المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قوله صلى الله عليه وسلم: " حتى يعبد الله وحده لا شريك له - الحكم الجديرة بالإذاعة - ت الأرنؤوط

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌قوله صلى الله عليه وسلم: " حتى يعبد الله وحده لا شريك له

ومما يدل على أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة أنه أخبر عن خروج الدجال في حديث الجساسة.

‌قوله صلى الله عليه وسلم: " حتى يعبد الله وحده لا شريك له

":

هذا هو المقصود الأعظم من بعثته صلى الله عليه وسلم بل من بعثة الرسل من قبله كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم على ذلك كما قال تعالى:{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى، شهدنا} الآية.

وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة في تفسير الآية أنه تعالى استنطقهم حينئذ، فأقروا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم على أنفسهم وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة.

ص: 12

ثم انه تعالى انه هداهم في كل زمان بإرسال رسله وإنزال الكتب يذكرهم بالعهد الأول، ويجدد عليهم العهد والميثاق على أن يوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأشار في خطاب آدم وحواء عند هبوطهما من الجنة إلى هذا المعنى في قوله تعالى:{قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، وفي سورة طه نحو هذا. فما وفى بنو آدم كلهم بهذا العهد المأخوذ عليهم، بل نقضه أكثرهم وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، فبعث الله الرسل تجدد ذلك العهد الأول، وتدعوا إلى تجديد الإقرار بالوحدانية.

فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك نوح عليه السلام، فإن الشرك قد فشا في الأرض من بني آدم قبل نوح فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له، كما ذكر سبحانه في سورة نوح عنه أنه قال لقومه:{اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}

ص: 13

وأخبر في موضع آخر عنه أنه قال لهم: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} فما استجاب له إلا قليل منهم وأكثرهم أصروا على الشرك {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} فلما أصروا على كفرهم أغرقهم الله ونجا نوح ومن آمن معه {وما آمن معه إلا قليل} .

ثم إن الله تعالى بعث إبراهيم خليله عليه السلام فدعا إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وناظر على ذلك أحسن مناظرة، وأبطل شبه المشركين بالبراهين الواضحة، وكسر أصنام قومه حتى جعلهم جذاذاً فأرادوا تحريقه فأنجاه الله من النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، ووهب الله له إسماعيل وإسحاق، فجعل عامة الأنبياء من ذرية إسحاق، فإن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب، كيوسف وموسى وداود وسليمان عليهم السلام. وآخرهم المسيح بن مريم عليه السلام:{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، أن اعبدوا الله ربي وربكم} .

ثم طبق الشرك الأرض بعد المسيح. فإن قومه الذين ادعوا اتباعه بالإيمان به أشركوا غاية الشرك فجعلوا المسيح هو الله أو ابن الله، وجعلوا أمه ثالث ثلاثة.

ص: 14

وأما اليهود فإنهم وإن تبرأوا من الشرك، فالشرك فيهم موجود، فإنه كان فيهم من عبد العجل في حياة موسى عليه السلام وقال فيه: انه الله، وان موسى نسي ربه وذهب يطلبه، ولا شرك أعظم من هذا. وطائفة قالوا: العزير ابن الله، وهذا من أعظم الشرك. وأكثرهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فأحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم، لأن من أطاع مخلوقاً في معصية الخالق واعتقد جواز طاعته أو وجوبها فقد أشرك بهذا الاعتبار، حيث جعل التحليل والتحريم لغير الله.

وأما المجوس فشركهم ظاهر، فإنهم يقولون بإلهين قديمين:

(أحدهما) : نور.

(والآخر) : ظلمة.

فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، وكانوا يعبدون النيران.

وأما العرب والهند وغيرهم من الأمم فكانوا أظهر الناس شركا يعبدون الله، وآلهة كثيرة ويزعمون أنها تقرب إلى الله زلفى.

فلما طبق الشرك أقطار الأرض، واستطار شرره في الآفاق من المشرق إلى المغرب بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنفية المحضة والتوحيد الخالص دين إبراهيم عليه السلام، وأمره أن يدعو الخلق كلهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو الناس سراً إلى ذلك نحواً من ثلاث سنين،

ص: 15

فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمر بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل له:{فاصدع بما تؤمر} فدعا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له جهراً، وأعلن الدعوة، وذم الآلهة التي تعبد من دون الله، وذم من عبدها وأخبر أنه من أهل النار، فثار عليه المشركون، واجتهدوا في إيصال الأذى إليه وإلى اتباعه، وفي إطفاء نور الله الذي بعثه به، وهو لا يزداد إلا إعلانا بالدعوة وتصميما على إظهارها وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس.

وكان يخرج بنفسه في مواسم الحج إلى من يقدم إلى مكة من قبائل العرب فيعرض نفسه عليهم، ويدعوهم إلى التوحيد، وهم لا يستجيبون له، بل يردون عليه قوله ويسمعونه ما يكره، وربما نالوه بالأذى، وبقي عشر سنين على ذلك يقول:" من يمنعني حتى أؤدي رسالات ربي؟ ".

وكان يشق أسواقهم بالمواسم وهم مزدحمون بها كسوق ذي المجاز، ينادي:" يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا " ووراءه أبو

ص: 16

لهب يؤذيه ويرد عليه وينهى الناس عن اتباعه.

