المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقام الأول: المقام السلبي في الحدود والتصورات.في قولهم: أن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد - الرد على المنطقيين

[ابن تيمية]

الفصل: ‌المقام الأول: المقام السلبي في الحدود والتصورات.في قولهم: أن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد

والمقصود هنا ذكر شيء آخر فنقول: الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين.

فالأولان:

أحدهما: في قولهم أن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد.

والثاني: أن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس.

والآخران: في أن الحد يفيد العلم بالتصورات وأن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات

ص: 7

‌المقام الأول: المقام السلبي في الحدود والتصورات.

في قولهم: أن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد

والكلام على هذا من وجوه:.

أحدها: أن يقال لا ريب أن النافي عليه الدليل إذا لم يكن نفيه بديهيا كما أن على المثبت الدليل فالقضية سواء كانت سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية فلا بد لها من دليل وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم فقول القائل: أنه لا تحصل هذه التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية فمن أين لهم ذلك وإذا كان هذا قولا بلا علم كان في أول ما أسسوه القول بلا علم فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره

ص: 7

الثاني: أن يقال الحد يراد به نفس المحدود وليس هذا مرادهم ههنا ويريدون به القول الدال على ما هيه المحدود وهو مرادهم هنا وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال.

فيقال: إذا كان الحد قول الحاد فالحاد أما أن يكون قد عرف المحدود بحد وأما أن يكون عرفه بغير حد فان كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور القبلى أو التسلسل في الأسباب والعلل وهما ممتنعان باتفاق العقلاء وإن كان عرفه بغير حد بطل سلبهم وهو قولهم أنه لا يعرف إلا بالحد.

الثالث: أن الأمم جميعهم من أهل العلم والمقالات وأهل العمل والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود.

الرابع: أنه إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم بل أظهر الأشياء الإنسان وحده ب الحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة وكذلك حد الشمس وأمثال ذلك حتى أن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا ل الاسم بضعة وعشرين حدا وكلها معترض عليها على أصلهم بل أنهم ذكروا ل الاسم سبعين حدا لم يصح منها شيء كما ذكر ذلك ابن الأنباري المتأخر والأصوليون ذكروا ل القياس بضعة وعشرين حدا وكلها معترض على أصلهم وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة والاصوليين والمتكلمة معترضة على أصلهم وإن قيل بسلامة بعضها كان قليلا بل منتفيا فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور والتصديق موقوف على التصور فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم وهذا من أعظم السفسطة

ص: 8

الخامس: أن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الذي هو الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة وهو المركب من الجنس والفصل وهذا الحد أما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبا وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصورات عن الحد.

السادس: أن الحدود الحقيقية عندهم إنما تكون الحقائق المركبة وهي الأنواع التي لها جنس وفصل وأما ما لا تركيب فيه وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس كما م ثله بعضهم ب العقول فليس له حد وقد عرفوه وهو من التصورات المطلوبة عندهم فعلم استغناء التصورات عن الحد بل إذا أمكن معرفة هذه بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى لأنها أقرب إلى الحس وان أشخاصها مشهودة.

وهم يقولون أن التصديق لا يقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي بل يكفي فيه أدنى تصور ولو ب الخاصة وتصور العقول من هذا الباب وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يقف على الحد الحقيقي لكن يقولون الموقوف عليه هو تصور الحقيقة أو التصور التام وسنبين أن شاء الله أنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه وأنا نحن لا نتصور شيئا بجميع لوازمه حتى لا يشذ عنا منها شيء وأنه كلما كان التصور لصفات المتصور أكثر كان التصور أتم.

وأما جعل بعض الصفات داخلة في حقيقة الموصوف وبعضها خارجة فلا يعود إلى أمر حقيقي وإنما يعود ذلك إلى جعل الداخل ما دل عليه اللفظ ب التضمن والخارج اللازم ما دل عليه اللفظ ب اللزوم فتعود الصفات الداخلة في الماهية إلى ما دخل في مراد المتكلم بلفظه والخارجة اللازمة للماهية إلى ما يلزم مراده بلفظه وهذا أمر يتبع مراد المتكلم فلا يعود إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر للموصوف وقد بسطنا ألفاظهم في غير هذا الموضع وبينا ذلك بيانا مبسوطا يبين أن ما سموه الماهية أمر يعود إلى ما يقدر في الأذهان لا إلى ما يتحقق في الأعيان والمقدر في الأذهان بحسب ما يقدره كل أحد في ذهنه فيمتنع أن

ص: 9

تكون الحقائق الموجودة تابعة لذلك.

