الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقام الثالث: المقام السلبي في الأقيسة والتصديقات في قولهم "إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس
":
فصل:
وأما القياس فالكلام في المقامين أيضا.
المقام الأول: السلبي فنقول:
حصر العلم على القياس قول بغير علم:
قولهم: "إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس" الذي ذكروا صورته ومادته قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا فصاروا مدعين مالم يبينوه بل قائلين بغير علم إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم فمن اين لهم أنه لا يمكن أحدا من بني آدم أن يعلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟.
الفرق بين البديهي والنظري أمر نسبي محض:
والثاني: أن يقال: هم معترفون بما لا بد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي.
وإذا كان كذلك فالفرق بين البديهي والنظري إنما هو بالنسبة والإضافة
فقد يبده هذا من العلم ويبتدىء في نفسه ما يكون بديهيا له وإن كان غيره لا يناله إلا بنظر قصير أو طويل بل قد يكون غيره يتعسر عليه حصوله بالنظر وقد تقدم التنبيه على هذا في التصورات لكن نزيده هنا دليلا يختص هذا فنقول.
البديهي من التصديقات هو ما يكفى تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه فلا يتوقف على وسط يكون بينهما وهو الدليل الذي هو الحد الأوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا أو لم يكن.
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كبيرة وحينئذ فيتصور الطرفين تصورا تاما بحيث تتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لغيره الذي لم يتصور الطرفين التصور التام.
وذلك أن من الناس من يكون لم يتصور الطرفين إلا ببعض صفاتهما المميزة فيكون من تصورهما ببعض صفاتهما المشتركة مع ذلك سواء سميت ذاتية أو لم تسم عالما بثبوت تلك الصفات لهما وثبوت كثير مما يكون لازما لهما بخلاف من لم يتصور إلا الصفات المميزة.
بطلان التفريق بين الذاتي واللازم لثبوت كل منهما بغير وسط.
وذلك أنهم قرروا في المنطق أن من اللوازم ما يكون لازما بغير وسط فهذا يعلم بنفس تصور الملزوم.
والوسط المذكور في هذه المواضع هو عند ابن سينا ومحققيهم هو الدليل
وهو الحد الأوسط.
وهذا يختلف باختلاف الناس فقد يحتاج هذا في العلم ب الملزوم إلى دليل بخلاف الآخر.
ومن لم يفهم مرادهم في هذا الموضع يظن أنهم أرادوا ب الوسط ما هو وسط في نفس الموصوف بحيث يكون ثبوت الوصف اللازم ل الملزوم بواسطته لا يثبت بنفسه كما قد فهم ذلك عنهم طائفة منهم الرازي وغيره وهذا مع أنه غلط عليهم كما بينا ألفاظهم في غير هذا الموضع فهو أيضا باطل في نفسه.
ولا ريب أن من اللوازم ما يفتقر إلى وسط ومنها ما لا يفتقر إلى وسط عندهم وهذا احد الفروق الثلاثة التي فرقوا بها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية وقد أبطلوا هذا الفرق ويعبر بعضهم عن هذا الفرق ب التعليل كما يعبر به ابن حاجب.
فإذا كان في اللوازم ما هو ثابت في نفس الأمر بغير وسط ولا علة لم يبق هذا فرقا بين الذاتي وبين هذه اللوازم فبطلت التصديق بهذا لكن من تصور الذات بهذه اللوازم فتصوره أتم ممن لم يتصورها بهذه اللوازم.
وإذا كان المراد ب الوسط الدليل الذي يعلل به الثبوت الذهني لا الخارجي فهذا يختلف باختلاف الناس ولا ريب أن ما يستدل به سواء سمى قياسا أو برهانا أو غير ذلك قد يكون هو علة لثبوت الحكم في نفس الأمر ويسمى قياس العلة وبرهان العلة وبرهان لم وقد لا يكون كذلك وهو الدليل المطلق ويسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة وبرهان أن وهذا مراد ابن سينا وغيره ب الوسط وهذا مما تختلف فيه أحوال الناس
فالتفريق بين الذاتي والعرضي اللازم أبعد ولهذا أبطل ابن سينا الفرق بهذا كما قد ذكرنا لفظه في موضع آخر فانه على التفسيرين من اللوازم ما يثبت بغير وسط.
فإذا قيل الذاتي ما يثبت بغير وسط وقد عرف أن من اللوازم ما ثبت بغير وسط تبين بطلان هذا الفرق على كل تقدير.
اختلاف أحوال الناس في احتياجهم وعدم احتياجهم إلى الدليل:
وأما كون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض فهذا أمر بين فان كثيرا من الناس تكون القضية عنده حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة وغيره إنما عرفه بالنظر والاستدلال.
ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول ل الموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غنى عنها حتى يضرب له أمثالا ويقول له أليس كذا أليس كذا ويحتج عليه من الأدلة العقلية والسمعية بما يكون حدا أوسط عند المخاطب مما لا يحتاج إليه المستدل بل قد يعلم الشيء ب الحس ويستدل على ثبوته لغيره ب الدليل.
وهذا أكبر من أن يحتاج إلى تمثيل فما أكثر من يرى الكواكب ويرى الهلال وغيره فيقول قد طلع الهلال وتكون هذه القضية له حسية وقد تكون عند غيره مشكوكا فيها أو مظنونة أو خبرية بل قد يظنها كذبا إذا صدق المنجم الخارص القائل أنه لا يرى
بطلان منع المنطقيين الاحتجاج بالمتواترات والمجربات والحدسيات:
وقد ذكر من ذكر من هؤلاء المنطقيين أن القضايا المعلومة ب التواتر والتجربة والحدس يختص بها من علمها بهذه الطريق فلا تكون حجة على غيره بخلاف غيرها فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا تفريق فاسد.
فان الحسيات الظاهرة والباطنة تنقسم إلى خاصة وعامة وليس ما رآه زيد أو شمه أو ذاقة أو لمسة يجب اشتراك الناس فيه وكذلك ما وجده في نفسه من جوعه وعطشه وألمه ولذته ولكن بعض الحسيات قد تكون مشتركة بين الناس كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والكواكب وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل وجامع ونهر وغير ذلك من الأمور المخلوقة والمصنوعة.
وكذلك الأمور المعلومة ب التواتر والتجارب قد يشترك فيها عامة الناس كاشتراك الناس في العلم بوجود مكة ونحوها من البلاد المشهورة واشتراكهم في وجود البحر وأكثرهم ما رآه واشتراكهم في العلم بوجود موسى وعيسى ومحمد وادعائهم النبوة ونحو ذلك فان هؤلاء قد تواتر خبرهم إلى عامة بني آدم وإن قدر من لم يبلغه أخبارهم فهم في أطراف المعمورة لا في الوسط.
المجربات تحصل بالحس والعقل:
وكذلك المجربات فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري وأن قطع العنق يحصل معه الموت وأن الضرب الشديد يوجب الألم.
والعلم بهذه القضية الكلية تجربي فان الحس إنما يدرك ريا معينا وموت شخص معين وألم شخص معين أما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك
فهذه القضية الكلية لا تعلم ب الحس بل بما يتركب من الحس والعقل وليس الحس هنا هو السمع.
وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله تجربيات وبعضهم يجعله نوعين تجربيات وخدسيات فان كان الحس المقرون ب العقل من فعل الإنسان كأكله وشربه وتناوله الدواء سماه تجربيا وإن كان خارجا عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه حدسيا والأول أشبه باللغة فان العرب تقول رجل مجرب بالفتح لمن جربته الأمور وأحكمته وإن كانت تلك من أنواع البلايا التي لا تكون باختياره.
وذلك أن التجربة تحصل بنظره واعتباره وتدبره كحصول الأثر المعين دائرا مع المؤثر المعين دائما فيرى ذلك عاده مسمرة لا سيما أن شعر بالسبب المناسب فيضم المناسب إلى الدوران مع السبر والتقسيم فانه لا بد في جميع ذلك من السبر والتقسيم الذي ينفى المتزاحم وإلا فمتى حصل الأثر مقرونا بأمرين لم تكن إضافته إلى أحدهما دون الآخر بأولى من العكس ومن إضافته إلى كليهما.
وما يحتج به الفقهاء في إثبات كون الوصف علة للحكم من دوران ومناسبة وغير ذلك إنما يفيد المقصود مع نفى المزاحم وذلك يعلم ب السبر والتقسيم فان كان نفى المزاحم ظنيا كان اعتقاد العلية ظنيا وإن كان قطعيا كان الاعتقاد قطعيا إذا كان قاطعا بأن الحكم لا بد له من علة وقاطعا بأنه لا يصلح للعلة إلا الوصف الفلاني.
وهكذا القضايا العادية من قضايا الطب وغيرها هي من هذا الباب وكذلك قضايا النحو والتصريف واللغة من هذا الباب ولكن في اللغة يدور المعنى مع اللفظ لا هذا الباب وفي النحو والتصريف يدور الحكم مع النوع وهذا كالعلم بأن أكل الخبز ونحو هـ يشبع وشرب الماء ونحوه يروى ولبس الحشايا
يوجب الدفأ والتجرد من الثياب يوجب البرد ونحو ذلك.
لكن من لا يثبت الأسباب والعلل من أهل الكلام كالجهم وموافقيه في ذلك مثل أبي الحسن وأتباعه يجعلون المعلوم اقتران احد الأمرين بالآخر لمحض مشيئة القادر المريد من غير أن يكون أحدهما سببا للآخر ولا مولدا له.
وأما جمهور العقلاء من المسلمين وغير المسلمين وأهل السنة من أهل الكلام والفقة والحديث والتصوف وغير أهل السنة من المعتزلة وغيرهم فيثبتون الأسباب ويقولون كما يعلم اقتران أحدهما بالآخر فيعلم أن في النار قوة تقتضى التسخين وفي الماء قوة تقتضى التبريد وكذلك في العين قوة تقتضى الأبصار وفي اللسان قوة تقتضى الذوق ويثبتون الطبيعة التي تسمى الغريزة والنحيزة والخلق والعادة ونحو ذلك من الأسماء.
ولهذا كان السلف كأحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما يقولون العقل غريزة وأما نفاة الطبائع فليس العقل عندهم إلا مجرد العلم كما هو قول أبى الحسن الأشعري والقاضي أبى بكر والقاضي أبى يعلى وأبن عقيل وأبي الخطاب والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم وإن كان بعض هؤلاء قد يختلف كلامهم فيثبتون في موضع آخر الغرائز والأسباب كما هو مذهب الفقهاء والجمهور.
فالمقصود أن لفظ التجربة يستعمل فيما جربه الإنسان ب عقله وحسه وإن لم يكن من مقدوراته كما قد جربوا أنه إذا طلعت الشمس انتشر الضوء في الآفاق وإذ غابت أظلم الليل وجربوا أنه إذا بعدت الشمس عن سمت رؤؤسهم جاء البرد وإذا جاء البرد سقط ورق الأشجار وبرد ظاهر الأرض وسخن باطنها وإذا قربت من سمت رؤوسهم جاء الحر وإذا جاء الحر أورقت الأشجار وأزهرت فهذا أمر يشترك في العلم به جميع الناس لما قد اعتادوه وجربوه
ثم يعلم من يثبت الأسباب أن سبب ذلك أن شبيه الشيء منجذب إليه وضده هارب منه فإذا برد الهواء برد ظاهر الأرض وظاهر ما عليها فهربت السخونة إلى البواطن فيسخن جوف الأرض ويسخن الماء الذي في جوفه ولهذا تكون الينابيع في الشتاء حارة وتكون أجواف الحيوان حارة فتأكل في الشتاء أكثر مما تأكل في الصيف بسبب هضم الحرارة للطعام وإذا كان الصيف سخن الهواء فسخنت الظواهر وهربت البرودة إلى البواطن فيبرد باطن الأرض وأجواف الحيوان وتبرد الينابيع ولهذا يكون الماء النابع في الصيف ابرد منه في الشتاء ويضعف الهضم للطعام.
فهذه القضايا ونحوها مجربات عاديات وإن كان كثير منها يقع بغير فعل بنى آدم.
وكذلك ما علم من سنة الله تعالى من نصر أنبيائه وعباده المؤمنين وعقوباته لأعدائه الكافرين هو مما قد علم ويحصل به الاعتبار وإن لم يكن ذلك مما يقدر عليه المجرب نفسه وقد يعلم الإنسان من فعل غيره ما يحصل له به العلم التجربي وإن لم يكن له قدرة على فعل الغير.
وأيضا فالسبب المقتضى للعلم ب المجربات هو يكرر اقتران أحد الأمرين بالآخر أما مطلقا وأما مع الشعور بالمناسب وهذا القدر يشترك فيه ما تكرر بفعله وما تكرر بغير فعله فكونه بفعله وصف عديم التأثير في اقتضاء العلم فلا يحتاج أن يجعل هذا نوعا غير النوع الآخر مع تساويهما في السبب المقتضى للعلم إلا لبيان شمول المجربات لهذين الصنفين كما يقال في الحسيات أنها تتناول ما أحسه ببصره وسمعه وشمه وذوقه ولمسه ونحو ذلك.
مع أن الفرق الذي بين أنواع الحسيات تختلف فيه أنواع العلوم أعظم مما تختلف في هذا فان البصر يرى غير مباشرة المرئي والذوق والشم واللمس
لا يحصل له الإحساس إلا بمباشرة المحسوس والسمع وإن كان يحس الأصوات فالمقصود الأعظم به معرفة الكلام وما يخبر به المخبرون من العلم.
وهذا سبب تفضيل طائفة من الناس ل السمع على البصر كما ذهب إليه ابن قتيبة وغيره وقال الأكثرون البصر أفضل من السمع والتحقيق أن إدراك البصر أكمل كما قاله الأكثرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المخبر كالمعاين" لكن السمع يحصل به من العلم لنا أكثر مما يحصل بالبصر ف البصر أقوى وأكمل والسمع أعم وأشمل.
وهاتان الحاستان هما الأصل في العلم بالمعلومات التي يمتاز بها الإنسان عن البهائم.
ولهذا يقرن الله بينهما الفؤاد في مواضع:
كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أولئك كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضل أولئك هُمُ الْغَافِلُونَ} وقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} في حق المنافقين وقال في حق الكافرين {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليه وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب} وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} ونظائر هذا متعددة.
وأما الشم والذوق واللمس فحس محض لا يحصل إلا بمباشرة الحيوان لذلك فالثلاثة كالجنس الواحد وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أول مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالجلود أن خصت باللمس لم يدخل فيها الشم والذوق وإن قيل بل يدخل فيها عمت الجميع وإنما ميزت عن اللمس لاختصاصها ببعض الأعضاء وبنوع من المدركات وهو الطعوم والروائح فان سائر البدن لا يميز بين طعم وطعم وريح وريح ولكن يميز بين الحار والبارد واللين والصلب والناعم
والخشن ويميز بين ما يلتذ به وبين ما يتألم ونحو ذلك.
والمقصود أنهم جعلوا المجربات والمتواترات مما يختص به من حصل له ذلك فلا يصلح أن يحتج به على غيره وهذه قد يحصل فيها اختصاص واشتراك كما أن الحسيات كذلك قد يحصل فيها اختصاص واشتراك.
وأيضا فالاشتراك قد يكون في عين المعلوم المدرك وقد يكون في نوعه فالأول كاشتراك الناس في رؤية الشمس والقمر وغيرهما والثاني كاشتراكهم في معرفة الجوع والعطش والري والشبع واللذة والألم.
فان المعين الذي ذاقه هذا الشخص ليس هو المعين الذي ذاقه هذا إذ كل إنسان يذوق ما في باطنه ولكن يشترك الناس في معرفة جنس ذلك.
وما يسمونه من الرعد وما يرونه من البرق يشترك أهل المكان الواحد في رؤية المعين وسمعه ويشترك الناس في رؤية النوع وسمعه إذ الرعد والبرق الذي يحصل في زمان ومكان يكون غير ما يحصل في زمان آخر ومكان آخر.
ومن المحسوسات المعروفة بالرؤية أنواع كثيرة من الحيوان والنبات وغير ذلك يوجد ببعض البلاد دون بعض فتكون مشهورة ومرئية لمن رآها دون سائر الناس فإنهم إنما يعلمون ذلك ب الخبر وذلك الخبر قد يكون المشتركون فيه أكثر من المشتركين في الرؤية.
فتبين أن القضايا الحسية والمتواترة والمجربة قد تكون مشتركة وقد تكون مختصة فلا معنى للفرق بأن هذه يحتج بها على المنازع دون هذه.
إنكار المتواترات هو من أصول الإلحاد والكفر:
ثم هذا الفرق مع ظهور بطلانه هو من أصول الإلحاد والكفر فان المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها يقول احد هؤلاء
بناء على هذا الفرق: "هذا لم يتواتر عندي فلا يقوم به الحجة على" فيقال له "اسمع كما سمع غيرك وحينئذ يحصل لك العلم".
وإنما هذا كقول من يقول رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس وأنا لم أره فيقال له أنظر إليه كما نظر غيرك فتراه إذا كنت لم تصدق المخبرين.
وكمن يقول: "العلم بالنبوة لا يحصل إلا بعد النظر وأنا لا أنظر أو لا أعلم وجوب النظر حتى أنظر".
