المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الأول: وصايا، نصائح، فوائد، آداب، منافع، توجيهات، تحذيرات - الحج والعمرة والزيارة

[عبد الله بن محمد البصيري]

الفصل: ‌القسم الأول: وصايا، نصائح، فوائد، آداب، منافع، توجيهات، تحذيرات

‌القسم الأول: وصايا، نصائح، فوائد، آداب، منافع، توجيهات، تحذيرات

أخي المسلم أختي المسلمة!

هذه بعض الوصايا التي يجدر بنا أن نتدبرها ونعمل بالصواب منها إذا أردنا أن نستفيد من الحج ونخرج منه كيوم ولدتنا أمهاتنا بحج مبرور نسأل الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه صواباً على هدى نبيه صلي الله عليه وسلم

أولاً: الإخلاص:

وهو مطلبُ عظيم وشرطٌ أساسي لصحة وقبول العمل {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [الآية البينة] وقال صلي الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ر واه الستة، وصح عنه إن الله تعالى قال:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " رواه مسلم، فليست العبرةُ بكثرة الأعمال ولا بالتعب والنصب فيها فقد أخبر الله تعالى عن عذاب أقوام عاملين لم يحققوا الإخلاص والمتابعة {وجُوه يَومَئِذ خَاشِعَة، عَامِلَة نَاصِبَة، تَصْلَى نَاراً حَامية} [الغاشية] وإنما المطلوب هو الإخلاص والسداد كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُم أَيّكُم أَحْسَن عَملاً} [الملك] أي أخلصه وأصوبه.. فلابد أن يكون العمل لله خالصاً صواباً على سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم

ص: 17

فاحرص على إخلاص العمل لله وحده ولا تشرك معه أحداً فتدعو غيره أو ترجوه أو تطوف حول قبر أو غيره ولا تطلب رضى أحد وإنما راقب الله وحده وليكن رضاه هو همك وغايتك، ليسلم لك العمل ويُقبل قال صلي الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه" رواه النسائي عن أبي أمامة بسند حسن صحيح - صحيح النسائي رقم 2943.

ثانياً: المتابعة:

وهذا هو الشرط الثاني لقبول العمل وصحته.. قال صلي الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري، ومسلم عن عائشة وفي رواية "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " رواه مسلم وهي معنى شهادة أن محمداً رسول الله أي أن لا تعبد الله إلا بما شرع فلابد من إتباع هدى الرسول صلي الله عليه وسلم في سفرك وإحرامك ومناسك حجك وسائر أعمالك لتبرهن صدق محبتك لله {قُل إِن كُنْتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِر لَكُم ذُنُوبِكُم} الآية وقد أمرنا المصطفى صلي الله عليه وسلم بأن نأخذ هدي المناسك منه وحده "خذوا عني مناسككم"وطريق المتابعة هو العلم الشرعي فلا يمكنك معرفة هدي النبي ومتابعتك له إلا بالعلم الشرعي الصحيح فلابد من تعلم أحكام الحج..

ص: 18

من العلماء الربانيين الذين عُرفوا باتباع الدليل.

ثالثاً: التوبة الصادقة:

فتب إلى الله وتطهر من جميع الذنوب والآثام بالإقلاع عنها "والندم توبة" حديث صحيح والعزم على عدم العودة إليها واحذر أن تكون ممن يروغ كروغان الثعالب ومن عُباد المواسم والأماكن الفاضلة وهو ينوي الرجوع إلى المعاصي بعدها بل اعزم واجزم على ترك المعاصي وسل ربك الثبات والاستقامة على الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنَوا تُوبُوا إلى اللهِ تَوبَة نُصُوحاً} .ولا تقنط من رحمة ربك واعلم بأن باب التوبة مفتوح لك ولغيرك مهما عملت. {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهَ يَغْفِر الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [الزمر] .

رابعاً: التحلل من الحقوق ورد المظالم والديون إلى أهلها وطلب السماح منهم:

فقد صح عنه صلي الله عليه وسلم:"من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجُعلت عليه" رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة.. فإن كان لأحد حق أو دين عندك فرده إليه أو اطلب منه السماح إن كان الدين قد حل أجله.

