المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ استقبال الكعبة - الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب - جـ ٢

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌ استقبال الكعبة

قال الشوكاني ما مختصره:

(والحديث يدل على المطلوب منه وهو جواز الأكل في المسجد وفيه أحاديث كثيرة: منها سكنى أهل الصفة فإن كونهم لا مسكن لهم سواه فيستلزم أكلهم للطعام فيه ومنها ربط الرجل الاسير بسارية من سواري المسجد وفي بعض طرقه أنه استمر مربوطا ثلاثة أيام ومنها ضرب الخيام في المسجد لسعد بن معاذ كما تقدم وللسوداء التي كانت تقم المسجد ومنها إنزال وفد ثقيف المسجد وغيرهم والأحاديث الدالة على جواز أكل الطعام في المسجد متكاثرة)

قلت: وكل هذه الأحاديث المشار إليها قد سبق ذكرها في مواطنها اللائق بها في هذا الفصل فلتراجع

10 -

‌ استقبال الكعبة

(1 - يجب على المصلي أن يتوجه بوجهه وبدنه نحو الكعبة ثبت ذلك بالكتاب والسنة:

(أ) أما الكتاب فقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة / 114])

(وقد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف إلى الكعبة)

ص: 836

الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما

أخرجه الإمام أحمد: ثنا يحيى بن حماد: ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس به

وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين. وسكت عليه الحافظ في (الفتح) وقال الهيثمي في (المجمع):

(رواه أحمد والطبراني في (الكبير) والبزار ورجاله رجال (الصحيح)

وقد أخرجه البيهقي من هذا الوجه

وفيه رد على أبي عمر بن عبد البر حيث اختار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستقبل بيت المقدس وهو في مكة وإنما استقبله حين هاجر إلى المدينة واحتج بحديث البراء الآتي بعد هذا ولا حجة فيه إذ إنه لو لم يصرح بنفي الاستقبال قبل ذلك حتى ولو صرح لم يكن حجة بل لوجب الأخذ بحديث ابن عباس لما فيه من الزيادة والعلم وزيادة الثقة مقبولة ومن علم حجة على من لم يعلم والمثبت مقدم على النافي كل هذه قواعد متفق عليها وقد قيلت في فروع كثيرة كما لا يخفى ذلك على الباحث

(وفي حديث آخر: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة / 142])

ص: 837

هو من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب. . . إلخ

أخرجه البخاري بهذا السياق (1) وهو عند مسلم والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه والطيالسي وأحمد عنه بنحوه دون قوله: وقال السفهاء. . . إلخ. وقد قال الحافظ في (الفتح) تحت قوله: (وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة) ما نصه:

(جاء بيان ذلك فيما أخرجه الطبري وغيره من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود - أكثر أهلها - يستقبلون بيت المقدس أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها سبعة عشرة شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت. ومن طريق مجاهد قال: إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. فنزلت)

قلت: سكت الحافظ عن حديث ابن عباس هذا ولعل ذلك لوضوح علته فإن علي بن أبي طلحة هذا صدوق قد يخطيء أرسل عن ابن عباس ولم يره كما قال الحافظ نفسه في (التقريب) فالحديث بهذا السياق ضعيف لانقطاعه

(1) وكذلك أخرجه البيهقي (2/ 2)

ص: 838

(والحكمة من هذا التحويل إنما هي ابتلاء من الله وامتحان كما بينه عز وجل في قوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم} [البقرة / 143]

(ب) وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته:

(إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر. . . الحديث)

هو قطعة من الحديث المشهور بحديث المسيء صلاته وهذا من رواية أبي هريرة رضي الله عنه

أن رجلا دخل المسجد يصلي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد فجاء فسلم عليه فقال له: (زاد في رواية: وعليك السلام)(ارجع فصل فإنك لم تصل) فرجع فصلى ثم سلم فقال: (وعليك [السلام] أرجع فصل فإنك لم تصل). قال في الثالثة: فأعلمني قال:

(إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)

ص: 839

أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والبيهقي من طريق عبد الله بن نمير وأبي أسامة حماد بن أبي أسامة كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عنه

ورواه يحيى بن سعيد القطان: ثنا عبيد الله بن عمر: أخبرني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة به. وليس فيه ذكر الاستقبال وزاد في الإسناد:

(عن أبيه)

أخرجه البخاري أيضا وكذا مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد والبيهقي وقال الترمذي:

(إنها أصح من رواية ابن نمير)

ومال الحافظ إلى صحة الروايتين وهو الصواب إن شاء الله تعالى

وللحديث شاهد صحيح من رواية رفاعة بن رافع البدري بنحوه بلفظ:

(إذا قمت تريد الصلاة فتوضأ فأحسن وضوءك ثم استقبل القبلة فكبر. . .) الحديث

أخرجه والحاكم وكذا البخاري في (جزء القراءة من طريق داود بن قيس والنسائي والبخاري والشافعي في (الأم) والبيهقي وأحمد

ص: 840

عن محمد بن عجلان وأبو داود عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري قال: ثني أبي عن عم له بدري - وقال محمد بن عمرو: عن رفاعة بن رافع - بهذه القصة

وهذا سند صحيح على شرط البخاري. وهو في (المسند) من طريق محمد بن عمرو عن علي بن يحيى عن رفاعة فأسقط من الإسناد يحيى بن خلاد. وهو رواية للبيهقي

وقد تابعه هكذا شريك بن أبي نمر عن علي بن يحيى عن عمه رفاعة

أخرجه الطحاوي في (شرح المعاني) وقال البيهقي:

(والصحيح رواية داود بن قيس ومن وافقه)

قلت: ومن وافقه سوى من ذكرنا: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عند أبي داود النسائي والبخاري في (جزئه) والدارمي والحاكم ومن طريقه البيهقي وابن حزم في (الملحى) وقال الحاكم:

(صحيح على شرط الشيخين)

قلت: علي بن يحيى ووالده لم يخرج لهما مسلم شيئا فهو على شرط البخاري وحده

ومنهم يحيى بن علي بن خلاد عند أبي داود والنسائي والترمذي

ص: 841

وحسنه والطحاوي والحاكم والطيالسي ومحمد ابن إسحاق عند أبي داود وعنه البيهقي والحاكم كل هؤلاء رووه عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه رفاعة ولكن ليس عند هؤلاء الثلاثة الآخرين ذكر استقبال القبلة ولا يخفى أن هذا غير ضائر بعد ثبوتها من طرق الأولين وفي حديث أبي هريرة أيضا

وحديث رفاعة هذا قد اختلف الرواة فيه اختلافا كثيرا زيادة ونقصا فيجب تتبع ذلك والأخذ بالزائد من الطريق الثابت. وسنشير إلى الزوائد الواردة فيه في كل مناسبة وفرصة تسنح لنا ولعلنا نجمع ذلك كله في موضع واحد ثم نحيل عليه عندما يقتضي الأمر. والله الموفق

([وقال في آخره: فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك])

هذه الزيادة تفرد بها أبو داود في رواية له من حديث أبي هريرة وإسنادها صحيح على شرط البخاري وهي ثابتة في حديث رفاعة بن رافع

وهذا الحديث - كالآية يدل على وجوب استقبال القبلة في الصلاة وقد نقل الشوكاني وغيره إجماع المسلمين على ذلك إلا في حالتين سيأتي ذكرهما. قال الشوكاني:

(وقالت الهادوية: إن استقبال القبلة من شروط صحة الصلاة وقد عرفناك فيما سبق أن الأوامر بمجردها لا تصلح للاستدلال بها على الشرطية

ص: 842

إلا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولكن ههنا ما يمنع من الشرطية وهو خبر السرية الذي أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث عامر بن ربيعة بلفظ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة وصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة / 115] فإن الاستقبال لو كان شرطا لوجبت الإعادة في الوقت وبعده لأن الشرط يؤثر عدمه في العدم مع أن الهادوية يوافقوننا في عدم الوجوب الإعادة بعد الوقت وهو يناقض قوله: إن الاستقبال شرط. وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه)

قلت: ثم ذكرها وستأتي. ثم قال:

(وفي حديث معاذ التصريح بأن ذلك كان بعد الفراغ من الصلاة قبل انقضاء الوقت وهو أصرح في الدلالة على الشرطية وفيها أيضا رد لمذهب من فرق في وجوب الإعادة بين بقاء الوقت وعدمه)(1)

(1) قلت: قد نقل غير واحد الإجماع على بطلان صلاة من تعمد ترك استقبال الكعبة ومنهم ابن حزم وابن عبد البر أبو عمر كما سيأتي نص كلامهما في ذلك في شرح الحديث الآتي فإن صح هذا الإجماع وجب المصير إليه ولا يكون مخالفا للحديث الذي احتج به الشوكاني على عدم الشرطية وذلك لأنه وارد في غير مورد النزاع - أعني: في غير المتعمد - فهو يدل على صحة صلاته والإجماع المذكور يدل على بطلانها من المتعمد فلا خلاف ولا تعارض. وقد جزم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (اختياراته)(ص 27 - 28) في غير ما مسألة ببطلان صلاة من لم يستقبل الكعبة وهو حتما يعني به المتعمد وأما غيره فمحل نظر =

ص: 843

(3 - ويجب على من كان مشاهدا للكعبة أو في حكم المشاهد لها أن يستقبل عينها ل (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها. . . فلما خرج ركع في قبل البيت (وفي رواية مستقبل وجه الكعبة)(وفي أخرى: عند باب البيت) ركعتين وقال: هذه القبلة [هذه القبلة])]