ومن جواب هؤلاء أن حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم فليس من شرط حجة الله تعالى علم المدعوين بها.
ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة.
فلذلك قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} .
ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث والسنة من الآثار النبوية والسلفية المعلومة عندهم بل المتواترة عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان.
فان هؤلاء يقولون: "هذه غير معلومة لنا" كما يقول من يقول من الكفار أن معجزات الأنبياء غير معلومة لهم وهذا لكونهم لم يطبلوا السبب الموجب للعلم بذلك وإلا فلو سمعوا ما سمع أولئك وقرأوا الكتب المصنفة التي قرأها أولئك تحصل لهم من العلم ما حصل لأولئك.
وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود فهم إذا لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علما منهم بعدم ذلك ولا بعدم علم غيرهم به بل هم كما قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} .
وتكذيب من كذب بالجن هو هذا الباب وإلا فليس عند المتطيب والمتفلسف دليل عقلي ينفي وجودهم لكن غايته أنه ليس في صناعته ما يدل على وجودهم وهذا إنما يفيد عدم العلم لا العلم بالعدم وقد اعترف بهذا حذاق الأطباء والفلاسفة كأبقراط وغيره.
والمقصود هنا التنبيه على كليات طرق العلم التي تكلم فيها هؤلاء وغيرهم
شرك الفلاسفة أشنع من شرك الجاهلية:
ولهذا لما صنف طائفة في تقدير الشرك على أصولهم وأثبتوا الشفاعة التي يثبتها المشركون كان شرك هؤلاء شرا من شرك مشركي العرب وغيرهم.
فان مشركي العرب وغيرهم ممن يقر بأن الرب فاعل بمشيئته وقدرته وأنه خالق كل شيء وأن السموات والأرض مخلوقة لله ليست مقارنة له في الوجود دائمة بدوامه كانوا يعبدون غير الله ليقربوهم إليه زلفى ويتخذونهم شفعاء يشفعون لهم عند الله بمعنى أنهم يدعون الله لهم فيجيب الله دعاءهم له وهؤلاء المشركون الذين بين القرآن كفرهم وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شركهم.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوليَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أقرب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} قالت طائفة من السلف: "كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال تعالى هؤلاء الذين تدعونهم يتوسلون إلى كما تتوسلون إلى ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .
ومثل هذا في القران كثير.
والعرب كانوا مع شركهم وكفرهم يقولون أن الملائكة مخلوقون وكان من يقول منهم أن الملائكة بنات يقولون أيضا أنهم محدثون ويقولون أنه صاهر إلى الجن فولدت له الملائكة.
وقولهم من جنس قول النصارى في أن المسيح ابن الله مع أن مريم أمه ولهذا قرن سبحانه بين هؤلاء وهؤلاء.
وقول هؤلاء الفلاسفة شر من قول هؤلاء كلهم.
فان الملائكة عند من آمن بالنبوات منهم هي العقول العشرة وتلك عندهم قديمة أزلية والعقل رب كل ما سوى الرب عندهم وهذا لم يقل مثله احد من اليهود والنصارى ومشركي العرب لم يقل احد أن ملكا من الملائكة رب العالم كله.
ويقولون أن العقل الفعال مبدع لما تحت فلك القمر وهذا أيضا كفر لم يصل إليه احد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب
وهؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا واتباعه كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن وافقهم من القرامطة والباطنية من الملاحدة والجهال الذين دخلوا في الصوفية وأهل الكلام كأهل وحدة الوجود وغيرهم.
يجعلون الشفاعة مبنية على ما يعتقدونه من أن الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته وليس عالما بالجزئيات ولا يقدر أن يغير العالم بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه.
فيقولون إذا توجه المستشفع إلى من يعظمه من الجواهر العالية كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر أو إلى النفوس المفارقة مثل بعض
الصالحين فانه يتصل بذلك المعظم المستشفع به فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا المستشفع من جهة شفيعة.
ويمثلونه بالشمس إذا طلعت على مرآة فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع فذلك الشعاع حصل له بمقابلة المرآة وحصل للمرآة بمقابلة الشمس.
فهذا الداعي المستشفع إذا توجه إلى شفيعه أشرق عليه من جهته مقصود الشفاعة وذلك الشفيع يشرق عليه من جهة الحق.
ولهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى عند القبور وغير القبور ويتوجهون إليهم ويستعينون بهم ويقولون أن أرواحنا إذا توجهت إلى روح المقبور في القبور اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته.
وكثير منهم ومن غيرهم من الجهال يرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم أفضل من الصلوات الخمس والدعاء في المساجد وأفضل من حج البيت العتيق.
ومعلوم أن كفر هؤلاء بما يقولونه في الشفعاء أعظم من كفر مشركي العرب بما قالوه فيهم لأن كلتي الطائفتين عبدوا من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله لكن العرب اقروا بأن الله عالم بهم قادر عليهم يخلق بمشيئته وقدرته وقالوا أن هؤلاء ينفعونا بدعائهم لنا.
وأما مشركوا الفلاسفة كما ذكره ابن سينا ومن اتبعه فيقولون أن من يستشفع به لا يدعو الله لنا بشئ والله لا يعلم دعاءنا ولا دعاءه ولا يسمع نداءنا ولا نداءه بل ولا يعرف بنا ولا نراه ولا يعرف به فانا نحن من الجزئيات والله لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يقدر على تغيير شيء من العالم ولا يفعل بمشيئته
لكن قالوا لكن نحن إذا توجهنا إلى هؤلاء بالدعاء لهم والسؤال منهم بل وبالعبادة لهم فاض علينا ما يفيض منهم وفاض عليهم ما يفيض من جهة الله.
ثم أن طائفة من أهل الكلام يردون عليهم باطلهم بقول باطل فيردون فاسدا بفاسد وإن كان أحدهما أكثر فسادا مثل إنكار كثير منهم لكثير من الأمور الرياضية كاستدارة الفلك وغير ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة وآثار السلف مع دلالة العقل.
أو يفعلون كما فعله الشهرستاني في الملل والنحل حيث اخذ يذكر المفاضلة بين الأرواح العلوية وبين الأنبياء ويجعل إثبات هذه وسائط أولى من تلك تفضيلا لأقوال الحنفاء على أقوال الصابئة وهذا غلط عظيم.
فان الحنفاء لا يثبتون بين الله وبين مخلوقاته واسطة في عبادته وسؤاله وإنما يثبتون الوسائط في تبليغ رسالاته فأصل الحنفاء شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا وغيره من الرسل رسل الله.
وأما الوسائط التي يثبتها المشركون فيجعلون الملائكة معبودين وهذا كفر وضلال وتوسط الملائكة بمعنى تبليغ رسالات الله أو بمعنى أنهم يفعلون ما يفعلونه بإذن الله مما اتفق عليه الحنفاء.
ومعلوم أن المشركين من عباد الأصنام وغيرهم كانت الشياطين تضلهم فتكلمهم وتقضى لهم بعض حوائجهم وتخبرهم بأمور غائبة عنهم.
وكان للكهان شياطين تخبرهم وتأمرهم وإن كان الكذب فيما يقولونه أكثر من الصدق.
وهكذا المشركون في زماننا الذين يدعون غير الله كالشيوخ الغائبين والموتى تتصور لهم الشياطين في صور الشيوخ حتى يظنوا أن الشيخ حضر وأن الله صور
على صورته ملكا وأن ذلك من بركة دعائه وإنما يكون الذي تصور لهم شيطان من الشياطين.
وهذا مما نعرف أنه ابتلى في زماننا وغير زماننا خلق كثير أعرف منهم عددا وأعرف من ذلك وقائع متعددة.
والشياطين أيضا تضل عباد القبور كما كانت تضل المشركين من العرب وغيرهم.
وكانت اليونان من المشركين يعبدون الأوثان ويعانون السحر كما ذكروا ذلك عن أرسطو وغيره وكانت الشياطين تضلهم وبهم يتم سحرهم وقد لا يعرفونهم أن ذلك من الشياطين بل قد لا يقرون بالشياطين بل يظنون ذلك كله من قوة النفس أو من أمور طبيعية أو من قوى فلكية فان هذه الثلاثة هي أسباب عجائب العالم عند ابن سينا وموافقيه.
وهم جاهلون بما سوى ذلك من أفعال الشياطين الذين هم أعظم تأثيرا في العالم في الشر من هذا كله وجاهلون بملائكة الله الذين يجرى بسببهم كل خير في السماء والأرض. وما يدعونه من جعل الملائكة هي العقول العشرة أو هي القوى الصالحة في النفس وأن الشياطين هي القوى الخبيئة مما قد عرف فساده بالدلائل العقلية بل بالضرورة من دين الرسول.
فإذا كان شرك هؤلاء وكفرهم في نفس التوحيد وعبادة الله وحده أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم فأي كمال للنفس في هذه الجهالات.
وهذا وأمثاله يفتقر إلى بسط كثير وقد ذكرنا منه طرفا في مواضع غير هذا.
والمقصود هنا ذكر ما ادعاه هؤلاء في البرهان المنطقي
بطلان دعواهم لا بد في البرهان من قضية كلية:
وأيضا فإذا قالوا العلوم اليقينية النظرية لا تحصل إلا ب البرهان الذي هو عندهم قياس شمولي وعندهم لا بد فيه من قضية كلية موجبة.
ولهذا قالوا لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شيء من أنواع القياس لا بحسب صورته كالحملي والشرطي المتصل والمنفصل ولا بحسب مادته لا البرهاني ولا الخطابي ولا الجدلي بل ولا الشعري.
فيقال إذا كان لا بد في كل ما يسمونه برهانا من قضية كلية فلا بد من العلم بتلك القضية الكلية أي من العلم بكونها كلية وإلا فمتى جوز عليها أن لا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها والمهملة وهي المطلقة التي يحتمل لفظها أن يكون كلية وجزئية في قوة الجزئية.
وإذا كان لا بد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم ب قضية كلية موجبة فيقال.
العلم بتلك القضية أن كان بديهيا أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الأولى.
وإن كان نظريا احتاج إلى علم بديهي فيفضى إلى الدور المعي أو التسلسل في أمور لها مبدأ محدود فان علم ابن آدم إذا توقف على علم منه وعلمه على علم منه فعلمه له مبدأ لأنه نفسه مبدأ ليس هذا ك تسلسل الحوادث الماضية وأيضا فانه تسلسل في المؤثرات وكلاهما باطل.
وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان ويسمونها الواجب قبولها سواء كانت حسية ظاهرة أو باطنة وهي التي يحسها بنفسه
أو كانت من المجربات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من اليقينيات الواجب قبولها.
مثل العلم بكون ضوء القمر مستفادا من الشمس إذا رأى اختلاف أشكاله عند اختلاف محاذياته للشمس كما يختلف إذا فارقها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال وإذا كان ليلة الاستقبال عند الإبدار.
وهم متنازعون هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا.
ومثل العقليات المحضة كقولنا الواحد نصف الاثنين والكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشئ واحد متساية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان.
فما من قضية من هذه القضايا الكلية التي تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم ب النتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان بل هو الواقع كثيرا.
فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهما واحد فانه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين وهلم جرا في سائر القضايا المعينة من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية.
وكذلك كل كل وجزء يمكن العلم بأن هذا الكل أعظم من جزئه بدون توسط القضية الكلية.
وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فانه يعلم أنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان فكل أحد يعلم أن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ولا يخلو من الوجود والعدم كما يعلم المعين الآخر ولا يحتاج ذلك إلى أن يستدل عليه بأن كل شيء لا يكون موجودا معدوما معا.
وكذلك الضدان فان الإنسان يعلم أن هذا الشيء لا يكون اسود أبيض ولا يكون متحركا ساكنا كما يعلم أن الآخر كذلك ولا يحتاج في العلم بذلك
إلى قضية كلية بان كل شيء لا يكون اسود أبيض ولا يكون متحركا ساكنا وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فان علم تضاد المعينين علم أنهما لا يجتمعان وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية وهي علمه بأن كل ضدين لا يجتمعان فان العلم بالقضية الكلية يفيد العلم ب المقدمة الكبرى المشتملة على الحد الأكبر وذلك لا يغنى بدون العلم ب المقدمة الصغرى المشتملة على الحد الأصغر والعلم بالنتيجة وهو أن هذين المعينين ضدان فلا يجتمعان يمكن بدون العلم بالمقدمة الكبرى وهو أن كل ضدين لا يجتمعان فلم يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان.
وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما يسمونه هم البرهان وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل على القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه.
مثال ذلك أنه إذا أريد إبطال قول من يثبت الأحوال ويقول أنها لا موجودة ولا معدومة فقيل هذان نقيضان وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان فان هذا جعل للواحد لا موجودا ولا معدوما ولا يمكن جعل شيء من الأشياء لا موجودا ولا معدوما في حال واحدة فلا يمكن جعل الحال لا موجودة ولا معدومة كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودا معدوما ممكنا بدون هذه القضية الكلية فلا يفتقر العلم ب النتيجة إلى البرهان.
وكذلك إذا قيل أن هذا ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح لوجوده على عدمه على اصح القولين أو لأحد طرفيه على قول طائفة من الناس أو قيل هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث فتلك القضية الكلية وهى قولنا كل محدث لا بد له من محدث وكل ممكن لا بد له مرجح يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها فيعلم أن هذا المحدث لا بد له من محدث وهذا
الممكن لا بد له من مرجح.
فان شك عقله وجوز أن يحدث هو بلا محدث احدثه أو أن يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده جوز ذلك في غيره من المحدثات والممكنات بطريق الأولى وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه ب النتيجة المعينة وهو قولنا وهذا محدث فله محدث أو هذا ممكن فله مرجح إلى العلم بالقضية الكلية فلا يحتاج إلى القياس البرهاني.
ومما يوضح هذا أنك لا تجد أحدا من بني آدم يريد أن يعلم مطلوبا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي.
فساد قولهم بأنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين:
ولهذا لا تجد أحدا من سائر أصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول.
ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة وقد يكون مقدمتين وقد يكون مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل إذ حاجة الناس تختلف.
وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال أنه لا بد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما ولا يحتاج إلى أكثر منهما كما يقوله من يقوله من المنطقيين.
وهذا ينبغي أن تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الأنبياء فانه يظهر بها فساد منطقهم.
الكلام على تمثيلهم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام.
وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بأقوال الأنبياء فانه يظهر الاحتياج إلى القضية
الكلية كما إذا أردنا بيان تحريم النبيذ المتنازع فيه فقلنا النبيذ مسكر وكل مسكر حرام أو قلنا أنه خمر وكل خمر حرام.
فقولنا النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وقولنا كل خمر حرام يعلم بالنص والإجماع وليس في ذلك نزاع وإنما النزاع في المقدمة الصغرى وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام.
وفي لفظ كل مسكر خمر وكل خمر حرام وقد يظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة ب المقدمتين كما يفعله المنطقيون وهذا جهل عظيم ممن يظنه فان النبي صلى الله عليه وسلم أجل قدرا من أن يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم.
بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء أمته لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون الاستدلال ويقولون هؤلاء قوم كانوا يحسنون الصناعات كالحساب والطب ونحو ذلك وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الإلهية فلم يكونوا من رجالها.
وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم وبسطوا الكلام عليهم.
وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون فلا يحتاجون إلى معرفة ذلك ب القياس.
وإنما شك بعضهم في أنواع من الأشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قيل:
يا رسول الله عندنا شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر؟ قال: -وكان قد أوتى جوامع الكلم- فقال: "كل مسكر حرام" فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم وبين أيضا أن كل ما يسكر فهو خمر.
وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر متوقفا على العلم بهما جميعا.
فان من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام " وهو من المؤمنين به علم أن النبيذ المسكر حرام ولكن قد يحصل له الشك هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر وهذا شك في مدلول قوله فإذا علم مراده صلى الله عليه وسلم علم المطلوب.
وكذلك إذا علم أن النبيذ خمر والعلم بهذا أو كد في التحريم فان من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرا فإذا علم بالنص أن كل مسكر خمر كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الإيمان الذين يعلمون أن الخمر محرم وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول فهذا لا يستدل بنصه.
وإن علم أن محمدا رسول الله لكن لم يعلم أنه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله كل مسكر خمر بل ينفعه قوله كل مسكر حرام وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر لأن الخرم والمسكر اسمان لمسمى واحد عند الشارع وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر.
وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية بل التنبيه على التمثيل فان
هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين.
التمثيل بصور مجردة عن المواد المعينة:
والمنطقيون يمثلون بصور مجردة عن المواد لا تدل على شيء يعينه لئلا يستفاد العل بالمثال من صورته المعينة كما يقولون:
كل أ: ب، وكل ب: ج، فكل أ: ج.
لكن المقصود هو العلم المطلوب من المواد المعينة فإذا جردت يظن الظان أن هذا يحتاج إليه في المعينات وليس الأمر كذلك.
بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم ب المعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفا على البرهان.