السابع: أن مستمع الحد يسمع الحد الذي هو مركب من ألفاظ كل منها لفظ دال على معنى فان لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات تلك الألفاظ ودلالتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام والعلم بأن اللفظ دال على المعنى أو موضوع له مسبوق بتصور المعنى فمن لم يتصور مسمى الخبر والماء والسماء والأرض والأب والأم لم يعرف دلالة اللفظ عليه وإذا كان متصورا لمسمى اللفظ ومعناه قبل استماعه وإن لم يعرف دلالة اللفظ عليه امتنع أن يقال أنه إنما تصوره باستماع اللفظ لأن في ذلك دورا قبليا إذ يستلزم أن يقال لم يتصور المعنى حتى سمع اللفظ وفهمه ولم يمكن أن يفهم المراد باللفظ حتى يكون قد تصور ذلك المعنى قبل ذلك وهذا كما أنه مذكور في دلالة الأسماء على مسمياتها المفردة فهو بعينه وارد في دلالة الحدود على المحدودات إذ كلاهما إنما يدل على معنى مفرد لكن الحد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال.

وقد يكون فيه عند المنطقين تفصيل صفاته المشتركة والمختصة وإن كان للمتكلمين في الحد طريق آخر إذ لا يحدون إلا ب الخاصة المميزة الفاصلة دون المشتركة بل يمنعون من التركيب الذي يوجبه المنطقيون وهو لعمري أقرب إلى المقصود كما سنبينه أن شاء الله تعالى ونبين أن فائدة الحدود التمييز لا التصوير.

وإذا كان المطلوب التمييز فإنما ذاك بالمميز فقط دون المشترك ولأنه كلما كان أوجز واجمع وأخص كان أحسن كالأسماء فليس الحد في الحقيقة إلا اسما من الأسماء أو اسمين أو ثلاثة كقولك: حيوان ناطق وكذلك قيل في تعليم آدم الأسماء كلها تعليم حدودها وهي من جنس الحدود المحدود المذكورة في قوله تعالى: {وَأَجْدَرُ إلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} التوبة

ص: 10

الثامن: أن الحد إذا كان هو قول الحاد فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ فان المتكلم قد يتصور معنى ما يقوله بدون لفظ والمستمع قد يمكنه تصور تلك المعاني من غير مخاطب بالكلية فكيف يمكن أن يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد الذي هو قول الحاد.

التاسع: أن الموجودات المتصورة أما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات وأما أن يتصورها بمشاعره الباطنة كما تتصور الأمور الحسية الباطنة الوجدية مثل الجوع والشبع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهية والعلم والجهل وأمثال ذلك وكل من الأمرين قد يتصوره معينا وقد يتصوره مطلقا أو عاما وهذه التصورات جميعها غنية عن الحد ولا يمكنه تصور شيء بدون مشاعره الظاهرة والباطنة وما غاب عنه يعرفه بالقياس والاعتبار بما شاهده.

العاشر: أنهم يقولون أن للمعترض أن يطعن على حد الحاد ب النقض والمعارضة.

والنقض أما في الطرد وأما في العكس أما الطرد فهو أنه حيث وجد الحد وجد المحدود فيكون الحد مانعا فإذا بين وجود الحد ولا محدود لم يكن مطردا ولا مانعا بل دخل فيه غيره كما لو قال في حد الإنسان أنه الحيوان وأما العكس وهو أن يكون حيث انتفى الحد انتفى المحدود لكون الحد جامعا وإذا لم يكن جامعا انتفى الحد مع بقاء بعض المحدود كما لو قال في حد الإنسان أنه العربي فلا يكون الحد منعكسا ولو استعمل لفظ الطرد في موضع العكس لكان سائغا والمقصود أنه لا بد من اتفاق الحد والمحدود في العموم والخصوص فلا بد أن يكون مطابقا للمحدود لا يدخل فيه ما ليس من المحدود ولا يخرج منه ما هو من المحدود فمتى كان أحدهما اعم كان باطلا بالاتفاق وسمى ذلك نقضا

ص: 11

فان النقض يرد على الحد والدليل والقضية الكلية والعلة لكن الدليل والقضية الكلية لا يجب فيهما الانعكاس إلا بسبب منفصل مثل المتلازمين إذا استدل بأحدهما على الآخر فهنا يكون الدليل مطردا منعكسا وأما الحد فلا بد فيه من الانعكاس.