ص: 19

وإن كنت قد ظلمت أحداً فرد إليه مظلمته واطلبه السماح وإن كان الأمر معنوياً كغيبة ونحوها ووجدت حرجاً ومشقة في إخباره وطلب السماح منه وخشيت أن يزيد الأمر قطيعة وفرقة وعداوة.. فاستغفر له وادع له.. واذكره بخير كما ذكرته بالسوء أولاً وليكن نصب عينيك حديث المصطفى صلي الله عليه وسلم:"أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فُيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار "..رواه مسلم عن أبي هريرة - مختصر مسلم 1836.

خامساً: الاستئذان من الوالدين والزوج:

فاحرص على رضاهما فرضى الرب في رضاهما واطلب دعوتهما لك بالخير فدعوتهما مستجابة، فإن كان الحج عليك لأول مرة -أي فرض عين عليك- فلا يحق لهما منعك من الحج.. ولكن استئذنهما تطييباً لنفوسهما وكذا الزوجة مع زوجها تلتمس رضاه وتستئذنه فإن رضى وإلا حجت فرضها بشرط وجود محرم معها وأما في حج التطوع فلابد من الاستئذان.

ص: 20

سادساً: اطلب النفقة والزاد الطيب الحلال:

فإياك ثم إياك أن تحج بمال حرام من ربا أو رشوة أو يمين غموس كاذبة أو غش أو بيع محرم كدخان ومجلات ماجنة ونحو ذلك"فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" كما في صحيح مسلم وكيف يليق بك أن تحج بهذا المال؟! فتدعو في الطواف والسعي وغيره ثم تقف بعرفة بين يدي ربك رافعاً يديك تسأله وتدعوه وترجوه.. ومطعمك ومشربك وزادك وراحلتك من حرام فأنى وكيف يستجاب لك؟!!

سابعاً: الوصية:

فلا تخرج-أخي الحبيب- من بيتك إلا وقد كتبت وصيتك. وهذا مطلوب منك في كل حين.. ولكن تذكر هذا قبل سفرك. فاكتب وصيتك ولتكن على السنة فأوص أهلك بالتقوى والاستقامة وألاّ يبتدعوا بعد موتك سواء في كفنك ودفنك وقبرك أو النياحة ونحوها أو في سائر أمور حياتهم وتكتب فيها الذي لك والذي عليك من الديون والحقوق وتطلب من أهلك قضاءها وسدادها وأن يطلبوا السماح ممن له حق عليك وتوصى بثلث مالك في مشاريع الخير والبر قال صلي الله عليه وسلم:"ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" رواه البخاري ومسلم.

ص: 21

ثامناً: الرفقة الصالحة:

احرص -أخي الحبيب- على رفقة صالحة تذكرك بالله إذا نسيت، وتعينك على ذلك إذا ذكرت من أهل العلم والطاعة والتقوى. تتعاون أنت وإياهم في عمل الصالحات. وتطبيق هدي المصطفى صلي الله عليه وسلم في السفر والمناسك وبقية الأعمال الصالحة واحذر رفقة السوء التي تضيع عليك أعمالك أو تُنقص أجرك باللهو المحرم والقيل والقال واللغو نحوه ومنه قول المصطفى صلي الله عليه وسلم:" المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" رواه الترمذي وحسنه الألباني وقوله صلي الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيح:" مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك -أي يهديك- أو تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً خبيثة" ولا تنس أيضاً: القيام بحقوق الإخوة من التعاون والتعاطف والرحمة والذلة بين المؤمنين والتواضع والإيثار وخدمة إخوانك والتسابق في ذلك والتنافس على الخير ونصح الجاهل وتعليمه وأمر المخطئ بالمعروف ونهيه عن المنكر بالحكمة والأسلوب الحسن وغير ذلك من حقوق الإخوة وآدابها التي تديم المودة وتصلها وتقطع الطريق على

ص: 22

الشيطان وجنوده أن ينزغوا بينكم. {وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِي أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُم} .

