الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
الحمد لله الذي أنار عقول المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، الذي أنار الله به دياجير الظلام وختم به دين الإسلام.
أما بعد:
فإن من أشد الضروريات التي طالب بها رب العزة والجلال، أن نعبده وحده ولانشرك به شيئا وبين توحيده في أفعاله وأفعال عباده وأسمائه وصفاته مما يجب الإيمان به والتسليم له.
ثم ألزمنا بمأمورات، ونهانا عن محظورات، وفرض لنا فرائض، وسنَّ لنا سنناً وبهذا تكامل العقد وانتظم وتجانس الدين وانسجم، وتمت كلمة ربك الحسنى وأصبح لدين الإسلام الطريقة المثلى في تحقيق الأمن والسعادة وما يحتاجه أي إنسان في حياته، وما ينجيه في دنياه وأخراه.
وهذه النعمة ألا وهي نعمة الإسلام، التي امتن الله بها علينا كما قال تعالى:{بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1 توجب علينا الشكر لمنعمها وتقتضي منا العمل على تطبيقها في سائر حياتنا، ثم حملها للناس دعوة وجهاداً في سبيل الله عز وجل.
ويوم كان الإسلام عزيز الجانب مهيب الصولة والجولة تفجرت ينابيع العلم وتدفقت مناهله، وهكذا سنة الله في الأرض، حتى العلم يقوى بقوة الإسلام ويضعف بضعفه.
لقد كان مصدر العلم ولا زال ولن يزال إن شاء الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهما المنبعان الأساسيان الخالدان، ويليهما من مصادر وأصول التشريع الإجماع وهو راجع إليهما، ثم استصحاب الحال ودليل العقل، وهذه الأربعة متفق عليها.
وهناك أصول أربعة مختلف فيها وهي: شرع من قبلنا، إذا لم يصرح شرعنا بنسخه، والثاني قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف، والثالث الاستحسان، والرابع المصلحة المرسلة.
ومجمل القول أن مصادر التشريع وأدلة الأحكام إما أصلية، وهي الكتاب والسنة
1 الآية رقم 17 من سورة الحجرات.
والإجماع، وإما تابعة وهي: استصحاب الحال ودليل العقل وقلنا إنه تابع لأنه إبقاء لما كان على ما كان من الإثبات أو النفي، ط والقياس، وشرع من قبلنا إذا لم يصرح شرعنا بنسخه، وقول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف، والاستحسان، والمصلحة المر سلة وسد الذرائع. والعرف؛ وسنعطي لمحة موجزة عن هذه الأدلة أصلية كانت أو تبعية تمهيدا للدخول في صلب الموضوع الذي نريده لأن عليها يبني الفقيه فقهه ويلجأ إليها عند حدوث الوقائع والمشكلات فأقول وبالله التوفيق:
المصدر الأول: وهو القرآن الكريم: كلام الله تعالى المعجز في لفظه ومعناه الذي نزل به جبريل الأمين على قلب سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين وهو مابين دفتي المصحف المنقول إلينا نقلا متواترا لا زيادة فيه ولا نقصان {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} 1 {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 وهذا القرآن هو أساس الدين ومصدر التشريع وحجة الله البالغة في كل عصر ومصر، تلقاه عنه أصحابه رضوان الله عليهم، تلاوة له، وحفظاً ودراسة لمعانيه، وعملا بما فيه.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: " حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عَشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل جميعاً " وهكذا استمر نقله وحفظ المسلمين له جيلا بعد جيل من غير تحريف أو تبديل.
المصدر الثاني: السنة المطهرة وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير وهذا تقسيم لها من حيث ذاتها أو من حيث هي.
وأما أقسامها من حيث الرواية فهي على قسمين:
1-
الحديث المتصل وهو ما اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقط أحد رواته.
2-
الحديث الغير متصل وهو ما أسقط منه راو فأكثر ويسمى في اصطلاح الأصوليين بالمرسل سواء سقط منه الصحابي أو غير الصحابي، وأما في اصطلاح المحدثين فالمرسل ما سقط منه الصحابي فقط، وأما ما سقط منه غير الصحابي فيسمونه المنقطع.