فالقضايا النبوية لا تحتاج إلى القياس العقلى الذي سموه برهانا وما يستفاد بالعقل من العلوم أيضا لا يحتاج إلى قياسهم البرهاني فلا يحتاج إليه لا في العقليات ولا في السمعيات.
فامتنع أن يقال لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه.
العلوم الحسية لا تكون إلا جزئية معينة:
ومما يوضح ذلك أن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار لم ندرك أن كل نار محرقة فإذا جعلنا هذه قضية كلية وقلنا كل نار محرقة لم يكن لنا طريق يعلم به صدق هذه القضية الكلية علما يقينيا إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى.
وإن قيل ليس المراد العلم ب الأمور المعينة فان البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية فالنتائج المعلومة ب البرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك
والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان.
قيل فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشئ موجود بل بأمور مقدرة في الأذهان لا يعلم تحققها في الأعيان وإذا لم يكن في هذا علم بشئ موجود لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدا بل عديم المنفعة.
وهم لا يقولوك بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجة الطبيعية والإلهية.
ولكن حقيقة الأمر كما بيناه في غير هذا الموضع أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة بل الأكثرية فلا تفيد مقصود البرهان.
وأما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان.
ولهذا حدثونا بإسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب كشف أسرار المنطق والموجز وغيرهما أنه قال عند الموت: "أموت وما عرفت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر" ثم قال: "الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئا" وكذلك حدثونا عن آخر من أفاضلهم.
فهذا أمر يعرفه كل من خبرهم ويعرف أنهم اجهل أهل الأرض بالطرق التي ينال بها العلوم العقلية والسمعية إلا من علم منهم علما من غير الطريق المنطقية فتكون علومه من تلك الجهة لا من جهتهم مع كثرة تعبهم في البرهان الذين يزعمون أنهم يزنون به العلوم ومن عرف منهم بشئ من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق
القضايا الكلية تعلم بقياس التمثيل:
ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم أن يقال إذا كان لا بد في برهانهم من قضية كلية فالعلم بتلك القضية الكلية لا بد له من سبب فان عرفوها ب اعتبار الغائب بالشاهد وان حكم الشيء حكم مثله كما إذا عرفنا أن هذا النار محرقة علمنا أن النار الغائبة محرقة لأنها مثلها وحكم الشيء حكم مثله فيقال.
هذا استدلال ب قياس التمثيل وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن فإذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل رجعوا في اليقين إلى ما يقولون أنه لا يفيد إلا الظن.
وإن قالوا بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم الكلى من واهب العقل أو تستعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلى من واهب العقل أو قالوا من العقل الفعال عندهم أو نحو ذلك قيل لهم.
الكلام فيها به يعلم أن ذلك الحكم الكلى الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل.
فان قالوا هذا يعلم بالبديهة والضرورة كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم وهذا أن كان حقا فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع.
فان جزم العقلاء ب الشخصيات من الحسيات أعظم من جزمهم ب الكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس والعلم ب الجزئيات
أسبق إلى الفطرة فجزم الفطرة بها أقوى ثم كلما قوى العقل اتسعت الكليات.
وحينئذ فلا يجوز أن يقال أن العلم ب الأشخاص موقوف على العلم ب الأنواع والأجناس ولا أن العلم ب الأنواع موقوف على العلم ب الأجناس بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك فلم يبق علمه ب أنه أو ب أن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفا على البرهان.
وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية.
استواء قياس التمثيل وقياس الشمول:
وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن وقياسهم هو الذي يفيد اليقين وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلف اليقين والظن بحسب المواد فالمادة المعينة أن كانت يقينية في أحدهما كانت يقينية في الآخر وإن كانت ظنية في أحدهما كانت ظنية في الآخر.
وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة الأصغر والأوسط والأكبر والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطا وجامعا ومشتركا وصفا ومقتضيا ونحو ذلك من العبارات.
فإذا قال في مسألة النبيذ كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلا بد له من إثبات المقدمة الكبرى وحينئذ يتم البرهان.
وحينئذ فيمكنه أن يقول النبيذ مسكر فيكون حراما قياسا على خمر العنب
بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار فان الإسكار هو مناط التحريم في الأصل وهو موجود في الفرع.
فيما به يقرر أن كل مسكر حرام به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى بل التقرير في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم.
فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات لا يكفى في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزئين لثبوته في الجزء الآخر لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم كما يظنه هؤلاء الغالطون بل لا بد من أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم والمشترك بينهما هو الحد الأوسط وهو الذي يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم.
وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبا في تقرير صحة القياس.
فان المعترض قد يمنع الوصف في الأصل وقد يمنع الحكم في الأصل وقد يمنع الوصف في الفرع وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم ويقول لا اسلم أن ما ذكرته من الوصف المشترك هو العلة أو دليل العلة فلا بد من دليل يدل على ذلك أما من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم الحكم أما علة وأما دليل العلة هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم الأكبر وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى فان اثبت العلة كان برهان علة وإن اثبت دليلها كان برهان دلالة وإن لم يفد العلم بل أفاد الظن فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية وهذا أمر بين.
ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولى كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلى وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر
رد القول بأنه لا قياس في العقليات إنما هو في الشرعيات:
ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم أن العقليات ليس فيها قياس وإنما القياس في الشرعيات ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقا فقولهم مخالف لقول جمهور نظار المسلمين بل وسائر العقلاء.
فان القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات فانه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم الحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي.
وأبو المعالي ومن قبله من نظار المتكلمين لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها من غير اعتبار ذلك.
غير أن المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزما للحكم كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل.
ومنازعهم يقول لم يثبت الحكم في الغائب لأجل ثبوته في الشاهد بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج إلى التمثيل.
فيقال لهم وهكذا في الشرعيات فانه متى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل بل نفس الدليل الدال على أن الحكم معلق بالوصف كاف لكن لما كان هذا كليا والكلى لا يوجد إلا معينا كان تعيين الأصل مما يعلم به تحقق هذا الكلى وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح ودليل صحيح في أي شيء كان.
تنازع الناس في مسمى القياس:
وقد تنازع الناس في مسمى القياس
فقالت طائفة من أهل الأصول: هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كابي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي وغيرهما.
وقالت طائفة: بل هو بالعكس حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل كابن حزم وغيره.
وقال جمهور العلماء بل هو حقيقة فيهما والقياس العقلي يتناولهما جميعا وهذا قول أكثر من تكلم في أصول الدين وأصول الفقه وأنواع العلوم العقلية وهو الصواب وهو قول الجمهور من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم كالشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وأمثالهما وكالقاضي أبي يعلى والقاضي يعقوب والحلواني وأبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم فان حقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر وإنما تختلف صورة الاستدلال.
والقياس في اللغة تقدير الشيء بغيره وهذا تتناول تقدير الشيء المعين بنظيره المعين وتقديره بالأمر الكلى المتناول له ولأمثاله فان الكلى هو مثال في الذهن لجزئياته ولهذا كان مطابقا موافقا له.
حقيقة قياس الشمول:
وقياس الشمول هو انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلى المتناول له ولغيره والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلى بأن ينتقل من ذلك الكلى اللازم إلى الملزوم الأول وهو المعين فهو انتقال من خاص إلى عام ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص من جزئى إلى كلى ثم من ذلك الكلى إلى الجزئي الأول فيحكم عليه بذلك الكلى.
ولهذا كان الدليل اخص من مدلوله الذي هو الحكم فانه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم واللازم لا يكون أخص من ملزومه
بل أعم منه أو مساويه وهو المعنى بكونه أعم.
والمدلول عليه الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع أما أخص من الدليل وأما مساويه فيطلق عليه القول بأنه اخص منه لا يكون أعم من الدليل إذ لو كان أعم منه لم يكن الدليل لازما له وإذا لم يكن لازما له لم يعلم أن لازم الدليل وهو الحكم لازم له فلا يعلم ثبوت الحكم له فلا يكون الدليل دليلا وإنما يكون إذا كان لازما ل المحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع والمبتدأ مستلزما الحكم الذي هو صفة وخبر وحكم وهو الذي يسمى المحمول والخبر.
هذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه وأخص من التحريم.
وقد يكون الدليل مساويا في العموم والخصوص للحكم ول محله.
وبأي صورة ذهنية أو لفظية صور الدليل فحقيقته واحدة وإن ما يعتبر في كونه دليلا هو كونه مستلزما للحكم لازما للمحكوم عليه فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك.
وهذا أمر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل ب الأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم فالعلم بذلك الملزوم لا بد أن يكون بينا بنفسه أو بدليل آخر.
حقيقة قياس التمثيل والموازنة بينه وبين قياس الشمول:
وأما قياس التمثيل فهو انتقال المذهن من حكم معين إلى حكم معين لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلى لأن ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلى ثم العلم بذلك الملزوم لا بد له من سبب إذا لم يكن بينا كما تقدم
فهنا يتصور المعينين أولا وهما الأصل والفرع ثم ينتقل إلى لازمهما وهو المشترك ثم إلى لازم اللازم وهو الحكم.
ولا بد أن يعرف أن الحكم لازم المشترك وهو الذي يسمى هناك قضية كبرى ثم ينتقل إلى إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين.
فهذا هو هذا في الحقيقة وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه وإلا فالحقيقة التي بها صار دليلا وهو أنه مستلزم للمدلول حقيقة واحدة.
ومن ظلم هؤلاء وجهلهم أنهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسا على الإنسان ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به لخصوص المادة وهذا يرد عليه لو جعل قياس الشمول فانه لو قيل السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث لورد عليه هذه الاسئلة وزيادة.
ولكن إذا اخذ قياس الشمول في مادة معلومة بينة لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل بل قد يكون التمثيل أبين ولهذا كان العقلاء يقيسون به.
وكذلك قولهم في الحد أنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي لا يحصل به التمييز بين المحدود وغيره بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردا وعكسا بحيث يوجد حيث وجد وينتفى حيث انتفى فان الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردا وعكسا فكل ما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره وهذا هو الحد عند جماهير النظار ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد.
فإذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز فأرى رغيفا وقيل له هذا فقد يفهم أن هذا اللفظ يوجد فيه كل ما هو خبز سواء كان على صورة الرغيف أو غير صورته وقد بسط الكلام على ما
ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك.
وجد هذا في الأمثلة المجردة إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الأوسط هو الباء فقيل:
كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل ألف جيم.
ولكن يحتاج ذلك إلى إثبات القضية الكبرى مع الصغرى وإذا قيل.
كل ألف جيم قياسا عل الدال.
لأن الدال هي جيم.
وإنما كانت جيما لأنها باء.
والألف أيضا باء.
فتكون الألف جيما لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء.
كان هذا صحيحا في معنى الأول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الألف مع أن الحد الأوسط وهو الباء موجود فيهما.
دعواهم في البرهان أنه يفيد العلوم الكمالية:
فان قيل ما ذكرتموه من كون البرهان لا بد فيه من قضية كلية صحيح ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبا كليا ويقولون البرهان لا يفيد إلا الكليات.
ثم اشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل فهي التي تكمل بها النفس وتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير.
وإذا كان المطلوب هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير فتلك إنما تحصل ب القضايا العقلية الواجب قبولها بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب كما يقال كل إنسان حيوان وكل موجود فاما واجب وأما ممكن
ونحو ذلك من القضايا الكلية التي لا تقبل التغير.
أقسام العلوم عندهم ثلاثة:
ولهذا كانت العلوم عندهم ثلاثة:
- أما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم.
- وأما علم مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدورات المعدودة والمقدار والعدد.
- وأما ما يتجرد عن المادة فيهما وهو الإلهى وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض.
الجواهر الخمسة:
وانقسام الجوهر إلى ما هو حال، وما هو محل، وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، والى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك.
فالأول: هو الصورة.
والثاني: هو المادة وهو الهيولي ومعناه في لغتهم المحل.
والمركب منهما هو الجسم.
والثالث: هو النفس.
والرابع: هو العقل.
وهذه الخمسة أقسام الجوهر عندهم.
والأول مقالي يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرا وقالوا الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته والأول ليس كذلك فلا يكون جوهرا وهذا خالفو مما
فيه سلفهم ونازعوهم فيه نزاعا لفظيا ولم يأتوا بفرق صحيح معقول فان تخصيص أسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي.
وأولئك يقولون بل هو كل ما ليس في موضوع كما يقول المتكلمون كل ما هو قائم بنفسه أو كل ما هو متحيز أو كل ما قامت به الصفات أو كل ما حمل الاعراض ونحو ذلك.
وأما الفرق المعنوي فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل ودعواهم أن الأول وجود مقيدة بالسلوب أيضا باطل كما هو مبسوط في موضعه.
علم المقولات العشر:
مع أن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن هو تقسيم ابن سينا وأتباعه وأما أرسطو والمتقدمون فلا يقسمونه إلا إلى جوهر وعرض والممكن عندهم لا يكون إلا حادثا كما اتفق على ذلك سائر العقلاء وهذا العلم هو علم المقولات العشر وهو المسمى عندهم قاطيغورياس.
الأدلة على بطلان دعواهم في البرهان:
والمقصود هنا الكلام على البرهان فيقال:.
هذا الكلام وإن ضل به طوائف فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه ولكن ننبه هنا على بعض ما فيه وذلك من وجوه:
الوجه الأول: البرهان لا يفيد العلم بشئ من الموجودات.
الأول: أن يقال إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان وليس في الخارج إلا موجود معين لم يعلم
بالبرهان شيء من المعينات فلا يعلم به موجود أصلا بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان.
ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط وإن كانت هذه قضية كاذبة كما بسط في موضعه فليس هذا علما تكمل به النفس إذ لم تعلم شيئا من الموجودات ولا صارت عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا.
الوجه الثاني: لا يعلم بالبرهان واجب الوجود ولا العقول الخ.
الثاني: أن يقال اشرف الموجودات هو واجب الوجود ووجوده معين لا كلى فان الكلى لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه بل إنما علم أمر كلى مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود.
وكذلك الجواهر العقلية عندهم وهي العقول العشرة أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم كالسهروردى المقتول وأبى البركات وغيرهما كلها جواهر معينة لا أمور كلية فإذا لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيء منها
وكذلك الأفلاك التي يقولون أنها أزلية أبدية وهي معينة فإذا لم يعلم إلا الكليات لم تكن معلومة.
فلا يعلم لا واجب الوجود ولا العقول ولا شيء من النفوس ولا الأفلاك بل ولا العناصر ولا المولدات وهذه جملة الموجودات عندهم فأي علم هنا تكمل به النفس!
الوجه الثالث: ليس العلم الإلهي عندهم علما بالخالق ولا بالمخلوق.
الثالث: أن يقال العلم الأعلى عندهم الذي هو الفلسفة الأولى والحكمة العليا علم ما بعد الطبيعة باعتبار الاستدلال وما هو قبلها باعتبار الوجود وهو الذي يسميه طائفة منهم العلم الإلهي.
وموضوع هذا العلم هو الوجود المطلق الكلى المنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وجوهر وعرض.
إيراد لابن المطهر الحلى وتخطئة المصنف له عليه:
وقد أورد بعض المتأخرين من الشيعة المصنفين في علمهم ما ذكره أنه الأسرار الخفية في العلوم العقلية عليهم سؤالا قال: إن كان موضوعه كل موجود فلا يبحث فيه عن عوارض كل موجود وإن كان أخص من ذلك كالواجب والممكن فذلك جزء منه.
التقسيم نوعان: تقسيم الكل إلى أجزائه وتقسيم الكلى إلى جزئياته
فيقال له القسمة نوعان: قسمة الكلى إلى جزئياته وقسمة الكل إلى أجزائه والقسمة الثانية هي المعروفة في الأمر العام كما يقول العلماء باب القسمة ويذكرون قسمة المواريث والمغانم والأرض وغير ذلك ومنه قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} ومنه قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .
أما تقسيم الكلى إلى جزئياته فمثل قولنا الحيوان ينقسم إلى ناطق وأعجمي وهو قسمة الجنس إلى أنواعه والنوع إلى أشخاصه.
ولهذا كان النحاة إذا أرادوا أن يقسموا ما يقسمونه إلى اسم وفعل وحرف يختلف كلامهم فكثير منهم يقول الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف وهذا هو الذي يذكره قدماء النحاة.
فاعترض عليهم بعض من صنف في قوانين النحو كالكرولي وقالوا كل جنس قسم إلى أنواعه أو أنواع أشخاصه فالاسم المقسوم الأعلى صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست بأقسام له فصاروا يقولون الكلمة تنقسم إلى اسم وفعل وحرف ويقولون الكلمة جنس تحته أنواع الاسم والفعل والحرف.