تاسعاً: الإكثار من النفقة الحلال:

وذلك لمواساة المحتاج ومساعدة الفقير وإغاثة الملهوف ونحوه وتذكر بأن "بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام" حديث حسن رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني.

عاشراً: حفظ الجوارح وخاصة اللسان عما يخدش الحج:

أخي الحبيب:

احفظ جوارحك عن المحرمات فغض بصرك عن الحرام.. واحفظ سمعك عن الفُحش والغناء والخنا وصن لسانك من الوقوع في الغيبة والنميمة والفُحش والسب والشتم ونحوه وإياك من شرب الحرام كالدخان والشيشة ونحوها واحذر من حلق اللحية وقضاء الأوقات في سماع الحرام أو قوله أو أكله أو شربه بل كن ممن يعمر وقته بذكر الله وطاعته واجتهد في حُسن خُلقك مع الناس وعاملهم بالحسنى فلا تضايق ولا تزاحم ولا تجرح بلسانك واعلم بأن الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم ولا فُحش كما قال النووي رحمه الله قال صلي الله عليه وسلم:"والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه مسلم.. وتذكر

ص: 23

بأن "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " متفق عليه ولا تنس قول خالقك وربك ومولاك: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ في الْحَجِّ} [البقرة] واحذر ثم احذر أن يخالف قولك عملك. فأنت تلبي وتقول:"لبيك اللهم لبيك" أي جئتك يا رب طائعاً مجيباً منيباً ثم تخالف ذلك بعملك ومعصيتك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون كَبُر مَقْتاً عنْدَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون} [الصف] .

الحادي عشر: الحرص على آداب السفر المشروعة:

وذلك بمعرفة هدي النبي صلي الله عليه وسلم الثابت الصحيح في أدعية السفر والركوب والخروج والدخول ونزول المنزل وغير ذلك واحرص على التبكير في السفر فالبركة في البكور وعليك باستغلال الوقت في سفرك بما ينفع ويفيد!!

الثاني عشر: الاجتهاد في الطاعة:

اجتهد أخي الحبيب في الطاعة من نوافل الصلاة والصدقة والإنفاق والقراءة وغيرها.

حافظ على الصلوات في أوقاتها وفي المساجد مع المسلمين ولا تضيعها فتؤخرها عن وقتها فمن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

ص: 24

ومر بالمعروف وانه عن المنكر وجادل بالتي أحسن اجتهد في الدعاء والتضرع إلى الله بحضور قلب وتدبر لما تقول واتبع هدي نبيك في الدعاء ولا تعتد في الدعاء.. فتدعو بما لا يجوز أو تبتدع أو تدعو دعاءً جماعياً فهذا لم يرد من فعله صلي الله عليه وسلم

وكل خير في اتباع من سلف

وكل شر في ابتداع من خلف

واحرص على جوامع الكلم في الأدعية وأكثر من الدعاء يوم عرفة. أكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وخاصة يوم عرفة أكثر من ذكر الله في أيام التشريق فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى أكثر من الاستغفار وتلاوة القرآن وبذل المعروف ابذل الوسع والطاقة في عمل الصالحات والتقرب إلى الله بأنواع القربات سدد الله خطاك.

الثالث عشر: استشعار وتدبر أسرار الحج ومنافعه الدنيوية والأخروية:

أخي الحبيب:

استشعر معاني الأعمال الصالحة التي تقوم بها وتذبر أسرار

ص: 25

المناسك ولتكن بمثابة المحطات الإيمانية التي تتزود منها لآخرتك ودنياك كما قال تعالى: {لِيشهدُوا منَافع لَهُم} أي في الدنيا والآخرة فليذكرك السفر، سفرك إلى الدار الآخرة وهل أعددت لها الزاد والعمل والإخلاص كما حملت الزاد في سفر الدنيا.

وليذكرك الإحرام والاغتسال قبله الكفن والموت الذي كلنا إليه صائر.

كل ابن انثى وإن طالت سلامته

يوماً على آله حدباء محمول

وكفى بالموت والقبر واعظاً ومذكراً بالآخرة وتدبر ماذا بعد الموت.

