المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي - الحكم الجديرة بالإذاعة - ت الأرنؤوط

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي

وكان إذا بعث سرية للغزو يوصي أميرهم بأن يدعو عدوه عند لقائهم إلى التوحيد، وكذلك أمر علي ابن أبي طالب حين بعثه لقتال أهل خيبر.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث بعثاً قال " تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت ولا مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتوني بنسائهم وأولادهم وتقتلوا رجالهم ".

‌قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي

":

إشارة إلى ان الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدنيا، ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها وإنما بعثه داعيا إلى توحيده

ص: 23

بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه، فإن المال إنما خلقه الله لبني آدم ليستعينوا به على طاعته وعبادته، فمن استعان به على الكفر بالله والشرك به سلط الله عليه رسول واتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء لرجوعه إلى من كان أحق به ولأجله خلق.

وكان في القرآن المنسوخ: {إنما أنزلنا المال لاقام الصلاة وإيتاء الزكاة} .

فأهل التوحيد والطاعة لله أحق بالمال من أهل الكفر به والشرك، فانتزع أموالهم، وجعل رزق رسوله من هذا المال لأنه أحل الأموال كما قال تعالى {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} وهذا مما خص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته فإنه أحل لهم الغنائم.

وقد قيل: ان الذي خصت بحله هذه الأمة هو الغنيمة المأخوذة بالقتال دون الفيء، والمأخوذ بغير قتال فإنه كان حلاً مباحاً لمن قبلنا وهو الذي جعل رزق رسوله منه، وإنما كان أحل من غيره لوجوده:

(منها) انه انتزاع مال لا يستحقه لئلا يستعين به على معصية الله والشرك به، فإذا انتزعه ممن لا يستعين به على غير طاعته وتوحيده

ص: 24

والدعوة إلى عبادته كان ذلك أحب الأموال إلى الله وأطيب وجوده اكتسابها عنده.

(ومنها) انه كان صلى الله عليه وسلم إنما كان يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر لا لأجل الغنيمة فيحصل له الرزق تبعا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فرغ وقتا من أوقاته لطلب الرزق محضا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وحده فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسراً في ضمن ذلك من غير أن يقصده ولا يسعى إليه. وجاء في حديث مرسل أنه صلى الله عليه وسلم قال:" أنا رسول الرحمة، وأنا رسول الملحمة، إن الله بعثني بالجهاد ولم يبعثني بالزرع ". وخرج البغوي في معجمه حديثا مرسلا: " إن الله بعثني بالهدى ودين الحق ولم يجعلني زراعاً ولا تاجراً، ولا سخابا بالاسواق، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ".

ص: 25

وإنما ذكر الرمح ولم يذكر السيف لئلا يقال: انه صلى الله عليه وسلم يرتزق من مال الغنيمة: إنما كان يرزق مما أفاءه الله عليه من خيبر.

والفيء ما هرب أهله منه خوفا وتركوه، بخلاف الغنيمة فإنها مأخوذة بالقتال بالسيف، وذكر الرمح أقرب إلى حصول الفيء لأن الرمح يراه العدو من بعد فيهرب فيكون هرب العدو من ظل الرمح، والمأخوذة به هو مال الفيء، ومنه كان رزق النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الغنيمة فإنها تحصل من قتال السيف. والله تعالى أعلم.

وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله تعالى بعث محمداً هاديا ولم يبعثه جابيا، فكان صلى الله عليه وسلم شغله بطاعة الله والدعوة إلى التوحيد، وما يحصل في خلال ذلك من الأموال من الفيء والغنائم يحصل تبعاً لا قصداً أصلياً، ولهذا ذم من ترك الجهاد واشتغل عنه باكتساب الأموال. وفي

ص: 26

ذلك نزل قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} لما عزم الأنصار على ترك الجهاد والاشتغال بإصلاح أموالهم وأراضيهم.

وفي الحديث الذي خرجه أبو داود وغيره: " إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه الله من رقابكم حتى تراجعوا دينكم " ولهذا كره الصحابة رضي الله عنهم الدخول في أرض الخراج للزراعة فإنها تشغل عن الجهاد.

وقال مكحول: إن المسلمين لما قدموا الشام ذكر لهم زرع الحولة، فزرعوا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ص: 27

فبعث إلى زرعهم وقد ابيض وأردك فحرقه بالنار، ثم كتب إليهم: إن الله جعل أرزاق هذه الأمة في أسنة رماحها، وتحت أزجتها، فإذا زرعوا كانوا كالناس. خرجه أسد بن موسى.

وروي البيضاوي بإسناد له عن عمر انه كتب: من زرع زرعا واتبع أذناب البقر ورضي بذلك وأقر به جعلت عليه الجزية.

وقيل لبعضهم لو اتخذت مزرعة للعيال؟ فقال: والله ما جئنا زراعين، ولكن جئنا لنقتل أهل الزرع ونأكل زرعهم.

فأكمل حالات المؤمن أن يكون اشتغاله بطاعة الله والجهاد في سبيله، والدعوة إلى طاعته لا يطلب بذلك الدنيا، ويأخذ من مال الفيء قدر الكفاية، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأهله قوت سنة من مال الفيء ثم يقسم باقيه، وربما رأي محتاجا بعد ذلك فيقسم عليه قوت أهله بلا شيء.

وكذلك من يشتغل بالعلم، لأنه أحد نوعي الجهاد فيكون اشتغاله بالعلم للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، فليأخذ من أموال الفيء أو الوقوف على العلم قدر الكفاية ليتقوى على جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من كفايته من ذلك.

ص: 28

وقد نص أحمد على أن مال بيت المال كالخراج لا يؤخذ منه أكثر من الكفاية، فمال الوقف أضيق.

ومن أشتغل بطاعة الله فقد تكفل الله برزقه، كما في حديث زيد بن ثابت المرفوع:" من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ". خرجه الإمام أحمد وابن ماجة.

وخرجه الترمذي من حديث انس موفوعا: " إن الله يقول: يا آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك ".

ص: 29