المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: [التعزير المالي] - الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية

[ابن تيمية]

الفصل: ‌فصل: [التعزير المالي]

‌فصل: [التعزير المالي]

و"التعزير بالعقوبات المالية" مشروع أيضًا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لما وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: " لا بل احرقهما".

وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن، فإنه "لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: "افعلوا". فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن عقوبة ذلك لم تكن واجبة.

ومثل هدمه لمسجد الضرار ومثل تحريق موسى للعجل المتخذ إلهًا، ومثل تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل ما روى من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير. ومثل أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن

ص: 49

الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه.

وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العمل بذلك ونظائرها متعددة. ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما، ومن قاله مطلقًا من أي مذهب كان: فقد قال قولًا بلا دليل، ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.

وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث. ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما. والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة، وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة لبعض النصوص وتوهمه ترك العمل، إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماعًا، والإجماع دليل على النسخ، ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلًا على أنه منسوخ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له، ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذ حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحًا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعًا، ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء.

ص: 50

وأيضًا فإن واجبات الشريعة التي هي حق لله ثلاثة أقسام: عبادات كالصلاة والزكاة والصيام، وعقوبات إما مقدرة وإما مفوضة، وكفارات وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى: بدني، وإلى مالي، وإلى مركب منهما. فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام، والمالية: كالزكاة، والمركبة: كالحج، والكفارات المالية: كالإطعام، والبدنية: كالصيام، والمركبة: كالهدي بذبح. العقوبات البدنية: كالقتل والقطع، والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه، وكقتل الكفار وأخذ أموالهم. وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق، وتارة تكون دفعًا عن المستقبل كقتل القاتل: فكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر، وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف، وإلى تغيير، وإلى تمليك الغير.

فالأول: المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعًا لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجرًا أو خشبًا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها. وكذلك آلات الملاهي مثل الطنبور يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء، وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد، ومثل ذلك أوعية الخمر، يجوز تكسيرها وتخريقها، والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه، وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم، واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد، وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر، رواه أبو عبيدة وغيره؛ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية، وهذا أيضًا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.

ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب، حيث رأى رجلًا قد شاب اللبن

ص: 51

بالماء المبيع فأراقه عليه، وهذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:"نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع"1.

وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر.

ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات، مثل الثياب التي نسجت نسجًا رديئًا أنه يجوز تمزيقها وتخريقها، ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبًا من حرير مزقه عليه، فقال الزبير: أفزعت الصبي، فقال: لا تكسوهم الحرير، وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق، وتقطع رجل المحارب ويده. وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر، وليس إتلاف ذلك واجبًا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضًا، إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج وكالطعام المغشوش، وهو: الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد ونحو ذلك: يتصدق به على الفقراء، فإن ذلك من إتلافه، وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع؛ فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى، فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه، وعمر أتلفه؛ لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في المدينة إما قليلًا وإما معدومين.

ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه.

1 لم أجده بهذا اللفظ: ووجدت عند الإمام أحمد في مسنده عن "عبد الله بن عمرو بن العاص" في معناه وفيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أخاف على أمتي إلا اللبن، فإن الشيطان بين الرغوة والصريح" -ومعناه: الغش في اللبن- وسنده جيد. "انظر الفتح الرباني "للبنا" 15/ 60".

ص: 52

ففي المدونة عن مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبًا لصاحبه، وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به، وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء.

وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية قال1: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسًا، لكن الأول أشهر عنه، وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه ونفع المساكين بإعطائهم إياه ولا يهراق.

قيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟

قال: ما أشبهه بذلك إذا كان هو غشه فهو كاللبن.

قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف منه، فإما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام. يريد في الصدقة بكثيره.

قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرًا أو كثيرًا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره.

وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرًا، وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو، وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.

وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان، قال في الملاحف الرديئة النسج: تحرق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق، وقال: تقطع خرقًا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين، فأنكر عليه ابن القطان وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.

1 انظر قول مالك وابن القطان وابن حبيب في "المعيار والجامع المغرب" لأحمد بن يحيى الونشريسي "6/ 412".

ص: 53

قال القاضي أبو الأصبغ: وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين، وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله.

وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش، إما بإزالة الغش، وأما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره. قال عبد الملك بن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب، قال عبد الملك بن حبيب: ولا يرده الإمام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، وبكسر الخبز إذا كثر ويسلمه لصاحبه، ويباع العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله ويبين له غشه، هكذا العمل فيما غش من التجارات. قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم1.

1 انظر "المعيار المعرب" للونشريسي "6/ 416".

ص: 54

فصل:

وأما التغيير فمثل ما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس"1، فإذا كانت الدراهم أو الدنانير الجائزة فيها بأس كسرت. ومثل تغيير الصورة المجسمة إذا لم تكن موطوءة مثل ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أتاني جبريل فقال: إني أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت إلا أنه كان في البيت تمثال رجل"، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فأمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، وأمر بالستر يقطع فيجعل في وسادتين منتبذتين يوطآن، وأمر بالكلب يخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضيد لهم". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه2.

1 رواه أبو داود في سننه "9/ 318"، وابن ماجه في سننه "2/ 761" وفي سنده محمد بن فضاء، ضعيف.

2 هذا الحديث لم يرد برواية واحدة، بل من تجميع شيخ الإسلام رحمه الله، وكله صحيح عند البخاري "10/ 391" عن "سالم بن عبد الله بن عمر"، وعند مسلم في صحيحه "14/ 327" عن عائشة" رضي الله عنها بذكر "الكلب والصورة" وعن "ابن عباس" عن "ميمونة" وعن "عائشة" رضي الله عنهم جميعًا بقصة "الوسادتين والستر" ومن طريق آخر وبلفظ "ولا تماثيل" عنده عن أبي طلحة الأنصاري، وعن أبي هريرة وفيه: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير"، وروى أبو داود في سننه "11/ 213" عن أبي هريرة نحو هذه القصة، والترمذي في سننه "10/ 249" عنه وقال: هذا حديث حسن صحيح".

ص: 55

وكل ما كان من العين أو التأليف المحرم فإزالته وتغييره متفق عليها بين المسلمين، مثل إراقة خمر المسلم، وتفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصور المصورة، وإنما تنازعوا في جواز إتلاف محلها تبعًا للحال، والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد وغيرهما. والصواب أن كل مسكر من الطعام والشراب فهو حرام ويدخل في ذلك التبغ والمزر1 والحشيشة القنبية وغير ذلك.

وأما التغريم: فمثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن "عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من الثمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الجرين: أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين. وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوى إلى المراح: أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين".

وكذلك قضى عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أنه يضعف غرمها، وبذلك كله قال طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره، وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع، فأضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنهم القطع، وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمدًا أنه يضعف عليه الدية؛ لأن دية الذمي نصف دية المسلم، وأخذ بذلك أحمد بن حنبل.

1 البتع: نبيذ العسل. والمزر: الشعير والذرة ينبذ حتى يشتد.

ص: 56