلت فذكره. قال: وفي الباب عن أنس رفعه
قلت: فساقه من طريق الحاكم وسكت عليه
الحافظ العراقي في تخريجه:
(رواه ابن حبان من حديث ابن مسعود والحاكم من حديث أنس وقال: صحيح الإسناد)
قلت: وهذا أمر ثالث يؤيد ما ذهبت إليه وذلك لأن الحديث لو كان عند ابن حبان من طريق أبي الخليل لما سكت عليه العراقي هنا كما لم يسكت عليه في (شرح الترمذي) كما سبق نقله عن الشوكاني. إلا أن سكوته على تصحيح الحاكم له غير جيد وأغرب من ذلك موافقة الذهبي له على تصحيحه فالحديث أخرجه في (المستدرك) من طريق أحمد بن بكر البالي: ثنا زيد بن الحباب: ثنا سفيان الثوري عن عون بن أبي جحيفة عن الحسن بن أبي الحسن عن أنس مرفوعا بلفظ:
(يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم). وقال:
(صحيح الإسناد) وكذلك قال الذهبي
وقد ذهل عما قيل في أحمد بن بكر هذا من الطعن مما ذكره هو نفسه في (ميزانه) وإليك نص كلامه:
(أحمد بن بكر البالسي ويقال له: ابن بكرويه أبو سعيد قال ابن عدي: روى مناكير عن الثقات ثم ساق له ثلاثة أحاديث منها عن حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن أبي سعيد مرفوعا: من أبغض عمر فقد أبغضني ومن أحبه فقد أحبني عمر معي حيث حللت وأنا مع عمر حيث حل. ثنا محمد بن
حمدون النيسابوري: ثنا أحمد. وقال أبو الفتح الأزدي: كان يضع الحديث)
وزاد عليه الحافظ في (اللسان) ما ملخصه:
(وقال الدارقطني: وغيره أثبت منه. وقال في غرائب مالك: ضعيف. وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: كان يخطيء. قلت: وله حديث موضوع بسند صحيح رواه عنه عبد الله بن أحمد بن المفسر الثقة المصري - قال: وليس عندي عنه غيره - عن ابن جريج عن ابن عباس مرفوعا: من سعى لأخيه في حاجة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)
(فائدة): وأما الحديث المشهور على الألسنة: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) فلا أصل له وقد أورده الغزالي في (الإحياء) بلفظ: (الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش). فقال مخرجه الحافظ العراقي:
(لم أقف له على أصل)
ثم إن الحديث قد رأيت اختلاف العلماء في علة النهي فيه عن التحلق ولا يمكن البت في شيء من ذلك لعدم وجود النص عن المعصوم ولكنه بإطلاقه يشمل كل تحلق ولو كان للعلم والمذاكرة وهو ما أفاده كلام البغوي في (شرح السنة) والخطابي في (المعالم) والله أعلم
(6 - تناشد الأشعار - وهو المفاخرة بالشعر والإكثار منه حتى يغلب على غيره وحتى يخشى منه كثرة اللغط والشغب مما ينافي حرمة المساجد
للحديث السابق:
(و (نهى) أن تنشد فيه الأشعار) وفي لفظ: (وعن تناشد الأشعار)
الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقد سبق تخريجه قريبا واللفظ الآخر للترمذي والنسائي والبيهقي
وله شاهد من حديث حكيم بن حزام قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد أو تقام فيه الحدود أو ينشد فيه الشعر
أخرجه الدارقطني
وتفسير التناشد بما ذكر هو أحسن ما قيل في تفسيره وقد نقلته من تعليق العلامة أحمد محمد شاكر على الترمذي وبه يجمع بين الحديث والأحاديث المفيدة لجواز إنشاد الشعر في المساجد كما سيأتي ذكره في (المباحات). رقم (11)
وقد اختلف العلماء في ذلك فمن مانع مطلقا ومن مجيز مطلقا. قال القرطبي في (تفسيره):
(والأولى التفصيل وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الذب عنهما كما كان شعر حسان أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها فهو حسن في المساجد وغيرها). قال:
(وما لم يكن كذلك لم يجز لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر والمساجد منزهة عن ذلك لقوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور / 36] وقد يجوز إنشاده في المسجد كقول القائل:
إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز لأنه خال عن الفواحش والكذب)
(وللحديث الآتي: (إنما بنيت المساجد لما بنيت له)
هو من حديث بريدة عند مسلم وغيره كما يأتي. قال النووي:
(معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها)
فلم تبن لتناشد الأشعار فيه فكان منهيا عنه (1)
(7 - نشدان الضالة وطلبها والسؤال عنها برفع الصوت للحديث السابق أيضا: (و (نهى) أن تنشد فيه الضالة)
(1)(فائدة): وأما الحديث الذي أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة)(ص 53 رقم 150) من طريق عباد بن كثير عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن جده ثوبان مرفوعا بلفظ: (من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك ثلاث مرات) فإنه ضعيف الإسناد عباد بن كثير هو الرملي الفلسطيني (ضعيف) كما في (التقريب). وعبد الرحمن بن ثوبان لم أجد من ترجمه. وقد رواه غير عباد بن كثير عن يزيد فخالفه في متنه وسنده كما يأتي
الحديث جملة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقد سبق بتمامه فقرة (5) وسبق تخريجه هناك
قال في (النهاية):
(يقال: نشدت الضالة فأنا ناشد: إذا طلبتها وأنشدتها: إذا عرفتها وهو من النشيد: رفع الصوت)
وفي الحديث دليل على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد بشرط أن يكون برفع الصوت وقد ذهب إلى ذلك ابن حزم والصنعاني في (سبل السلام) وهو الحق إن شاء الله تعالى لأنه الظاهر من النهي ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقال للمنشد ما يأتي عقوبة له:
(وللحديث الآخر: (جاء أعرابي بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فأدخل رأسه من باب المسجد] فقال: من دعا (أي: من وجد فدعاني) إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا وجدته [لا وجدته لا وجدته] إنما بنيت [هذه] المساجد لما بنيت له)
هو من حديث بريدة رضي الله عنه
أخرجه مسلم والزيادة الأولى له وابن ماجه والطيالسي وأحمد وكذا ابن السني والبيهقي من طرق عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه به. والزيادة الثانية والثالثة لأحمد في رواية وله
