المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: [مسئولية المحتسب] - الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية

[ابن تيمية]

الفصل: ‌فصل: [مسئولية المحتسب]

‌فصل: [مسئولية المحتسب]

عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع1، فقد يدخل في ولاية القضاة في بعض الأمكنة والأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب في مكان وزمان آخر، وبالعكس، وكذلك الحسبة وولاية المال.

وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية، فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين، وأي من ظلم وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين، إنما الضابط قوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] .

وإذا كان كذلك، فولاية الحرب في عرف هذا الزمان في هذه البلاد الشامية والمصرية تختص بإقامة الحدود التي فيها إتلاف، مثل قطع يد السارق وعقوبة المحارب ونحو ذلك، وقد يدخل فيها من العقوبات ما ليس فيه إتلاف، كجلد السارق، ويدخل فيها الحكم في المخاصمات والمضاربات، ودواعي التهم التي ليس فيها كتاب وشهود، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود، وكما تختص بإثبات

1 أي غير مذكور في نص توقيفي، قرآن أو سنة.

ص: 15

الحقوق والحكم في مثل ذلك، والنظر في حال نظّار الوقوف وأوصياء اليتامى، وغير ذلك مما هو معروف.

وفي بلاد أخرى كبلاد المغرب: ليس لوالي الحرب حكم في شيء، وإنما هو منفذ لما يأمر به متولي القضاء، وهذا اتبع للسنة القديمة ولهذا أسباب من المذاهب والعادات مذكورة في غير هذا الموضع.

وأما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور، فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه، فعلى المحتسب أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، وأما القتل فإلى غيره، ويتعهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة أو خرج عن الأذان المشروع ألزمه بذلك، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والحكم، وكل مطاع يعين على ذلك. وذلك أن "الصلاة" هي أعرف المعروف من الأعمال، وهي عمود الإسلام وأعظم شرائعه، وهي قرينة الشهادتين، وإنما فرضها الله ليلة المعراج وخاطب بها الرسول بلا واسطة، لم يبعث بها رسولًا من الملائكة، وهي آخر ما وصّى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وهي المخصوصة بالذكر في كتاب الله تخصيصًا بعد تعميم، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف: 170] وقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45] .

وهي المقرونة بالصبر، وبالزكاة، وبالنسك وبالجهاد في مواضع من كتاب الله كقوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] .

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .

وقوله: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 62] .

وقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] .

وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ

ص: 16

وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .

إلى قوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] .

وأمرها أعظم من أن يحاط به، فاعتناء ولاة الأمر بها يجب أن يكون فوق اعتنائهم بجميع الأعمال، لهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة. رواه مالك وغيره1.

ويأمر المحتسب بالجمعة والجماعات، وبصدق الحديث وأداء الأمانات.

وينهى عن المنكرات: من الكذب والخيانة، وما يدخل في ذلك من تطفيف المكيال والميزان والغش في الصناعات، والبياعات، والديانات، ونحو ذلك قال الله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1،3] .

وقال في قصة شعيب: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181] .

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107] .

وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] .

وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"2.

1 انظر المسوى شرح الموطأ للدهلوي رقم "112" بسند منقطع بين نافع وعمر رضي الله عنه.

2 من حديث حكيم بن حزام رواه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه "4/ 328" والنسائي في المجتبى "7/ 244"، وبنحو هذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده "3/ 402، 403، 434"، وأبو داود في سننه "9/ 330"، وكذلك روى نحوه مسلم في صحيحه "10/ 429" عن "عبد الله بن عمر"، والترمذي في سننه "5/ 254" والحديث صحيح.

ص: 17

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال:"ما هذا يا صاحب الطعام؟ " فقال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غشنا فليس مني"1.

وفي رواية: "من غشني فليس مني". فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الغاش ليس بداخل في مطلق اسم أهل الدين والإيمان، كما قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"2.

فسلبه حقيقة الإيمان التي بها يستحق حصول الثواب والنجاة من العقاب، وإن كان معه أصل الإيمان الذي يفارق به الكفار ويخرج به من النار.

والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كالذي مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه. ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز والطبخ والعدس والشواء وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالنساجين والخياطين ونحوهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان.

