الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع:
في كيفية معرفة مقاصد الشارع
سبق وأن قدمنا أن الحيل الجائزة هي التي لا تناقض مقاصد الشارع والحيل المحظورة هي التي تناقض مقاصد الشارع، وحينئذ لابد من إعطاء الفهم الصحيح والبيان الكافي لبيان الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة هذه المقاصد حتى نستطيع أن نعطي كل حيلة ما يناسبها من الحكم.
وإليك ملخص ما قاله الشاطبى في كتابه الموافقات في هذا الصدد قال: " الراسخون من أهل العلم على أن مقاصد الشارع تعرف من ألفاظ النصوص ومعانيها النظرية جميعاً فينبغي أن ينظر إلى الألفاظ على وجه لا يخل بالمعنى وإلى المعاني على وجه لا يخل بالألفاظ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض ".
ومن زعم أن مقاصد الشارع لا تؤخذ إلا من ألفاظ النصوص وظواهرها كالظاهرية أو لا تؤخذ إلا من المعاني النظرية. وإن عادت على الظواهر والنصوص بالتعطيل والإلغاء كما هو رأي المتعمقين في القياس المقدمين له على النصوص، من زعم هذا أو ذاك فقد غلا في جانب الإفراط والتفريط ونظر إلى جانب من الشريعة دون جانب، وذلك بُعْدٌ عن الصراط المستقيم.
فالصواب الذي عليه أكثر العلماء اعتبار الأمرين جميعاً على وجه لا يخل فيه المعنى النظري بالنص، ولا النص بالمعنى النظري وعلى هذا المذهب وحده الاعتماد في تقرير الجهات التي يعرف بها مقاصد الشارع فنقول وبالله التوفيق.
إن مقاصد الشارع تعرف من جهات:
أحدها: الأمر والنهي الواردان عن الشارع فالأمر يقتضي حصول المأمور به من المكلف، فوقوعه عند وجود الأمر به مقصود للشارع، وعدم إيقاعه مخالف لمقصوده وكذلك النهي يقتضي الكف عن الفعل المنهي عنه. فعدم وقوع الفعل المنهي عنه مقصود للشارع وإيقاعه مخالف لمقصوده.
فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح.
الجهة الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر الشارع بهذا الفعل، ولماذا نهى عن
الفعل الآخر؟ ثم العلة إما أن تكون معلومة أو لا؛ فإن كانت غير معلومة فلابد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا حتى يدل دليل على ذلك القصد، وإن كانت العلة معلومة اتبعت، فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من قصد الشارع إلى إيقاع الفعل في الأمر، وعدم إيقاعه في النهي كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الازدجار، وتعرف العلة هنا بمسالكها المقررة في أصول الفقه، فإذا تعينت علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه.
ويغلب على باب العبادات جهة التعبد، وعلى باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل، ومن أجل هذا لم يلتفت مالك رحمه الله في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق فيهما، واشترط لرفع الأَحداث النية وإن حصلت النظافة بدونها، ومنع من إقامة غير التكبير والتسليم في الصلاة مقامهما، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصد على مجرد العدد في الكفارات، إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الإقتصار على عين المنصوص عليه أو ما ماثله، وغلَّب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة، والاستحسان الذي قال فيه إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك.
الجهة الثالثة: إن للشارع في شرع العبادات والعادات مقاصد أصلية ومقاصد تابعة وقد دلنا تتبع النصوص وظواهرها وإشاراتها واستقراء معانيها النظرية أن الشارع لم يشرع من الأسباب العادية والعبادية الموصلة إلى المقاصد التابعة إلا ما عاد من تلك المقاصد على المقاصد الأصلية بالتوثيق والإحكام والتقوية والربط، فاستدللنا بذلك على أن ما كان من تلك الأسباب كذلك مما لم ينص عليه فهو موافق لمقاصد الشارع، وما كان منها مؤديا إلى إبطال المقاصد الأصلية منها وإزالتها فهو مناقض لمقاصد الشارع.
فالتسبب إلى تلك المقاصد التابعة مشروع في الأول وغير مشروع في الثاني.
ومثال ذلك: النكاح فإنه مشروع للتناسل بالقصد الأول ويليه طلب السكن والازدواج والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه وعلى أولاده منها أو من غيرها أو إخوته والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود الشارع من شرع النكاح بالقصد الثاني، فمنه منصوص عليه أو مشار إليه، ومنه ما علم بدليل آخر، ومسلك استقرىء من
ذلك المنصوص
…
فحاصل الجهة الثالثة التي يعرف بها مقاصد الشارع أن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام:
1-
ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وتوثيقها وتقوية الرغبة فيها فلا شك أنه مقصود للشارع، فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيضخ.
2-
ما يقتضي زوال المقاصد الأصلية عيناً فلا (شك) أيضاً من أن القصد لها مخالف لمقصد الشارع عيناً فلا يصح التسبب بإطلاق، ولا فرق في القسمين بين العبادات والعادات.
3-
ما لا يقتضي تأكيداً ولا توثيقاً ولكنه مع ذلك لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية ولا إزالتها عيناً فهذا لا يصح في العبادات، وأما صحته في العادات فللنظر فيه مجال؛ فمن قال بالصحة نظر إلى أنه يجوز حصول الربط والتوثيق بعد التسبب، ومن قال بعدم الصحة نظر إلى أنه لا يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية، وقصد الشارع التأكيد فلا يكون ذلك التسبب موافقاً لقصد الشارع فلا يصح.
الجهة الرابعة: مما يعرف به مقاصد الشارع السكوت عن شرع الحكم مع قيام المعنى المقتضي له، فإن ذلك يدل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل فإذا زاد زائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فيرد عليه ما أحدث، أي يعتبر من قبيل " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
أحدهما: أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقرر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها.
وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف وتدوين العلم، وما شابه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نوازل زمانه. ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعاً بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل.
ثانيهما: أن يسكت عنه الشارع وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد ولا ينقص لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً ثم
لم يشرع له الحكم كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده الشارع إِذْ فُهِمَ من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه.
ومن أمثلة هذا الضرب: سجود الشكر في مذهب مالك فقد سئل مالك رحمه الله عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكراً، فقال:" لا يفعل، ليس هذا مما مضى من أمر الناس " قيل له إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكراً لله أفسمعت ذلك؟ قال: " ما سمعت ذلك، فأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم أسمع له خلافاً "، فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به، فقال:"نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان للناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك، لأنه لو كان لذكر، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحداً منهم سجد، فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه"؛ هذا تمام الرواية ذكرها في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال ابن رشد: "واستدلاله على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح، إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على عدم نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمروا بالتبليغ قال: وهذا أصل من الأصول وعليه يأتي إسقاط الزكاة عن الخضر والبقول مع وجوبها فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر " أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه.
لأنا نَزَّلْنَا تَرْكَ نَقْل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها، فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه. والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث أنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإِطلاق، وإلا فقد وردت أحاديث في سجوده صلى الله عليه وسلم شكراً، ذكرها صاحب منتقى الأخبار وترجم عليها باب سجدة الشكر ولعلها لم تبلغ مالكاً أو بلغته ولم تصح عنده، وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنه بدعة منكرة من حيث إنه وجد في زمانه عليه الصلاة والسلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا كما كان أول مرة، وأنه كما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه، دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها وهو أصل صحيح، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها؛ والله أعلم1.
1 ملخص ما قاله الشاطبي بتصرف من جـ2 ص391-414.