من الزيادة الأولى: (صلاة الفجر) وكذا للطيالسي عدا الزيادة الثانية والحديث عزاه المنذري للنسائي أيضا ولم أجده فيه فلعله في (اليوم والليلة) أو في (السنن الكبرى) له
وللحديث شواهد:
الأول: عن جابر قال: جاء رجل ينشد ضالة في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وجدت)
أخرجه النسائي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عنه
وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات لولا عنعنة أبي الزبير
الثاني: عن أنس مثل حديث جابر. قال في (المجمع):
(رواه الطبراني في (الأوسط) ورجاله ثقات ورواه البزار بإسناد ضعيف). وقال في موضع آخر:
(وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف)
الثالث: عن سعد بن أبي وقاص مثله. قال الهيثمي:
(رواه البزار وفيه أبو سعيد الأغشم ولم أعرفه والحجاج بن أرطاة وهو مدلس)
الرابع: عن عبد الله بن مسعود قال: أمرنا إذا رأينا من ينشد ضالة في المسجد أن نقول له: لا وجدت
رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن إسماعيل بن سمرة وهو
ثقة
ورواه الطبراني في (الكبير) عن ابن سيرين أو غيره قال: سمع ابن مسعود رجلا ينشد ضالة في المسجد فأسكته وانتهره وقال: قد نهينا عن هذا. قال المنذري وتبعه الهيثمي:
(وابن سيرين لم يسمع من ابن مسعود)
قلت: ورواه ابن السني من طريق الشعبي قال. . . فذكره بلفظ: فأغضبه فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن ما كنت فاحشا فقال: إنا أمرنا بذلك
ورجاله ثقات إلا أنه منقطع أيضا فإن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود اتفاقا
(ويجب على من سمع ذلك أن يقول للمنشد: (لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) فقد أمر بذلك عليه الصلاة والسلام في قوله: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل. . . فذكره. وفي لفظ: (لا أداها الله إليك)
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه سمعه منه أبو عبد الله مولى شداد بن الهاد
أخرجه مسلم وابن ماجه وابن السني والبيهقي وأحمد واللفظ الآخر لهما من
طريق حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود عنه. والحديث عزاه في (الترغيب) لأبي داود أيضا ولم أجده عنده الآن
قال الصنعاني:
(والحديث دليل على تحريم السؤال عن ضالة الحيوان في المسجد وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة وهي قوله: (فإن المساجد لم تبن لهذا) وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين له واختلف أيضا في تعليم الصبيان القرآن في المسجد وكأن المانع يمنعه لما فيه من رفع الأصوات المنهي عنه في حديث واثلة: (جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم) أخرجه عبد الرزاق والطبراني في (الكبير) وابن ماجه)
قلت: لكن هذا الحديث إسناده ضعيف كما سبق بيانه في الفقرة الأولى من الآداب وفي (صحيح البخاري) ما يعارضه وهو حديث كعب بن مالك:
أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته ونادى: (يا كعب بن مالك يا كعب). قال: لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله: (قم فاقضه)
فهذا الحديث بظاهره يدل على جواز رفع الصوت في المسجد لغرض دنيوي لأنه عليه الصلاة والسلام ما أنكر على المتخاصمين رفع أصواتهما لكن قد روى البخاري قبله عن عمر ما يخالفه: عن السائب بن يزيد قال: (كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله؟)
وترجم لهما البخاري ب:
(باب رفع الصوت في المساجد). قال الحافظ:
(أشار بالترجمة إلى الخلاف في ذلك فقد كرهه مالك مطلقا سواء كان في العلم أم في غيره وفرق غيره بين ما يتعلق بغرض ديني أو نفع دنيوي وبين ما لا فائدة فيه وساق البخاري في الباب حديث عمر الدال على المنع وحديث كعب الدال على عدمه إشارة منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه وعدمه فيما تلجيء الضرورة إليه. وقد تقدم البحث فيه في باب التقاضي ووردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد لكنها ضعيفة أخرج ابن ماجه بعضها فكأن المصنف أشار إليها)
وقال في الباب الذي أشار إليه:
(وفي الحديث جواز رفع الصوت في المسجد وهو كذلك ما لم يتفاحش وقد أفرد له المصنف بابا يأتي قريبا والمنقول عن مالك منعه في المسجد
مطلقا وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير وما لا بد منه فيجوز وبين رفعه باللغط ونحوه فلا قال المهلب: لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم ولبين لهما ذلك. قلت: ولمن منع أن يقول: لعله تقدم نهيه عن ذلك فاكتفى به واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت) والله أعلم
ثم قال الصنعاني تحت قوله عليه الصلاة والسلام: فليقل: (لا ردها الله عليك):
(عقوبة له لارتكابه في المسجد ما لا يجوز وظاهره أنه يقول جهرا وأنه واجب)
(أو يقول: (لا وجدته ثلاث مرات إنما بنيت هذه المسجد لما بنيت له) كما في الحديث الذي قبل هذا)
(8 - البيع والشراء للحديث المتقدم (فقرة 5):
(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد)
ويجب أن يقال للبائع أو الشاري: (لا أربح الله تجارتك) بذلك أمر عليه الصلاة والسلام في قوله:
(إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه [ال] ضالة فقولوا: لا رد [ها] الله عليك)
الحديث الأول من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو حسن
الإسناد وقد سبق تخريجه هناك
والحديث الثاني هو من حديث أبي هريرة مرفوعا
أخرجه الترمذي والدارمي والحاكم والبيهقي من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي: أخبرنا يزيد ابن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه. وقال الترمذي:
(حديث حسن). وقال الحاكم:
(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي
وهو كما قالا
وأخرجه ابن خزيمة أيضا كما في (الترغيب) وكذا النسائي وقيده الشوكاني: في (اليوم والليلة). وروى ابن السني في (عمل اليوم والليلة) الشطر الأول بنحوه