وأما الحديث المتصل فهو على ضربين:
أحدهما: الحديث المتواتر وهو الذي يرويه جمع عن جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك من أول السند إلى منتهاه.
1 الآية رقم 87 من سورة النساء.
2 الآية رقم 9 من سورة الحجر.
مثل حديث " إنما الأعمال بالنيات " وحديث " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
ثانيهما: حديث الآحاد أو خبر الواحد، وهو الذي يرويه واحد أو اثنان من أول السند إلى منتهاه، فرواته لا يبلغون حد التواتر في الطبقات الثلاث، أعني طبقة الصحابة وطبقة التابعين وطبقة تابعي التابعين وإن بلغوا حد التواتر فيما بعد، لأن السنة قد دونت بعد عصر تابعي التابعين وأصبحت الأخبار معلومة بهذا التدوين.
وغالب الأحاديث الواردة من هذا الباب، وزاد الحنفية ضرباً ثالثاً وهو المشهور وهو فوق خبر الآحاد ودون المتواتر وهو الذي لم يبلغ رواته عن الرسول صلى الله عليه وسلم حد التواتر ولكنهم يبلغونه فيما بعد فإذا روى الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أو اثنان من الصحابة ثم رواه عنهم جمع من التابعين يمتنع اتفاقهم على الكذب وهكذا حتى نهاية السند في عصر التدوين، فهذا الحديث يسمى مشهورا عند الحنفية والمعول عليه في الشهرة هو الطبقة الثانية أو الثالثة من الرواة أي التابعون أو تابعوا التابعين.
وليس المقام مقام التفصيل في كل من الأنواع المتقدمة وشروط العمل بها ومدى حجتها فمكانه في مظانه أن علمي الحديث والأصول ولكنه الإجمال وبيان العناية التي أولتها هذه الأمة الإسلامية هذه السنة المطهرة حيث حفظوها وكتبوها ورواها كل عن الآخر حتى جاء بعضها متواتراً باللفظ والمعنى أو بالمعنى فقط متصلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من خصائص ومزايا وكمال هذه الشريعة وحدها فنقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خصَّ الله به المسلمين دون سائر الملل1.
ثالثها: وأما الإجماع لغةً فهو الاتفاق والعزم وفي اصطلاح الأصوليين: اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته على أمر من أمور الدين.
فقد انقطع التشريع والوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وجدت حوادث ونوازل لم تكن من قبل أملتها الظروف التي نحياها والاتصالات بالأمم الأخرى وما هم عليه من عادات وتقاليد فاقتضى ذلك أن يجتهد الصحابة فمن بعدهم في تلك الوقائع فإن اتفقوا على أمر منها عدَّ ذلك إجماعاً وإن اختلفوا فذلك هو غالب الأحكام ولكل مجتهد نصيب2.
1 انظر مقدمة ابن الصلاح بكاملها.
2 روضة الناظر ص67.
رابعها: وأما استصحاب الحال ودليل العقل فمعناه إبقاء ما كان على ما كان حتى يقوم الدليل الذي يغيره.
فإذا ثبت حكم معين في الزمن الماضي فإنه يظل ثابتاً حتى يقوم دليل عليه بنفيه وإذا انتفى هذا الحكم بقي منفياً حتى يقوم دليل على ثبوته.
واستصحاب الحال أربعة أنواع:
1-
النفي الأصلي أو براءة ذمة.
2-
استصحاب الدليل مالم يرد مغير.
3-
استصحاب الحكم مالم يرد مغير.
4-
استصحاب حال الإجماع إلى مسألة موضع خلاف.
فمثال الأول: وهو براءة الذمة أو النفي الأصلي أن الإنسان مباح له أن يفعل كل شيء حتى يأتي الرسل ويحصل التبليغ، والعقل دليل للنفي، والأحكام الشرعية تدرك بالسمع.
ومثال النوع الثاني: وهو استصحاب دليل الشرع مالم يرد المغير فكاستصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد النسخ.
ومثال النوع الثالث: وهو استصحاب الحكم مالم يرد مغير كاستصحاب الملك الثابت حتى يأتي المغير بالدفع، وشغل الذمة بالاتلاف حتى يأتي الإبراء.