ومن هؤلاء "الكيماوية" الذين يغشون النقود والجواهر والعطر وغير ذلك، فيصنعون ذهبًا أو فضة أو عنبرًا أو مسكًا أو جواهر أو زعفرانًا أو ماء ورد أو غير ذلك، يضاهون به خلق الله، ولم يخلق الله شيئًا فيقدر العباد أن يخلقوا كخلقه، بل قال الله عز وجل فيما حكى عنه رسوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟

1 "من غشنا فليس منا" رواه البزار في كشف الأستار 2/ 83، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات، وفي الباب كذلك عن حذيفة وابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهم "4/ 78"، ووجدناه بلفظ "من غش فليس مني" عند مسلم في صحيحه "2/ 468" عن أبي هريرة، وبلفظ "ليس منا من غش" رواه أبو داود في سننه "9/ 321" عنه أيضًا، وابن ماجه في سننه "2/ 749"، والإمام أحمد في مسنده "2/ 242"، "3/ 466"، "4/ 45"، وبلفظ "من غش فليس منا" عند الترمذي في سننه "6/ 55"، وقال: حديث حسن صحيح.

2 رواه مسلم في صحيحه "2/ 401" عن أبي هريرة، والنسائي في سننه "8/ 313". والدارمي في سننه "2/ 41"، ويذكر الخمر بعد الزنى رواه البخاري في صحيحه "5/ 119" عن أبي هريرة، وابن ماجه في سننه "2/ 1299". والحديث صحيح.

ص: 18

فليخلقوا ذرة! فليخلقوا بعوضة" 1.

ولهذا كانت المصنوعات -مثل الأطبخة والملابس والمساكن- غير مخلوقة إلا بتوسط الناس، قال تعالى:

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41]

وقال تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96] .

وكانت المخلوقات من المعادن والنبات والدواب غير مقدورة لبني آدم أن يصنعوها، لكنهم يشبهون على سبيل الغش، وهذا حقيقة الكيمياء، فإنه المشبه، وهذا باب واسع قد صنف فيه أهل الخبرة ما لا يحتمل ذكره في هذا الموضع.

ويدخل في المنكرات ما نهى الله عنه ورسوله من العقود المحرمة، مثل عقود الربا والميسر، ومثل بيع الغرر2، وكحبل الحبلة3، والملامسة والمنابذة4، وربا النسيئة وربا الفضل5، وكذلك النجش6، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها وتصرية الدابة7 اللبون وسائر أنواع التدليس.

وكذلك المعاملات الربوية سواء كانت ثنائية أو ثلاثية إذا كان المقصود بها

1 روى نحوه البخاري في صحيحه "10/ 385، 13/ 528" ومسلم في صحيحه "14/ 339".

2 بيع الغرر: كل بيع يحتمل فيه غبن المبتاع بيع السمك في الماء، وبيع المجهول وبيع الغائب.

3 حبل الحبلة: هو أن يبيع بثمن إلى أن تحمل الدابة وتلد ويحمل ولدها، وقال آخرون: أن يبيع بثمن إلى أن يلد ولد الناقة.

4 الملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار ولا يقبله. والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض.

5 ربا النسيئة وربا الفضل: الربا هو كل زيادة لم يقابلها عوض المال سواء كان هذا بالزيادة الواقعة أو المؤجلة أي النسيئة.

6 النجش: وهو أن يمدح السلعة ويزيد في ثمنها خلال المزايدات مع العلم أنه لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.

7 التصرية: وهي عدم حلب اللبن من الدابة أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها بقصد الغش، فإذا حلبها المشتري استغررها.

ص: 19

جميعها أخذ دراهم بدرهم أكثر منها إلى أجل. فالثنائية ما يكون بين اثنين: مثل أن يجمع إلى القرض بيعًا أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك". قال الترمذي: حديث صحيح1.

ومثل أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يعيدها إليه، ففي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"2.

والثلاثية: مثل أن يدخلا بينهما محللًا للربا يشتري السلعة منه آكل الربا ثم يبيعها المعطي للربا إلى أجل ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستفيدها المحلل.

وهذه المعاملات منها ما هو حرام بإجماع المسلمين مثل التي يجري فيها شرط لذلك، أو التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي أو بغير الشروط الشرعية، أو يقلب فيها الدين على المعسر، فإن المعسر يجب إنظاره ولا يجوز الزيادة عليه بمعاملة ولا غيرها بإجماع المسلمين، ومنها ما قد تنازع فيه بعض العلماء، لكن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين تحريم ذلك كله.

ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع3، فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له الخيار إذا هبط إلى السوق، وثبوت الخيار له مع الغبن لا ريب فيه، وأما ثبوته بلا غبن ففيه نزاع بين العلماء، وفيه عن أحمد روايتان،

1 رواه الترمذي في سننه "5/ 243" عن "عبد الله بن عمرو"، ورواه النسائي في سننه "7/ 288"، "5/ 395"، وباللفظ رواه أبو داود في سننه "9/ 403".

2 رواه بهذا اللفظ أبو داود في سننه "9/ 332" عن أبي هريرة، ورواه الترمذي في سننه "5/ 238" وفيه:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة". وقال حديث حسن صحيح، وكذلك رواه النسائي في سننه "7/ 295".

3 النهي عن تلقي الركبان رواه البخاري "4/ 451" عن ابن عباس، وروى مسلم النهي عن تلقي السلع في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده "1/ 268" و"2/ 42".

ص: 20

إحداهما: يثبت، وهو قول الشافعي، والثانية: لا يثبت لعدم الغبن. وثبوت الخيار بالغبن للمسترسل -وهو الذي لا يماكس- هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما1، فليس لأهل السوق أن يبيعوا المماكس2 بسعر ويبيعوا المسترسل3 الذي لا يماكس أو من هو جاهل بالسعر بأكثر من ذلك السعر هذا مما ينكر على الباعة.

وجاء في الحديث: "غبن المسترسل ربا"4، وهو بمنزلة تلقي السلع، فإن القادم جاهل بالسعر، ولذلك "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، وقال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" 5. وقيل لابن عباس ما قوله: "لا يبيع حاضر لباد"؟ قال: لا يكون له سمسار، وهذا نهي عنه لما فيه من ضرر المشترين، فإن المقيم إذا توكل للقادم في بيع سلعة يحتاج الناس إليها والقادم لا يعرف السعر ضر ذلك المشتري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

ومثل ذلك "الاحتكار" لما يحتاج الناس إليه، روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحتكر إلا خاطئ"6. فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظالم للخلق المشترين، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام لغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة

1 انظر المغني لابن قدامة "4/ 282" وفيه: "وظاهر المذهب أنه لا خيار له إلا مع الغبن لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر، ولا ضرر مع عدم الغبن، وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحمل إطلاق الحديث في إثبات الخيار على هذا.

2 المماكس: هو الخبير بالأسعار الذي يساوم الباعة في السلع عند الشراء.

3 المسترسل: هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة، وقال بلزوم البيع للمسترسل أبو حنيفة والشافعي، وبالخيار مالك وأحمد بن حنبل. "المغني 4/ 79".

4 هذا الحديث ضعفه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم 668.

5 مسلم 10/ 420 والبخاري 4/ 372 وأبو داود 9/ 355 و306.

6 مسلم في صحيحه "11/ 47"، وأبو داود في سننه "9/ 313"، وابن ماجه في سننه "2/ 728"، والإمام أحمد في مسنده "3/ 454، 6/ 400".

ص: 21

مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره1. ومن هنا يتبين أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم: فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل: فهو جائز، بل واجب.

فأما الأول فمثل ما روى أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! لو سعرت؟ فقال: "إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وأني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال". رواه أبو داود والترمذي وصححه2.

فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله. فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.

وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به. وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لاتباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلوا باع غيرهم ذلك منع، إما ظلمًا لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم، لما في ذلك من الفساد، فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان

1 قال الإمام النووي: أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام اضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعًا للضرر عن الناس "المجموع 13/ 48".

2 رواه الترمذي في سننه "6/ 53"، وأبو داود في سننه "9/ 320"، والدارمي في سننه "2/ 165"، وابن ماجه في سننه "2/ 741"، والإمام أحمد في مسنده "3/ 156".

ص: 22

ذلك ظلمًا للخلق من وجهين: ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلمًا للمشترين منهم، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم ألا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل.

وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق: يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة، والإكراه على ألا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق، ويجوز في مواضع، مثل المضطر إلى طعام الغير، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر. ونظائره كثيرة. وكذلك السراية في العتق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أعتق شركًا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، لا وكس ولا شطط"1.

فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق، وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات كآلة الحج ورقبة العتق وماء الطهارة، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار. وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل: لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه، حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره، ونظائره كثيرة.

ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون

1 رواه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه "11/ 149" عن ابن عمر، وعنه بغير هذا اللفظ "10/ 389"، وبغير هذا اللفظ رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر "5/ 132 و15/ 151"، وعن أبي هريرة "5/ 137" ورواه أبو داود في سننه "10/ 449" عن أبي قتادة، ورواه ابن ماجه في سننه عن ابن عمر "2/ 844"، ورواه الإمام أحمد في مسنده "2/ 15" عن ابن عمر، وعنه عند الترمذي في سننه "6/ 92" وقال: حديث حسن صحيح، عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح.

ص: 23

إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضًا، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعًا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، وينموا ما يشترونه، كان هذا أعظم عدوانًا من تلقي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه.

وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة. ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس، مثل حاجة الناس إلى الفلاحة والنساجة والبناية، فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب، ولا بد لهم من طعام إما مجلوب من غير بلدهم وإما من زرع بلدهم، وهذا هو الغالب. وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها، فيحتاجون إلى البناء، فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم: كأبي حامد الغزالي، وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم:

إن هذه الصناعات فرض على الكفاية1، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها، كما أن الجهاد فرض على الكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضًا على الأعيان، مثل أن يقصد العدو بلدًا، أو مثل أن يستنفر الإمام أحدًا، وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه

1 نقل الإمام الزركشي في كتابه "المنثور في القواعد" أن أبا حامد الغزالي ليس من مذهبه أن المهمات الدنيوية من فروض الكفاية.

ص: 24

عنه، فإن فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"1.

وكل من أراد الله به خيرًا، لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرًا. والدين: ما بعث الله به رسوله، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به، وعلى كل أحد أن يصدق محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقًا عامًا وطاعة عامة، ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلًا، وإذا كان مأمورًا من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة.

وكذلك غسل الموتى، وتكفينهم والصلاة عليهم، ودفنهم: فرض على الكفاية. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية.

والولايات كلها: الدينية مثل إمرة المؤمنين، وما دونها: من ملك، ووزارة، وديوانية، سواء كانت كتابة خطاب، أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم، ومثل إمارة حرب، وقضاء وحسبة، وفروع هذه الولايات إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور، ويولي في الأماكن البعيدة عنه، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص، وبعث عليًّا ومعاذًا وأبا موسى إلى اليمن، وكذلك كان يؤمر على السرايا ويبعث على الأموال الزكوية السعاة، فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط، لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيء إذا وجد لها موضعًا يضعها فيه.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم

1 رواه البخاري في صحيحه "1/ 164"، ومسلم في صحيحه "13/ 72"، والدارمي في سننه "1/ 65" وابن ماجه في سننه "1/ 80"، والإمام أحمد في مسنده "1/ 306"، والترمذي في سننه "10/ 114" وقال: حسن صحيح.

ص: 25

استعمل رجلًا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقات، فلما رجع حسابه فقال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليّ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلًا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيرًا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تعير 1، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بغلت؟ " قالها مرتين أو ثلاثًا2.

والمقصود هنا: أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزًا عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبًا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم مَنْ صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند يلزمون بألا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند. والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة كابن مسعود، وهي مذهب فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، والبخاري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر وغيرهم من فقهاء المسلمين3.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى

أجلاهم عمر عن خيبر، وكان قد شارطهم أن

1 اليعار: الشديد من أصوات الشاء يَعَرَتْ تَيْعَرُ وتَيْعِرُ "لسان العرب: مادة يعر".

2 رواه البخاري في صحيحه "12/ 348" ومسلم في صحيحه "12/ 460".

3 انظر مذهب الفقهاء في ذلك في المغني لابن قدامة "5/ 581".

ص: 26

يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر إلا من العامل1.

والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسرًا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء2، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق لأن المعاملة مبناها على العدل، وهذه المعاملات من جنس المشاركات. والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلًا بل كان ظلمًا.

وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة والزراعة وأباح المضاربة استحبابًا للحاجة؛ لأن الدراهم لا يمكن إجارتها كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أباح المساقاة إما مطلقًا كقول مالك والقديم للشافعي، أو على النخل والعنب كالجديد للشافعي؛ لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض، وأباحوا ما يحتاج إليه من المزارعة تبعًا للمساقاة، فأباحوا المزارعة تبعًا للمساقاة كقول الشافعي إذا كانت الأرض أغلب، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا: هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل، فإن مقصود كل منها ما يحصل من الثمر والزرع، وهما متشاركان: هذا ببدنه وهذا بماله كالمضاربة. ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل3، فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه، كما جرت العادة في

1 ممن قال ذلك من الصحابة عبد الله بن عمر كما ورد عنه البخاري في صحيحه "5/ 135".

