الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
قال شيخ الإسلام أبو العباس، أحمد ابن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم، ابن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية رحمة الله عليه1:
الحمد لله نستعينه، ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، حيث بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وَعَبَدَ الله حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله
1 هو شيخ الإسلام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس تقي الدين بن تيمية: الإمام، ولد في حران وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتي بها فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة، ومن ثم أطلق فعاد إلى دمشق سنة 712هـ، واعتقل بها سنة 720هـ، وأطلق، ثم اعتقل ثانية ومات مسجونًا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته، وكان داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان، عاش من 661 إلى 728هـ- وكان جده أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن تيمية فقيهًا حنبليًّا، محدثًا، مفسرًا، ولد بحران وتوفي بها.
عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته.
أما بعد:
فهذه: "قاعدة في الحسبة". أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .
وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
وقد أخبر عن جميع المرسلين أن كلا منهم يقول لقومه:
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] .
وعبادته تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى والحسنات، والقربات والباقيات الصالحات والعمل الصالح، وإن كانت هذه الأسماء بينها فروق لطيفة ليس هذا موضعها.
وهذا الذي يقاتل عليه الخلق، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"1.
1 من حديث أبي موسى الأشعري. رواه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه "13/ 53"، وبنحوه "13/ 154"، وبنفس اللفظ رواه الترمذي في سننه "7/ 150"، والإمام أحمد في مسنده "4/ 397"، وروى نحوه البخاري في صحيحه "1/ 222" و"13/ 441"، وابن ماجه في سننه "2/ 931"، وهو عندنا حديث صحيح.
وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمرٍ وناهٍ. فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين أخرى.
وأهل الأديان الفاسدة من المشركين وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل أو بعد النسخ والتبديل1، مطيعون فيما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم. وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت، ومنهم من لا يؤمن به، وأما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت، ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى:"الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".
وإذا كان لا بد من طاعة آمرٍ وناهٍ فمعلوم أن دخول المرء في طاعة الله ورسوله خير له، وهو الرسول النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وذلك هو الواجب عل جميع الخلق، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64] . وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
1 النسخ: أي القرآن، والتبديل: أي بما كسبت أيديهم.
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته للجمعة: "إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها"1. وكان يقول في خطبة الحاجة: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا" 2.
وقد بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، فأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يقبل من أحد إلا الإسلام الذي جاء به، فمن ابتغى غيره دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وأخبر في كتابه أنه أنزل الكتاب والحديد ليقوم الناس بالقسط؛ فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
1 أقرب الروايات إلى هذا اللفظ ما عند النسائي في سننه "3/ 58" وفيها: "أحسن الكلام
…
وأحسن الهدي"، وعند ابن ماجه في سننه "1/ 17" بلفظ: "فإن خير الأمور كتاب الله" كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وعنه رواه مسلم في صحيحه "6/ 403، 404" بلفظ:"خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي"
…
إلخ الحديث"، ومثله وعنه أيضًا رواه الإمام أحمد في مسنده "3/ 371" ورواه البخاري في صحيحه "10/ 509، 13/ 249"، ومثله لكن عن جابر بن عبد الله في مسند الإمام أحمد "3/ 319"، وفي المسند أيضًا "3/ 310" ولكن بلفظ آخر فيه: " أصدق الحديث
…
وأفضل الهدي".
2 بهذا اللفظ رواه أبو داود "6/ 156" وغيره عن "عبد الله بن مسعود" وقد ضعفه الألباني وقال: "هذا سند ضعيف وعلته أبو عياض هذا وهو المدني"، قال الحافظ في "التقريب":"وهو مجهول" وصححه الإمام النووي، وقال الشيخ "الألباني": وكان أبعدهم عن الصواب الإمام النووي رحمه الله حيث قال في "شرح صحيح مسلم""6/ 160": "إسناده صحيح"- وقاله: ثم إن في متن الحديث نكارة وهي قوله: "ومن يعصهما" فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "النهي عن هذه اللفظة كما في حديث عدي بن حاتم: -ذكر الحديث وفيه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله". "انظر خطبة للشيخ الألباني فيه تفصيل".
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمر أحدهم"، وفي سننه أيضًا عن أبي هريرة مثله1.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم"2.
فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم: كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك، ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان، من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر"3.
1 سنده عن "أبي سعيد الخدري" عند أبي داود في سننه "7/ 267"، ورواه عن "أبي هريرة" بسند "ضعيف"؛ لأن فيه "محمد بن عجلان" عن "أبي هريرة" وقد اختلطت أحاديث "أبي هريرة" عليه [والحديث عندنا حسن] .
2 روى نحوه الإمام أحمد في مسنده "2/ 177" بسند حسن.
3 رواه الإمام أحمد في مسنده "3/ 22"، والترمذي في سننه "6/ 70"بسند فيه "عطية العوفي" وهو علته. ولهذا فالحديث ضعيف.