وكذلك رواه ابن حبان في (صحيحه) وابن حزم في (المحلى) الشطر الثاني بنحوه ايضا والزيادة الأولى للدارمي وكذا الترمذي في نسخة والأخرى للأول منهما وكذا البيهقي
وقد روي الحديث عن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه مرفوعا بلفظ:
(من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشدها له في المسجد فقولوا: لا وجدتها ثلاث مرات
ومن
رأيتموه يبيع ويبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك). قال الهيثمي:
(رواه الطبراني في (الكبير) وعبد الرحمن بن ثوبان لم أجد من ترجمه)
قلت: وقد روى ابن السني الجملة الأولى منه من طريق عباد بن كثير عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن جده
وعباد هذا ضعيف
وقد خالف الدراوردي في الإسناد والمتن جميعا وقد سبق
ثم الحديث قال الترمذي:
(والعمل على هذا عند بعض أهل العلم كرهوا البيع والشراء في المسجد وهو قول أحمد وإسحاق وقد رخص فيه بعض أهل العلم في البيع والشراء في المسجد)
وذكر نحو هذا في الحديث الأول وقال الشوكاني:
(والحديثان يدلان على تحريم البيع والشراء فذهب الجمهور إلى أن النهي محمول على الكراهة قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه هكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين به بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله
قرينة لحمل النهي على الكراهة وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره أو يقل فلا كراهة وهو فرق لا دليل عليه)
قلت: وممن صرح بالجواز ابن حزم في (المحلى) ونصه في ذلك:
(والبيع جائز في المسجد قال الله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة / 275] ولم يأت نهي عن ذلك إلا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي صحيفة)
قلت: حديث عمرو بن شعيب فيه خلاف والأرجح أنه حسن الحديث كما سبق بيانه على أنه يرد عليه حديث أبي هريرة هذا وإسناده صحيح عنده فقد روى الشطر الثاني منه كما سبق واحتج به على تحريم إنشاد الضوال في المسجد فينبغي أن يكون مذهبه القول بتحريم البيع والشراء في المسجد لولا أن الحديث لم يصله بتمامه بل مختصرا
وقد قال الصنعاني في (شرحه):
(فيه دليل على تحريم البيع والشراء في المساجد وأنه يجب على من رأى ذلك فيه أن يقول لكل من البائع والمشتري: لا أربح الله تجارتك يقول جهرا زجرا للفاعل لذلك والعلة هي قوله فيما سلف: فإن المساجد لم تبن لذلك). قال الشيخ علي القاري في (المرقاة):
(وجوز علماؤنا للمعتكف الشراء بغير إحضار المبيع ومن البدعة الشنيعة بيع ثياب الكعبة خلف المقام وبيع الكتب وغيرها في المسجد الحرام وأشنع
منه وضع المحفات والقرب والدبش فيه سيما أيام الموسم ووقت ازدحام الناس. والله ولي أمر دينه ولا حول ولا قوة إلا به)
(9 - إقامة الحدود والقصاص لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها)
الحديث من رواية حكيم بن حزام رضي الله عنه
أخرجه الدارقطني وأحمد من طريق وكيع: ثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن العباس بن عبد الرحمن المدني (وقال الدارقطني: المكي) عن حكيم به
ورجاله ثقات غير العباس بن عبد الرحمن هذا فقال الحسيني في (التذكرة) كما في (التعجيل):
(مجهول). ثم تبعه الحافظ بقوله:
(قلت: كذا قرأت بخط الحسيني وهو غلط قبيح والذي في مسند حكيم بن حزام من (مسند أحمد): عن وكيع عن محمد بن عبد الله الشعيثي عن القاسم بن عبد الرحمن المزني عن حكيم في خلوق المساجد مرفوعا. وعن حجاج عن الشعيثي عن زفر بن وثيمة عن حكيم وهكذا هو في ترجمة زفر ابن وثيمة عن حكيم من (الأطراف) للمزي. وذكر رواية داود وقال: رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه
قلت: وفي الجملة فليس للعباس بن عبد الرحمن في حديث حكيم
مدخل في (مسند أحمد) والله أعلم وأما قوله: المدني فهو تحريف وإنما هو المزني بضم الميم بعدها زاي منقوطة)
هكذا حكم الحافظ على الحسيني بالغلط فادعى أن المترجم هو القاسم ابن عبد الرحمن المزني لا العباس بن عبد الرحمن المدني. والظاهر أن أصل هذا الاختلاف نشأ من اختلاف نسخ (المسند) في اسم المترجم ويؤيد ذلك أن نسختنا المطبوعة موافقة لما ذكره الحسيني تمام الموافقة ولا ندري نحن الصواب من ذلك لأن الأمر يحتاج إلى التدقيق في نسخ كثيرة مصححة من (المسند) وأنى لنا ذلك ولعل العلامة الأستاذ أحمد محمد شاكر قد حقق ذلك في طبعته الجديدة ل (المسند)
غير أنه ترجح لدي أنه العباس بن عبد الرحمن لأنه كذلك في رواية الدارقطني وإن خالفت في نسبته كما سبقت الإشارة إليه فذلك لا يمنع من ترجيح ما اتفقت الروايتان عليه
وفي كلام الحافظ مخالفة أخرى لما في نسختنا من (المسند) فقال كما سلف:
(عن حكيم في خلوق المساجد)
وليس لحكيم أي حديث بهذا المعنى في (المسند) وقد أخرج أحاديث كثيرة في موضعين منه لكن يغلب على الظن أن في نسختنا من (التعجيل) تحريفا وأن الأصل: (في الحدود في المساجد) والله أعلم
وبالجملة فالراجح أن المترجم هو العباس بن عبد الرحمن خلافا لما زعم الحافظ وأما انه مدني أو مكي فذلك مما لم يتحرر عندنا
هذا وفي رجال (التهذيب):
(عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم عن العباس بن عبد الملطب وأبي هريرة وعنه داود بن أبي هند). وقال الحافظ في (التقريب):
(إنه مستور)
قلت: فلعله هو المترجم فإنه من طبقته والله أعلم
ثم إن للشعيثي في هذا الحديث شيخا آخر
أخرجه أبو داود والدارقطني عن صدقة بن خالد والحاكم عن زهير بن عنيد كلاهما عن محمد بن عبد الله النضري عن زفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد أو تقام فيه الحدود وأن ينشد فيه الشعر
وخالفهما حجاج فقال: ثنا الشعيثي عن زفر بن وثيمة به موقوفا على حكيم
أخرجه أحمد وقال:
(لم يرفعه) يعني حجاجا
قلت: وصدقة بن خالد ثقة احتج به البخاري وقد رفعه وهي زيادة يجب قبولها لا سيما وقد تابعه زهير بن هنيد وهو مقبول كما في (التقريب)
وكذلك تابعه وكيع عن الشعيثي من الطريق الأولى مرفوعا. وقد سبق عن (التعجيل) أن المزي قال:
(رواه وكيع عن الشعيثي فلم يرفعه ولم أجد هذه الرواية الآن)
ثم إن الحديث سكت عليه الحاكم وسقط من (التلخيص) للذهبي وقال في ترجمة زفر بن وثيمة من (الميزان) بعد أن ساق له هذا الحديث:
(ضعفه عبد الحق - أعني الحديث - وقال ابن القطان: علته الجهل بحال زفرح تفرد عنه محمد بن عبد الله الشعيثي. قلت: وقد وثقه ابن معين ودحيم)
واختلف فيه قول الحافظ فقال: في (بلوغ المرام):
(سنده صعيف). وقال في (التلخيص):
(ولا بأس بإسناده)
وعندي أن الحديث حسن بالنظر إلى متابعة العباس بن عبد الرحمن لزفر ابن وثيمة فأحدهما يقوي الآخر وفي (المرقاة):
(إنه حسن كما أفاده بعض الحفاظ)
قلت: وقد يرقى إلى درجة الصحيح لغيره بشواهده التي منها:
عن ابن عباس مرفوعا بلفظ:
(لا تقام الحدود في المسجد ولا يقتل الوالد بالولد)
أخرجه الترمذي والدارمي وابن ماجه
والدارقطني من طريق إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عنه. وقال الترمذي:
(لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعا إلا من حديث إسماعيل بن مسلم وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه)
قلت: ولكنه لم يتفرد به بل تابعه قتادة
أخرجه البزار في (مسنده) عنه عن عمرو بن دينار كما في (نصب الراية)
قلت: وكذلك رواه الدارقطني من طريق أبي المغيرة: نا سعيد بن بشير عن قتادة به
ورواه الحاكم عن أبي الجماهر محمد بن عثمان: ثنا سعيد بن بشير: ثنا عمرو بن دينار به
فأسقط من بينهما قتادة ولعل سعيد بن بشير سمعه من قتادة أولا ثم سمعه عن عمر مباشرة فقد صرح بسماعه منه. وهو - أعني سعيدا - مختلف فيه وهو عندي حسن الحديث إذا لم يخالف وأما الحافظ فضعفه في (التقريب)
وتابعه عبيد الله بن الحسن العنبري عن عمرو بن دينار به
أخرجه الدارقطني: ونا عبد الباقي بن قانع: نا الحسن بن علي العمري:
نا عقبة بن مكرم العمي نا تمار عمر بن عامر أبو حفص السعدي - وكان ينزل في بني رفاعة - عن عبيد الله بن الحسن العنبري به
وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات في رجال مسلم غير ابن قانع والمعمري وهما ثقتان
والحديث عزاه السيوطي في (الجامع) لأحمد أيضا وقد راجعت منه مسند ابن عباس فلم أعثر عليه. والله أعلم
وقد رواه البيهقي أيضا في (سننه) من الوجه الأخير
ومنها عن ابن لهيعة عن محمد بن عجلان أنه سمع عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود في المساجد
أخرجه ابن ماجه
وهذا سند حسن في الشواهد فإن ابن لهيعة ثقة وإنما يخشى من سوء حفظه
ومنها عن جبير بن مطعم بلفظ:
(لا تقام الحدود في المساجد). قال في (المجمع):
(رواه الطبراني في (الكبير) وفيه الواقدي وهو ضعيف)
وقال في موضع آخر:
(رواه البزار وفيه الواقدي وهو ضعيف لتدليسه وقد صرح بالسماع)
وفي الباب عن واثلة بن الأسقع بلفظ:
(جنبوا مساجدكم صبيانكم. . .) الحديث. وفيه:
(وإقامة حدودكم)
وسنده ضعيف وقد تقدم في الكلام على الفقرة الأولى من الآداب
والحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي. كذا في (النيل) ونحوه في (سبل السلام)
فمن ذهب إلى أن النهي للتنزيه كالشافعية فعليه الدليل قال المناوي في (الفيض):
(فيكره ذلك تنزيها نعم لو التجأ إليه من عليه قود جاز استيفاؤه فيه حتى المسجد الحرام فيبسط النطع ويستوفي فيه تعجيلا لاستيفاء الحق عند الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج)
قلت: والظاهر ما قاله أبو حنيفة لأن الحديث أطلق ولم يفصل وفي (المرقاة):
(لأن في ذلك نوع هتك لحرمته ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث وقول ابن أبي ليلى: تقام شاذ. كذا ذكره ابن حجر. قال ابن الملك: لئلا يتلوث المسجد. وفي (شرح السنة): قال عمر رضي الله عنه فيمن لزمه حد في المسجد: أخرجوه. وعن علي مثله)
والمعروف من هديه عليه الصلاة والسلام إقامة الحدود خارج المسجد كما
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ماعز فقال رضي الله عنه:
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت. فأعرض عنه حتى رد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع مرات. . . الحديث. وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أذهبوا به فارجموه) قال جابر ابن عبد الله: فرجمناه بالمصلى. ا. هـ مختصرا من البخاري ومسلم وأحمد
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهودي واليهودي عند باب المسجد. . . الحديث
أخرجه أحمد والحاكم من طريق ابن إسحاق: قال: وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إسماعيل بن إبراهيم الشيباني عنه. وقال الحاكم:
(صحيح على شرط مسلم) قال:
(ولعل متوهما من غير أهل الصنعة يتوهم أن إسماعيل الشيباني هذا مجهول وليس كذلك فقد روى عنه عمرو بن دينار). وأقره الذهبي
قلت: والشيباني هذا ليس بمجهول كما قال الحاكم بل هو معروف ولكنه ليس من رجال مسلم فكيف يصححه على شرطه؟ بل لم يرو عنه أحد من أصحاب الكتب الستة وإنما هو من رجال (التعجيل) وقد ذكر في ترجمته:
(قال أبو زرعة: ثقة يعد في الكوفيين وذكره ابن حبان في (الثقات)
وكذلك محمد بن طلحة ليس من رجال مسلم وإن كان ثقة وابن إسحاق إنما روى له مقرونا بغيره
وبالجملة فإسناد الحديث حسن وقد سكت عليه الحافظ في (الفتح)
(10 - البصق لا سيما نحو القبلة واليمين وهو حرام فقد رأى صلى الله عليه وسلم بصاقا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس [فتغيظ عليهم] فقال:
(إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى)
الحديث من رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنه
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طريق مالك وهو في (الموطأ) والدارمي وابن ماجه والطيالسي وأحمد من طرق عنه. وكذلك أخرجه البيهقي والزيادة للبخاري وأبي داود والدارمي وأحمد وزاد هذا في رواية:
(ولا عن يمينه ثم دعا بعود فحكه ثم دعا بخلوق فخضبه)
وقد سبقت