ومثال النوع الرابع: وهو استصحاب حال الإجماع إلى مسألة موضع خلاف أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة: الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فنحن نستصحب ذلك حتى يأتي دليل يزيلنا عنه.
وهذا النوع ليس بحجة في قول الأكثرية، لأن الإجماع في المثال السابق إنما دل على دوام الصلاة حال العدم. فأما مع الوجود في أثناء الصلاة فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الاختلاف لأن حقيقة الإجماع الاتفاق ولا اتفاق هنا1.
خامسها: القياس وقد عرفه علماء الأصول بأنه إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما في الحكم كإلحاق الأرز بالبر في الحكم وهو تحريم الربا لجامع الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار وإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم لجامع الإسكار.
1 روضة الناظر ص79-80.
ومن أدلة جوازه قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم للخثعمية:" أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء "2.
وللقياس مباحث جليلة تراجع في مظانها من كتب الأصول.
سادسها: شرع من قبلنا إذا لم يصرح شرعنا بنسخه وهو من الأصول المختلف فيها وقد حصل الإتفاق على أن ما أمرنا الله باتباعه من هذه الأحكام في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون ملزماً لنا لا بطريق الشرائع السابقة بل بالنص الوارد في شريعتنا، مثاله شرعية الصوم قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3.
كما حصل اتفاق الأصوليين أيضاً على أن ما نهانا عن اتباعه مما في الشرائع السابقة لا يجوز لنا اتباعه، لأن النهي عنه يعد نسخاً صريحاً بالاتفاق، ولا يجوز العمل بالمنسوخ، مثاله حل الأطعمة التي كانت محرمة على اليهود لهذه الأمة المحمدية قال تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} 4.
وأما الأحكام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم أو السنة المطهرة دون أن نؤمر باتباعها أو ننهى عنها فهذا هو مثار النزاع ومحط الخلاف بين علماء الأصول، وهذا ما أحيل القارىء الكريم عليه بكتب الأصول5.
سابعها: قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف: وهو من الأصول المختلف فيها أيضاً فقد ذهب مالك والشافعي في القديم وبعض الحنفية والراجح عند الحنابلة إلى أنه حجة يقدم على القياس ويخصص به العموم وقال الشافعي في الجديد وأبو الخطاب من الحنابلة وعامة المتكلمين أنه ليس بحجة ولكل وجهة6.
ثامنها: الاستحسان وللعلماء في الأخذ بالإستحسان وتفسيره أقوال ليس هذا مجالها، والصحيح من أقوالهم أنه لا يراد به الاستحسان العقلي المجرد من الدليل، وإنما المراد
1 الآية 2 من سورة الحشر.
2 روضة الناظر ص145.
3 سورة البقرة آية 183.
4 الانعام آية 146.
5 أصول البزدوي مبحث النسخ، المغني في أصول الفقه للخبازي، المعتمد لأبي الحسين البصري، شرح البدخشي، أصول الشاشي كلها في مباحث النسخ.
6 روضة الناظر ص84.
به العدول بحكم مسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص فيكون هذا بمثابة تخصيص الدليل بدليل أقوى في نظر المجتهد.
ومن أمثلة ذلك:
1-
أن يتيمم فاقد الماء لكل صلاة استحسانا والقياس أن التراب بمنزلة الماء فلا يتيمم حتى يحدث.
2-
ومنه مسألة ما يسمى بالاستصناع وذلك كأن تتعاقد مثلا مع شخص على بناء بيت أو صنع سيارة أو حياكة ثوب، فالمعقود عليه معدوم وقت العقد ولا يصح بيع الشيء المعدوم فكان القياس عدم جواز هذا العقد، ولكنهم أجازوه استحساناً لتيسير المعاملات وجرى عرف الأمة على التعامل به1.
تاسعها: المصلحة المرسلة: ونصوص الشريعة العامة تدل عليها كقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ} 2 {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 3.