الحديث من رواية أسامة بن بن زيد رضي الله عنهما وقد اختصرنا منه جملة: (ولم يصل فيه) لأنه ثبت من طريق غيره من الصحابة أنه عليه السلام صلى فيه كما سبق بيانه قبيل (أحكام المساجد)

والحديث هذا أخرجه البخاري ومسلم - والسياق له - والنسائي وأحمد من طريق ابن جريج قال:

قلت لعطاء: أسمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله؟ قال:

لم يكن ينهى عن دخوله ولكن سمعته يقول: أخبرني أسامة به

والرواية الثانية مع الزيادة هي من حديث عبد الملك بن أبي سليمان قال: ثنا عطاء به نحوه

أخرجه النسائي وأحمد

= على أنني لا أكاد أتصور مسلما يعلم وجوب الاستقبال ثم يتركه عمدا لأن من يتعمد ترك شيء إنما يتركه عادة لما فيه من الجهاد ومحاربة هوى النفس ولا شيء من ذلك هنا لأن المصلي لا مناص من أن يستقبل شيئا ما فما الذي يدفعه ويحمله على ترك استقبال الكعبة وهي بين يديه يراها هذا أمر أكاد أجزم باستحالة وقوعه من المسلم العالم بالحكم. والله أعلم

ص: 844

وإسناده صحيح على شرط مسلم

وأما الرواية الثالثة فهي من حديث ابن عباس أيضا:

أن الفضل بن عباس أخبره أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في البيت حين دخله ولكنه لما خرج فنزل ركع ركعتين عند باب البيت

أخرجه أحمد: ثنا عبد الرزاق: ثنا ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أن ابن عباس كان يخبره به

وهذا سند صحيح على شرط الستة

وفي الباب عن ابن عمر أيضا عند البخاري وغيره من طريق مجاهد عنه. وقد سبق لفظه في المكان المشار إليه آنفا

قال النووي رحمه الله في (شرح المهذب):

(وقوله صلى الله عليه وسلم: (هذه القبلة). قال الخطابي: معناه: أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إليه أبدا فهو قبلتكم. قال: ويحتمل أنه علمهم سنة موقف الإمام وأنه يقف في وجهها دون أركانها وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة. هذا كلام الخطابي. ويحتمل معنى ثالثا وهو أن معناه: هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها فقط). قال الحافظ في (التلخيص) بعد أن ذكر هذا الاحتمال عن النووي:

ص: 845

(وهو أحتمال حسن بديع)

وأما الاحتمال المذكور عن الخطابي فقد نقله الشيخ علي القاري في (المرقاة) عن قول الطيبي ولعله أخذه عن الخطابي ثم تعقبه القاري بقوله:

(قلت: هذا إنما يتم في الجملة لو كان صلى صلاة فرض جماعة)

وهو تعقب قوي كما ترى فلم يبق إلا المعنى الأول والاحتمال الذي قاله النووي وهو المتبادر لنا من الحديث. والله أعلم

وقد نقل غير واحد الاتفاق على وجوب استقبال عين الكعبة للمشاهد ففي (تفسير القرطبي):

(لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له وعليه إعادة كل ما صلى. ذكره أبو عمر)

وقال ابن حزم:

(ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن امرءا لو كان بمكة بحيث يقدر على استقبال الكعبة في صلاته فصرف وجهه عامدا عنها إلى أبعاض المسجد الحرام من خارجه أو من داخله فإن صلاته باطلة (1) وأنه إن استجاز ذلك كافر. قال: وأما المريض والجاهل والخائف والمكره فإن الله تعالى يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة / 286] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)

(1) في أصل الشيخ رحمه الله و (المحلى): (باطل)(الناشر)

ص: 846

وقد اتفقت كلمة ابن حزم وأبي عمر بن عبد البر على نقل الإجماع في بطلان صلاة من ترك استقبال الكعبة عمدا. وقد سبق الكلام على ذلك قبيل هذا الحديث الذي كنا بصدد الكلام حوله

(وأما من كان غير مشاهد لها ولم يعرف موضعها فيكفيه أن يستقبل الجهة التي هي فيها لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)

الحديث من رواية أبي هريرة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما

أما الأول فأخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي معشر نجيح عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه مرفوعا به

وأبو معشر ضعيف قال الترمذي:

(وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه)

قلت: لكنه يقوى بمتابعة غيره له بإسناد آخر فقال الترمذي: ثنا الحسن بن أبي بكر المروزي: ثنا المعلى بن المنصور: ثنا عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد الأخنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا به. وقال:

(حديث حسن صحيح). قال البخاري:

(هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح)

