الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخرج ابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا: " من جعل الهموم هما واحداً هم آخرته كفاه الله هم ديناه، من تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ". وفي الآثار الإسرائيلية يقول الله: " يا دنيا اخدمي من خدمني، واتعبي من خدمك ".
قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري
":
هذا يدل على أن العز الرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لامتثال متابعة أمر الله، قال تعالى:{من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} .
وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: " أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز ". قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، فالذلة والصغار يحصل بمخالفة أمر الله ورسوله. ومخالفة الرسول على قسمين:
(أحدهما) مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره كمخالفة الكفار، وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول، فهم تحت الذلة والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وعلى اليهود الذلة والمسكنة لأن كفرهم بالرسول كفر عناد.
(والثاني) من اعتقد طاعته ثم يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية فله نصيب من الذلة والصغار، وقال الحسن: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله أن يذل إلا من عصاه،
كان الإمام أحمد يدعو: اللهم أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية.
وقال أبو العتاهية:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
…
وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
…
إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
فأهل هذا النوع خالفوا الرسول من أجل داعي الشهوات.
(والنوع الثاني) من خالف أمره من أجل الشبهات وهم أهل الأهواء والبدع، فكلهم لهم نصيب من الذلة والصغار بحسب مخالفتهم لأوامره،
قال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} .
وأهل الأهواء والبدع كلهم مفترون على الله، وبدعتهم تتغلظ بحسب كثرة افترائهم عليه، وقد جعل الله من حرم ما أحله الله وحلل ما حرمه الله مفتريا عليه الكذب، فمن قال على الله ما لا يعلم فقد افترى عليه الكذب، ومن نسب إليه ما لا يجوز نسبته إليه من تمثيل أو تعطيل، أو كذب بأقداره فقد افترى على الله الكذب.
وقد قال الله عز وجل {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} . وقال سفيان: الفتنة أن يطبع الله على قلوبهم.
فلهذا تغلظت عقوبة المبتدع على عقوبة العاصي لأن المبتدع مفتر على الله مخالف لأمر رسوله لأجل هواه.
فأما مخالفة بعض أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ من غير عمد، مع الاجتهاد على متابعته، فهذا يقع كثيراً من أعيان الأمة من علمائها وصلحائها، ولا إثم فيه، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر على اجتهاده، وخطأه موضوع عنه، ومع هذا فلا يمنع ذلك من علم أمر الرسول،
نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين، ولا يمنع ذلك من عظمة من خالف أمره خطأ، وهب ان هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة، وهو محبوب للمؤمنين إلا أن حق الرسول مقدم على حقه وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ.
ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد - لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم - لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم، وأمره فوق كل أمر مخلوق. فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى ان يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه، بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي: إذا صح الحديث في خلاف قوله؛ أن يتبع الحديث ويترك قوله. وكان يقول: " ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحداً فباليت أظهر الحق على لسانه أو على لساني ". لأن تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله لا لظهور نفوسهم والانتصار لها.
وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق؛ صغيراً كان أو كبيراً وينقادون لقوله.
وقيل لحاتم الأصم: أنت رجل عيي لا تفصح، وما ناظرت أحداً إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ قال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عن أن أقول له ما يسوءه. فذكر ذلك للإمام أحمد فقال: ما كان أعقله من رجل.
وقد روي عن الإمام أحمد أنه قيل له: أن عبد الوهاب الوارق ينكر كذا وكذا، فقال: لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر. ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له اتق الله يا أمير المؤمنين فقال: " لا خير فيكم إن لم تقولها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم ". وردت عليه امرأة قولته فرجع إليها وقال: " رجل أخطأ وامرأة أصابت ".
فلا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخطئ من خالفها وإن معذوراً مجتهداً مغفوراً له، ولهذا مما خص الله به الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن لا تجتمع على ضلالة بخلاف الأمم السالفة.
فههنا أمران (أحدهما) : أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعة أوامره فإنه مغفور له لا ينقص درجته بذلك، (والثاني) : أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم ان قوله مخالف لأمر الرسول فإنه يجب من يبين للأمة ذلك ويرشدهم إلى أمر الرسول، ويردهم عن قوله في نفسه، وهذه النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب.
وظنهم أن الرد على معظم من عالم وصالح تنقص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدل دين أهل الكتاب فإنهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياءهم، حتى تبدل دينهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أربابا من دون الله. فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم. فكان كلما كان فيهم رئيس كبير معظم مطاع عند الملوك قبل منه كل ما قال، وتحمل الملوك الناس على قوله. وليس فيهم من يرد قوله، ولا يبين مخالفته للدين.
وهذه الأمة عصمها الله عن الاجتماع على ضلالة، فلا بد أن يكون فيها من يبين أمر الله ورسوله، ولو اجتهدت الملوك على جمع الأمة خلافه لم يتم لهم أمرهم. كما جرى مع المأمون والمعتصم والواثق، حيث اجتهدوا على إظهار القول بخلق القرآن وقتلوا الناس وضربوهم وحبسوهم على ذلك، وأجابهم العلماء تقية وخوفاً، فأقام الله إمام المسلمين في وقتهم أحمد بم حنبل، فرد باطلهم حتى اضمحل أمرهم، وصار الحق هو الظاهر في جميع بلاد الإسلام والسنة، ولم يكن الإمام أحمد يحابي أحداً في مخالفة شيء من أمر الرسول وإن دق. ولو عظم مخالفة في نفوس الخلق. فقد تكلم في بعض أعيان مشايخ العلم والدين لمسئلة أخطأها، فحمل أمره حتى لما
مات لم يصل عليه إلا نحو أربعة أنفس، وكان كلما تكلم في أحد سقط، لأن كلامه تعظيم لأمر الله ورسوله لا هوى نفسه.
ولقد كان بشر الحافي يقول لمن سأله عن مرضه: احمد الله إليكم، بي كذا وكذا. فقيل للإمام أحمد، وقالوا: هو يبدأ بالحمد قبل أن يصف مرضه، فقال أحمد: سلوه عمن أخذ هذا؟ - يعني إن كان هذا لم ينقل عن السلف فلا يقبل منه - فقال بشر: عندي فيه أثر، ثم روى بإسناده عن بعض السلف قال:" من بدأ بالحمد قبل الشكوى لم تكتب عليه شكوى ". فبلغ الإمام أحمد فقبل قوله.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". فأمر الله ورسوله بالرد على من خالف أمر الله ورسوله، والرد على من خالف
أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخبره خبرة تامة. قال بعض الأئمة: لا يؤخذ العلم إلا عمن عرف بالطلب.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم نوعان: أمر ظاهر بعمل الجوارح، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ونحو ذلك. وأمر باطن تقوم به القلوب، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه والصبر على بلائه. فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا، فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء على الرسول فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب، وفيمن يقول الله على ما لا يعلم، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل ينتقص به وقال: أنا وارث حال الرسول والعلماء وارثون علمه، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله، والتكذيب بالحق لما جاء به {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذّب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له، منقاد لهواه وجهله، ضال مضل، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله، ثم اتبعه، فإن من لا علم له بحاله فمن اين يكون وارثه؟
ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
يا لله العجب، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا - ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها - لكذبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ولا يجالس أهله ولا يدارسه؟ فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟
إن كنت تنوح يا حمام البان
…
للبين، فأين شاهد الأحزان؟
أجفانك للدموع أم أجفاني
…
لا يقبل مدع بلا برهان
ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله فمن سلك سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل. وقد سبق حديث:" إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من رقابكم حتى تراجعوا دينكم ". ورأى النبي صلى الله عليه وسلم سكة الحرث فقال: " ما دخلت دار قوم إلا