وليذكرك أيضاً يوم عرفة "في شدة حره وعطشه واجتماع الناس فيه بلباس واحد. كلهم سواسية" ذلك اليوم العظيم الذي تقف فيه بين يدي رب العالمين والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق فمن الناس من يصل عرقة إلى ركبتيه إلى حقويه إلى ترقوته ومنهم من يلجمه -يغطيه- العرق إلجاماً على قدر الذنوب والمعاصي.

تذكر. {يَوم لا يَنْفَعُ مَال وَلا بنُون إِلَاّ مَن أَتَى اللهُ بِقَلْبٍ سَليم} .

وتذكر. {يَوم تَرَونَها تَذْهَل كُل مُرضِعَة عَمَّا أَرْضَعَت وَتَضع كُل ذات حَمل حَملهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلكِنَّ عَذَاب الله شَدِيد} [الحج] تذكر "يحشر الناس حفاة عراة غرلاً -أي غير مختونين-" حديث صحيح

ص: 26

وتذكر أيضاً أن هناك أناساً في ذلك اليوم العصيب تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله من المتحابين في الله والعادلين في حكمهم والباكي في خلوته من ذكر ربه والمعلق قلبه في المسجد والشاب الناشئ في طاعة الله وغيرهم كما في حديث السبعة وغيره. تذكر وتذكر وتذكر واعمل لإنقاذ نفسك ونجاتها.

أخي الحبيب:

تدبر مناسك الحج وخذ منها العبرة والعظة والزاد لآخرتك وتعلّم منها أيضاً دروساً كثيرة من التأخي والتآلف والوحدة الحقيقية التي لابد أن تكون على منهج الله ورسوله وطريقة السلف الصالح وتعلّم التساوي بين المسلمين جميعاً على جميع مستوياتهم وطبقاتهم كلهم يقفون بلباس واحد وفي مكان ووقت واحد وغير ذلك من الفوائد التي تحتاج إلى رسالة بل رسائل مستقلة.

وختاماً أخي الحبيب:

إياك ثم إياك أن تعود إلى المعاصي والفجور بعد أن خرجت من الحج طاهراً نظيفاً كيوم ولدتك أمك حافظ على هذه النظافة والطهارة واستقم على شرع الله ولا تكن ممن ينقض الغزل "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها" بل كن ممن يعبد ربه ويستقيم على شرعه حتى يأتيه اليقين ويلقى ربه وهو عنه راض وهو نظيف طاهر من الأوساخ والأدران

ص: 27

نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل حجنا مبروراً وسعينا مشكوراً وذنبنا مغفوراً وأن يعيننا على العمل بما في هذه الوصايا من حق وصواب

السفر فوائد، آداب، أحكام

قال الله تبارك وتعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَات لِلْمُوقِنِين. وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: الآيتان:20،21]، وقال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لأُولِي الأَلْبَابِ الذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهم ويَتَفَكَّرُون فِي خَلق السَّموات وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران:190،191] وقال تعالى: {فَسِيْحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] لذا فاعلم أيها الحاج، أن السياحة في الأرض والتأمل في عجائب المخلوقات، مما يزيد العبد معرفة بربه عز وجل ويقيناً بأن لهذا الكون مدبراً، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه. فالمسافر يتأمل، ثم يتدبر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته

فيا عجباً كيف يُعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحدُ

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحدُ

ص: 28

وقد أنكر الله -عزوجل- على أناس يسيحون في الأرض ولا يتأملون في خلقه قال تعالى: {وكَأَين مِن آيَة فِي السَّمواتِ وَالأَرضِ يَمُرونَ عَلَيْهَا وَهُم عَنْها مُعرِضُون} [يوسف:105] .