واجتمع المشركون مرة عند عمه أبي طالب يشكونه إليه ويقولون: شتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا، فمره فليكف عن آلهتنا. فقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: أجب فيما سألوه. فقال: " أنا أدعوهم إلى خير من ذلك: أن يتكلموا كلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم ". فقال أبو جهل " نعطيكها وعشر أمثالها، قال: " تقولون لا إله إلا الله ". فنفروا عنه ذلك وتفرقوا وهم يقولون: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب} وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه: " يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ".

ص: 17

قال صلى الله عليه وسلم: " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما أوذي أحد، ولقد أتت علي ثلاثون - من بين يوم وليلة - ومالي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ".

وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما أوذي أحد في الله ما أوذيت ".

كان العدو يجهد له نيل الأذى، والصديق يلوم على هذا الاحتمال إذا كان كذا، والمحبة تقول: حبذا هذا الشقاء إذا كان في رضى الحبيب والدعوة إلى التوحيد، حبذا.

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة

حباً لذكرك فليلمني اللوم

ثم إن أبا طالب لما توفي وتوفيت بعده خديجة اشتد المشركون

ص: 18

على رسول الله صلى الله عله وسلم حتى اضطروه إلى أن خرج من مكة إلى الطائف، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلم يجيبوه وقابلوه بغاية الأذى وأمروه بالخروج من أرضهم، وأغروا به سفاءهم، فاصطفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموه، فخرج معه مولاه زيد بن حارثة فلم يمكنه دخول مكة إلا بجوار وطلب من جماعة من رؤساء قريش أن يجيروه حتى يدخل مكة فلم يفعلوا حتى أجاره المطعم بن عدي، فدخل في جواره، وعاد إلى ما كان عليه من الدعاء إلى توحيد الله وعبادته.

وكان يقف بالموسم على القبائل فيقول لهم قبيلة قبيلة: " يا بني فلان إني رسول الله إليكم: يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً " وأبو لهب خلفة يقول: لا تطيعوه. وكان النبي صلى الله عله وسلم ينادي: " من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ " فلا يجيبه أحد حتى بعث له الأنصار بالمدينة فبايعوه.

هذا كله وهو صابر على الدعوة إلى الله عز وجل على هذا الوجه،

ص: 19

راض بما يحصل له فيها من الأذى، منشرح الصدر بذلك، غير متضجر منه ولا جزع. كان إذا اشتكى أحد من أصحابه يقول:" إني عبد الله ولن يضيعني ".

صرت لهم عبيداً

وما للعبد أن يعترضا

من لمريض لا يرى

إلا الطبيب المُمرضا؟

وفي الصحيح عن عائشة قالت: قلت، يا رسول الله، هل مر عليك يوم أشد من يوم احد؟ فقال:" لقد لقيت من قومك ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بساحبة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك وما شئت، إن شئت أن أطبق الاخشبين عليهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد اله وحده لا يشرك به شيئاً ".

ما مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعبد الله ولا يشرك به شيء، وما يبالي - إذا حصل ذلك - ما أصابه في الدعوة إليه، إذا وحد معبوده، حصل مقصوده، إذا عبد محبوبه، حصل مطلوبه، إذا ذكر ربه، رضي قلبه، وأما جسمه فما يبالي أصابه في سبيل ربه ما يؤلمه، أو يلائمه.

إذا كان سركم ما قد بليت به

فما لحرج إذا أرضاكم ألم

وحسب سلطان الهوى أنه

يولف فيه كل ما يؤلم

وكان كلما آذاه الأعداء إذا دعاهم إلى مولاهم رجع إلى مولاه فتسلى بعلمه ونظره إليه وقربه منه، واشتغل بمناجاته، وذكره ودعائه وخدمته، فنسي كل ما أصابه من الألم من اجله، وقد أمره الله بذلك في القرآن في مواضع كثيرة نحو قوله تعالى:{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} وقوله: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}

ص: 20

وقوله: {ولقد نعلك انك ليضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة لأن الصلاة صلة، وكان يقول:" وجعلت قرة عيني في الصلاة ".

سروري من الدهر لقياكم

ودار سلامي مغناكم

وأنتم منتهى أملي ما حييت

وما طاب عيشي لولاكم

إذا ازدحمت في فؤادي الهموم

أروح قلبي بذكراكم

فلا تنسوا العهد فيما مضى

فلسنا مدى الدهر ننساكم

فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له حتى ظهر دين الله وأعلن ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائع، وصار الدين كله لله، والطاعة كلها لله، ودخل

ص: 21

الناس في دين الله أفواجا. فجعل ذلك علامة اقتراب اجله وأمر حينئذ بالتهيؤ للقاء الله والنقلة إلى دار البقاء.

وكان المعنى أن قد حصل المقصود من إرسالك، وظهر توحيدي في أقطار الأرض وزال منها ظلام الشرك، وحصلت عبادتي وحدي لا شريك لي، وصار الدين كله لي، فأنا أستدعيك إلى جواري لأجزيك أعظم الجزاء:{وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى} .

وفي صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة: " ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا ".

وكان صلى الله عليه وسلم إنما يقاتل على دخول الناس في التوحيد كما قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ".

ص: 22