2 روى البخاري في صحيحه "5/ 15" عن رافع بن خديج رضي الله عنه، قال:"كنا أكثر أهل المدينة حقلًا، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم". وذكر ابن قدامة في المغني "5/ 593" إجماع المسلمين على بطلان هذا الشرط.

3 ذكر في المغني "5/ 591" أن هذا خلاف مذهب الإمام أحمد. فترى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد اجتهد هنا واختار خلاف مذهبه.

ص: 27

مثل ذلك، ولا يجب أجرة مقدرة، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة، بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب في الفاسدة نظير ذلك.

والمزارعة أصل من المؤاجرة وأقرب إلى العدل والأصول، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل، والعلماء مختلفون في جواز هذا وجواز هذا، والصحيح جوازهما. وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة، وما علمت أحدًا من علماء المسلمين -لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم- قال: إن إجارة الإقطاع لا تجوز1، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، لكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول، قالوا: لأن المقطع لا يملك المنفعة، فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المعارة، وهذا القياس خطأ لوجهين:

أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقًّا له، وإنما تبرع له المعير بها، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعًا لهم كالمعير، والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على أصح قولي العلماء: فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أو غير ذلك بطريق الأولى والأحرى.

الثاني: إن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة: مثل الإجارة في الإقطاع، وولي الأمر يأذن للمقطعين في الإجارة، وإنما أقطعهم لينتفعوا بها: إما بالمزارعة وإما بالإجارة، ومن حرم الانتفاع بها بالمؤاجرة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، فإن المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة، وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالإجارة وبالمزارعة والمساقاة في الأمر العام.

1 ذكر في المغنى "5/ 595" خلاف ذلك عن طاوس والحسن.

ص: 28

والمرابعة نوع من المزارعة، ولا تخرج عن ذلك إلا إذا استكرى بإجارة مقدرة من يعمل له فيها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس، لا إنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فهو أقرب إلى العدل، فلهذا تختاره الفطر السليمة، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.

والمقصود هنا: أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم. فهذا تسعير في الأعمال.

وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وإذا استنفرتم فانفروا". أخرجاه في الصحيحين1.

وفي الصحيح أيضًا عنه أنه قال:

"على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه"2.

فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله: فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج عليه الجهاد بعوض المثل؟

1 صحيح البخاري "6/ 3" عن ابن عباس. وصحيح مسلم "13/ 12" عن عائشة.

2 ورد هذا الحديث في عدة روايات وبعدة ألفاظ، وعند البخاري في صحيحه "13/ 192" والإمام أحمد في مسنده "2/ 381" و"5/ 318" والنسائي في سننه "7/ 138" وابن ماجه في سننه "2/ 957"، عن عبادة بن الصامت. وعند مسلم في صحيحه "12/ 470، 471، 472"، وعن أبي هريرة.

ص: 29

والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". أخرجاه في الصحيحين1. فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه وأوجب الحج على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض.

ومن ذلك إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينًا، ولا خبزًا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون"2.

وقال: "لا يحتكر إلا خاطئ". رواه مسلم في صحيحه3.

وما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن قفيز الطحان". فحديث ضعيف، بل باطل، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز، لعدم حاجتهم إلى ذلك، كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارًا؛ لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد.

ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة، لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أرض خيبر، فلو

1 الحديث عن أبي هريرة روى نحوه البخاري في صحيحه "13/ 251"، ومسلم في صحيحه "15/ 118"، "9/ 110"، والنسائي في سننه "5/ 110". وابن ماجه في سننه:1/ 3".

2 رواه ابن ماجه في سننه "2/ 728" والدارمي في سننه "2/ 164"؛ والحديث في سنده علي بن جدعان وهو ضعيف.

3 سبق تخريجه.

ص: 30

أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:"نقركم فيها ما شئنا"، وفي رواية "ما أقركم الله"1.

وأمر بإجلائهم منه عند موته صلى الله عليه وسلم فقال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" 2 ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري- إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه.

والمقصود هنا أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين: أحدهما: أن يحتاجون إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع. الثاني: أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها، وإلى من يخبزها ويبيعها خبزًا، لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة الناس المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررًا عظيمًا، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين3.