قال الشاعر:

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لُجَيْن شاخصات

بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

والسفر في العموم لا يخلو من فوائد وهي كثيرة، وقد ذكر الشافعي رحمه الله بعضاً من هذه الفوائد حيث قال في شعر له:

تغرب عن الأوطان في طلب العُلى

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرُّجُ هم واكتساب معيشة

وعلم وآداب وصحبة ماجد

والسفر في هذه الآونة، يختلف عن السفر في أيام مضت، فقد مهدت الطرق وجرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاءوا، أو تقلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا، كما أن الأزمنة قد تقاصرت فما كان يتم في شهور بشق الأنفس، أضحى يتم في أيام قصيرة، بل ساعات قليلة وبجهود محدودة.

ص: 29

ومع هذه الراحة الميسرة، فإن الأخطار المبثوثة في البر والبحر والجولم تنعدم بل إنها في ازدياد عن ذي قبل مما يؤكد الاحتماء بالله، وارتقاب لطفه، واللجؤ إليه.

ثم اعلم أيها الحاج الكريم: أن خروجك من بلدك مسافراً لأداء فريضة الحج يذكرك بسفر الآخرة، الذي كتبه الله على خلقه، فالموت كأس وكل الناس شاربه، وهو بكلٍ ضيف ولابد للضيف أن يرتحل، قال تعالى:{كُلّ مَن عَلَيْهَا فَانٍ. ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَام} [الرحمن:26،27]، وقال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] قال أحد السلف لولده: يا بني جدد السفينة، فإن البحر عميق، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد، وأحسن العمل فإن الناقد بصير. اهـ وخير ما يتزود به العبد تقوى الله عز وجل والعمل الصالح وفي ختام هذه الوقفة يطيب لي أن أقدم للحاج الكريم بعضاً من الآداب التي ينبغي أن يراعيها المسلم عندما يريد السفر في العموم، ويدخل السفر إلى الحج في هذا العموم.

من آداب السفر إلى الحج:

1-

وجوب التوبة من المعاصي والخروج من المظالم:

إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج استحب له أن يوصى أهله وأصحابه بتقوى الله عز وجل وهي فعل أوامره واجتناب نواهيه وينبغي

ص: 30

أن يكتب ما له وما عليه من الدَّيْن ويشهد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي لقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وحقيقة التوبة هي الإقلاع من الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزيمة على عدم العودة إليها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم أو تحللهم منها قبل سفره لما صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال:"من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"1.

2-

وينبغي أن ينتخب لحجه نفقة طيبة من مال حلال لما صح عنه صلي الله عليه وسلم: أنه قال"إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً"2.

3-

وينبغي للحاج الاستغناء عما في أيدي الناس والتعفف عن سؤالهم لقوله صلي الله عليه وسلم:"ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله"3.

4-

وإن يقصد بحجه وجه الله والدار الآخرة ويحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها أو الرياء والسمعه يقول تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيا وَزِيْنَتَها نُوفّ إِلَيْهِم أَعْمَالَهُم فِيهَا وهُم فِيهَا لا يَبْخَسُون،

1 البخاري.

2 مسلم.

3 البخاري.

ص: 31

أولئِكَ الذينَ لَيس لَهُم في الآخرة إلا النَّار وحبط ما صَنَعوا فيهَا وباطلٌ ما كانوا يعَمَلُون} 1، وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى:" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 2، وينبغي له أيضاً أن يصحب في سفره الأخيار من أهل الطاعة والتقوى والفقه في الدين ويحذر من صحبة السفهاء والفسقة وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة فإذا ركب دابته أو سيارته أو طائرته أو غيرها من المركوبات استحب له أن يسمى الله سبحانه وبحمده ثم يكبر ثلاثاً يقول:{سُبحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِين وَإِنَّا إِلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبون} [الزخرف:13]"اللهم إني أسلك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل"3، ويكثر في سفره من الذكر والاستغفار ودعاء الله سبحانه والتضرع إليه وتلاوة القرآن وتدبر معانيه ويحافظ على الصلوات في الجماعة ويحفظ لسانه من الكذب والغيبة والنميمة ومن كثرة القيل والقال.

1 هود الآيتان 15،16) .

2 مسلم.

3 مسلم.