وهذا الاعتراض خطأ ممن أورده لأن أولئك لم يقصدوا تقسيم الكلى إلى جزئياته وإنما قصدوا تقسيم الكل إلى أجزائه وهو التقسيم المعروف أولا في العقول واللغات كما إذا قلت هذه الأرض مقسومة فلفلان هذا الجانب ولفلان هذا الجانب كما قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} والكلام مركب من الأسماء والأفعال
والحروف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والأرض وكما أن بدن الإنسان مركب من أعضائه المتميزة وأخلاطه الممتزجة فتقسيمه إلى الأعضاء والأخلاط تقسيم كل إلى أجزائه ومثل هذا يمتنع أن يصدق فيه اسم المقسوم على الأجزاء فليس كل واحد من أعضائه بدنا ولا كل من أخلاطه بدنا ولا كل من أجزاء السقف بيتا وكذلك الوجه إذا قيل ينقسم إلى جبين وأنف وعين وخد وغير ذلك لم يكن كل واحد من هذه الأعضاء وجها ونظائر هذا كثيرة.
وأما الكلى فإنما يوجد في الذهن لا في الخارج فتبين أن تقسيم الأولين أظهر من تقسيم الآخرين.
معنى الكلمة والحرف في كلام العرب:
ثم أن الآخرين جعلوا أن الكلمة اسم جنس لهذه الأنواع ولفظ الكلمة لا يوجد في لغة العرب إلا اسما لجملة تامة اسمية أو فعلية كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " وقوله: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
...
…
...
وقوله في النساء: "أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} .
ومثل هذا كثير في كلام العرب.
وبعض متأخرى النحاة لما سمع بعض هذا قال وقد يراد ب الكلام الكلمة.
وليس الأمر كما زعمه بل لا يوجد في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة التي هي كلام ولا تطلق العرب لفظ كلمة ولا كلام إلا على جملة تامة ولهذا ذكر سيبويه أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا.
وأما تسمية الاسم وحده كلمة والفعل وحده كلمة والحرف وحده كلمة مثل هل وبل فهذا اصطلاح محض لبعض النحاة ليس هذا من لغة العرب أصلا وإنما تسمى العرب هذه المفردات حروفا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القران فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" والذي عليه محققوا العلماء أن المراد بالحرف الاسم وحده والفعل حرف المعنى لقوله: ألف حرف" وهذا اسم.
ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاء من زيد فقالوا: (زا) فقال نطقتم بالاسم وإنما الحرف زه ومنه قول أبي الأسود
الدؤلي وذكر له لفظه من الغريب وقال: "هذا حرف لم يبلغك" فقال: "كل حرف لم يبلغ عمك فافعل به كذا.
ولهذا ذكر سيبويه في أول كتابه التقسيم إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فجعل الفصل من النوع الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فميزه بقوله جاء لمعنى عن حروف الهجاء مثل (الف)(با)(تا) فان هذه حروف هجاء.
وهذه الألفاظ أسماء تعرب إذا عقدت وركبت ولكن إذا نطق بها قبل التركيب نطق بها ساكنة كما ينطق بأسماء العدد قبل التركيب والعقد فيقال واحد اثنان ثلاثة ولهذا يعلم الصبيان في أول الأمر اسما الحروف المفردة (اب ت ث) ثم المركبة وهو (ابجد هوز حطي) ويعلمون أسماء الأعداد واحد اثنان ثلاث.
عود إلى أصل الموضوع.
والمقصود هنا أن التقسيم نوعان تقسيم الكل إلى أجزائه وهو أشهرهما وأعرفهما في العقول واللغات والثاني تقسيم الكلي إلى جزئياته وهو التقسيم الثاني لأن الكليات هي المعقولات الثانية.
فإذا قال القائل الوجود الذي هو موضوع العلم الإلهي عندهم أما أن يكون كل موجود أو بعضه وهو الواجب أو الممكن كان هذا الحصر خطأ منه لأن موضوعه الوجود الكلي المنقسم إلى أنواعه لا الكل المنقسم إلى أجزائه ومعلوم أن الوجود الكلي يتكلمون في لواحقه الذاتيه لا في لواحق كل موجود.
العلم الأعلى عند المنطقيين ليس علما بموجود في الخارج:
لكن الذي تبين به خساسة ما عند القوم ونقص قدره أن هذا الوجود الكلي
إنما يكون كليا في الذهن لا في الخارج فإذا كان هذا هو العلم الأعلى عندهم لم يكن الأعلى عندهم علما بشيء موجود في الخارج بل علما بأمر مشترك بين جميع الموجودات وهو مسمى الوجود وذلك كمسمى الشيء والذات والحقيقة والنفس والعين والماهية ونحو ذلك من المعاني العامة ومعلوم أن العلم بهذا ليس هو علما بموجود في الخارج لا بالخالق ولا بالمخلوق وإنما هو علم بأمر مشترك كلي يشترك فيه الموجودات لا يوجد إلا في الذهن ومن المتصورات ما يشترك فيه الموجود والمعدوم كقولنا مذكور ومعلوم ومخبر عنه فهذا اعم من ذاك.
وهذا بخلاف العلم الأعلى عند المسلمين فانه العلم بالله الذي هو في نفسه أعلى من غيره من كل وجه والعلم به أعلى العلوم من كل وجه والعلم به اصل لكل علم وهم يسلمون أن العلم به إذا حصل على الوجه التام يستلزم العلم بكل موجود.
وهذا بخلاف العلم بمسمى الوجود فان هذا لا حقيقة له في الخارج ولا العلم بالقدر المشترك يستلزم العلم بأجناسه وأنواعه وما يتميز به كل شيء بل ليس فيه إلا علم بقدر مشترك لا تصور له في الخارج وإنما هو علم بهذه المشتركات.
وليس في مجرد العلم بذلك ما يوجب كمال النفس بل ولا في العلم بأقسامه العامة فانا إذا علمنا أن الوجود ينقسم إلى جوهر وعرض وأن أقسام الجوهر خمسة كما زعموه مع أن ذلك ليس بصحيح ولا يثبت مما ذكروه إلا الجسم وأما المادة والصورة والنفس والعقل فلا يثبت لها حقيقة في الخارج إلا أن يكون جسما اوعرضا ولكن ما يثبتونه يعود إلى أمر مقدر في النفس لا في الخارج كما قد بسط في موضعه.
وقد اعترف بذلك من ينصرهم ويعظمهم كأبي محمد بن حزم وغيره ولتعظيمه
المنطق رواه بإسناده إلى متى الترجمان الذي ترجمه إلى العربية ومع هذا فاعترف بما ذكرناه وقد بسط ذلك في موضعه.
ونحن نفرض هنا وجود ذلك في الخارج فالعلم بانقسام ذلك إلى جواهر خمسة وانقسام العرض إلى الأنواع التسعة مع أنه لم يقم دليل على انقسامه إلى تسعة عند بعضهم وقد انشدوا فيها:
زيد الطويل الأسود ابن مالك
…
في داره بالأمس كان يتكى
في يده سيف نضاه فانتضى
…
فهذه عشر مقولات سوى
فذكر في هذين البيتين الجوهر والكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل.
ولما لم يقم دليل على حصر أجناسها العالية في تسعة جعلها بعضهم خمسة وبعضهم ثلاثة الكم والكيف والإضافة.
والمقصود هنا أنه إذا علم هذا التقسيم وعندهم كلما كان أعم كان أقرب إلى المعقول وكان البرهان عليه أقوم فانه لا يقوم برهان واجب القبول دائما إلا على ما لا يتغير وهذه الأعراض عندهم لا يقوم ب واجب الوجود بل ولا ب العقول إلا بعضها على نزاع بينهم فيعود الكمال إلى تصور وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج كتصور ذات مطلقة وشئ مطلق وحقيقة مطلقة.
وأي كمال للنفس في مجرد تصور هذه الأمور العامة الكلية إذا لم تتصور أعيان الموجودات المعينة الجزئية وأي علم في هذا برب العالمين الذي لا تكمل النفوس إلا
بمعرفته وعبادته محبة وذلا كما قد بسط في موضعه.
ولهذا كانت نهاية الفلاسفة إذا هداهم الله بعض الهداية بداية اليهود والنصارى الكفار فضلا عن المسلمين أمة محمد صلى الله عليه وسلم فان ما عند اليهود والنصارى الكفار بعد النسخ والتبديل مما هو من نوع كمال النفس أفضل في الجنس والكم والكيف مما عند الفلاسفة.
الوجه الرابع: العلم الرياضي لا تكمل به النفوس وإن ارتضت به العقول:
إن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والى الرياضي والى الإلهي وجعلهم الرياضي اشرف من الطبيعي والإلهي اشرف من الرياضي هو مما قلبوا به الحقائق.
فان العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج ومبدأ حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال وما فيها من الطبائع اشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة فان كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورا أو مثلثا أو مربعا ولو تصور كل ما في أقليدس أو لا يتصور إلا أعدادا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج وليس ذلك كمالا في النفس ولولا أن ذلك يطلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجية التي هي أجسام وأعراض لما جعل علما.
وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية.
فان علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المنفصل علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة مثل جمع الأعداد وقسمتها
وضربها ونسبة بعضها إلى بعض.
فانك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنها مائتان وإذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة وإذا ضربتها في عشرة كان المرتفع مائة.
والضرب مقابل للقسمة فان ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد احد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع احد العددين على آحاد العدد الآخر فإذا قسم المرتفع بالضرب على احد العددين خرج المضروب الآخر وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه والنسبة تجمع هذا كله فنسبة احد المضروبين إلى المرتفع كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر ونسبة المرتفع إلى احد المضروبين كنسبة الآخر إلى الواحد.
فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول وما من احد من الناس إلا يعرف منه شيئا فانه ضروري في العلم ضروري في العمل ولهذا يمثلون به في قولهم الواحد نصف الاثنين ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة.
استطراد.
وهذا مبتدأ فلسفتهم التي وضعها فيثاغورس وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارج الذهن.
ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك وظنوا أن الماهيات المجردة ك الإنسان المطلق والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية.
ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك فقالوا بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص ومشى من مشى من اتباع أرسطو من المتأخرين
على هذا وهو أيضا غلط فان ما في الخارج ليس بكلى أصلا وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص.
وإذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فمعناه أن ما هو كلي في الذهن هو مطابق للأفراد الموجودة في الخارج مطابقة العام لأفراده والموجود في الخارج معينا مختص ليس بكلي أصلا ولكن فيه حصة من الكلي.
وما في الذهن يطلق عليه أنه قد يوجد الخارج كما يقال فعلت ما في نفسي وفي نفسي أمور أريد فعلها ومنه قوله تعالى: {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} وقول عمر كنت زورت في نفسي مقالة أحببت أن أقولها ونظائره كثيرة.
والكلي إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينا لا يكون كليا فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن.
ومن اثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فتصور قوله تصورا تاما يكفي في العلم بفساد قوله وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
عود إلى اصل الموضوع.
والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة لكن لا تكمل بذلك نفس ولا تنجو به من عذاب ولا يحصل لها به سعادة.
ولهذا قال أبو حامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء:
"هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها و {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} " يشيرون بالأول إلى العلوم الرياضية وبالثاني إلى ما يقولونه في الإلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك.
الأسباب المغرية بالاشتغال بالعلم الرياضي وما أشبهه:
لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك فان الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه وسماع ما لم يكن سمعه إذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو أهم عنده منه كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب.
وأيضا ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصادقة والقياس المستقيم فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك وتعويد النفس أنها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك.
ولهذا يقال أنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل لم يجد في ذلك ما هو حق اخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي كما كان يجري مثل ذلك لمن هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره.
وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك لأن فيه تفريحا للنفس وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض" فان حساب الفرائض علم معقول مبني على اصل مشروع فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع ولكن ليس هو علما يطلب لذاته ولا تكمل به النفس.
وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ويدعونها بأنواع الدعوات كما هو معروف من أخبارهم وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعه في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده وكان الشيطان بسبب السحر والشرك يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر فكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها وما بين بعضها وبعض من الاتصالات ليستعينوا بذلك على ما يرونه مناسبا لها.
ولما كانت الأفلاك مستديرة ولم يكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المنحنية والمستقيمة تكلموا في الهندسة لذلك ولعمارة الدنيا.
فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور.
وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك فان لذات النفوس أنواع ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار حتى يشغله ذلك عما هو انفع له منه.
فكان مبدأ وضع المنطق من الهندسة فجعلوه أشكالا كالأشكال الهندسية وسموه حدودا كحدود تلك الأشكال لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة
والله تعالى قد يسر للمسلمين من العلم والبيان مع العمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان والحمد لله رب العالمين.
العلم الإلهي عندهم ليس له معلوم في الخارج:
وأما العلم الإلهي الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن وليس في هذا من كمال النفس شيء.
وان عرفوا واجب الوجود بخصوصه فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان ف برهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه لا واجب الوجود ولا غيره وإنما يدل على أمر كلي والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه ومن لم يتصور ما يمتنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله.
ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وأمثاله وظن ذلك كمالات للرب وكذلك يظن كمالا للنفس بطريق الأولى لا سيما إذا قال أن النفس لا تدرك إلا الكليات وإنما يدرك الجزئيات البدن فهذا في غاية الجهل.
وهذه الكليات التي لا يعرف بها الجزئيات الموجودة لا كمال فيها البتة والنفس إنما تحب معرفة الكليات لتحيط بها بمعرفة الجزئيات فإذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك.
الوجه الخامس: كمال النفس بمعرفة الله مع العمل الصالح لا بمجرد معرفة الله فضلا عن كونه يحصل بمجرد علم الفلسفة.
الوجه الخامس: أن يقال: هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة كما زعموه فما يذكرونه في العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولو أحقه ليس كذلك فان
تصور معنى الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه.
ونفس انقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث هو اخص من مسمى الوجود وليس في مجرد معرفة انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما عظيما عاليا على تصور الوجود.
فإذا عرفت الأقسام فليس فيها ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغير والاستحالة فان هذه الأقسام عامتها إنما هو في هذا العالم وكل ذلك يقبل التغير والاستحالة وليس معهم دليل أصلا يدلهم على أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا.
وجميع ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك فانما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه لا على قدم شيء معين ولا دوام شيء معين فالجزم بأن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شيء منه جهل محض لا مستند له إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم وعدم العلم ليس علما بالعدم.
ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء فهم لا يؤمنون لا بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت.
وإذا قالوا نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن العالم المحسوس وذلك هو الغيب فان هذا وان كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال فان ما سواء من المعقولات إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا موجودة في الأعيان والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج وهو أكمل وأعظم وجودا مما نشهده في الدنيا فأين هذا من هذا.
وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل في نفس الأمر واحتاجوا إلى الجمع بين قولهم وبين تصديق الرسل لما بهرهم من أمر الرسل قالوا: إن الرسل قصدوا
إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم".
ثم منهم من يقول: "إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور" ومنهم من يقول: "بل لم يكونوا يعرفون هذا وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية" وأقل اتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم وجده مما لا يرضى به أقل اتباع الرسل.
وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليا وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالم آخر منه خلق وانه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك علم أن غاية ما عندهم من الأحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم.
وهب أنهم لم يعلموا ما أخبرت به الرسل فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية التي في هذا العالم أزلية أبدية لم تزل ولا تزال فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة وعامة فلسفتهم الأولى وحكمتهم العليا من هذا النمط.
وكذلك من صنف على طريقتهم كصاحب المباحث المشرقية وصاحب حكمة الإشراق وصاحب دقائق الحقائق ورموز الكنوز وصاحب
كشف الحقائق وصاحب الأسرار الخفية في العلوم العقلية وأمثال هؤلاء ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقا ولا تخلص من إشراك ضلالهم مطلقا بل شاركهم في كثير من ضلالهم وشاركهم في كثير من محالهم وتخلص من بعض وبالهم وأن كان أيضا لم ينصفهم في بعض ما أصابوا فيه واخطأ لعدم علمه بمرادهم أو لعدم معرفته أن ما قالوه صواب.
مآخذ علوم أبي علي ابن سينا وشيء من أحواله:
ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم فإنه استفادها من المسلمين وان كان إنما اخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من اتباع الحاكم العبيدي
الذي كان هو أهل بيته واتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد أحسن ما يظهرونه دين الرفض وهم في الباطن يبطون الكفر المحض.
وقد صنف المسلمون في كشف اسرارهم وهتك استارهم كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا أحق بذلك من اليهود والنصارى ولو لم يكن إلا كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب وكتاب عبد الجبار بن احمد وكتاب أبي حامد الغزالي وكلام أبي إسحاق وكلام ابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل والشهر ستاني
وغير هؤلاء مما يطول وصفه.
والمقصود هنا أن ابن سينا اخبر عن نفسه أن أهل بيته أباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة وانه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذاك فانه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس.
وهؤلاء المسلمين الذين كان ينتسب إليهم هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن اعلم بالله من سلفه الفلاسفة كأرسطو واتباعه فان أولئك ليس عندهم من العلم بالله إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه.
وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام وغيرها وهو آخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل فانه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم اجهل من هؤلاء ولا ابعد عن العلم بالله تعالى منهم.
نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ.
وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله
من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه فتكلم في الفلسفة بكلام مركب من كلام سلفه ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات وكلامه واجب الوجود ونحو ذلك.
والا فأرسطو واتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود ولا شيء من الأحكام التي ل واجب الوجود وإنما يذكرون العلة الأولى ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به.
فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض أصلاح حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية ومقاصد سامية قرانية خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يتسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات.
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم كما زعموه مع أنه قول باطل فان النفس لها قوتان قوة علمية نظرية وقوة أرادية علمية فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته.
وعبادته تجمع محبته والذل له فلا تكمل نفس قط إلا بعبادة الله وحده
لا شريك له والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له وبهذا بعث الله الرسل وانزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها أصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها أصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم ولهذا يرون ذلك ساقطا عمن حصل المقصود كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم.
تزييف القول بأن الإيمان مجرد معرفة الله:
والجهمية قالوا: "الإيمان مجرد معرفة الله" وهذا القول وان كان خيرا من قولهم فانه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولو أحقه وهذا أمر لو كان له حقيقة في الخارج لم يكن كمالا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى.
فهؤلاء الجهمية من أعظم مبتدعة المسلمين بل جعلهم غير واحد خارجين عن
اثنتين وسبعين فرقة كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب احمد وغيرهم وقد كفر غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما لمن يقول هذا القول وقالوا هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم مؤمنين.
فقول الجهمية خير من قول هؤلاء فان ما ذكروه هو اصل ما تكمل به النفوس لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين أرادتها التي هي مبدأ القوة العملية وجعلوا الكمال في نفس العلم وان لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه.
وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد.
والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة.
واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولا فلم يتبعوه.
بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء كان من الأشقياء في الآخرة
والقوم لولا الأنبياء لكانوا اعقل من غيرهم لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وان كفروا ببعضه حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم فكانوا بها خيرا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم.
الوجه السادس: البرهان لا يفيد أمورا كلية واجبة البقاء في الممكنات:
الوجه السادس: أنه أن كان المطلوب ب قياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة فتلك ليس فيها واجب البقاء على حال واحدة أزلا وأبدا بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر أنه من اللازم لموصوفه فنفس الموصوف ليس بواجب البقاء فلا يكون العلم به علما بموجود واجب الوجود.
وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح كما قد بسط في موضعه وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة وذلك ممكن موجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدا مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح فان القول ب أن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه أي شيء قدر فاعله لا سيما إذا كان فاعلا باختياره كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين كالرازي وأمثاله كما بسط في موضعه.
وما يذكرونه من اقتران المعلول بعلته فإذا أريد بالعلة ما يكون مبدعا للمعلول فهذا باطل بصريح العقل ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل ولما كان هذا مستقرا في الفطر كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء وموجبا لأن يكون كل ما سواه محدثا مسبوقا بالعدم.
وان قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق فهذا لا ينافي أن يكون خالقا لكل
شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه بل ذلك أعظم في الكمال والجود والأفضال.
وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل من شيء بل هو من باب المشروط والشرط قد يقارن المشروط.
واما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين وان لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة وذلك لا ينافي حدوث كل جزء من أجزائها بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه.
وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو واتباعه فإنهم وان قالوا بقدم العالم فهم لم يثبتوا له مبدعا ولا علة فاعلة بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها لأن حركة الفلك أرادية.
وهذا القول وهو "أن الأول ليس مبدعا للعالم وإنما هو علة غائية للتشبه به" وان كان في غاية الجهل والكفر فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديما بقدم علته كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه.
ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة أرسطو وسائر العقلاء في ذلك وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء وكان قصده أن يركب مذهبا من مذهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب مفعولا له مع كونه أزليا قديما بقدمه واتبعه على إمكان ذلك اتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي
والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم.
زعم الرازي ما ذكره في محصلة أن القول ب كون الممكن المفعول المغلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة والمتكلمون لكن المتكلمون يقولون بالحدوث ولكون الفاعل عندهم فاعلا بالاختيار.
وهذا غلط على الطائفتين بل لم يقل ذلك احد لا من المتكلمين ولا من الفلاسفة المتقدمين الذين نقلت إلينا أقوالهم كأرسطو وأمثاله وإنما قاله ابن سينا وأمثاله.
والمتكلمون إذا قالوا بقدم ما يقوم بالرب من الصفات ونحوها فلا يقولون أنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب واجبا قديما إلا ب صفاته اللازمة له كما قد بسط في موضعه ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله.
وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبا سواء قيل أنه واجب بنفسه أو بغيره.
ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديما واجبا بغيره أزليا أبديا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في الإمكان من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه كما قد بسط في موضعه فان ليس موضع تقريره هذا ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي إلي لا يفيد أمورا كلية واجبة البقاء في الممكنات
وأما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس الذي يدعونه لا يدل على ما يختص به وإنما يدل على أمر مشترك كلى بينه وبين غيره إذا كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمور كلية مشتركة وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى.
فلم يعرفوا ببرهانهم شيئا من الأمور التي يجب دوامها لا من الواجب ولا من الممكنات.
وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه وهم لم يعلموا علما يبقى ببقاء معلومه لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم فضلا عن أن يقال أن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم.
طريقة الأنبياء في الاستدلال:
ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته وان استعملوا في ذلك القياس استعملوا القياس إلا ولى ولم يستعملوا قياس شمول يستوي أفراده ولا قياس تمثيل محض فان الرب تعالى لا مثل له ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي يستوي أفراده بل ما ثبت بغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الأولى وما تنزه عنه غيره من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأولى.
استعمال قياس الأولى في القران:
ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القران من هذا الباب كما يذكره في دلائل ربو بيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد وغير ذلك من المطالب العالية السنية والمعالم الإلهية التي هي اشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف وان كان كما لها لا بد فيه من كمال علمها وقصدها جميعا فلا بد من عبادة الله وحده المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له.
الاستدلال بالآيات في القران:
وأما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القران والفرق بين الآيات وبين القياس أن الآية هي العلامة وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول لا يكون مدلوله أمرا كليا مشتركا بين المطلوب وغيره بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول كما أن الشمس آية النهار قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار.
وكذلك آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه لا يوجب أمرا كليا مشتركا بينه وبين غيره.
وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى لا يوجب علما كليا مشتركا بينه وبين غيره.
والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل.
فكل دليل في الوجود لا بد أن يكون مستلزما للمدلول والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة والقضايا الكلية هذا شأنها فان القضايا الكلية أن لم تعلم معيناتها بغير التمثيل وإلا لم تعلم إلا بالتمثيل فلا بد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الأوسط.
فلا بد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من أفراد الدليل كما إذا قيل كل اب وكل ب ج فكل ج افلا بد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الألف ومعلوم أن العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين والباء المعين للألف المعين أقرب إلى الفطرة من هذا.
وهذا كما قدمناه في أمثلة أقيستهم البرهانية مثل قولهم الكل أعظم من الجزء
والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ونحو ذلك فان هذه قضايا كلية.
ومعلوم أن الإنسان إذا تصور ما يتصوره من معين أو جزئه فان تصوره لكون هذا الكل المعين أعظم من جزئه أسبق إلى عقله من أن يتخيل أن كل كل أعظم من جزئه فهو يتصور أن بدنه أعظم من يده ورجله وان السماء أعظم من كواكبها والجبل أعظم من بعضه والمدينة أعظم من بعضها ونحو ذلك قبل أن يتصور القضية الكلية الشاملة لجميع هذه الأفراد.
ولذلك إذا تصور شيئا معينا يعلم أنه لا يكون موجودا معدوما في حال واحدة قبل أن يتصور أن كل نقيضين لا يجتمعان ولذلك إذا تصور سوادا معينا علم أنه لا يكون اللون الواحد سوادا بياضا قبل أن يتصور أن كل ضدين لا يجتمعان وأمثال ذلك كثيرة.
وإذا قيل تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة أو بديهة من واهب العقل قيل فحصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل أقرب.
عظم الفرق بين إثبات الرب بالآيات وبين إثباته بالقياس البرهاني:
ومعلوم أن كل ما سوى الله من الممكنات فانه مستلزم لذات الرب تعالى يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى وتقدس.
وان كان مستلزما أيضا لأمور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين اعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها ويعلم الكليات أنها كليات فيلزم من وجود الخاص وجود العام
المطلق أي حصة المعين من ذلك العام كما يلزم من وجود هذا الإنسان وجود الإنسان ومن وجود هذا الإنسان وجود الإنسانية والحيوانية القائمة به.
فكل ما سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة فان الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الأعيان فضلا عن أن يكون خالقا لها مبدعا.
ثم يلزم من وجوده المعين الوجود المطلق المطابق للمعين فإذا تحقق الوجود الواجب تحقق الوجود المطلق المطابق للمعين وإذا تحقق الفاعل لكل شيء تحقق الفاعل المطلق المطابق وإذا تحقق القديم الأزلي تحقق القديم المطلق المطابق وإذا تحقق الغنى عن كل شيء تحقق الغنى المطابق وإذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق كما ذكرنا أنه إذا تحقق هذا الإنسان وهذا الحيوان تحقق الإنسان المطلق المطابق والحيوان المطلق المطابق.
لكن المطلق لا يكون مطلقا إلا في الأذهان لا في الأعيان والله تعالى هو الخالق للأمور الموجودة في الأعيان والمعلم للصور الذهنية المطابقة لما في الأعيان.
ولهذا كان أول ما انزل على رسوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} بين في أول ما انزل أنه خالق الأعيان عموما وخصوصا فكما أنه خالق الموجودات العينية فهو المعلم للماهيات الذهنية فالموجودات الخارجية آيات مستلزمة لوجود عينه وإذا تصورتها الأذهان معينة أو مطلقة فهو المعلم لهذا المتصور إذ الصور الذهنية أيضا من آياته المستلزمة لوجود عينه لكنها تدل مع ذلك على هدايته وتعليمه كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} وقال موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
كما أن الموجودات العينية من آيات وجوده والصور الذهنية من حيث أنها موجودات عينيه من هذا الباب كما أنها من جهة مطابقتها للموجودات الخارجية من الباب الأول.
لكن إذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس المعين كذلك من علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقا وغنيا مطلقا لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره.
وذلك هو مدلول آياته تعالى فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها وكل ما سواه دليل على عينه وآية له فانه ملزوم لعينه وكل ملزوم فانه دليل على لازمة ويمتنع تحقق شيء من الممكنات إلا مع تحقق عينه فكلها ملزوم لنفس الرب دليل عليه آية له.
ودلالتها بطريق قياسهم على الأمر المطلق الكلى الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ب برهانهم ما يختص بالرب تعالى ولهذا ما يثبتونه من واجب الوجود عند التحقيق إنما هو أمر كلى لا يختص بالرب تعالى حتى قد يجعلونه مجرد الوجود.
دلالة قياس الأولى في إثبات صفات الكمال:
وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعا للقرآن فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتا لغيره مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا يحصر قدره وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم مما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره فكأن قياس الأولى يفيده
أمرا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر.
لا بد من الأسماء المشككة من معنى كلى مشترك:
ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك الذي هو نوع من التواطؤ العام ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن وهو في الواجب أكمل وأفضل من فضل هذا البياض على هذا البياض.
لكن التفاضل في الأسماء المشككة لا يمنع أن يكون اصل المعنى مشتركا كليا بينهما فلا بد في الأسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن وذلك مورد التقسيم تقسيم الكلي إلى جزئياته إذا قيل الموجود ينقسم إلى واجب وممكن فان مورد التقسيم مشترك بين الأقسام ثم كون وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليا مشتركا بينهما.
وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته.
الخلاف في الأسماء التي تطلق عليه تعالى وعلى العباد:
والناس تنازعوا في هذا الباب فقالت طائفة كأبي العباس الناشئ من شيوخ
المعتزلة الذين كانوا أسبق من أبي علي هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق.
وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة وبالعكس هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق.
وقال جماهير الطوائف هي حقيقة فيهما وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة والأشعرية والكرامية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة.
لكن كثيرا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بانها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك وينازع في بعضها لشبه نفاه الجميع والقول فيما نفاه نظير القول فيما أثبته ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين ونفي الجميع يمتنع أن يكون موجودا.
وقد علم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث وغنى وفقير ومفعول وغير مفعول وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب ووجود المحدث يستلزم وجود القديم ووجود الفقير يستلزم وجود الغنى ووجود المفعول يستلزم وجود غير المفعول وحينئذ فبين الوجودين أمر مشترك والواجب يختص بما يتميز به فكذلك القول في الجميع.
والأسماء المشككة هو متواطئة باعتبار القدر بالمشترك ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله فالمشككة قسم من المتواطئة العامة وقسيم المتواطئة الخاصة.
وإذا كان كذلك فلا بد في المشككة من إثبات قدر مشترك كلي وهو مسمى المتواطئة العامة وذلك لا يكون مطلقا إلا في الذهن وهذا مدلول قياسهم البرهاني
ولا بد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة وذلك هو مدلول الأقيسة البرهانية القرآنية وهي قياس الأولى.
ولا بد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه لا يدل على هذه قياس لا برهاني ولا غير برهاني.
فتبين بذلك أن قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها فضلا عن أن يقال لا تعلم المطالب إلا به.
وهذا باب واسع لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة وهي قولهم أن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم.
شناعة زعمهم أن علم الله أيضا يحصل بواسطة القياس:
ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا وقصروا العلوم على طريق ضيقه لا تحصل إلا مطلوبا لا طائل فيه حتى زعموا أن علم الله وعلم أنبيائه وأوليائه إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الأوسط كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه.
وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم أنبيائه من سلفهم الذين هم من اجهل الناس برب العالمين وبأنبيائه وبكتبه.
فابن سينا لما تميز عن أولئك بمزيد عقل وعلم سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك وصاروا سالكوا هذه الطريق وإن كانوا اعلم من سلفهم وأكمل فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان ب واجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال وهم من أتباع فرعون وأمثاله ولهذا تجدهم لموسى ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمرود بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع.
وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة وآل فرعون أئمة لأهل النار.
وقال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أنهم إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأولى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إلى قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وقال في آل إبراهيم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} والمقصود أن متأخريهم الذين هم اعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني وكذلك علم أنبيائه وقد بسطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم أنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه وإذا كان هذا السلب باطلا في حكم آحاد الناس كان بطلانه أولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى ثم ملائكته وأنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين.
فصل: أقوال المنطقيين في الدليل والقياس:
وأيضا فإنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس والاستقراء والتمثيل قالوا لأن الاستدلال أما أن يكون ب الكلى على الجزئي أو ب الجزئي على الكلي أو بأحد الجزئين على الآخر وربما عبروا عن ذلك ب الخاص والعام فقالوا أما أن يستدل ب العام على الخاص أو ب الخاص على العام أو بأحد الخاصين على الآخر.
قالوا والأول هو القياس يعنون به قياس الشمول فإنهم يخصونه باسم القياس وكثير من أهل الأصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل وأما جمهور العقلاء فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا.
قالوا والاستدلال بالجزئيات على الكلي هو الاستقراء فان كان تاما فهو الاستقراء التام وهو يفيد اليقين وإن كان ناقصا لم يفد اليقين فالأول هو استقراء جميع الجزئيات والحكم عليه بما وجد في جزئياته والثاني استقراء أكثرها وقد يكذب كقول القائل الحيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل
لأنا استقريناها فوجدناها هكذا فيقال له: "التمساح يحرك الأعلى".
ثم قالوا القياس ينقسم إلى الاقتراني والاستثنائي ف الاستثنائي ما تكون النتيجة أو نقيضها مذكورة فيه بالفعل والاقتراني ما تكون فيه بالقوة كالمؤلف من القضايا الحملية كقولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام.
والاستثنائي ما يؤلف من الشرطيات وهو نوعان:
أحدهما: متصلة كقولنا أن كانت الصلاة صحيحة فالمصلى متطهر واستثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم.
والثاني: المنفصلة هي أما مانعة الجمع والخلو كقولنا العدد أما زوج وأما فرد فان هذين لا يجتمعان ولا يخلو العدد عن أحدهما وأما مانعة الجمع فقط كقولنا هذا أما أبيض وأما اسود أي لا يجتمع السواد والبياض وقد يخلو المحل عنهما وأما مانعه الخلو فهي التي يمتنع فيها عدم الجزئين جميعا ولا يمتنع اجتماعهما.
وقد يقولون مانعة الجمع والخلو هي الشرطية الحقيقية وهي مطابقة للنقيضين في العموم والخصوص ومانعة الجمع هي أخص من النقيضين فان الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما اخص من النقيضين.
وأما مانعة الخلو فإنها أعم من النقيضين وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك بخلاف النوعين الأولين فان أمثالهما كثيرة ويمثلونه بقول القائل هذا راكب البحر أو لا يغرق فيه أي لا يخلو منهما فانه لا يغرق إلا إذا كان في البحر فإما أن لا يغرق فيه وحينئذ لا يكون راكبه وأما أن يكون راكبه وقد يجتمع أن يركب ويغرق.