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين ولا يزال في يديه منها فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد فحكها ثم أقبل على الناس مغضبا فقال: أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه جل وعز والملك عن يمينه فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فإن عجل به أمر فليقل هكذا - ووصف ابن عجلان ذلك - أن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض
أخرجه أبو داود والحاكم وأحمد عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه. وقال الحاكم:
(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي
وليس كذلك وإنما حسن فقط ليس على شرط مسلم لما سبق بيانه مرارا. وفي (الترغيب):
(رواه ابن خزيمة في (صحيحه) وفي رواية له بنحوه إلا أنه قال فيه:
(فإن الله عز وجل بين أيديكم في صلاتكم فلا توجهوا شيئا من الأذى بين أيديكم. . . الحديث) وبوب عليه ابن خزيمة: (باب الزجر عن توجيه جميع ما يقع عليه اسم أذى تلقاء القبلة في الصلاة)
قلت: وللحديث طريق أخرى عن أبي سعيد تأتي قريبا إن شاء الله تعالى
وهو يدل على تحريم البصاق في المسجد نحو القبلة من وجهين:
الأول: تغيظه صلى الله عليه وسلم عليهم حينما رأى البصاق في القبلة
والآخر: نهيه عليه الصلاة والسلام إياهم عن ذلك والنهي الأصل فيه التحريم. قال الحافظ العراقي في (شرح التقريب):
(هذا النهي عن بصاق المصلي أمامه أو عن يمينه هل هو على التحريم أو التنزيه قال القرطبي: إن إقباله صلى الله عليه وسلم على الناس مغضبا يدل على تحريم البصاق في جدار القبلة وعلى أنه يكفر بدفنه وبحكه كما قال في جملة المسجد: البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها. قلت: ويدل على تحريم البصاق في القبلة ما رواه ابو داود بإسناد جيد من حديث السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة. قلت: فذكر الحديث الآتي بعد هذا وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام قال له: إنك آذيت الله ورسوله. وأطلق جماعة من الشافعية كراهة البصاق في المسجد منهم المحاملي وسليم الرازي والروياني وأبو العباس الجرجاني وصاحب (البيان) وجزم النووي في (شرح المهذب) التحقيق بتحريمه وكأنه تمسك بقوله في الحديث الصحيح أنه خطيئة). وقال الحافظ:
(وهذا التعليل (يعني قوله: (فإن الله قبل وجهه) يدل على أن البزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أم لا ولا سيما من المصلي فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم؟)
ثم ساق حديث السائب وحديث حذيفة ويأتي أيضا
(و (أم رجل قوما فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ: (لا يصلي لكم) فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم) فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم) وحسبت أنه قال: (إنك آذيت الله ورسوله)
الحديث أخرجه أبو داود والزيادة له وأحمد من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة الجذامي عن صالح ابن خيوان عن أبي سهلة السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما. . . الحديث
سكت عليه المنذري في (مختصره) وكذا الحافظ في (الفتح) وقال شيخه العراقي في (شرح التقريب):
(إسناده جيد)
ورواه ابن حبان أيضا في (صحيحه) كما في (الترغيب)
ورجال إسناد الحديث ثقات رجال مسلم غير صالح بن خيوان - بالمعجمة ويقال: بالمهملة - وثقه العجلي وابن حبان مع أنه ما روى عنه سوى بكر هذا كما صرح به الذهبي في (الميزان) ولذلك قال عبد الحق الأزدي:
(لا يحتج به)
وعاب ذلك عليه ابن القطان وصحح حديثه
قلت: والقواعد العلمية تشهد لما قاله الأزدي غير أن الحديث حسن أو صحيح لأن له شاهدا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمعناه أورده المنذري وقال:
(رواه الطبراني في (الكبير) بإسناد جيد ورجاله ثقات) كما في (المجمع)
(وقال عليه الصلاة والسلام: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه)
الحديث من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح وله تتمة:
(ومن أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا)
وقد مضى الكلام فيه
وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا بلفظ:
(يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه)
رواه البزار وابن خزيمة في (صحيحه) وهذا لفظه وابن حبان في (صحيحه) كما في (الترغيب). وفي طريق البزار عاصم بن عمر: ضعفه البخاري وجماعة وذكره ابن حبان في (الثقات) كما في (المجمع)
وهذا الحديث يدل بظاهره على كراهة التفل في القبلة داخل الصلاة وخارجها لعدم تقييده بحال الصلاة. قال الحافظ:
(وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أم غيره وقد نقل عن مالك أنه قال: لا بأس به - يعني خارج الصلاة - ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود أنه كره [أن]
يبصق عن يمينه وليس في صلاة. وعن معاذ بن جبل قال: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت. وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى عنه ابنه مطلقا)
قلت: وأثر ابن مسعود أخرجه الطبراني أيضا في (الكبير) ورجاله ثقات كما في (المجمع). وأما حديث عمرو بن حزم:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق عن يمينه وعن يساره وبين يده
فلا يصح بل هو ضعيف جدا فيه الواقدي أخرجه الطبراني في (الكبير) أيضا
(وإن كان لا بد من البصق فليبصق عن شماله إن كان فارغا من المصلين وإلا فتحت قدمه اليسرى بشرط أن يمكن دفنه فيه بن يكون أرضه من رمل أو حصى لا من بلاط أو مفروشا بالبسط وإلا فليبصق في ثوبه أو نعله لقوله عليه السلام
([ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟] إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا وليبصق عن يساره (زاد في حديث ثان: (إن كان فارغا) أو تحت قدمه [اليسرى] فليدفنه) زاد في حديث ثالث: (فإن لم يجد مبصقا ففي ثوبه أو نعله)
الحديث ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم
الأول: أبو هريرة رضي الله عنه
