المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ماذا تفعل الخطابة - الخطابة عند العرب

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌ماذا تفعل الخطابة

‌ماذا تفعل الخطابة

؟

الخطيب البارع يقف في الجُنْدِ المتباطئ، ويصفُ له ما ينالُه الأبطالُ من عِزَّةٍ يوم يعيشون، أو سعادةٍ يوم يموتون، فينقلبُ التَّرَدُّدُ عَزْمًا صارمًا، والإحجامُ هجومًا رائعًا.

الخطيب البارع يقف في الجماعة الخاملةِ، فيهزُّ قلوبَهم هَزًّا، فإذا هي ناهضةٌ من خُمُولها، عاملةٌ لإعلاء ذِكْرِها، مُقْتَحِمَةٌ كلَّ عقبةٍ تقوم في طريقها.

الخطيب البارع يقف بين قومٍ نشؤوا في بيئةٍ مغبرة جهلاً وعَمَاية، أو تلقَّتهم دُعَاة الغَوَاية، قبل أن تألفَ الحقَّ بَصَائِرُهم، ويَشتدَّ في العلم ساعدُهم، فلا يبرح يعرِض عليهم سُبُلَ الهداية في استوائها ونقائها، فإذا هم الرِّجَالُ المصلحون، أو الزعماء الناصحون.

الخطيب البارع يقف بين طائفتين استعرت بينهما نارُ العداوة، ولم يبق بينهم وبين أن يصبح لونُ الأرضِ أحمرَ قانيًا إلا شِبْرٌ أو ذراع، فيذكِّرهم بعواقب التَّدَابر، وينذرهم مصارعَ التقاتل، فإذا القلوب راجعةٌ إلى ائتلافها، والسيوفُ عائدةٌ إلى أغمادها.

والشعراءُ يقرِنون الخطابةَ بالسيف لتشابههما في إعلاء كلمة الحق، وحَمْل النفوس الجامحة على أن تعود إلى السكينة والنِّظَام، وهذا أحد الشعراء يسمِّي فعل السيف خُطْبَةً فيقول:

السيفُ أصدقُ مِنْ زيادٍ خُطْبَةً

في الحَرْبِ إن كانت يمينُك مِنْبَرَا

ص: 180

وآخر يسمِّي نفسَه يوم يَطعُنُ بالسيف خطيبًا فيقول:

إذا لم أكنْ فيكم خطيبًا فإنني

بسيفيَ في يومِ الوَغَى لَخَطيبُ

ورُبَّ كلمةٍ يلقيها الخطيبُ فتنفذُ في قلب السامع، وينتفع بها في سيرته ما دام حَيًّا، قال الحسن: لقد وَقَذَتْنِي كلمةٌ سمعتُها من الحَجَّاج. فقيل له: وإنَّ كلامَ الحَجَّاج لَيَقِذُك؟ ! فقال: نعم، سمعتُه على هذه الأعواد يقول: إنَّ امرأً ذهبتْ ساعةٌ من عمره في غير ما خُلِق له، لَحَرِيٌّ أن تطولَ عليه حَسْرتُه.

ولشدةِ وَقْعِ الخطب في نفوس الملأ، ترى الرئيسَ المستبِدَّ ينظرُ إلى الخطباء الأذكياء بعينٍ عابسةٍ، يحذرُ من أن يحومُوا حولَ سيرتِه، ويُقنِعُوا الناسَ بأن لا طاعةَ لمن يضطهدُ حقوقَهم، ولا ينصحُ في تدبير شؤونهم.

ص: 181