الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا كان للرأي العام سلطانه في دعوة الحكومة لتطبيق أحكام الله تعالى والتقيد بها وعدم الخروج عنها إلى قوانين وضعية أو مشاريع مستوردة.
يقول الإمام النسفي في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين، وهي على الكل إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم 1.
2 رواه البخاري والترمذي: الترغيب والترهيب (4/4-5) .
2-
حراسة المبادئ الإسلامية وصيانة قيمتها في المجتمع:
ومن هذا المبدأ كانت مسؤولية الأمة عامة عن حراسة مبادئ الشريعة وقيمتها، وكان الرأي العام في المجتمع الإسلامي ذا سلطان قوي في حراسة هذه المبادئ ورعاية هذه القيم وصيانتها.
وقد وجه القرآن الكريم الأمة الإسلامية ودعاها مجتمعة متعاونة لترفع صوتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومساندة العلماء الذين يقومون بهذه المسؤولية. والأمر بالمعروف يعني الأمر بما قرره الكتاب والسنة من مبادئ وقيم وأحكام للمجتمع، والنهي عن المنكر يعني النهى عما نهى عنه الكتاب والسنة من معاصي تعتبر خروجاً عن المبادئ الإسلامية وقيمها.
ومن المناسب إيراد النصوص التالية من الكتاب والسنة التي تصور حرص الإسلام على مساندة تعاليمه وأحكامه بسلطان الرأي العام المسلم:
(1)
قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . (آل عمران:104) .
(2)
عن النعمان بن بشير- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"2.
فالرأي العام مدعو هنا للتوجيه وإصلاح الخطأ وإنقاذ نفسه مع إنقاذ المرتكبين للخطأ،
2 رواه البخاري والترمذي: الترغيب والترهيب (4/4-5) .
إن الحديث الشريف يحذر الجماعة من شعور (اللامبالاة) وعدم الاهتمام بقضايا الجماعة العامة بحجة أن الذين يرتكبون الفساد قوم غيرهم.
(3)
والمسلم.. مدعو للجهاد والتضحية في سبيل نصرة أحكام الشريعة إذا انتهك حرمتها حاكم ظالم. عن جابر- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله "1.
إن الجمع بين حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه الذي أبلى بلاء حسناً في قتال المشركين والتنكيل بهم حتى قضى شهيداً في غزوة أحد، وبين من جهر بكلمة الحق في وجه إمام ظالم، يصلنا بطبيعة المعركة التي خاضها حمزة- رضي الله عنه في وجه الجاهلية وظلمها، ويخوضها إخوان حمزة في طريق العمل لاستئناف الدولة الإسلامية، أو في مواجهة محاولات الظالمين لإبعاد أحكام الشريعة عن التطبيق بالتدريج وبالوسائل المختلفة. إن ظهور أمثال هؤلاء الرجال في ساحات المجتمع الإسلامي ومواجهة أعداء الشريعة من شأنه إلهاب مشاعر الجماهير المسلمة وإضاءة الطريق أمام الرأي العام ليقول كلمته ويتحمل مسؤوليته.
(4)
إن دعوة الرأي العام في المجتمع المسلم ليقف في وجه الانحراف والفساد ومحاولات الخداع والتمويه تظهر صريحة في حديث النبي الكريم: عن ابن مسعود- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدمم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "2.
(5)
ويحذر الإسلام أفراد المجتمع المسلم من الجبن في نصرة الحق والوقوع في ذلة الجبن والخور أمام رأي الأكثرية الفاسدة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُحقِّرَن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن عليه مقالا، ثم لا
1 رواه الترمذي والحاكم: وقال صحيح الإسناد/ الترغيب (4/ص4) .
2 رواه مسلم: الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (4/5) .
يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول خشية الناس: فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى". 1
(6)
ويحذر الله الجماعة المسلمة أن يفلت من يدها زمام الأمر فتغلب المعاصي وتنتشر الفاحشة فيستحقوا عذاب الله. وقد سألت عائشة- رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث "2.
وعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه، ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا"3.
وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
…
} (المائدة: 160) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب عن عنده "4.
الرأي العام ودوره في مقاطعة مجالس المنكرات:
ومن خير ما تتجلى به حراسة الرأي العام في المجتمع الإسلامي لمبادئ الشريعة وقيمها الحكم الشرعي الذي يأمر الجماعة المسلمة وكل فرد مسلم بمقاطعة مجالس المنكرات، والأماكن التي يعصى فيها الله، والمحافل التي يستهزأ فيها بدين الله، قال تعالى:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} . (النساء: 140) إن المسلم مدعو إذا لم يستطع أن يغير المنكر بيده ولسانه، أن يغيره بقلبه والتغيير بالقلب ليس حركة انفعالية نفسية ولا تظهر أثراً إيجابياً في إزالة المنكر، بل هي حركة انفعالية نفسية عملية تساعد على التغيير بالانسحاب من مجلس يعصى فيه الله، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث له:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
إن كلمة: "فبلسانه " و "فبقلبه " متعلقتان بالفعل "فليغيره"، والتقدير: فليغيره بيده،
1 رواه ابن ماجه: ورواته ثقات ـ المرجع السابق (6) .
2 رواه البخاري: عن زينب بنت جحش رضي الله عنها المرجع السابق (6) .
3 رواه أبو داود: المرجع السابق: (8) .
4 رواه أبو داود والترمذي.
أو فليغيره بلسانه أو فليغيره بقلبه
…
ولا يكون بالقلب تغيير إلا بحركة هي أضعف الحركات وأقلها بعد اليد واللسان هي حركة الانسحاب من مجالس المنكرات ومقاطعتها
الرأي العام ودوره في مقاطعة من عصى:
والرأي العام في الإسلام حين يخاصم ويقاطع هدفه الإصلاح والعلاج، لا التشهير والهدم، وهذا ما يميزه عن المجتمعات المادية، فالثلاثة الذين خلفوا عن الجهاد بغير عذر وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة بمقاطعتهم واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح الرأي العام هذا وسيلة صالحة لإبرار أثر التخلف عن الجهاد على الأمة، وقيام الأمة جميعها بواجب المقاطعة، حتى أقارب المقاطع وزوجه يقاطعونه.
حتى إذا حققت المقاطعة ثمرتها التربوية للمتخلفين خاصة، وللأمة عامة نزل الحكم من السماء بإنهاء المقاطعة والتوبة على الذين تخلفوا وتابوا وأنابوا.
إن سلاح المقاطعة يمثل قمة التربية الإيمانية للشخصية المسلمة حين تحب في الله، وتبغض في الله، وتصل في الله، وتقطع في الله، وتحارب في الله وتسالم في الله.
وإن العقيدة التي توحد رأي أبنائها في إصدار حكم على شخص بمقاطعته لأنه تخلف عن الجهاد، أو جاهر بمعصية لتمثل لنا أسلوباً من أساليب الدعوة الإسلامية في تربية الجماعة وإصلاحها، والدارس للتاريخ الإسلامي يجد تطبيقاً كريماً لهذه المبادئ في محيط الأسرة، أو محيط الجماعة حين يخرج أحدهم عن الجادة، ويجاهر بمعصية الله فيهجر في الله، وتعطى الأمة برأيها فيه بالمقاطعة العلنية.
وقد ظهر هذا الأسلوب في مرحلة الدعوة الأولى في مكة قبل الهجرة حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يهجر المجالس التي لا توقر فيها آيات الله وشرائعه فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} . (الأنعام: 68) .
1 انظر قصتهم في صحيح البخاري كتاب المغازي زفي الطبري (11/58) .