وله عنه طرق:
1 -
عبد الرزاق بن همام عن معمر عن همام سمع أبا هريرة رضي الله عنه مرفوعا به والسياق له
أخرجه البخاري وأحمد والبيهقي
2 -
ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة وأبا سعيد ثناه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكها فقال. . . فذكره بنحوه وفيه الزيادة الثانية التي بين قوسين ولفظه:
(إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى)
أخرجه البخاري ومسلم والدارمي والبيهقي وأحمد ورواية عن أبي هريرة وعن أبي سعيد وعنه وحده الطيالسي وكذا النسائي وهي رواية للشيخين
3 -
إسماعيل بن علية عن القاسم بن مهران عن أبي رافع عنه به نحوه وفي الزيادة الأولى وفي آخره نحو ما جاء في الحديث الثالث بلفظ:
(فإن لم يجد فليقل هكذا. ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض)
أخرجه مسلم وابن ماجه وأحمد
ثم أخرجه مسلم والنسائي وأحمد أيضا وكذا البيهقي من طريق شعبة عن القاسم به نحوه وزاد مسلم والبيهقي في رواية هشيم عن القاسم: قال أبو هريرة:
(كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد ثوبه بعضه على بعض)
(تنبيه): القاسم بن مهران هذا هو القيسي مولاهم وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره وقد اختلط على المنذري بغيره حيث قال في (الترغيب):
(وروى ابن ماجه عن القاسم بن مهران - وهو مجهول - عن أبي رافع عن أبي هريرة)
قلت: فساق الحديث. والقاسم بن مهران المجهول هو غير هذا الذي روى الحديث عن أبي رافع هو متقدم على هذا روى عن عمران بن حصين ولا يثبت سماعه منه وعن موسى بن عبيدة وقد فرق بينهما الذهبي وغيره. ثم إن في عزو الحديث لابن ماجه وحده ما فيه من القصور. فسبحان من لا يخفى عليه خافية
الثاني: أنس بن مالك
وله عنه طريقان:
1 -
حميد عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده فقال:
(إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزق أحدكم قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال:
(أو يفعل هكذا)
أخرجه البخاري والدارمي والبيهقي وأحمد وإسناده عنده ثلاثي. وقد صرح حميد بسماعه من أنس عند عبد الرزاق فأمن تدليسه كما في (الفتح)
2 -
قتادة عنه مختصرا بدون سبب الحديث ولا قوله: ثم أخذ. . . إلخ
أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي والطيالسي وأحمد من طرق عنه. وقد صرح بسماعه من أنس عند البخاري وهي رواية للبيهقي وغيره
الثالث: أبو سعيد الخدري
وله عنه أربعة طرق:
1 -
الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عنه. وقد سبق في حديث أبي
هريرة من الطريق الثاني
2 -
فليح عن سعيد بن الحارث عن أبي سلمة عنه قال:
هذه عراجين جعل الله لنا فيها بركة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ويتخصر بها فكنا نقومها ونأتيه بها فرأى بصاقا في قبلة المسجد وفي يده عرجون من تلك العراجين فحكه وقال. . . فذكره. وهو الحديث الثالث الذي فيه الزيادة في آخره
أخرجه أحمد
وإسناده صحيح على شرط الستة
3 -
ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه. وقد سبق لفظه وتخريجه في أول اكللام على هذه الفقرة
4 -
حماد عن ثابت عن أبي نضرة عنه مختصرا جدا بلفظ:
أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه ثم دلك
أخرجه حمد
وإسناده صحيح على شرط مسلم
الرابع: جابر بن عبد الله
وله عنه طريقان:
1 -
عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه نحو حديث أبي
سلمة عن أبي سعيد ولفظ المرفوع منه:
(أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟) ثم قال:
(إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبزق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا) ووضعه على فيه ثم دلكه. . . الحديث
وقد سبق تخريجه في الكلام على الفقرة الأولى من الآداب عند حديث: (رأى نخامة في قبلة المسجد)
2 -
أبو الزبير عنه مختصرا دون ذكر السبب بلفظ:
(أو تحت قدمه اليسرى)
أخرجه أحمد
ورجاله ثقات رجال مسلم فهو صحيح الإسناد إن كان أبو الزبير سمعه منه
الخامس: طارق بن عبد الله مرفوعا بلفظ:
(إذا صليت فلا تبصق بين يديك ولا عن يمينك ولكن ابصق تلقاء شمالك إن كان فارغا وإلا فتحت قدميك وادلك)
أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد واللفظ
له من طرق عن منصور قال: سمعت ربعي بن خراش عنه به. وقال الحاكم:
(صحيح). ووافقه الذهبي
وهو كما قالا
وأخرجه الترمذي وابن ماجه دون قوله: (إن كان فارغا) وقوله: (وادلكه). وقال الترمذي:
(حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم)
وهذا الحديث هو الحديث الثاني المشار إليه في الأصل
وفي هذه الأحاديث دلالة على تحريم البصاق في المسجد نحو القبلة واليمين لنهيه عليه الصلاة والسلام وتغليظه على من خالف ذلك حتى إنه عزل الإمام الذي فعل ذلك من الإمامة وقال له: (إنك آذيت الله ورسوله) فهو أكبر دليل على التحريم وقد سبق ذكر ما قاله الأئمة في ذلك قريبا
وفيها دلالة صريحة على جواز البصق فيه نحو اليسار أو تحت القدم اليسرى بشرطه وهو الدفن ففيه رد على النووي حيث قال في (شرحه) على مسلم:
(وقوله صلى الله عليه وسلم: (وليبزق تحت قدمه وعن يساره) هذا في غير المسجد أما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه)
ووجه الرد عليه أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا إنما قاله بخصوص المسجد حينما رأى النخامة في قبلته فنهاهم عن ذلك وعن البصق نحو
اليمين ورخص لهم بالبزق فيه تحت القدم وعن اليسار وأمرهم بدفنه بقوله: (فليدفنه). فمن خالف ولم يدفن فقد أثم وإلا فلا
وأما تعليق النووي لما ذهب بقوله:
(لقوله صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة) فكيف يأذن فيه صلى الله عليه وسلم
قلت: قد قضي الأمر وأذن فيه عليه الصلاة والسلام وإنما جاء الإشكال من فهمه للحديث الذي ذكره والآتي بعده على خلاف ما فهم العلماء كما صرح هو نفسه وسننقل كلامه في ذلك إن شاء الله ليتبين لك الحق