ص: 32

صلاة المسافر

دين الإسلام دين اليسر والسهولة لا حرج فيه ولا مشقة وكلما وجدت المشقة فتح الله لليسر أبواباً قال الله تعالى: {هُوَ اجْتَباكُم وَمَا جَعَل عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج} ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم:"الدين يسر"، وقال أهل العلم رحمهم الله: المشقة تجلب التيسير ولما كان السفر مظنة المشقة غالباً خففت أحكامه فمن ذلك:

1-

جواز التيمم للمسافر إذا لم يجد الماء أو كان معه من الماء ما يحتاجه لأكله وشربه، لكن متى غلب على ظنه أنه يصل إلى الماء قبل خروج الوقت المختار فالأفضل تأخير الصلاة حتى يصل إلى الماء ليتطهر به.

2-

إن المشروع في حق المسافر أن يقصر الصلاة الرباعية فيجعلها ركعتين من حين يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه ولو طالت المدة لما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبي صلي الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين وأقام النبي صلي الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة"لكن إذا صلى المسافر خلف إمام يصلي أربعاً فإنه يصلي أربعا تبعاً لإمامه سواء أدرك الإمام من أول الصلاة أو في أثنائها، فإذا سلم الإمام أتى بتمام الأربع لقول النبي صلي الله عليه وسلم:"إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"، وعموم قوله:"فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا".

ص: 33

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا أئتم بمقيم، فقال: تلك السنة، وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً وإذا صلى وحده صلى ركعتين.

3-

إن المشروع في حق المسافر أن يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء إذا احتاج إلى الجمع مثل أن يكون مستمراً في سيره والأفضل حينئذ أن يفعل ما هو الأرفق به من جمع التقديم أو التأخير أما إذا كان غير محتاج إلى الجمع فإنه لا يجمع مثاله أن يكون نازلاً في محل لا يريد أن يرتحل منه إلا بعد دخول وقت الصلاة الثانية فهذا لا يجمع بل يصلي كل فرض في وقته لأنه لا حاجة به إلى الجمع.

منافع الحج

وفي الحج من المنافع الدينية والدنيوية والاجتماعية والصحية ما لا يعد ولا يحصى قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} [الحج:28] ، ففيه امتثال لأمر الله وتوحيد وتعظيم له وإظهار لذكره وشكره وخضوع وخشوع وتذلل لعظمته، وفيه مغفرة للذنوب وتكفير السيئات وزيادة الحسنات ورفع الدرجات، وفيه تذكير بأحوال الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين فيوجب ذلك محبتهم والاقتداء بهم، وفيه يلتقي المسلم بإخوانه المسلمين الوافدين إلى هذا البيت من مشارق الأرض ومغاربها فيتعارفون،

ص: 34

ويتشاورون، ويحلون مشاكلهم وفي الحج رياضة للأبدان وصحة لها، وفيه يتفكر المسلم في مخلوقات الله في الأرض والأنفس على اختلاف ألوانها وأجناسها ولغاتها {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] وفي هذه الأيام يتجه المسلمون إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج تاركين في سبيل ذلك أوطانهم وأولادهم وأموالهم متجهين إلى مكان واحد في وقت واحد قاصدين رباً واحداً وهدفاً واحداً، فإذا وصلوا إلى الميقات خلعوا ثيابهم ولبس كل واحد منهم إزاراً ورداءًا كأنها أكفان الموتى وكأنهم مسافرون إلى الآخرة لا فرق في ذلك بين الصغير والكبير والغني والفقير والرئيس والمرؤوس، وكذلك يستوي في هذا الشعار المتواضع النجدي والشامي واليمني والمغربي والهندي والعربي والعجمي.. فالكل جاء يقطع البلاد جوًا وبرًا وبحرًا لحضور هذا الاجتماع الإسلامي الكبير استجابة لنداء الله على لسان خليله وشوقاً إلى لقائه فيدخلون في حرم الله محرمين خاضعين خاشعين متذللين قد تركوا مألوفاتهم واتجهوا إلى الله بقلوبهم وأبدانهم فيترددون في تلك المشاعر العظيمة من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار وذبح الهدي على اسم الله والحلق أو التقصير والمبيت بمنى إلى أن يودعوا البيت كل ذلك بقلوب خاشعة وأعين دامعة وألسنة ملبية مكبرة مهللة