1 رواه بلفظ "ما شئنا" البخاري في صحيحه "5/ 21" ومسلم في صحيحه "10/ 469". ورواه البخاري بلفظ "ما أقركم الله""6/ 270".

2 هذا الحديث ورد بروايات عديدة، فعند مسلم في صحيحه "11/ 24" عن ابن عباس:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، وعند البخاري في صحيحه كذلك "6/ 270"، وورد عند البخاري "6/ 170" عن "أبي هريرة" وفيه:"وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض" يعني اليهود، وعن "ابن عمر" عند البخاري في صحيحه "5/ 21" وفيه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل خيبر أراد إخراج اليهود

إلخ الرواية" وعند "الدارمي" في سننه "2/ 152" عن "أبي عبيدة بن الجراح" نحوه، وفيه: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".

3 انظر المغني لابن قدامة "2/ 622" والمجموع للنووي "6/ 38".

ص: 31

كما يجب على كل من اشترى شيئًا يقصد أن يبيعه بربح، سواء عمل فيه عملًا أو لم يعمل، وسواء اشترى طعامًا أو ثيابًا أو حيوانًا، وسواء كان مسافرًا ينقل ذلك من بلد إلى بلد، أو كان متربصًا به يحبسه إلى وقت النفاق، أو كان مديرًا يبيع دائمًا ويشتري كأهل الحوانيت، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم، أو دخلوا طوعًا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة، فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح بالمعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس.

وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين1:

إحداهما: إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك، وهل يمنع النقصان؟ على قولين لهم. وأما الشافعي وأصحاب أحمد: كأبي حفص العكبري، والقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل وغيرهم: فمنعوا من ذلك. واحتج مالك بما رواه في موطأه عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا.

وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال: حدثنا الدراوردي، عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر: أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما؟ فسعر له مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حدِّثت بعير مقبلة من الطائف بحمل زبيبًا وهم يعتبرون سعرك، فأما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبًا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع، قال الشافعي وهذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك، ولكنه

1 انظر تفصيل ذلك في المجموع للإمام النووي "13/ 32".

ص: 32

روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم وهذا ليس منها1.

قلت: وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي: الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور؛ لأن المراعى حال الجمهور، وبه تقوم المبيعات2.

وروى ابن القاسم عن مالك، لا يقام الناس لخمسة. قال: وعندي أنه يجب أن ينظر في ذلك إلى قدر الأسواق، وهل يقام من زاد في السوق أي: في قدر المبيع، بالدرهم مثلًا كما يقام من نقص منه؟ قال أبو الحسن ابن القصار المالكي: اختلف أصحابنا في قول مالك، ولكن من حط سعرًا فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من المصريين، أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة. قال: وعندي أن الأمرين جميعًا ممنوعان؛ لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم، فربما أدى إلى الشغب والخصومة، ففي منع الجميع مصلحة. قال أبو الوليد، ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.

وأما الجالب ففي كتاب محمد: لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون الناس. وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير إلا بسعر الناس وإلا رفعوا، قال: وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن كثر المرخص قيل لمن بقي: إما أن تبيعوا كبيعهم وإما أن ترفعوا، قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون: مأكولًا أو غير مأكول، دون ما لا

1 انظر المجموع للإمام النووي "13/ 35".

2 انظر المنتقى لأبي الوليد الباجي "5/ 17".

ص: 33

يكال ولا يوزن؛ لأن غيره لا يمكن تسعيره، لعدم التماثل فيه. قال أبو الوليد: يريد إذا كان المكيل والموزون متساويًا، فإذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون.

قلت والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير: ألا يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب، فهذا منع منه جمهور العلماء حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضًا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد، وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه، ولم يذكر ألفاظهم. وروى أشهب عن مالك، وصاحب السوق يسعر على الجزارين: لحم الضأن ثلث رطل: ولحم الإبل نصف رطل، وإلا خرجوا من السوق. قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق. واحتج أصحاب هذا القول بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم، ولا فساد عليهم، قالوا: ولا يجبر الناس على البيع، إنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، ولا يمنع البائع ربحًا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس. وأما الجمهور فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه أيضًا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال:"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! سعر لنا، فقال: "بل ادعوا الله". ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا! فقال: "بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة" 1.

قالوا: ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعًا ظلم لهم والظلم حرام.

وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارًا على صدقهم، فيسألهم،

1 سبق تخريجه.

