الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرف الخطابة
تَشرُف العلومُ والصنائع بمقدار ما تشرُف غاياتها. وللخَطَابة غايةٌ ذاتُ شأنٍ خطيرٍ، وهي إرشاد الناس إلى الحقائق، وتشويقِهم إلى ما ينفعهم في هذه الحياة، وفي تلك الحياة.
والخطابة معدودةٌ في وسَائلِ السِّيَادَة والزَّعَامة، سمع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه زيادًا يخطُب -وكان زيادٌ لا يدَّعي يومئذٍ لأبي سفيان- فقال:"لو كان هذا الفتى قُرَشِيًّا لَسَاق العربَ بعصاه". وكانوا يعدُّونها شرطًا للإمارة، ألا ترون إلى عبيد الله بن زياد -وكان خطيبًا على لُكْنَة في لسانه- كيف يقول:"نِعْمَ الشيءُ الإمارةُ، لولا قَعْقَعَةُ البُرُد، والتَّشَزُّنُ للخطب".
وقد عُنِي الإسلام بالخطابة إذ شَرَعها في أيام الجُمَع والأعياد ومواسم الحَجِّ، شَرَع الخطابةَ وما شرعها إلا ليتولاها ذو نَبَاهَةٍ وعِلْمٍ وبلاغة:
(يتولاها ذو نَبَاهَة) ليكون بصيرًا بما يطرأ على نظام الجماعة مِنْ خَلَلٍ، وبما يَنصِبُه أعداؤُها من مكايد، وبما يُبَيِّتُهُ منافقوها من تضليل.
(يتولاها ذو عِلْم) حتى يُفَرِّق بين المعروف والمنكر، ويُمَيِّزَ الأوهام من الحقائق، ويكون إرشادُه مملوءًا بالمواعظ الحسنة، والحكم السامية.
(يتولاها ذو بلاغة) ليختار مِنْ أساليب البيان ما تألفُه الأذواقُ، وتنفتح له الصُّدُور.
وكذلك كانت الخطابة يوم كانت اللغة في حياتها الزاهرة وكان الخطباء كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
ففي الخطابة شرفٌ عظيمٌ، وشَرَفُها في أن يكونَ القائمُ عليها نبيهًا عالِمًا بليغًا.
قد يبلغ الخطيبُ بِحِذْقِه في فنون البيان، أن يريك الباطلَ في صورة الحق، ويخيِّلَ إليك الشقاءَ سعادةً. وهذا لا يُزرِي بقَدْر الخطابة، وإنْ هي إلا ككثيرٍ من وسائل الخير التي قد يذهبُ بها بعضُ الناس في غير مذهبِها، ويَضَعُها فيما ليس من شأنها، ومَثَلُهَا في هذا مَثَلُ السَّيْف، تَهَزُّه يدُ العَدْل لتضرب به الباطلَ مرَّةً، ويَهزُّه الباطلُ ليسطو به على الحقِّ مرَّةً أخرى.