(وقال عليه الصلاة والسلام: (البصاق (وفي لفظ: التفل. وفي آخر: النخاعة) في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)
الحديث رواه قتادة عن أنس مرفوعا
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه والدارمي والبيهقي والطيالسي وأحمد من طرق عنه. واللفظ الثاني لمسلم وأبي داود وأحمد في رواية لهم والآخر لهم إلا مسلما وفي رواية النسائي (البصاق). بالصاد بدل الزاي
(التفل) - بالمثناة الفوقية -: نفخ معه أدنى بزاق وهو أكثر من النفث
(و (النخامة) وهي (النخاعة) من الرأس أيضا ومن الصدر ويقال: تنخم وتنخع)
(وفي رواية: (التفل في المسجد سيئة ودفنه حسنة)
هي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا
أخرجها أحمد: ثنا زيد بن الحباب: أنا حسين بن واقد: ثنا أبو غالب أنه سمع أبا أمامة
وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال مسلم غير أبي غالب وهو صدوق يخطيء كما في (التقريب) وفي (المجمع):
(رواه أحمد والطبراني في (الكبير) إلا أنه قال: (خطيئة وكفارتها دفنها) ورجال أحمد موثقون). وقال المنذري:
(إسناده لا بأس به). وقال الحافظ في (الفتح):
(إسناده حسن)
وروى أبو داود وعنه البيهقي فقال: ثنا القعنبي: ثنا أبو مودود عن عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي: سمعت أبا هريرة مرفوعا:
(من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر فليدفنه فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه ثم ليخرج به)
وأخرجه أحمد عن زيد بن الحباب وعن وكيع كلاهما عن أبي مودود به نحوه ولفظ وكيع:
(إذا بزق أحدكم في مسجدي أو المسجد فليحفر وليعمق أو ليبزق في ثوبه حتى يخرجه)
وهذا إسناد سكت عليه المنذري في (مختصره) وهو محتمل للتحسين
أبو مودود اسمه عبد العزيز بن أبي سليمان وقد وثقه أبو داود وروى عنه جمع من الثقات
وعبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي قال الدارقطني:
(لا بأس به). وقال في التقريب:
(إنه مقبول)
وكذلك قال في أبي مودود. والله أعلم
(وقال: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)
الحديث من رواية أبي ذر رضي الله عنه
أخرجه مسلم وابن ماجه والطيالسي وأحمد
(وقال: إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فيؤذيه)
هو من حديث سعد بن أبي وقاص
أخرجه أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن ابن إسحاق ويعقوب: ثنا أبي عن ابن إسحاق: ثني عبد الله بن محمد قال يعقوب: ابن أبي عتيق عن عامر بن سعد حدثه عن أبيه سعد
وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير ابن إسحاق وهو حسن الحديث. وفي (المجمع):
(رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون). وقال الحافظ:
(رواه أحمد بإسناد حسن)
وهذه الأحاديث تدل على ما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم وهو جواز البصق في المسجد - عند الحاجة طبعا - إذا دفنه قال الحافظ العراقي في (شرح التقريب):
(قال أبو الوليد الباجي: فإن بصق في المسجد وستر بصاقه فلا إثم عليه وحكى القرطبي أيضا عن ابن مكي أنه إنما يكون خطيئة لمن تفل فيه ولم يدفنه. قال القرطبي: وقد دل على صحة هذا قوله في حديث أبي ذر: (ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن) فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل بذلك وببقائها غير مدفونة. قلت: ويدل عليه أيضا إذنه في ذلك في حديث الباب (يعني حديث أبي هريرة السابق) بقوله: (أو تحت رجليه فيدفنه). إن حملنا الحديث على إرادة
كونه في المسجد كما تقدم وهو مصرح به في حديث أبي سعيد وأبي هريرة المذكور في أول الباب)
وخالف في ذلك النووي وبالغ حيث قال في (شرح مسلم):
(واعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقا سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج بل يبزق في ثوبه فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق. هذا هو الصواب أن البزاق خطيئة كما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء والقاضي عياض: فيه كلام باطل حاصله أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة واستدل له بأشياء باطلة فقوله هذا غلط مخالف لنص الحديث). قال الحافظ:
(وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضا وهما قوله: (البزاق في المسجد خطيئة) وقوله: (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه). فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاما ويخص الأول بمن لم يرد دفنها وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في (التنقيب) والقرطبي في (المفهم) وغيرهما. ويشهد لهم). ثم ذكر حديث سعيد بن أبي وقاص ثم حديث أبي أمامة وقال: (إنه أوضح منه في المقصود). ثم حديث أبي ذر وكلام القرطبي المتقدم فيه ثم قال: (وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح:
أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة
فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن بها ومما يدل على أن عمومه مخصوص: جواز ذلك في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف وعند أبي داود من حديث عبد الله ابن الشخير أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله. إسناده صحيح وأصله في مسلم. والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم)
قلت: وتخصيص النووي للحديث الثاني الذي أشار إليه الحافظ بما إذا لم يكن في المسجد باطل لأنه ورد في خصوص المسجد كما سبق عن العراقي
فكيف يجوز تخصيصه بغير ما ورد الحديث لأجله؟
والحق أنه لا تعارض بين الحديثين مطلقا:
فالحديث الأول - وما في معناه - أفاد أن البصق في المسجد خطيئة إذا لم يدفنها وأما إذا دفنها فليست بخطيئة لأنه - أعني الدفن - حسنة أطاحت خطيئة البصق كما في حديث أبي أمامة
والحديث الثاني - أي حديث أبي هريرة المتقدم - إنما أجاز البصق مع الدفن كما سبق فإذا لم يدفنها فقد ارتكب الخطيئة لا محالة وحينئذ فالحديثان متفقان. والحمد لله