ص: 35

داعية، وإذا وقفوا بعرفة اطلع الله عليهم وباهى بهم الملائكة وقال انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل لغفرتها لهم، وما من يوم أكثر من أن يعتق الله عبيده من النار من يوم عرفة، وبعد انتهاء الحج وتوديع البيت يرجع الحجاج الأبرار إلى أوطانهم كما ولدتهم أمهاتهم، قد غفرت ذنوبهم واستجيب دعاؤهم واستحقوا العتق من النار ودخول الجنة، كما قال صلي الله عليه وسلم:"والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه، فالحج فرصة ثمينة ومناسبة عظمى لا تحصل لغير المسلمين فحقيق بالمؤمن وخصوصاً من لم يحج وتوفرت فيه شروط الحج أن يبادر إليه ما دام في العمر فسحة ومن الوقت مهلة قبل حلول الأجل وهجوم الموت وفوات الأوان قال الله تعالى:{اسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] .

ص: 36

مواقيت الحج

وتنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: المواقيت الزمانية:

وتبتدئ المواقيت الزمانية بدخول شهر شوال، وتنتهي إما بعشر ذي الحجة أي بيوم العيد، أو بآخر يوم من أيام ذي الحجة وهو القول الراجح، لقوله تعالى:{الحَجُّ أشْهرٌ مَعْلُوماتٌ} و"أشهره" جمع، والأصح في الجمع أن يراد به حقيقته ومعنى هذا الزمن: أن الحج يقع في خلال هذه الأشهر الثلاثة وليس يُفعل في أي منها، فإن الحج له أيام معلومة، إلا أن مثل الطواف والسعي إذا قلنا بأن شهر ذي الحجة كله وقت للحج، فإنه يجوز للإنسان أن يؤخر طواف الإفاضة وسعي الحج إلى آخر يوم من شهر ذي الحجة، ولا يجوز له أن يؤخرها عن ذلك اللهم إلا لعذر، كما لو نَفِست المرأة قبل طواف الإفاضة وبقي عليها النفاس حتى خرج ذي الحجة، فهي إذن معذورة في تأخير طواف الإفاضة هذه هي المواقيت الزمانية للحج:

أما العمرة فليس لها ميقات زمني؛ فإنها تُفعل في أي يوم من أيام السنة، لكنها في رمضان تعدل حجة، وفي أشهر الحج اعتمر النبي صلي الله عليه وسلم كل

ص: 37

عُمره، وعمرة الحديبية كانت في شهر ذي القعدة، وعمرة القضاء كانت في ذي القعدة، وهذا يدل على أن العمرة في أشهر الحج لها مزية وفضل لاختيار النبي صلي الله عليه وسلم هذه الأشهر لها.

مسألة حكم الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج:

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الإحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج، فمنهم من قال: إن الإحرام بالحج قبل أشهره ينعقد ويبقى محرماً بالحج، إلا أنه يكره له أن يحرم بالحج قبل أشهره ومنهم من قال: إنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره، فإنه لا ينعقد، ويكون عمرة أي يتحول إلى عمرة؛ لأنه كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: دخلت العمرة في الحج، وسماها النبي صلي الله عليه وسلم لحج الأصغر، كما في حديث عمرو بن حزم المرسل المشهور الذي تلقاه الناس بالقبول.

القسم الثاني: المواقيت المكانية:

ومواقيت الحج المكانية خمسة وهي: ذو الحليفة، والجحفة، يلملم، قرن المنازل، ذات عرق

أما ذو الحليفة: فهي المكان المسمى الآن بأبيار علي، وهي قريبة من المدينة، وتبعد عن مكة نحو عشر مراحل، وهي أبعد المواقيت عن مكة، وهي لأهل المدينة ولمن مر بها من غير أهل المدينة.

فأما الجحفة: فهي قرية قديمة في طريق أهل الشام إلى مكة، وبينها

ص: 38

وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وقد خربت القرية وصار الناس يحرمون من رابغ بدلاً منها.