ص: 34

كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير، ولكن عن رضا. قال: وعلى هذا أجازه من أجازه. قال أبو الوليد: ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف الناس1. قلت: فهذا الذي تنازع فيه العلماء.

وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه: فهنا يؤمر بما يجب عليه ويعاقب على تركه بلا ريب. ومن منع التسعير مطلقًا محتجًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال"2.

فقد غلط فإن هذه قضية معينة ليست لفظًا عامًا، وليس فيها أن أحدًا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل. ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبًا من الجلب، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها، وإنما كان يزرع فيها الشعير، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسًا معينين، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله، ليجبر على عمل أو على بيع، بل المسلمون كلهم من جنس واحد، كلهم يجاهد في سبيل الله، ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو، وكل منهم يغزو بنفسه وماله، أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء، أو ما يجهزه

1 انظر "المنتقى" للإمام "أبي الوليد الباجي""5/ 19".

2 سبق تخريجه.

ص: 35

به غيره، وكان إكراه البائعين على ألا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراهًا بغير حق، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز، وأما من تعين عليه أن يبيع فكالذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قدر له الثمن الذي يبيع به ويسعر عليه، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"من أعتق شركًا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد"1.

فهذا وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذي لم يعتقه ليكمل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ويعطى قسطه من القسمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند جماهير العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد، ولهذا قال هؤلاء، كل ما لا يمكن قسمه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعًا؛ لأن حق الشريك في نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح، ولا يمكن إعطاؤه ذلك إلا ببيع الجميع.

فإذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه يعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك، وليس للمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك. وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير.

وكذلك يجوز للشريك أن ينزع النصف لمشفوع من يد المشتري بمثل الثمن الذي اشتراه به، لا بزيادة، للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة، وهذا ثابت بالسنة المستفيضة وإجماع العلماء، وهذا إلزام له بأن يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة، لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك ولم يكن له أن يبيعه للشريك بما شاء؟ بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذي حصل له به، وهذا في الحقيقة من نوع التولية.

1 سبق تخريجه.

ص: 36

فإن التولية: أن يعطي المشتري السلعة لغيرة بمثل الثمن الذي اشتراها به، وهذا أبلغ من البيع بثمن المثل، ومع هذا فلا يجبر المشتري على أن يبيعه لأجنبي غير الشريك إلا بما شاء، إذ لا حاجة بذاك إلى شرائه كحاجة الشريك.

فأما إذا قدر أن قومًا اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانًا يأوون إليه إلا ذلك البيت فعليه أن يسكنهم وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابًا يستدفئون بها من البرد، أو إلى آلات يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون، يبذل هذا مجانًا، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوا يستقون به أو قدرًا يطبخون فيه، أو فأسًا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره1.

والصحيح وجوب بذل ذلك مجانًا إذا كان صاحبها مستغنيًا عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى:

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4- 7] .

وفي السنن عن ابن مسعود قال: كنا نعد "الماعون" عارية الدلو القدر والفأس. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الخيل قال: "هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها تغنيًّا وتعففًا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها"2.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"من حق الإبل إعارة دلوها وإضراب فحلها"3.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه:

1 انظر في ذلك المجموع للإمام النووي "13/ 39".

2 رواه باختلاف في اللفظ البخاري في صحيحه "6/ 63" و"13/ 329" ومسلم في صحيحه "7/ 70".

3 لم أجده في البخاري. وروى نحوه مسلم في صحيحه "7/ 76" والإمام أحمد في مسنده "3/ 321".

ص: 37

نهى عن عسب الفحل"1.

وفي الصحيحين عنه أنه قال:

" لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"2.

وإيجاب بذل هذه المنفعة مذهب أحمد وغيره، ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض، فهل يجبر؟ على قولين للعلماء: هما روايتان عن أحمد3، والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للمنع: والله لنجرينها ولو على بطنك، مذهب غير واحد من الصحابة والتابعين: أن زكاة الحلي عاريته، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره4.

والمنافع التي يجب بذلها نوعان: منها ما هو حق المال، كما ذكره في الخيل والإبل وعارية الحلي، ومنها ما يجب لحاجة الناس. وأيضًا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وغير ذلك من منافع الأبدان، فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] .

وقال: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] .

وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال5، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره.

أحدها: أنه لا يجوز مطلقًا.

والثاني: لا يجوز إلا عند الحاجة.