والمصلحة المرسلة هي جلب منفعة أو دفع مضرة لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين، ومثلوا لذلك بجمع القرآن في عهد أبي بكر، عندما استشرى القتل في القراء بعد وقعة اليمامة، ومثلوا كذلك بتترس الكفار بجماعة من أسرى المسلمين، فإننا لو رميناهم قتلنا مسلماً معصوماً وهذا لا عهد به في الشرع، ولو تركناهم تسلطوا على سائر المسلمين بالغلبة فقتلوهم ولاشك أن حفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشارع وإن أدى إلى قتل القلة من المسلمين الأسارى فهذه مصلحة ضرورية ليس لها أصل معين في نص أو قياس.
وقد قسم الأصوليون المصلحة إلى ثلاثة أقسام:
1-
مصلحة ضرورية وهي ما لابد منها في مصالح الدين والدنيا وهي على خمسة أضرب، حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل.
2-
مصلحة حاجية وهي ما احتاج إليها المكلفون مع عدم الضرورة الملجئة إليها بل من باب رفع الحرج والمشقة ومن أمثلتها الرخص التي شرعت في باب العبادات كقصرِ الصلاة، والفطر في السفر، وفي العادات إباحة ما زاد على الضرورة من اقتناء الطيبات مأكلاً ومشرباً وملبساً ومركباً، وفي المعاملات بالقراض والمساقاة والسلم،
1 نظرية المصلحة للدكتورحسين حامد حسان في مباحث الاستحسان عند الأئمة الأربعة، وروضة الناظرص83.
2 الآية 185 من سورة البقرة.
3 الآية 6 من سورة المائدة.
وفي الجنايات بالحكم باللوث وتحميل الدية على العاقلة.
3-
مصالحة تحسينية وتسمى أيضاً كمالية وهي مانزلت عن حد الحاجة وعُدَّ تحصيلها من باب محاسن الأخلاق وكريم العادات.
ومثالها أخذ الزينة في الصلاة والتقرب إلى الله بنوافل الطاعات1.
عاشراً: سد الذرائع وسنفرد لها كلاماً مستقلاً وشرحاً مختصراً في موضوعنا " الحيل " للعلاقة الوثيقة بينهما.
الحادي عشر: العرف وهو دليل من أدلة الشرع حيث لا يوجد النص، أو يصادمه ما هو أقوى منه من أدلة الأحكام الأخرى.
والمراد بالعرف ما تعارف الناس عليه واعتادوه ولذلك قيل " العادة محكمة "، وذلك كما لو حلف لا يدخل بيتاً فإنه لا يحنث بدخول المسجد لأنه وإن سُمي بيتاً في اللغة فإنه لا يسمى بيتاً في العرف وكذلك لو حلف لا يأكل لحماً لا يحنث بأكل السمك والخلاصة أن ما تعارف الناس عليه من أوجه المعاملات والتصرفات يحكم بصحته طالما أنه لم يخالف دليلاً شرعياً معتبراً2.
هذه هي أصول الأحكام وأدلة الشرع التي يبنى عليها الفقيه فقهه، ويلجأ إليها عند وقوع الحوادث والمشكلات وحيث إن موضوع الحيل من أدق الموضوعات، ويتطلب من أراد أن يبحر في عبابه أن يجيد فيه السباحة، وأن يكون من ربانه؛ لذلك كان لزاماً عليَّ أن أعطي هذه المقدمة الضافية المختصرة في الأدلة الشرعية لتعين المطلع على هذا الموضوع فهي أدوات لفهمه، ووسيلة لإيضاح غموضه، ولعلي ألقي الضوء على جانب من جوانب الفقه، جانب حارت فيه العقول وتباينت فيه الأفهام ما بين مجيز له ومانع، هذا الجانب هو جانب الحيل في الشريعة الإسلامية كما أرجو أن أوفق في موضوع شائق شائك تكبدت مصاعبه ومتاعبه لأجلي غموضه وأميط لثامه، ولأجل العلاقة الوطيدة بنا الحيل وسد الذرائع والاشتباه الحاصل بينهما في كثير من المواضع أحببت أن أبين بياناً مختصراً شافياً يزال فيه الالتباس وتتضح به أوجه الافتراق وأوجه الاجتماع بين هاتين القاعدتين قاعدة الحيل وقاعدة سد الذرائع فلنشرع في المقصود بعد بذل المجهود سائلين العون من المعبود.
1 نظرية المصلحة د/ حسين حامد، وروضة الناظرص86، شفاء الغليل ص211.