قلت: ورجاله ثقات غير شيخ الترمذي: الحسن بن أبي بكر. كذا هو في

ص: 847

(السنن) حتى في النسخة التي صححها أحمد شاكر القاضي وهو خطأ والصواب: الحسن بن بكر بحذف لفظة (أبي) كذلك هو في كتب الرجال ك (التهذيب) و (التقريب) و (الخلاصة)

وهو الحسن بن بكر بن عبد الرحمن المروزي أبو علي نزيل مكة وقال مسلمة: (مجهول) كما في (التقريب)

وذكر فيه جمعا من الثقات رووا عنه وكأنه لذلك قال في (التقريب):

(إنه صدوق)

والله أعلم

وبالجملة فالحديث بهذين الطريقين حسن وهو صحيح بشاهده وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وله طريقان أيضا:

الأول: عن يزيد بن هارون: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن المجبر عن نافع عنه مرفوعا به

أخرجه الدارقطني والحاكم وعنه البيهقي وقال الحاكم:

(صحيح وابن مجبر ثقة). ووافقه الذهبي

وهو عجيب منه فإنه قد أورد في (الميزان) ابن مجبر هذا ونقل أقوال الأئمة في تضعيفه ولم يحك ولا قولا واحدا في توثيقه وأقره الحافظ في

ص: 848

(اللسان) وذلك يدل على أنه ضعيف اتفاقا وأن توثيق الحاكم له مما لا يعتد به

لكن قد تابعه عبيد الله بن عمر عن نافع به

أخرجه الدارقطني وعنه الضياء المقدسي في (المختارة) والحاكم وعنه البيهقي من طريق أبي يوسف يعقوب بن يوسف الواسطي: ثنا شعيب ابن أيوب: ثنا عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر به. وقال الحاكم:

(صحيح على شرط الشيخين فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده). ووافقه الذهبي أيضا

قلت: ولكن شعيبا لم يخرج له أحد الشيخين وإنما هو من رجال أبي داود فقط وهو صدوق يدلس كما في (التقريب) وقد صرح بالتحديث كما ترى فالإسناد صحيح إن كان الراوي عنه يعقوب بن يوسف الواسطي ثقة فإني لم أجد له ذكرا في كتب الرجال التي عندي. وقد قال البيهقي بعد أن ساقه من الطريقين:

(تفرد بالأول ابن مجبر وتفرد بالثاني يعقوب بن يوسف الخلال والمشهور رواية الجماعة حماد بن سلمة وزائدة بن قدامة ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر من قوله. قال: وروي عن أبي هريرة مرفوعا وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم

قلت: فهذا شاهد أخر مرسل

ص: 849

ثم قال البيهقي:

(والمراد به - والله أعلم - أهل المدينة ومن كانت قبلته على سمت من أهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب

وذلك ينطبق على من كان في الشمال والجنوب

وأما من كان في الشرق والغرب فقبلته ما بين الشمال والجنوب)

وقال الصنعاني في (سبل السلام):

(والحديث دليل على أن الواجب استبقال الجهة لا العين في حق من تعذر عليه العين وقد ذهب إليه جماعة من العلماء لهذا الحديث)

قلت: وعليه علماؤنا الحنفية قال في (المجموع):

(وحكاه الترمذي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وابن المبارك)

وقد نقل القرطبي في (تفسيره) إجماع العلماء على ذلك وفيه نظر فقد ذكر النووي أن الصحيح عند الشافعية أن الواجب إصابة عين الكعبة. قال:

(وبه قال بعض المالكية ورواية عن أحمد)

قلت: وهذا مخالف للمنقول عن الصحابة ولهذا الحديث. ثم قال الصنعاني:

(1) ونقله أيضا أبو الطيب وغيره كما في (المجموع)(3/ 207) ومن مثل هذا النقل تعلم تساهل بعض العلماء في دعوى الإجماع في مسائل مختلف فيها كهذه المسألة

ص: 850

(ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب بل في كل الجهات في حقه سواء متى قابلت العين أو شطرها)

وقال العلامة أبو الطيب صديق حسن في (الروضة الندية) ما نصه:

(أقول: استقبال القبلة هو من ضروريات الدين فمن أمكنه استقبال القبلة تحقيقا فذلك الواجب عليه مثل القاطن حولها المشاهد لها من دون قطع مسافة ولا تجشم مشقة ومن لم يكن كذلك ففرضه استقبال الجهة وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على الخصوص بل المراد ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من كون بين المشرق والمغرب قبلة فمن كان في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب توجه بين الجهتين فإن تلك الجهة هي القبلة وكذلك من كان بجهة الشام يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات فإن ذلك

وهذا آخر ما كتبه الشيخ رحمه الله من كتاب (الثمر المستطاب)]

والحمد لله رب العالمين

ص: 851