والأمثال كثيرة كقولنا هذا حي أو ليس بعالم أو قادر أو سميع أو
بصير أو متكلم فانه أن وجدت الحيوة فهو احد القسمين وإن عدمت عدمت هذه الصفات وقد يكون حيا من لا يوصف بذلك وكذلك إذا قيل هذا متطهر أو ليس بمصل فانه أن عدمت الصلاة عدمت الطهارة وإن وجدت الطهارة فهو القسم الآخر فلا يخلو الأمر منهما.
وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه فانه إذا ردد الأمر بين وجود المشروط وعدم الشرط كان ذلك مانعا من الخلو فانه لا يخلو الأمر من وجود الشرط وعدمه وإذا عدم عدم الشرط فصار الأمر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط.
ثم قسموا الاقتراني إلى الأشكال الأربعة لكون الحد الأوسط أما محمولا في الأولى موضوعا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي وهو ينتج المطالب الأربعة الجزئي والكلى والايجابي والسلبي وأما أن يكون الأوسط محمولا فيهما وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب وأما أن يكون موضوعا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلى لكنه بعيد عن الطبع.
ثم إذا أرادوا بيان إنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب احتاجوا إلى الاستدلال ب النقيض والعكس وعكس النقيض فانه يلزم من صدق القضية كذب نقيضها وصدق عكسها المستوى وعكس نقيضها فإذا صدق قولنا ليس احد من الحجاج بكافر صح قولنا ليس احد من الكفار حاجا وإذا صح قولنا كل حاج مسلم صح قولنا بعض المسلمين حاج وقولنا من ليس بمسلم فليس بحاج.
رد المصنف أقوالهم في الدليل والقياس:
فنقول هذا الذي قالوه أما أن يكون باطلا وأما أن يكون تطويلا يبعد
الطريق على الطالب المستدل فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق أو طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل إلى الحق مع إمكان وصوله بطريق قريب كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له أين أذنك فرفع يده فوق رأسه رفعا شديدا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى وقد كان يمكنه الإشارة إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم وما أشبه هؤلاء بقول القائل:
أقام يعمل أياما رويته
…
وشبه الماء بعد الجهد بالماء
وبقول الآخر:
وإني وإني ثم إني وإنني
…
إذا انقطعت نعلى جعلت لها شسعا
وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فأقوم الطرق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله وأما طريق هؤلاء فهي مع ضلالهم في البعض واعوجاج طريقهم وطولها في البعض الأخرى إنما يوصلهم إلى أمر لا ينجى من عذاب الله فضلا عن أن يوجب لهم السعادة فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم.
بطلان حصر الأدلة في القياس والاستقراء والتمثيل:
بيان ذلك أن ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه بل هو باطل وقولهم أيضا أن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص قول لا دليل عليه بل هو باطل.
واستدلالهم على الحصر بقولهم: "إما أن يستدل بالكلى على الجزئي أو بالجزئي على الكلى أو بأحد الجزئين على الآخر والأول هو القياس والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل".
يقال لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال في هذه الثلاثة فإنكم إذا عنيتم
بالاستدلال بجزئي على جزئي قياس التمثيل لم يكن ما ذكرتموه حاصرا وقد بقى الاستدلال بالكلى على الكلي الملازم له وهو المطابق له في العموم والخصوص وكذلك الاستدلال بالجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه فان هذا ليس مما سميتموه قياسا ولا استقراء ولا تمثيلا وهذه هي الآيات.
الاستدلال بالكلى على الكلى وبالجزئي على الجزئي الملازم له:
وهذا كالاستدلال بطوع الشمس على النهار وبالنهار على طلوع الشمس فليس هذا استدلالا بكلى على جزئي بل الاستدلال بطوع معين على نهار معين استدلالا بجزئي على جزئي وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلالا بكلى على كلى.
وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلالا بجزئي على جزئي كالاستدلال ب الجدي وبنات نعش والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب كما يسمى بعض الناس الجدي القطب وإن كان القطب في الحقيقة جزءا من الفلك قريبا من ذلك الكوكب الصغير.
وكذلك الاستدلال بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض والاستدلال
بطلوعه على غروب آخر وتوسط آخر ونحو ذلك من الأدلة التي اتفق عليها الناس قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .
والاستدلال على المواقيت والأمكنة بالأمكنة أمر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة فإذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب كان استدلالا بجزئي على جزئي لتلازمهما وليس ذلك من قياس التمثيل وإن قضى به قضاء كليا كان استدلالا بكلى على كلى وليس استدلالا بكلى على جزئي بل بأحد الكليين المتلازمين على الآخر.
ومن عرف مقدار أبعاد الكواكب بعضها من بعض وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر استدل بما رآه منها على مقدار ما مضى من الليل وما بقى منه وهو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر ومن علم الجبال والأنهار والرياح استدل بها على ما يلازمها من الأمكنة.
ثم اللزوم أن كان دائما لا يعرف له ابتداء بل هو منذ خلق الله الأرض كوجود الجبال والأنهار العظيمة النيل والفرات وسيحان وجيحان والبحر كان الاستدلال مطردا.
وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة شرفها الله فان الخليل بناها ولم تزل معظمة لم يعل عليها جبار قط استدل بها بحسب ذلك فيستدل بها وعليها فان أركان الكعبة مقابلة لجهات الأرض الأربعة الحجر الأسود يقابل المشرق والغربي الذي يقابله ويقال له الشامي يقابل المغرب واليماني يقابل الجنوب وما يقابله يقال له العراقى إذا قيل الذي من ناحية الحجر الشامي وإن قيل لذاك الشامي قيل لهذا العراقى فهذا الشامي العراقي
يقابل الشمال وهو يقابل القطب وحينئذ فيستدل بها على الجهات ويستدل بالجهات عليها.
وما كان مدته اقصر من مدة الكعبة كالأبنية التي في الأمصار والأشجار كان الاستدلال بها بحسب ذلك فيقال علامة الدار الفلانية أن على بابها شجرة من صفتها كذا وكذا وهما متلازمان مدة من الزمان.
فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الآخر وكلاهما معين جزئي وليس هو من قياس التمثيل.
حد الدليل عند النظار:
ولهذا عدل نظار المسلمين عن طريقهم فقالوا الدليل هو المرشد إلى المطلوب وهو الموصل إلى المقصود وهو ما يكون العلم به مستلزما للعلم بالمطلوب.
أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى المطلوب وهو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو إلى اعتقاد راجح.
ولهم نزاع اصطلاحي هل يسمى هذا الثاني دليلا أو يخص باسم الإمارة والجمهور يسمون الجميع دليلا ومن أهل الكلام من لا يسمى ب الدليل إلا الأول.
ثم الضابط في الدليل أن يكون مسستلزما للمدلول فكل ما كان مستلزما لغيره أمكن أن يستدل به عليه أن كان التلازم من الطرفين أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر فيستدل المستدل مما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه.
ثم أن كان اللزوم قطعيا كان الدليل قطعيا وان كان ظاهرا وقد يتخلف كان الدليل ظنيا.
فالأول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته فان وجودها مستلزم لوجود ذلك ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد إلا دالة على ذلك.
ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما اخبر به عن الله فانه لا يقول عليه إلا
الحق إذ كان معصوما في خبره عن الله لا يستقر في خبره عنه خطأ البتة.
فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزوما واجبا لا ينفك عنه بحال وسواء كان الملزوم المستدل به وجودا أو عدما فقد يكون الدليل وجودا وعدما ويستدل بكل منهما على وجود وعدم فانه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده ويستدل بانتقاء نقيضه على ثبوته ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتقاء اللازم على انتقاء الملزوم بل كل دليل يستدل به فانه ملزوم لمدلولة وقد دخل في هذا كل ما ذكروه وما لم يذكروه.
فان ما يسمونه الشرطي المتصل مضمونه الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم سواء عبر عن هذا المعنى بصيغة الشرط أو بصيغة الجزم واختلاف صيغ الدليل مع اتحاد معناه لا يغير حقيقية والكلام إنما هو في المعاني لا في الألفاظ.
فإذا قال القائل أن كانت الصلاة صحيحة فالمصلى متطهر وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن كان الفاعل عالما قادرا فهو حي ونحو ذلك فهذا معنى قوله: "صحة الصلاة تستلزم صحة الطهارة" وقوله: "يلزم من صحة الصلاة صحة ثبوت الطهارة" وقوله: "لا يكون مصليا إلا مع الطهارة" وقوله: "الطهارة شرط في صحة الصلاة وإذا عدم الشرط عدم المشروط" وقوله: "كل مصل متطهر فمن ليس بمتطهر فليس بمصل" وأمثال ذلك من أنواع التأليف للألفاظ والمعاني التي يتضمن هذا الاستدلال من غير حصر الناس في عبارة واحدة.
أستطراد.
وإذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها وإذا ضاقت العقول والتصورات بقى صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان كما يصيب أهل المنطق اليوناني تجدهم من أضيق الناس علما وبيانا وأعجزهم تصورا وتعبيرا
ولهذا من كان منهم ذكيا إذا تصرف في العلوم وسلك مسلك أهل المنطق طول وضيق وتكلف وتعسف وغايته بيان البين وإيضاح الواضح من العي وقد يوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم.
مثل ما ذكروه عن يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف أنه قال في بعض مناظراته هذا من باب فقد عدم الوجود ومثل هذه العبارات الطويلة الركيكة كثير في كلامهم حتى في كلام أفضل متأخريهم مع أنه أفضلهم وأحسنهم بيانا.
وكذلك تكلفاتهم في حدودهم مثل حدهم ل الإنسان والشمس بأنها كوكب يطلع نهارا وهل من يحد الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من هو من أجهل الناس وهل عند الناس شيء أظهر من الشمس حتى يحد الشمس به ومن لم يعرف الشمس فأما أن يجهل اللفظ فيترجم له وليس هذا من الحد الذي ذكروه وأما أن لا يكون رآها لعماه فهذا لا يرى النهار ولا الكواكب بطرق الأولى مع أنه لا بد أن يسمع من الناس ما يعرف ذلك دون طريقهم.
وهم معترفون بان الشكل الأول من الحمليات يغنى عن جميع صور القياس وتصويره نطرى لا يحتاح احد إلى تعلمه منهم مع أن الاستدلال لا يحتاج إلى تصوره على الوجه الذي يزعمونه.
فصل: إبطال قولهم: "أن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين"
وأما قولهم: "إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان"
فان كان الدليل مقدمة واحدة قالوا الأخرى محذوفة وسموه هو قياس الضمير وإن كان مقدمات قالوا هي أقيسة مركبة ليس هو قياسا واحدا فهذا قول باطل طردا وعكسا.
وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه مما سوى ذلك كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى الاستدلال بل قد يعلمة بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين ومنهم من يحتاج إلى ثلاث ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر.
فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم فان كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المعين مسكر أم لا لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة وهو أن يعمل أن هذا مسكر فإذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه فقال المستدل الدليل على ذلك أنه مسكر فقال لا نسلم أنه مسكر فمتى أقام الدليل على أنه مسكر تم المطلوب.
وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة هل هو مسكر أم لا؟ كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الأشربة فلا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر ولكن قد علم أن كل مسكر حرام فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه وكذلك سائر ما يقع الشك في الدراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج هل هما من الميسر أم لا؟ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا؟ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أم لا؟ وتنازعهم في قوله: {أو يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هل هو الزوج أو الولي المستقل؟ وأمثال ذلك
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم أن هذا المعين مسكر فهو لا يعلم أنه محرم حتى يعلم أنه مسكر ويعلم أن كل مسكر حرام.
وقد يعلم أن هذا مسكر ويعلم أن كل مسكر خمر لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لقرب عهده بالإسلام أو لنشأه بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك.
أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام" أو يعلم أن هذا خمر وان النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر لكن لم يعلم أن محمدا رسول الله أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين بل ظن أنه أباحها لبعض الناس وظن أنه منهم كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر أو أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر وانه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فما حرمه فقد حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوي ولا للتلذذ.
ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهانى والخطابي والجدلى والشعري والسوفسطائي أنه قول مؤلف من أقوال أو عبارة عما ألف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر قالوا واحترزنا بقولنا من أقوال عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها وكذب نقيضها وليست قياسا قالوا ولم نقل مؤلف من مقدمات لانا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس فلو أخذناها في حد القياس كان دورا.
والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية وتسمى
أيضا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة بل أعم منه فان المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية والقضية الخبرية قد تكون اسمية وفعلية كما لو قيل في قوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} فان هذه جملة خبرية وليست المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة.
والمقصود هنا أنهم أرادوا ب القول في قولهم القياس قول مؤلف من أقوال القضية التي هي جملة تامة خبرية لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو الحد فان القياس مشتمل على ثلاثة حدود: اصغر وأوسط واكبر كما إذا قيل النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد وهي الحدود في القياس فليس مرادهم بالقول هذا بل مرادهم أن كل قضية قول كما فسروا مرادهم بذلك ولهذا قالوا قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها قول آخر واللازم إنما هو النتيجة وهي قضية وخبر وجملة تامة ليست مفردا ولذلك قالوا القياس قول فسموا مجموع القضيتين قولا.
وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفا من أقوال وهي القضايا لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط لأن لفظ الجمع أما أن يكون متناولا ل اثنين فصاعدا كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وأما أن يراد به الثلاثة فصاعدا وهو الأصل عند الجمهور.
ولكن قد يراد به جنس العدد فيتناول الاثنين فصاعدا ولا يكون الجمع مختصا ب اثنين فإذا قالوا هو مؤلف من أقوال أن أرادوا جنس العدد كان المعنى من اثنين فصاعدا فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات فلا يختص بالاثنين وإن أرادوا الجمع الحقيقي لم يكن مؤلفا إلا من ثلاثة
فصاعدا وهم قطعا ما أرادوا هذا لم يبق إلا الأول.
فإذا قيل هم يلتزمون ذلك ويقولون نحن نقول أقل ما يكون القياس من مقدمتين وقد يكون من مقدمات فيقال أولا هذا خلاف ما في كتبكم فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب سواء كان اقترانيا أو استثنائيا لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما.
وعللوا ذلك بان المطلوب المتحد لا يزيد على جزئين مبتدأ وخبر فان كان القياس اقترانيا فكل واحد من جزئي المطلوب لا بد وان يناسب مقدمة منه أي يكون فيها أما مبتدأ وأما خبرا ولا يكون هو نفس المقدمة قالوا وليس المطلوب أكثر من جزئين فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين وإن كان القياس استثنائيا فلا بد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل مطلوب أو نقيضه ولا بد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة.
قالوا لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس أما غير متعلق بالقياس أو متعلق به والمتعلق بالقياس أما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما ويسمون هذا القياس المركب قالوا وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدا والباقي لبيان مقدمات القياس قالوا وربما حذوا بعض مقدمات القياس أما تعويلا على فهم الذههن لها أو لترويج المغلطة حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها قالوا ثم أن كانت الأقيسة لبيان المقدمات قد صرح فيها بنتائجها فيسمى القياس مفصولا وإلا ف موصول.
ومثلوا الموصول بقول القائل كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان جوهر.
والمفصول بقولهم كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان
جسم ثم يقول كل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان حيوان فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر.
فيقال لهم أما المطلوب الذي لا يزيد على جزئين فذاك في النطق به والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها وإن شئت قلت اتصاف الموصوف بالصفة نفيا أو إثباتا وإن شئت قلت نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيا أو إثباتا وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود ب القضية.
فإذا كان النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام أو الإنسان حساس أو ليس بحساس أو نحو ذلك فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك المطلوب حصل بها المقصود وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب وكذلك قولنا الإنسان حيوان.
فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه هل يسمى في لغة الشارع خمرا فقيل النبيذ حرام لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر حرام كانت هذا القضية وهي قولنا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم أن كل مسكر خمر يفيد تحريم النبيذ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى.
والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث فقد وجب التصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وإن ما حرمه الرسول فهو حرام ونحو ذلك.
فلو لزم أن يذكر كل ما يتوقف عليه العلم وإن كان معلوما كانت المقدمات أكثر من اثنتين بل قد تكون أكثر من عشر وعلى ما قالوه فينبغي لكل من استدل
بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "النبي حرم ذلك وما حرمه فهو حرام" فهذا حرام وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أوجب وما أوجبه النبي فقد وجب فهذا قد وجب".
وإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك يحتاج أن يقول أن الله حرم هذا في القران وما حرمه الله فهو حرام وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يقول أن الله أوجب الحج في كتابه وما أوجبه الله فهو واجب وأمثال ذلك ما يعده العقلاء لكنه وعيا وإيضاحا للواضح وزيادة قول لا حاجة إليها.
وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم كقولهم في حد الشمس أنها كوكب يطلع نهارا وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان ثم أن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم
إبطال قولهم: "ليس المطلوب أكثر من جزئين":
وقولهم: "ليس المطلوب أكثر من جزئين فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين" فيقال: أن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان فليس الأمر كذلك بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة مثل من شك في النبيذ هل هو حرام بالنص أم ليس حراما لا بنص ولا قياس فإذا قال المجيب النبيذ حرام بالنص كان المطلوب ثلاثة أجزاء وكذلك لو سأل هل الإجماع دليل قطعي فقال الإجماع دليل قطعي كان المطلوب ثلاثة أجزاء فإذا قال هل الإنسان جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق أم لا فالمطلوب هنا له ستة أجزاء.