2 الأشباه والنظائر للسيوطى ص89-101.
سد الذرائع:
الذريعة لغة هي الوسيلة إلى الشيء، والجمع الذرائع قال ابن منظور: الذريعة جمل يختل به الصيد يمشى الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه1.
وأما شرعاً فهي الشيء الذي أصله الحل لكنه يفضي إلى المحرم أو ما استخدم كوسيلة للمحرم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الذريعة ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة "2.
الفرق بين الذريعة والحيلة:
الذريعة والحيلة قد تجتمعان وقد تفترقان، فالحيلة تجتمع مع الذريعة عند القصد وكل منهما تفترق عن الأخرى فيما عدا ذلك؛ فالذرائع والحيل قاعدتان متشابهتان، والكلام فيهما متداخل ولأجل هذا التداخل نلاحظ أن من كتب عنهما كابن تيمية وابن االقيم يتكلم عن أحدهما أثناء الكلام على الأخرى ويستدل لأحدهما بأدلة الأخرى فابن تيمية مثلاً اعتبر الذريعة إن كان إِفضاؤها إلى المحرم بقصد فاعلها من باب الحيل، وعلى تقسيمه توجد ذريعة ليست حيلة وحيلة ليست ذريعة، وذريعة هي حيلة، قال رحمه الله فصارت الأقسام ثلاثة:
1-
ما هو ذريعة وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكشراء البائع السلعة من مشتريها بأقل ثمن تارة وبأكثر أخرى، وكالاعتياض في ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ، وكقرض بني آدم.
2-
ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده وأن هذا لا يقصدهما مؤمن.
3-
ما يحتال به من المباحات في الأصل كبيع النصاب في أثناء الحول فراراً من الزكاة وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة3.
وابن القيم والشاطبي تحدثا عن المقاصد ثم عرضا لسد الذرائع ومنها إلى الحيل لأن الأمور بمقاصدها والذريعة والحيلة يرتبطان بالقصد4.
1 لسان العرب جـ 1ص 5 106.
2 الفتاوى الكبرى جـ3 ص 256.
3 الفتاوى الكبرى جـ3 ص 257.
4 انظر: إعلام الموقعين المجلد الثالث والرابع في مسائل العبرة في العقود بالمقاصد والنيات وسد الذرائع والحيل، وانظر: الموافقات الجزء الثاني كتاب المقاصد.
أما شواهد قاعدة سد الذرائع فأكثر من أن تحصى ومنها:
1-
قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1.
دلت هذه الآية على عدم سب آلهة المشركين مع أن سبها قربة لكن لما كانت وسيلة إلى سب الله منعوا من ذلك.
2-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2ووجه الدلالة أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا راعنا قصدهم الخير، لكن لما كان اليهود يقصدون فاعلاً من الرعونة سد باب هذه الكلمة إلى غيرها مما لا يحتمل غير المراد.
هذه شواهد من الكتاب، وأما السنة فمنها:
1) ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؛ فقيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه 3.
2) ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكف عن قتل المنافقين خشية أن يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه4.
3) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، وأمر بتسويتها ونهى عن الصلاة إليها أو عندها، وعن إيقاد المصابيح عليها وما ذلك إلا لئلا تكون ذريعة إلى الشرك فيعبد أصحابها من دون الله5.
والشواهد كثيرة على قاعدة سد الذرائع وإنما القصد البيان والاختصار، وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيميه ثلاثين مثالاً، واستشهد لها ابن القيم بتسعة وتسعين دليلاً6.
وبالجملة فقاعدة سد الذرائع ربع الشريعة كما قال غير واحد من الأئمة؛ وذلك لأن المحرمات قسمان: مفاسد وذرائع موصلة إليها، وكذلك القربات نوعان: مصالح وذرائع موصلة إليها فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام ربع الدين.
1 الآية 108 من سورة الأنعام.
2 الآية 104 من سورة البقرة.
3 صحيح البخاري جـ8 ص 3.
4 صحيح البخاري جـ4 ص 192، صحيح مسلم جـ8 ص 19.
5 صحيح البخاري جـ2 ص98.
6 الفتاوى الكبرى جـ3 ص258-264، إعلام الموقعين جـ3 ص 137-159.