المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثاني: إطلاقات الحيلة تطلق الحيلة على عدة معان نوجزها فيما - الحيل

[محمد المسعودي]

الفصل: ‌ ‌الفصل الثاني: إطلاقات الحيلة تطلق الحيلة على عدة معان نوجزها فيما

‌الفصل الثاني:

إطلاقات الحيلة

تطلق الحيلة على عدة معان نوجزها فيما يأتي:

1) تطلق الحيلة ويراد بها الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف، لأن فاعلها يتحول بها من حال إلى، وكل من حاول الوصول إلى أمر أو الخلاص منه فيما يحاول به حيلة يتوصل بها إليه، وهي بهذا المعنى لا تشعر بمدح ولا ذم ولا تتقيد بخفاء أو ظهور في وسيلتها أو غايتها.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: " إن مباشرة الأسباب حيلة على حصول مسبباتها فالأكل والشرب واللبس والسفر حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيل على حصول المقصود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيل على حصول مقاصدها منها "1.

2) ثم غلب إطلاقها في العرف اللغوي على ما يكون من الطرق الخفية التي يتوصل

بها إلى بلوغ المراد بحيث لا يفطن لها إلا بنوع من الذكاء، وإلى هذا المعنى أشار الراغب الأصفهاني:"والحيلة ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية".

وهذا الاستعمال أخص من وصفها في أصل اللغة فقد اشترط فيها الخفاء هنا في حين لم يشترط في الإطلاق الأول خفاءً أو ظهوراً.

3) وتطلق الحيلة على الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى الغرض المذموم شرعاً أو عقلاً أو عادة، وإلى هذا المعنى أشار الراغب الأصفهاني فقال: وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث.

وهذا الإطلاق هو الغالب عليها في عرف الناس أيضاً فإنهم يقولون فلان من أرباب الحيل، ولا تعاملوه فإنه محتال، وفلان يعلم الناس الحيل، ولا يريدون بها إلا المعنى المذموم.

4) تطلق الحيلة في عرف الفقهاء والمحدثين غالباً على الحيل المذمومة شرعاً وهى الطرق والوسائل الخفية التي تستحل بها المحارم وتسقط بها الواجبات ظاهراً، وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو أو لآدمي فهي من هذا القبيل، كحيل اليهود التي من أجلها لعنهم الله تعالى.

1 إعلام الموقعين جـ3 ص 241.

ص: 109

5) وربما أطلقها بعض الفقهاء على المخارج من المضايق بوجه شرعي ويوجد هذا عند فقهاء الحنفية بكثرة قال الحموي في الأشباه والنظائر: " الحيل جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر والمراد بها هنا ما يكون مخلصاً شرعياً لمن ابتلى بحادثة دينية ولكون المخلص من ذلك لا يدرك إلا بالحذق وجودة النظر أطلق عليه لفظ الحيلة "1.

قلت: وهذا الاستعمال قليل وإن جاز شرعاً وساغ في اللغة ولهذا قال الراغب الأصفهاني: " وقد تستعمل فيما فيه حكمة ".

الموازنة بين الإطلاقات المتقدمة:

الإطلاق الأول هو أعم الإطلاقات الخمسة حيث لم تقيد فيه الحيلة بخفاء أو ظهور، ولا بمدح أو ذم إذ هي كما مرَّ بك: التصرف الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال.

ويليه في العموم الإطلاق الثاني وهو ما يتوصل به إلى المقصود بالطرق الخفية.

ويليه في العموم الإطلاق الثالث وهو ما يتوصل به إلى المقاصد المذمومة بالطرق الخفية.

وأخص مما تقدم الإطلاق الرابع وهو إطلاقها على الحيل المذمومة شرعاً كما هو عرف الفقهاء والمحدثين في الغالب حيث عرفوها بأنها ما يتوصل بها إلى استحلال المحرمات وإسقاط الواجبات وتعطيل مقاصد الشرع من الوسائل التي ظاهرها الحل شرعاً وباطنها إسقاط الحكم.

وأخص من الإطلاق الرابع الإطلاق الخامس وهو إطلاقها على مالم يذم شرعاً.

وقد صنف بعض الفقهاء وخاصة فقهاء الحنفية في هذا النوع من الحيل وعرفوها بأنها المخارج من المآزق بما لا يتعارض ومقاصد الشريعة.

إذا علم هذا فإن الحيل تدخل الحكم الشرعي عموماً، تكليفاً أو وضعاً وما يندرج تحتها من أقسام كالواجب والمحرم والسبب والرخصة وغيرها.

وبيان ذلك أن الحيلة جنس يدخل تحته التوصل إلى فعل الواجب وترك المحرم وفعل المندوب وترك المكروه، وتخليص الحق، ونصرة المظلوم وقمع الظالم.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: "وإذا قسمت الحيلة باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها، فالأكل وما شابهه

1 غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر جـ4 ص219.