ثم قال الحافظ العراقي:
(في قوله: (فيدفنه). ما يقتضي أن الترخص في البصاق في المسجد هو ما إذا كان فراش المسجد حصى أو ترابا دون ما إذا كان رخاما أو بلاطا أو بساطا أو حصيرا وقد حكاه صاحب (المفهم) عن بعضهم فقال: وقد سمعنا من بعض مشايخنا أن ذلك إنما يجوز إذا لم يكن في المسجد إلا التراب أو الرمل كما كانت مساجدهم في الصدر الأول فأما إذا كانت في المسجد بسط وما له بال من الحصير بما يفسده البصاق ويقذره فلا يجوز احتراما للملائكة. قلت: قد ورد دلكها بالنعل عوضا عن الدفن فيما رواه مسلم من حديث عبد الله بن الشخير قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته تنخع فدلكها بنعله. وهذا يحتمل أن يكون أيضا في تراب أو حصباء فيحصل بدلكها دفنها في التراب. وقال الباجي: ليس له أن يبصق في الأرض ويحكه برجله لأن ذلك يقذر الموضع لمن أراد الجلوس فيه. قلت: قد روى أبو داود من رواية أبي سعيد (كذا في الأصل والصواب: أبو سعد) قال:
رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق يبصق على البوري ثم مسحه برجله فقيل له لم فعلت؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
والبوري: الحصير المعمولة من القصب قاله الهروي في (الغريبين) وعلى هذا فهي لا تفسد بذلك والحديث أيضا لا يصح)
قلت: وعلة هذا الحديث أبو سعد هذا وهو الحمصي الحميري رواه عنه الفرج بن فضالة عند أبي داود. قال الذهبي في (الميزان):
(ما روى عنه سوى الفرج بن فضالة)
قلت: فهو مجهول وقد صرح بذلك الحافظ في (التقريب)
والفرج بن فضالة ضعيف أيضا كما قال المنذري في (مختصره) وبه أعل الحديث وكذلك قال في (التقريب)
(11 - البول ونحوه لقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي دخل المسجد ثم بال فيه: (إنما بني هذا البيت لذكر الله والصلاة وإنه لا يبال فيه)
الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه
أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان في (صحيحه) وقد تقدم ذكره بتمامه في الكلام على طهارة المكان - المسألة الخامسة
وله شاهد من حديث أنس بلفظ:
(إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء)
رواه مسلم وغيره وقد سبق هناك
وفي الحديث دليل على وجوب تنزيه المساجد عن البول وسائر النجاسات. قال العراقي:
(وهو كذلك إذا أدى ذلك إلى تلويثها بالنجاسة فإن لم تلوث كأن بال في إناء أو افتصد في إناء في المسجد فالأصح تحريم البول وكراهة الافتصاد دون تحريمه وقد جزم النووي في (شرح مسلم) بكراهة الفصد في الإناء ولم
يحك فيه خلافا. قال العراقي: وكذلك من على بدنه أو ثوبه نجاسة إذا أمن تلوث المسجد بها جاز دخوله وإن خاف ذلك لم يجز). وقال ابن حزم في (المحلى):
(ولا يجوز البول في المسجد فمن بال فيه صب على بوله ذنوبا من ماء ولا يجوز البصاق فيه فمن بصق فيه فليدفن بصقته. ثم قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيف المساجد وتطييبها - كما أوردنا قبل - يقتضي كل ما وقع عليه اسم تنظيف وتطييب والتنظيف والتطييب يوجبان إبعاد كل محرم وكل قذر وكل قمامة فلا بد من إذهاب عين البول وغيره)
(وليعلم أن هذه النواهي وما قبلها من الأوامر هي من الرفع المذكور في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور / 36])
وقد سبق الكلام عليه في الكلام على الأمر الثاني مما ينبغي أن يلاحظ في بناء المساجد فليراجع
(12 - اتخاذه طريقا لقوله عليه الصلاة والسلام:
(لا تتخذوا المساجد طرقا إلا لذكر أو صلاة)
الحديث من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه
أخرجه الطبراني في (معجمه الكبير) قال: ثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي: نا يحيى بن صالح الوحاظي: نا علي بن حوشب عن أبي قبيل عن سالم عن أبيه به
وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات: الحوطي هذا - بفتح المهملة وسكون الواو وبعدها مهملة - من شيوخ النسائي الذين شاركه الطبراني في الرواية عنهم وهو صدوق كما في (التقريب)
وعلي بن حوشب لا بأس به كما قال دحيم واعتمده الحافظ في (التقريب)
وأبو قبيل - بفتح القاف - واسمه حيي بن هاني وثقه ابن معين وغيره. وبقية رجاله رجال البخاري. ولذلك قال المنذري في (الترغيب):
(وإسناده لا بأس به). وقال الهيثمي:
(رواه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) ورجاله موثقون)
وللحديث طريق أخرى عن ابن عمر دون قوله: (إلا لذكر أو صلاة)
أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف وهو من طريق زيد بن جبيرة الأنصاري عن داود بن الحصين عن نافع عنه بلفظ:
(خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا يقبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه من أحد ولا يتخذ سوقا)
زيد بن جبيرة ضعيف كما في (العمدة) وفي (التقريب) أنه:
(متروك) وقال ابن كثير في التفسير:
(في سنده ضعف)
ثم قال العيني بعد ذكر الحديث من طريق ابن ماجه:
(وما أراه يصح)(وعنده أيضا من حديث ابن عباس: (نزهوا المساجد ولا تتخذوها طرقا ولا تمر فيه حائض ولا يقعد فيه جنب إلا عابري سبيل ولا ينثر فيه نبل ولا يسل فيه سيف ولا يضرب فيه حد ولا ينشد فيه شعر فإن أنشد قيل: فض الله فاك).)
قلت: وهذا لم أجده عند ابن ماجه ولم يورده النابلسي في (الذخائر) ولا وجدته في شيء من كتب السنة التي عندي وما أراه يصح والله أعلم
(وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى حين قال: (سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)
الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصب رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر ابن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا. . . إلخ
أخرجه البخاري وأحمد كما سبق في الأمر السابع من الأمور التي ينبغي أن تلاحظ في بناء المساجد
قال القرطبي في (تفسيره):
(فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي إلى اتخاذ المسجد طريقا والعبور فيه