وفي الجملة فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر وهو جملة خبرية قد تكون جملة مركبة من لفظين وقد تكون من ألفاظ متعددة إذا كان مضمونها مقيدا قيود
كثيرة مثل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أولئك يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأولئك مِنْكُمْ} وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك.
فإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين بل من ألفاظ متعددة ومعان متعددة.
وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة قيل وليس الأمر كذلك بل قد يكون المطلوب معنى واحدا وقد يكون معنين وقد يكون معاني متعددة فان المطلوب بحسب طلب الطالب وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر وكل منهما قد يطلب معنى واحدا وقد يطلب معنيين وقد يطلب معاني والعبارة عن مطلوبه قد تكون بلفظ واحد وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر فإذا قال النبيذ حرام قيل له نعم كان هذا اللفظ وحده كافيا في جوابه كما لو قيل له هو حرام.
فان قالوا القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا كما ذكرتموه من التمثيل ب الإنسان فان هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب والتقدير هل هو جسم أم لا وهل هو حساس أم لا وهل هو نام أم لا وهل هو متحرك بالإرادة أم لا وهل هو ناطق أم لا وكذلك فيما تقدم هل النبيذ حرام أم لا فإذا كان حراما فهل تحريمه بالنص أو بالقياس.
فيقال إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد فالمفرد قد
يكون في معنى قضية فإذا قال النبيذ المسكر حرام فقال المجيب نعم فلفظ نعم في تقدير قوله هو حرام.
وإذا قال ما الدليل عليه فقال الدليل عليه تحريم كل مسكر أو أن كل مسكر حرام أو قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام" ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسما مفردا وهو جزء واحد لم يجعله قضية مؤلفه من اسمين مبتدأ وخبر فان قوله تحريم كل مسكر اسم مضاف.
وقوله أن كل مسكر حرام بالفتح مفرد أيضا فان أن وما في حيزها في تقدير المصدر المفرد وإن المكسورة وما في حيزها جملة تامة ولهذا قال النحاة قاطبة أن إن تكسر إذا كانت في موضع الجملة والجملة خبر وقضية وتفتح في موضع المفرد الذي هو جزء القضية ولهذا يكسرونها بعد القول لأنهم إنما يحكون ب القول الجملة التامة.
وكذلك إذا قلت الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أو الدليل عليه النص أو اجماع الصحابة أو الدليل عليه الآية الفلانية أو الحديث الفلاني أو الدليل عليه قيام المقتضى للتحريم السالم عن المعارض المقاوم أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم وامثال ذلك مما يعبر فيه عن الدليل اسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة.
والمقصود أن قولكم أن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزئين فقط أن أردتم لفظين فقط وإن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل قيل لكم وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين هما دليلان لا دليل واحد فان كل مقدمة تحتاج إلى دليل.
وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له فانه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة
أو أربعة وأكثر فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص وان الزائد أن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة وان كان في الدليل يذكر مقدمات جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض ليس هو أولى من أن يقال بل الأصل في المطلوب أن يكون واحدا ودليله جزء واحد فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين أو ثلاثة أو أربعة بحسب زيادته وجعل الدليل دليلين أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته وهذا إذا قيل فهو أحسن من قولهم لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردا والقباس هو الدليل ولفظ القياس يقتضى التقدير كما يقال قست هذا بهذا والتقدير يحصل بواحد كما يحصل باثنين وبثلاثة فأصل التقدير بواحد وإذا قدر باثنين أو ثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرا واحدا فكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسا واحدا.
فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة وما نقص عن الاثنتين نصف قياس لا قياس تام اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة ل الماهية والوجود بمثل هذا التحكم.
تنازع اصطلاحي في مسمى العلة والدليل:.
وحينئذ فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدا وبرهانا إلى حقيقة موجودة ولا إلى أمر معقول بل إلى اصطلاح مجرد كتنازع الناس في العلة هل هي اسم لما يستلزم المعلوم بحيث لا يختلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص أو هو اسم لما يكون مقتضيا للمعلول وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع وكاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية احدهم الدليل ل ما هو مستلزم للمدلول مطلقا حتى يدخل في ذلك عدم المعارض والآخر يسمى الدليل ل ما كان من شأنه أن يستلزم المدلول وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع وتنازع أهل الجدل هل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل
لتبيين المعارض جملة أو تفصيلا حيث يمكن التفصيل أو لا يتعرض لتبيينه لا جملة ولا تفصيلا أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا.
وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم وبمنزلة ما يعتاده الناس في بعض الأفعال لكونهم رأوا ذلك أولى بهم من غيره وإن كان غيره أولى منه ليست حقائق ثابتة في أنفسها لأمور معقولة يتفق فيها الأمم كما يدعيه هؤلاء في منطقهم.
بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين فان هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب وأولئك لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء فكان ما اعتبره أولئك أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم.
المنطق أمر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان:
ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه أمر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان لا يحتاج إليه العقلاء ولا طلب العقلاء للعلم موقوفا عليه كما ليس موقوفا على التعبير بلغاتهم مثل فيلاسوفيا وسوفسطيقا وانولوطيقا وإثولوجيا وقاطيغورياس وإيساغوجى ومثل تسميتهم للفعل ب الكلمة وللحرف ب الأداة ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم
تعلم العربية فرض على الكفاية بخلاف المنطق:
فلا يقول احد أن سائر العقلاء يحتاجون إلى هذه اللغة لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف.
وهذا ما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف لما اخذ متى يمدح المنطق ويزعم احتياج العقلاء إليه ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني فانه لا بد فيها من التعلم ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القران والحديث عليها فرضا على الكفاية بخلاف المنطق
بطلان القول بأن تعلم المنطق فرض على الكفاية:
ومن قال من المتأخرين: "أن تعلم المنطق فرض على الكفاية" فانه يدل على جهلة بالشرع وجهله بفائدة المنطق وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وأجهل منه من قال أنه فرض على الأعيان مع أن كثيرا من هؤلاء ليسوا مقرين بإيجاب ما أوجبه الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله.
ومعلوم أن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف منطق اليونان فكيف يقال: أنه لا يوثق بالعلم أن لم يوزن به أو يقال أن فطر بني آدم في الغالب لا تستقيم إلا به.
فان قالوا نحن لا نقول أن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطق بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم قيل لا ريب أن المجهولات لا تعرف إلا بالمعلومات والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه وهذا من الموازين التي انزلها الله حيث قال الله: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان فعلم أن الأمم غير محتاجة إليه.
ملخص دعاوى أهل المنطق وكذبها:
وهم لا يدعون احتياج الناس إلى نفس ألفاظ اليونان بل يدعون الحاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم وهو كلامهم في المعقولات الثانية فان موضوع المنطق هو المعقولات الثانية من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فانه ينظر في أحوال المعقولات الثابتة وهي النسب الثابتة للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها أن كانت موصولة إلى تحصيل ما ليس بحاصل أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي بل على قانون كلي
ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل كما أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته فيميز بين ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل.
ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني كنسبة العروض إلى الشعر وموازين الأموال إلى الأموال وموازين الأوقات إلى الأوقات وكنسبة الذراع إلى المذروعات.
وهذا هو الذي قاله جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل فان منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل لا في صورة الدليل ولا في مادته ولا يحتاج أن يوزن به المعاني بل ولا يصح وزن المعاني به على ما هو عليه وإن كان فيه ما هو حق فلا بد في كلام كل مصنف من حق بل فيه أمور باطلة إذا وزنت بها العلوم أفسدتها.
ودعواهم أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره دعوى كاذبة بل من أكذب الدعاوى.
والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها فذكروا لمنطقهم أربع دعاوى دعوتان سالبتان ودعوتان موجبتان.
أدعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن
التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوي كذبا وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة وهذا أيضا باطل وقد تقدم البينة على هذه الدعاوى الثلاثة وسيأتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي امثل من غيرها وهى دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقى.
فان قالوا أن العلم التصديقي أو التصوري أيضا لا ينال بدونه فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقين اللتين ذكروهما ما ذكروه من الحد وما ذكروه من القياس وادعوا أن ما ذكروه من الطريقين يوصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم بمعنى أن ما يوصل لا بد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره فما ذكروه آلة قانونية به توزن الطرق العلمية ويميز به بين الطريق الصحيحة والفاسدة فمراعاة هذا القانون يعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق.
هذا ملخص دعاويهم وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوه فيه وإن كان في طرقهم ما هو حق كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل فما احد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولا بد أن يتضمن ما هو حق.
ما معهم من الحق أقل مما مع اليهود والنصارى والمشركين:
فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعلمية الأخلاق والمنازل والمداين
ولهذا كان اليونان مشركين كفارا يعبدون الكواكب والأصنام شرا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير ولولا أن الله من عليهم بدخول دين المسيح إليهم فحصل لهم من الهدى والتوحيد وما استفادوه من دين المسيح ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين.
ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا على دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم.
وقد قيل أن آخر ملوكهم كان صاحب المجسطى بطلميوس.
والمشهور المتواتر أن أرسطو وزير الاسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب أن هذا هو ذو القرنين المذكور في
القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيرا له كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله من الجهال بأخبار الأمم.
مقالات سخيفة للمتفلسفة والمتصوفة في الأنبياء المرسلين:
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر خضر موسى.
وهؤلاء منهم من يفضل الفلاسفة على الأنبياء في العلم ويقول أن هارون كان أعلم من موسى وإن عليا كان أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون أن الخضر كان أعلم من موسى وأن عليا وهارون والخضر كانوا فلاسفة يعلمون الحقائق العقلية العلمية أكثر من موسى وعيسى ومحمد لكن هؤلاء كانوا في القوة العلمية أكمل ولهذا وضعوا الشرائع العلمية.
وهؤلاء يفضلون فرعون على موسى ويسمونه أفلاطن القبطي وقد يقولون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته هو أفلاطن اليوناني أستاذ أرسطو ويقولون أن موسى كان أعلم من غيره بالسحر وإنه استفاد ذلك من حموه إذ كان عندهم ليست المعجزات إلا قوى نفسانية أو طبيعية أو فلكية من جنس السحر ولكن موسى كان مبرزا على غيره في ذلك.
إلى أمثال ذلك من المقالات التي تقولها الملاحدة المتفلسفة المنتمون إلى الإسلام في الظاهر من متشيع ومتصوف كابن سبعين وابن عربي وأصحابه
ولهم من هذا الجنس ما يطول حكايته مما يدل على أنهم من اجهل الناس بالمعقول والمنقول ولم يكفهم جهلهم بما جاءت به النبوات حتى ضموا إلى ذلك الجهل بأخبار العالم وأيام الناس والجهل بالعقليات.
فان أفلاطن أستاذ أرسطو كان قبل المسيح بأقل من أربعمائة سنة وذلك بعد موسى بمدة طويلة تزيد على فكيف يتعلم منه.
إبطال القول بحياة الخضر:
وقولهم أن الخضر هو أرسطو من اظهر الكذب البارد والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل والذين يقولون أنه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطا لا ريب فيه.
وسبب غلطهم أنهم يرون في الأماكن المنقطعة وغيرها من يظن أنه من الزهاد ويقول أنا الخضر وقد يكون ذلك شيطانا قد يتمثل بصورة آدمي.
وهذا مما علمنا في وقائع كثيرة حتى في مكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة
بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ رأسه راس الجبل وقال أنا الخضر وأنا نقيب الأولياء وقال للرجل الرائي أنت رجل صالح وأنت ولي الله ومد يده إلى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب إليه فناوله اياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل ومثل هذه الحكاية كثير.
وكل من قال أنه رأى الخضر وهو صادق أما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه ويظل ما في نفسه كان في الخارج كما يقع لكثير من أرباب الرياضات وأما أن يكون جنيا يتصور له بصورة إنسان ليضله وهذا كثير جدا قد علمنا منه ما يطول وصفه وأما أن يكون رأى انسيا ظن أنه الخضر وهو غالط في ظنه فان قال له ذلك الجني أو الإنسي أنه الخضر فيكون قد كذب عليه لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة.
وأما الأحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن احد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا اجتمع به لأنهم كانوا أكمل علما وإيمانا من غيرهم فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وإنما هو شيطان جاء إليهم فيضلهم.
ولو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن به ويجاهد معه كما اخذ الله الميثاق على الأنبياء وأتباعهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد وأصحابه.
وهو أن كان نبيا فنبينا أفضل منه وان لم يكن نبيا فأبو بكر وعمر أفضل منه وهذا مبسوط في موضعه
حقيقة شخصيات أرسطو والاسكندر وذي القرنين:
وكلامنا هنا في ضلال هؤلاء المتفلسفة الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات كقولهم أن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن لأنهم سمعوا أنه كان وزير الاسكندر وذو القرنين يقال له الاسكندر.
وهذا من جهلهم فان الاسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب إلى ارض القدس لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره وكان مشركا يعبد الأصنام وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام.
وذو القرنين كان موحدا مؤمنا بالله وكان متقدما على هذا ومن يسميه الاسكندر يقول هو الاسكندر بن دارا
ولهذا كان هؤلاء المفلسفة إنما راجوا على ابعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض وكجهال المتصوفة وأهل الكلام وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان أما كفارا وأما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك وكذلك إنما ينفقون دائما على اعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين.
مزيد الكلام على تحديدهم الاستدلال بمقدمتين فقط:
وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لا بد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل وقد عرف ضعفه.
ثم أنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد يكفى فيه مقدمة واحدة قالوا أنه ربما أدرج في القياس قول زائد أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين ويسمونه المركب قالوا ومضمونه أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات
ليس إلا واحدا قالوا وربما حذفت إحدى المقدمات أما للعلم بها أو لغرض فاسد وقسموا المركب إلى مفصول وموصول كما تقدم.
فيقال هذا اعتراف منكم بان من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات ومنها ما يكفى فيه مقدمة واحدة ثم قلتم أن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى أقيسة متعددة فيقال لكم إذا ادعيتم أن الذي لا بد منه إنما هو قياس واحد يشتمل على مقدمتين وان ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات فقولوا أن الذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وان ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات فإنما هو لبيان تلك المقدمة.
وهذا أقرب إلى المعقول فانه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه وهو ثبوت الخبر للمبتدأ أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل فالذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه.
وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب وليس تقدير عدد بأولى من عدد وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو للتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة.
ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفي وحدها في بيان المطلوب أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي طولب بالتمام الذي يحصل به الكفاية وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال كمن
طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص حين قال هذا حرام فقيل له لم قال لأنه نبيذ مسكر فهذه المقدمة كافية أن كان المستمع ممن يعلم أن كل مسكر حرام إذا سلم له تلك المقدمة.
وان منعه إياها وقال لا نسلم أن هذا مسكر احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها وهذا قياس تمثيل وهو مفيد لليقين فان الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر علم أن الباقي منه مسكر لأن حكم بعضه مثل بعض وكذلك سائر القضايا التجربية كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية إنما هو بواسطة قياس التمثيل.
وان كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام احتاج إلى مقدمتين إلى إثبات أن هذا مسكر والى أن كل مسكر خمر فيثبت الثانية بأدلة متعددة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" و"كل شراب اسكر فهو حرام " وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال: " كل مسكر حرام" وهذه الأحاديث في الصحيح وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرام كل شراب اسكر.
فان قال أنا اعلم أنه خمر لكن لا اسلم أن الخمر حرام أو لا اسلم أنه حرام مطلقا اثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا.
مزيد البيان أن المقدمة الواحدة قد تكفي:
ومما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه كما تقدم بيانه ولما كان الحد الأول مستلزما للأوسط
والأوسط للثالث ثبت أن الأول مستلزم للثالث فان ملزوم الملزوم ملزوم ولازم اللازم لازم فالحكم لازم من لوازم الدليل لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما والوسط ما يقرن بقولك لأنه.
وهذا مما ذكره المنطقيون ابن سينا وغيره ذكروا الصفات اللازمة للموصوف وان منها ما يكون بين اللزوم وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي فقالوا له كثير من الصفات اللازمة لا يفتقر إلى وسط وهي البينة اللزوم والوسط عند هؤلاء هو الدليل.
وأما ما ظنه بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد فهذا خطا ومع هذا يتبين حصول المراد على التقديرين فنقول.
إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل يتوسط بينهما فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له وإذا كان بينهما وسط فذاك الوسط إذا كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بينا لم يفتقر إلى وسط ثان.
وان كان احد الملزومين غير بين بنفسه احتاج إلى وسط وان لم يكن واحد منهما بينا احتاج إلى وسطين وهذا الوسط هو حد تكفي فيه مقدمة واحدة.
فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر فقيل لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر أو كل مسكر حرام" فهذا الوسط وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له إلى وسط ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط فان كل احد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه وكل
مؤمن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حرم شيئا حرم.
