الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دخلها الذل ". فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟
قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن تشبه بقوم فهو منهم
":
هذا يدل على أمرين:
(أحدهما) التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان وقد وبخ الله من تشبه بهم في شيء من قبائحهم فقال تعالى: {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا} .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعلل بأنه:" حينئذ يسجد لها الكفار ". فيصير السجود في ذلك الوقت تشبها في الصورة
الظاهرة،. وقال صلى الله عليه وسلم:" إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: " غيروا الشيب ولا تشبهوا اليهود ". وقال صلى الله عليه وسلم: " خالفوا المشركين، اعفوا الشوارب واحفوا اللحى " وفي رواية: " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس ".
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب. وروي عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: " ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالكف " خرجه الترمذي. ونهى عن التشبه بهم في أعيادهم وقال عبد الله بن عمر: " من أقام بأرض المشركين يصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر يوم القيامة معهم ". وقال الإمام أحمد: " أكره حلق القفا، وهو من فعل المجوس، ومن تشبه بهم فهو منهم.
فالتشبه بالمشركين والمغضوب عليهم والضالين من أهل الكتاب منهي عنه ولا بد من وقوعه في هذه الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ ".
قال ابن عيينة: كان يقال من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.
ووجه هذا أن الله ذم علماء اليهود بأكل السحت، واكل الأموال بالباطل والصد عن سبيل الله، وبقتل النبيين بغير حق، وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وبالتكبر عن الحق وتركه عمداً خوفاً من زوال المأكل والرياسات وبالحسد وبقسوة القلب، وبكتمان الحق، وتلبيس الحق بالباطل، وكل هذه الخصال توجد في علماء السوء من أهل البدع ونحوهم. ولهذا تشبهت الرافضة باليهود في نحو من سبعين خصلة.
وأما النصارى فذمهم الله بالجهل والضلالة، وباللغو في الدين بغير الحق، ورفع المخلوق إلى درجة لا يستحقها، حتى يدعى فيه الإلهية. واتباع الكبراء في التحليل والتحريم. وكل هذا يجد في جهال المسلمين المنتسبين إلى العبادة من هذه الأمة.
فمنهم من يعبد بالجهل بغير علم، بل يذم العلم وأهله، ومنهم من يغلو في بعض الشيوخ فيدعي فيه الحلول، ومن يدعي الحلول المطلق والاتحاد، ومنهم من يغلو فيمن يعتقده من الشيوخ كما يغلو النصارى في رهبانهم ويعتقدون ان لهم أن يغلو في الدين ما شاؤوا، وأن من رضي عنه غفر له، ولا يبالي بما عمل من عمل، وأن محبتهم لا يضر معها ذنب.
وقد كان الشيوخ العارفون ينهون عن صحبة الأشرار، وأن ينقطع
العبد عن الله بصحبته الأخيار، فمن صحب الأخيار بمجرد التعظيم لهم والغلو فيهم زائداً غلواً عن الحد وعلق قلبه بهم فقد انقطع عن الله بهم، وإنما المراد من صحبة الأخيار أن يوصلوا من صحبهم إلى الله ويسلكوا طريقه ويعلموه دينه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أهله وأصحابه على التمسك بالطاعة ويقول: " اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً " وقال لأهله: " إن أوليائي منكم المتقون يوم القيامة، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد. فأقول: قد بلغت ". ولما سأله ربيعة الأسلمي مرافقته في الجنة قال " فأعني على نفسك بكثرة السجود ".
فإنما يراد من صحبة الأخيار إصلاح الأعمال والأحوال والاقتداء
بهم في ذلك، والانتقال من الغفلة إلى اليقظة، ومن البطالة إلى العمل، ومن التخليط إلى التكسب والقول والفعل إلى الورع، ومعرفة النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مصر على غفلته وكسله وبطالته فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إليه، كذلك المبالغة في تعظيم الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو المنهي عنه.
وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب الدعاء منهم ويقولون " أأنبياء نحن؟ " فدل على أن هذه المنزلة لا تنبغي إلا للأنبياء عليهم السلام، وكذلك التبرك بالآثار فإنما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم ببعض ولا يفعله التابعون مع الصحابة، مع علو قدرهم.
فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل التبرك بوضوئه وفضلاته وشعره وشرب فضل شرابه وطعامه.
وفي الجملة فهذه الأشياء فتنة للمعظّم وللمعظّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة، وربما يترقى إلى نوع من الشرك. كل هذا إنما جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الذي نهيت عنه هذه الأمة. وفي الحديث الذي في السنن: " ان من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، والسلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه
والجافي عنه ". فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقصد هو المأمور به.
وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي كأنس الثوري وأحمد. وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون إلى؟ اذهبوا اكتبوا الحديث، وكان إذا سئل عن شيء، يقول: سلوا العلماء. وإذا سئل عن شيء من الورع يقول: أنا لا يحل لي أن أتكلم في الورع، لو كان بشر حياً تكلم في هذا.
وسئل مرة عن الإخلاص فقال: اذهب إلى الزهاد، إي شيء نحن تجيء إلينا؟ وجاء إليه رجل فمسح يده ثيابه ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد وأنكر ذلك أشد الإنكار وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟
(الثاني) التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة فهذا حسن مندوب إليه، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه. وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أحب، ولا بد من مشاركته في أصل عمله وان قصر المحب عن درجته.
قال الحسن لا تغتر بقولك: المرء مع من أحب، ان من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على مناهجهم، حريصاً أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقتهم، وإن كنت مقصراً في العمل. فإن ملاك الأمر أم تكون على استقامة. أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار؟ نعوذ بالله من النار. كان يونس بن عبيد ينشد:
فإنك من يعجبك لا تك مثله
…
إذا أنت لم تصنع كما كان يصنع
وجاء في الحديث: " ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ".
فمن أحب أهل الخير وتشبه بهم جهده فإنه يلحق بهم كما في الحديث المشهور: " من حفظ أربعين حديثا حشر يوم القيامة في زمرة
العلماء ". ومن أحب أهل الطاعة والذكر - على وجه السنة - وجالسهم يغفر له معهم وإن لم يكن منهم " فإنهم القوم لا يشقى جليسهم ".
فأما التشبه بأهل الخير في الظاهر، والباطن لا يشبههم فهو بعيد منهم، وإنما القصد بالتشبيه أن يقال عن المتشبه بهم انه منهم وليس منهم من خصال النفاق كما قال بعض السلف:" استعيذوا بالله من خشوع النفاق ان يرى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع ".
كان السلف يجتهدون في أعمال الخير ويعدون أنفسهم من المقصرين المذنبين، ونحن مع إساءتنا نعد أنفسنا من المحسنين.
كان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون " أف، أف لي، وتوقف ". وقال أيوب: " إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل ". وقال يونس بن عبيد: " أعد مائة خصلة من خصال الخير ليس منها فيَّ واحدة ". وقال محمد بن واسع: " لو ان للذنوب رائحة لم يستطع أحد أن يجلس معي ".
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، يا من يرد قلبه عن التقوى، كيف ينفع الضرب البارد في حديد بارد؟
يا نفس أنى تؤفكينَ؟
…
حتى متى لا ترعوينَ؟
حتى متى، لا تعقلينا
…
وتسمعينا وتبصرينا؟
يا نفس إن لم تصلحي
…
فتشبهي بالصالحينا
آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسلمياً كثيراً إلى يوم الدين.
وافق الفراغ من نسخه يوم الأربعاء لتسع مضت من ربيع الثاني من شهور سنة 1299 وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.