والعلة أن كانت تامة وجب طردها وإن لم تكن تامة جاز تخلف الحكم عنها لفوات شرط أو وجود مانع ويسمى ذلك تخصيصا ونقضا أما وجود الحكم بلا علة فيسمى عدم عكس وعدم تاثير ونفس الحكم المتعلق بها ينتفي لا بانتفائها ولا يجب انتفاء نظيره إذا كان له علة أخرى فمجرد عدم الانعكاس لا يدل على فساد العلة إلا إذا وجد الحكم بدون العلة من غير أن تخلفها علة أخرى وهو في الحقيقة وجود نظير الشخص وهو نوعه فهنا تكون العلة عديمة التأثير فتكون باطلة وبهذا يظهر أن عدم التأثير مبطل لها وعدم الانعكاس ليس مبطلا لها فإنها إذا انتفت انتفى الحكم المعلق بها وإذا وجد الحكم بعلة أخرى فان كانت العلة مساوية هي كالآخرى فهي هي وإن كانت مجانبة لها فلا بد أن يختلف الحكم كما أن حل الدم كان اسم جنس فالحل الحاصل بالردة نوع غير النوع الحاصل بالزنا والحل الحاصل بالقتل فان الحل الحاصل بالقتل يجوز فيه الفداء والمعافاة والحل الحاصل بالردة يجوز فيه الغفران بالتوبة والحل الحاصل بالزنا فيه حد الرجم بالحجارة وبحضور شهود وكثير نظائر هذا فإلى في احد الحلين أن كان مماثلا للآخر فالعلتان واحدة وإن اختلف الحكم اختلف العلة وانتقاض الوضوء بالبول والغائط نوع واحد ليس هو من باب تغاير الحكم بعلتين كالقتل بالحدود قال المعترض: "هذه الأوصاف لا تأثير لها في حل الدم فان الردة وزنا المحصن وحراب الكافر الأصلي يبيح الدم مع انتفاء هذه الأوصاف" فيقال له: فان الحل وجد لسبب آخر لا لعدم تأثر هذه الأوصاف كما يستحق الابن

ص: 12

الإرث بالنسب والنكاح والولاء ويثبت الملك بالمعاوضة والإرث والإيهاب والاغتنام وتلك المباحات لو كان للمستدل فيجب القود فياسا على القتل لم يرد عليه هذا السؤال لأن الواجب بالردة والزنا ليس قودا.

وأما عدم التأثير مبطل لما هو العلة لأن تأثير الدلالة الذي يجمع فيه لا يدل على العلة فان الدليل لا يجب انعكاسه كما لو قال من يركب القياس في مسألة زكوة الصبي ملبوس فلا يجب له الزكاة كلباس الكبير قيل له لا تأثير لكونه لباسا لا في الفرع ولا في الأصل بل هذا الحكم ثابت عند أهل الشرع في جميع مال الصغير وهذه كلمات جوامع في هذه الكليات التي يكثر فيها اضطراب الناس.

وأما المعارضة للحد بحد آخر فظاهر.

فإذا كان المستمع للحد يبطله ب النقص تارة وب المعارضة أخرى ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب.

الحادي عشر: أن يقال هم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد وإلا لزم الدور أو التسلسل.

وحينئذ فيقال كون العلم بديهيا أو نظريا هو من الأمور النسبية الإضافية مثل كون القضية يقينية أو ظنية إذ قد يتيقن زيد ما يظنه عمرو وقد يبده زيدا من المعاني ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر وقد يكون حسيا لزيد من العلوم ما هو خبرى عند عمرو وإن كان كثير من الناس يحسب أن كون العلم المعين ضروريا أو كسبيا أو بديهيا أو نظريا هو من الأمور اللازمة له بحيث يشترك في ذلك جميع الناس وهذا غلط عظيم وهو مخالف للواقع.

فان من رأى الأمور الموجودة في مكانه وزمانه كانت عنده من الحسيات

ص: 13