ص: 110

والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المقصود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور، فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب وترك المحرم وتخليص الحق ونصر المظلوم وقهر الظالم وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات وَلمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم، وكما يذم الناس أرباب الحيل فإنهم يذمون أيضا العاجز الذي لا حيلة له لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه، فالأول ماكر مخادع، والثاني عاجز مفرط، والممدوح غيرهما وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيها وظاهرها فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها، وهذه كانت حال سادات الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا أَبرَّ الناس قلوباً، وأعلم الناس بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتقى لله من أن يرتكبوا منها شيئاً، أو يدخلوه في الدين كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" لست بخب ولا يخدعني الخبُّ "، وكان حذيفة أعلم الناس بالشر والفتن، وكان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكان هو يسأله عن الشر، والقلب السليم ليس هو الجاهل بالشر الذي لا يعرفه بل الذي يعرفه ولا يريده بل يريد الخير والبر "1.

ألفاظ بمعنى الحيلة:

هناك ألفاظ بمعنى الحيلة تستعمل لغة وعرفاً ومنها المكر والخديعة والكيد، فهي ألفاظ متقاربة أو مترادفة تطلق في أصل اللغة على كل فعل يقصد منه فاعله خلاف ما يقتضيه الظاهر وعلى كل فعل يوصل إلى المقصود وليس له ظاهر وباطن ولكن الذهن لا يلتفت عادة إلى أنه يوصل.

ومثال ذلك ما رواه الإمام الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير قال: "ابتاع عبد الله بن جعفر بيعاً فقال علي رضي الله عنه: لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأعلم ذلك عبد الله بن جعفر الزبير فقال: أنا شريكك في بيعتك فأتى علي عثمان وقال: تعال احجر علي هذا؛ فقال الزبير: أنا شريكه فقال عثمان: أحجر على رجل شريكه الزبير"2.

1 إعلام الموقعين جـ3 ص241-242.

2 مسند الشافعي ص384.

ص: 111

فمشاركة الزبير لعبد الله بن جعفر في الصفقة منعت عثمان من الحجر عليه.

لأن الزبير معروف بحسن التصرف وإدارة المال فكان أن اتخذ هذه الحيلة لمنع الحجر وليس لها ظاهر وباطن، ولكن الذهن لا يلتفت عادة إلى هذه الحيلة.

وأكثر ما تستعمل هذه الألفاظ (المكر والخديعة والكيد) في الفعل المذموم وهو الأشهر عند الناس وذلك بأن يقصد فاعله إنزال مكروه بمن لا يستحقه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخديعة في النار " 1 أي تؤدي بفاعلها إلى النار.

وقد تستعمل تلك الألفاظ في الفعل المحمود وذلك بأن يقصد فاعله إلى استدراج غيره لما فيه مصلحته كما يفعل بالصبي أو المريض إذا امتنع من فعل ما فيه مصلحته كشرب الدواء ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة " 2 فهذا أمر بالخداع عند لقاء الأعداء لأنه يقصر أمد الحرب ويوفر المال والجهد، ولكون المكر والخديعة والكيد ضربين: حسناً وسيئاً قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} 3، وقوله:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} 4 {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرْضَ} 5 فخصَّ في الآيات السيء من المكر تنبيهاً على جواز المكر الحسن ووصف نفسه تعالى بالمكر الحسن فقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 6.

ووصف نفسه بالخداع الحسن فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} 7 وبالكيد الحسن فقال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله} 8.

وعلى ذلك الاستدراج والإملاء والاستهزاء منه تعالى كما في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 9 والمعنى في ذلك كله إمهال الله للعبد الجاحد

1 صحيح البخاري جـ3 ص 75.

2 صحيح البخاري جـ4 ص 66، صحيح مسلم جـ5 ص143.

3 الآية رقم 10 من سورة فاطر.

4 الآية رقم 42 من سورة فاطر.

5 الآية رقم 45 من سورة النحل.

6 الآية رقم 54 من سورة آل عمران.

7 الآية رقم 142 من سورة السماء.

8 الآية رقم 76 من سورة يوسف.

9 الآية رقم 44 من سورة القلم.

ص: 112

وتمكينه من أعراض الدنيا حتى يغتر ويؤخذ بذنبه، لذلك قيل " من وسع عليه في دنياه من أهل الفسق ولم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله "، قال الإمام الراغب في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة":" وهذه ألفاظ لولا أن الباري تعالى أطلقها في مواضع مخصوصة قاصداً بها معاني صحيحة لما تجاسر بشر عرف الله تعالى أن يخطر ذلك بباله فضلا عن أن يجريه في مقاله وإن قصد بها المعنى الصحيح تنزيها له وتعظيماً فيجب أن تتلى في القرآن حيثما وردت ولا يتعدى بها "1.

1 الذريعة ص 351.

ص: 113