وأما يلملم: فهو جبل أو مكان في طريق لأهل اليمن في طريقهم إلى مكة، ويسمى اليوم"السعدية" وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.

وأما قرن المنازل: فهو جبل في طريق أهل نجد إلى مكة، ويسمى الآن"السيل الكبير"، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.

وأما ذات عرق: فهي مكان في طريق أهل العراق إلى مكة، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين أيضاً.

فأما الأربعة الأولى فقد وَقَّتَها النبي صلي الله عليه وسلم، وأما ذات عرق فقد وقَّتها النبي صلي الله عليه وسلم أيضاً كما رواه أهل السنة من حديث عائشة رضي الله عنها، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه وقَّتها لأهل الكوفة والبصرة حين جاءوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن النبي صلي الله عليه وسلم وقّت لأهل نجد قرناً وإنها جور عن طريقنا، فقال لهم عمر رضي الله عنه: انظروا إلى حذوها من طريقكم وعلى كل حال فإن ثبت ذلك عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فالأمر ظاهر، وإن لم يثبت فإن هذا ثبت بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أُمرنا باتباعهم، والذي جرت موافقاته لحكم الله عز وجل في عدة مواضع، منها هذا إذا لم يصح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه وقتها، وهو أيضاً مقتضى القياس فإن الإنسان إذا مر بميقات لزمه الإحرام منه، فإذا حاذاه صار كالمار به.

ص: 39

وفي أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فائدة عظيمة في وقتنا هذا، وهو أن الإنسان إذا كان قادماً إلى مكة بالطائرة، فإنه يلزمه إذا حاذى الميقات من فوقه أن يحرم منه عند محاذاته، ولا يحل له تأخير الإحرام إلى أن يصل إلى جدة كما يفعله كثير من الناس، فإن المحاذاة فلا فرق بين أن تكون في الأرض أو في الجو أو في البحر، ولهذا يحرم أهل البواخر التي تمر من طريق البحر فتحاذى يلملم أو رابغاً فيحرمون منها إذا حاذوا هذين الميقاتين.

مسألتان مهمتان

الأول حكم الإحرام قبل المواقيت المكانية:

يكره للإنسان أن يحرم قبل المواقيت المكانية؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم وقَّتها، وكون الإنسان يُحرم قبل أن يصل إليها، فيه شيء من تقدم حدود الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم في الصيام:"لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صومه فليصمه" وهذا يدل على أنه ينبغي لنا أن نتقيد بما وقته الشرع من الحدود الزمانية والمكانية، ولكنه إذا أحرم قبل أن يصل إليها فإن إحرامه ينعقد وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها: وهي أن الرسول صلي الله عليه وسلم لما وقت هذه المواقيت قال:"هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة"

ص: 40

فمن كان من أهل نجد ومر بالمدينة، فإنه يحرم من ذي الحليفة -أبيار علي الآن- ومن كان من أهل الشام ومر بالمدينة فإنه يحرم من ذي الحليفة، ولا يحل له أن ينتظر حتى يصل إلى ميقات أهل الشام الأصلي على القول الراجح من أقوال أهل العلم.

الثانية: حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام:

من تجاوز الميقات بدون إحرام فلا يخلو من حالين:

1-

أن يكون مريداً للحج أو العمرة، فحينئذ يلزمه أن يرجع إليه ليحرم منه بما أراد من النسك، فإن لم يفعل فقد ترك واجباً من واجبات النسك، وعليه عند أهل العلم فدية دم يذبحه في مكة، ويوزعه على الفقراء هناك.

2-

إذا تجاوزه وهو لا يريد الحج والعمرة، فإنه لا شيء عليه، سواء طالت مدة غيابه عن مكة أم قصرت، وذلك لأننا لو ألزمناه بالإحرام من الميقات في مروره هذا، لكان الحج يجب عليه أكثر من مرة أو العمرة، وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، وما زاد فهو تطوع، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم فيمن تجاوز الميقات لا يريد الحج ولا العمرة.

ص: 41