والثالث: يجوز إلا أن يتعين عليه.

1 رواه عن ابن عمر البخاري في صحيحه "4/ 467" والترمذي في سننه "5/ 274" وقال: "حسن صحيح"، وفي الباب عن أبي سعيد الخدري"، وعن "أنس بن مالك"، وقال: "حسن غريب".

2 رواه عن أبي هريرة البخاري في صحيحه "5/ 110"، و"10/ 90" ومسلم في صحيحه "11/ 50".

3 انظر الشرح الكبير للرافعي "5/ 22".

4 انظر من قال بهذا القول من الصحابة والفقهاء في المغنى لابن قدامة "2/ 605".

5 راجع المغني لابن قدامة "12/ 19".

ص: 38

والرابع: يجوز. فإن أخذ أجرًا عند العمل لم يأخذ عند الأداء.

وهذه المسائل لبسطها مواضع أخرى. والمقصود هنا: أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به: لم يجرم مطلقًا تقدير الثمن ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية، وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله، ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقًا لله تعالى، وحدودًا لله، بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم، وذلك مثل حقوق المساجد ومال الفيء، والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك، ومثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر، فإن الذي يقتل شخصًا لأجل المال يقتل حتمًا باتفاق العلماء1، وليس لورثة المقتول العفو عنه، بخلاف من يقتل شخصًا لغرض خاص، مثل خصومه بينهما، فإن هذا حق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وأن أحبوا عفو باتفاق المسلمين.

وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة: ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء. وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم، فلو مكن من يحتاج إلى سلعته ألا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم.

ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل، فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس حاجة، ولهم فيه وجهان، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا

1 انظر المسألة في "المغنى" لابن قدامة "9/ 235".

ص: 39

تعلق به حق ضرر العامة. فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيًا حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرًا له أو دفعًا للضرر عن الناس. فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديًّا فاحشًا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر، وكذا عندهما، أي عند أبي يوسف ومحمد، إلا أن يكون الحجر على قوم معينين. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره عليه. وهل يبيع

القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو [على] الاختلاف المعروف في مال المديون. وقيل: يبيع ههنا بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام.

والسعر لما غلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، لكن:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد"1، نهاه أن يكون له سمسارًا وقال:

"دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"2.

وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة؛ لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري، فنهاه عن التوكل له -مع أن جنس الوكالة مباح- لما في ذلك من زيادة السعر على الناس.

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب3، وهذا أيضًا ثابت في الصحيح من غير وجه، وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه

1 سبق تخريجه.

2 سبق تخريجه.

3 سبق الكلام على الحديث المذكور في ذلك.

ص: 40

نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لهذا البائع، وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقًا أو إذا غبن؟ قولان من للعلماء، هما روايتان عن أحمد، أظهرهما أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن، والثاني يثبت له الخير مطلقًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي. وقال طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه.

وفي الجملة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء وقد اشترى من البائع، كما يقول: وللبادي أن يوكل الحاضر. ولكن الشارع رأى المصلحة العامة، فإن الجلب إذا لم يعرف السعر كان جاهلًا بثمن المثل فيكون المشتري غارًا له، ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل، والمسترسل، الذي لا يماكس والجاهل بقيمة المبيع، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر، فتبين أنه يجب على الإنسان ألا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضى فلا بأس بذلك، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه.

ولهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس، فإن الأصل في البيع الصحة، وأن يكون الباطن كالظاهر، فإذا اشترى على ذلك فيم عرف رضاه إلا بذلك، فإذا تبين أن في السلعة غشًّا أو عيبًا فهو كما لو وصفه بصفة وتبينت بخلافها، فقد يرضى وقد لا يرضى، فإن رضي وإلا فسخ البيع، وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان

ص: 41

بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" 1.

وفي السنن:

"أن رجلًا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدله أو يتبرع له بها فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض في قلعها، وقال لصاحب الشجرة: "إنما أنت مضار" 2.

فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام؟.

ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن، والخبز، ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك، وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كم يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم، وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف لم يحتج إلى تسعير، وأما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس، ولا شطط3.

1 سبق تخريجه.

2 رواه أبو داود في سننه "10/ 64" بنحو هذا اللفظ. ورواه كثير غيره بدون "إنما أنت مضار".

3 الوكس: النقص، والشطط: الجور، "انظر لسان العرب: وَكَسَ، شَطَطَ".

ص: 42