ولو قال الدليل على تحريمه أنه مسكر فالمخاطب أن كان يعرف أن ذلك مسكر والمسكر محرم سلم له التحريم ولكنه كان غافلا عن كونه مسكرا أو جاهلا بكونه مسكرا.
وكذلك إذا قال لأنه خمر فان اقر أنه خمر ثبت التحريم وإذا اقر بعد إنكاره فقد يكون كان جاهلا فعلم أو غافلا فذكر فليس كل من علم شيئا كان ذاكرا له.
الخلاف في أن العلم بالمقدمتين كاف في العلم بالنتيجة أم لا:
ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين هل هو كاف في العلم بالنتيجة أم لا بد من التفطن لأمر ثالث وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره قالوا لأن الإنسان قد يكون عالما ب أن البغلة لا تلد ثم يغفل عن ذلك ويرى بغلة منتفخة البطن فيقول أهذه حامل أم لا فيقال له أما تعلم أنها بغلة فيقول بلى ويقال له أما تعلم أن البغلة لا تلد فيقول بلى قال فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد.
ونازعه الرازي وغيره وقالوا هذا ضعيف لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى أن كان مغايرا للمقدمتين كان ذلك مقدمة أخرى لا بد فيها من الإنتاج ويكون الكلام في كيفية التيامها مع الأوليين كالكلام في كيفية التيام الأوليين ويفضى ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات وان لم يكن ذلك معلوما مغايرا للمقدمتين استحال أن يكون شرطا في الإنتاج لأن الشرط مغاير للمشروط وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطا وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط أما الصغرى وأما الكبرى وأما عند اجتماعهما في الذهن فلا نسلم أنه يمكن الشك أصلا في النتيجة.
قلت: وحقيقة الأمر أن هذا النزاع لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين فقط
وليس الأمر كذلك بل المحتاج إليه هو ما به يعلم المطلوب سواء كانت مقدمة أو اثنتين أو ثلاثا والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة فإذا تذكر صار معلوما بالفعل وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تحبل وهذه المقدمة كان زاهلا عنها فلم يكن عالما بها العلم الذي يحصل به الدلالة فان المغفول عنه لا يدل حين ما يكون مغفولا عنه بل إنما يدل حال كونه مذكورا إذ هو بذلك يكون معلوما علما حاضرا.
والرب تعالى منزه عن الغفلة والنسيان لأن ذلك يناقض حقيقة العلم كما أنه منزه عن السنة والنوم لأن ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية فان النوم اخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون وكانوا يلهمون التسبيح كما يلهم احدنا النفس.
والمقصود هنا أن وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له سواء سمي استحضارا أو تفطنا أو غير ذلك فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له علم أنه دال عليه وهذا اللزوم أن كان بينا له وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو ثنتين أو ثلاثة أو أكثر.
والأوساط تتنوع بتنوع الناس فليس ما كان وسطا مستلزما للحكم في حق هذا هو الذي يجب أن يكون وسطا في حق الآخر بل قد يحصل له وسط آخر.
فالأوساط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم وهما المحكوم والمحكوم عليه فان الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكما له والأواسط التي هي الأدلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية كما إذا كان الوسط خبر صادق فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا.
وإذا رأى الناس الهلال وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين اخبروا غيرهم.
والقران والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير
وسائط غيرهم لا سيما في القرن الثاني والثالث فهؤلاء هم مقرئون ومعلمون وهؤلاء مقرئون ومعلمون وهؤلاء هم وسائط وهم الأواسط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله وهم الذين دلوهم على ذلك بإخبارهم وتعليمهم.
وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس إذا نبه عليها منه وارشد إليها مرشد فذلك أيضا مما يختلف ويتنوع ونفس الوسائط العقلية تتنوع وتختلف.
وأما من جعل الوسط في اللوازم هو وسطا في نفس ثبوتها للموصوف فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه وبتقدير صحته فالوسط الذهني اعم من الخارجي كما أن الدليل اعم من العلة فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول وليس كل دليل يكون علة في نفس الأمر.
وكذلك ما كان متوسطا في نفس الأمر أمكن جعله متوسطا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس لأن الدليل هو ما كان مستلزما للمدلول فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به.
فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها وقد لا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن وان تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض.
لا يلتزم الاستدلال بمقدمتين فقط إلا أهل المنطق:
ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين لا أكثر ولا أقل ويجتهد في رد الزيادة إلى ثنتين وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين إلا أهل منطق اليونان ومن سلك سبيلهم دون من كان باقيا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان
وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل.
وكذلك أهل النحو والطب والهندسة لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل وما استفادوا بما تلقوه عنهم علما إلا علما يستغني عن باطل كلامهم أو ما يضر ولا ينفع لما فيه من الجهل أو التطويل الكثير.
ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم ومناظرتهم لغيرهم تعليما وإرشادا ومجادلة على ما ذكرت وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء.
وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق ويبينون ما فيها من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك ولا يرضون أن يسلكوها في نظرهم ومناظرتهم لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه.
الإمام الغزالي وعلم المنطق:
وإنما كثر استعمالها من زمن أبي حامد فانه ادخل مقدمة من المنطق في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق
وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر.
وصنف كتابا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين الضروب الثلاثة الحمليات والشرطي المتصل والشرطي المنفصل وغير عبارتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين وزعم أنه اخذ تلك الموازين من الأنبياء وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم.
وصنف كتابا في مقاصدهم وصنف كتابا في تهافتهم وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد.
وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة لا توصل إلى يقين وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين لكن بعد أن أودع كتبه المضنون بها على غير أهلها وغيرها من معاني كلامهم الباطل المخالف لدين المسلمين ما غير عبارته وعبر عنه بعبارة المسلمين
التي لم يريدوا بها ما أراده كما يأخذ لفظ الملك والملكوت والجبروت.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة والجبروت والملكوت فعلوت الجبر والملك كالرحموت والرغبوت والرهبوت فعلوت من الرحمة والرغبة والرهبة والعرب تقول رهبوت خير من رحموت أي أن ترهب خير من أن ترحم.
ف الجبروت والملكوت يتضمن من معاني أسماء الله تعالى وصفاته ما دل عليه معنى الملك الجبار وأبو حامد يجعل عالم الملك عالم الأجسام وعالم الملكوت والجبروت عالم النفس والعقل ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يقصدوا بهذا اللفظ هذا.
بل ما يثبته المتفلسفة من العقل باطل عند المسلمين بل هو من أعظم الكفر فان العقل الأول عندهم مبدع كل ما سوى الله والعقل العاشر مبدع ما تحت فلك القمر وهذا من أعظم الكفر عند المسلمين واليهود والنصارى.
والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا وهو أيضا غريزة في الإنسان فمسماه من باب الأعراض لا من باب الجواهر القائمة بأنفسها وعند المتفلسفة مسماه من النوع الثاني.
والملائكة التي أخبرت بها الرسل وإن كان بعض من يريد بالجمع بين النبوة والفلسفة يقول أنها العقول فهذا من أبطل الباطل فبين ما وصف الله به الملائكة في كتابه وبين العقول التي يثبتها هؤلاء من الفروق ما لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته كما قد بسطنا ذلك في موضعه.
والحديث الذي يروى أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك فبك
آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب هو حديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وبين من وضعه وكذلك ذكر ضعفه أبو حاتم بن حيان والعقيلي وابن الجوزي وغيرهم.
ومع هذا فلفظه أول ما خلق الله العقل قال له فمدلوله أنه خاطبه في أول أوقاته خلقه ليس مدلوله أنه أول المخلوقات وفي تمامه أنه قال ما خلقت خلقا أكرم على منك فدل أنه خلق قبله غيره وفيه أنه مخلوق.
وأبو حامد يفرق بين عالم الخلق وعالم الأمر فيجعل الأجسام عالم الخلق والنفوس والعقول عالم الأمر وهذا أيضا ليس من دين المسلمين بل كل ما سوى الله مخلوق عند المسلمين والله تعالى خالق كل شيء.
وإذا ادعو أن العقول التي أثبتوها هي الملائكة في كلام الأنبياء فقد ثبت بالنص والإجماع أن الله خلق الملائكة بل خلقهم من مادة كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الملائكة من نور وخلق
الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" فبين أن الملائكة مخلوقون من مادة موجودة قبلهم فأين هذا من قول من ينفى الخلق عنها ويقول أنها مبتدعة لا مخلوقة أو يقول أنها قديمة أزلية لم تكن من مادة أصلا وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود هنا أن كتب أبى حامد وإن كان يذكر فيها كثيرا من كلامهم الباطل أما بعبارتهم أو بعبارة أخرى فهو في آخر أمره يبالغ في ذمهم ويبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريقة المتكلمين ومات وهو مشتغل ب البخاري ومسلم والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول ما حصل له مقصوده ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة بل كان متوقفا حائرا فيما هو من أعظم المطالب العالية الإلهية والمقاصد السامية الربانية ولم يغن عنه المنطق شيئا.
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم أنه ما زال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة وجمهور المسلمين يعيبونه عيبا مجملا لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضى بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال.
والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب نظري على مقدمتين لا أكثر ليس كذلك
دعواهم إضمار إحدى المقدمتين في قياس الضمير:
وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير ويقولون أنها قد تحذف أما للعلم بها وأما غلطا وأما تغليطا.
فيقال إذا كانت معلومة كانت كغيرها من المقدمات المعلومة وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاثة وأربعة فان جاز أن يدعى في الدليل الذي لا يحتاج إلا إلى مقدمة أن الأخرى مضمرة محذوفة جاز أن يدعى فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث وليس لذلك حد ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك
وجود الركة والعى في كلام أهل المنطق:
ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم ما يوجد في كلام أهل المنطق بل من سلك طريقهم كان من المضيقين لطريق العلم عقولا وألسنة ومعانيهم من جنس ألفاظهم تجد فيها من الركة والعى ما لا يرضاه عأقل.
وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا ابن سينا من فلاسفة الإسلام فقال ليس للإسلام فلاسفة كان يعقوب يقول في أثناء كلامه لعدم فقد وجود كذا وأنواع هذه الإضافات.
ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم.
التباس أمر المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه:
وهم أكثر ما ينفقون على من لا يفهم ما يقولونه ويعظمهم بالجهل والوهم
أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما يعرف بالعقول السليمة وما قاله سائر العقلاء مناقضا لما قالوه وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقه واقترن بها حسن الظن فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله.
ثم أن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبر أهم منهم بل وردهم عليهم وإلا بقى في الضلال.
وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة وإنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه.
واتفق أن فيه أمورا ظاهرة مثل الشكل الأول ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم فيه بل طولوا فيه الطريق وسلكوا الوعر والضيق ولم يهتدوا فيه إلى ما يفيد التحقيق.
وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطأوا في إثباته بل ما أخطأوا في نفيه حيث زعموا أن العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس.
تلازم قياس الشمول وقياس التمثيل وبيانه بالأمثلة:
وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة القياس والاستقراء والتمثيل وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين وإنما يفيده القياس الذي تكون مادته من القضايا التي ذكروها.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان وأن ما حصل بأحدهما من علم أو ظن حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة
والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية بل إذا كانت المادة يقينية سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول فهي واحدة وسواء كانت صورة القياس اقترانيا او استثنائيا بعبارتهم أو بأي عبارة شئت لا سيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل وأوجز في اللفظ والمعنى واحد.
وحد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت هذا إنسان وكل إنسان مخلوق أو حيوان أو حساس أو متحرك بالإرادة أو ناطق أو ما شئت من لوازم الإنسان فان شئت صورت الدليل على هذه الصورة وإن شئت قلت هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات وإن شئت قلت هذا إنسان والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام فهي لازمة له وإن شئت قلت أن كان إنسانا فهو متصف بهذا الصفات اللازمة للإنسان وإن شئت قلت أما أن يتصف بهذه الصفات وأما أن لا يتصف والثاني باطل فتعين الأول لأن هذه لازمة للإنسان لا يتصور وجوده بدونها.
الاستقراء ليس استدلالا بجزئي على كلي:
وأما الاستقراء فإنما يكون يقينيا إذا كان استقراء تاما وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد وهذا ليس استدلالا يجزئى على كلى ولا بخاص على عام بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر فان وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلى العام يوجب أن يكون لازما لذلك الكلى العام.
فقولهم أن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق وكيف ذلك والدليل لا بد أن يكون ملزوما للمدلول فانه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه ولم يكن المدلول لازما له لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل نعلم ثبوت
المدلول معه إذا علمنا أنه تارة يكون معه وتارة لا يكون معه فانا إذا علمنا ذلك ثم قلنا أنه معه دائما كنا قد جمعنا بين النقيضين.
وهذا اللزوم الذي نذكره هنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى فانه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته فكل مخلوق دال على ذلك كله.
وإذا كان المدلول لازما للدليل فمعلوم أن اللازم أما أن يكون مساويا للملزوم وأما أن يكون أعم منه فالدليل أما أن يكون مساويا للحكم المدلول في العموم والخصوص وأما أن يكون اخص منه لا يكون الدليل أعم منه.
القياس استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى:
وإذا قالوا في القياس يستدل بالكلى على الجزئي فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه إنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه محل الحكم فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له بخلاف الحكم الذي هو صفة هذا وحكمه الذي اخبر به عنه فانه لا يكون إلا اعم من الدليل أو مساويا له فان ذلك هو المدلول اللازم للدليل والدليل هو لازم المخبر عنه الموصوف.
فإذا قيل النبيذ حرام لأنه خمر كونه خمرا هو الدليل وهو لازم للنبيذ والتحريم لازم للخمر.
والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر وكل مسكر أو كل خمر حرام فأنت لم تستدل ب المسكر أو الخمر الذي هو كلى على نفس محل النزاع الذي هو اخص من الخمر وهو النبيذ فليس هو استدلالا بذلك الكلى عل هذا الجزئي بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ فلما كان
تحريم هذا النبيذ مندرجا في تحريم كل مسكر قال من قال أنه استدلال بالكلى على الجزئي والتحقيق أن ما ثبت للكلى فقد ثبت لكل واحد من جزئياته والتحريم أعم من الخمر وهو ثابت لها فهو ثابت لكل فرد فرد من جزئياتها فهو استدلال بكلى على ثبوت كلى آخر لجزئيات ذلك الكلى وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلى الذي هو الحكم وهو كلى بالنسبة إلى تلك الجزئيات التي هي المحكوم عليها.
وهذا مما لا يتنازعون فيه فان الدليل هو الحد الأوسط وهو اعم من الأصغر أو مساو له والأكبر اعم منه أو مساو له والأكبر هو الحكم والصفة والخبر وهو محمول النتيجة والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ وهو موضوع النتيجة.
قياس التمثيل هو اشتراك الجزئيين في علة الحكم:
وأما قولهم في التمثيل أنه استدلال بجزئي على جزئي فان أطلق ذلك وقيل أنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي فهو غلط فان قياس التمثيل إنما يدل بحد أوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم أو دليل الحكم مع العلة فانه قياس علة أو قياس دلالة.
لا تعلم صحة القياس في قياس الشبه:
وأما قياس الشبة فإذا قيل به لم يخرج عن أحدهما فان الجامع المشترك بين الأصل والفرع أما أن يكون هو العلة أو ما يستلزم العلة وما استلزمها فهو دليلها وإذا كان الجامع لا علة ولا ما يستلزم العلة لم يكن الاشتراك فيه مقتضيا للاشتراك في الحكم بل كان المشترك قد يكون معه العلة وقد لا يكون فلا يعلم حينئذ أن علة الأصل موجودة في الفرع فلا يعلم صحة القياس بل لا يكن صحيحا إلا إذا اشتركا فيها ونحن لا نعلم الاشتراك فيها إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها أو في ملزومها فان ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم فإذا قدرنا أنهما لم
يشتركا في الملزوم ولا فيها كان القياس باطلا قطعا لأنه حينئذ تكون العلة مختصة بالأصل وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس.
وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع وإن لم يعلم عين العلة ولا دليلها فانه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم.
وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق وأما بإبداء جامع وهو كلى يجمعهما يستلزم الحكم وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلى لجزئياته وهذا حقيقة قياس الشمول ليس ذلك استدلالا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر.
فأما إذا قيل بما يعلم أن المشترك مستلزم الحكم قيل مما تعلم القضية الكبرى في القياس فبيان الحد الأوسط هو المشترك الجامع ولزوم الحد الأكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك كما قد تقدم التنبيه على هذا.
وقد يستدل بجزئي على جزئي إذا كانا متلازمين أو كان أحدهما ملزوم الآخر من غير عكس فان كان اللزوم عن الذات كانت الدلالة على الذات وإن كان في صفة أو حكم كانت الدلالة على الصفة والحكم.
فقد تبين ما في حصرهم من الخلل وأما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة فكلها تعود إلى ما ذكروه في استلزام الدليل للمدلول.
عود الاقتراني والاستثنائي إلى معنى واحد:
وما ذكروه في الاقتراني يمكن تصويره بصورة الاستثنائي وكذلك الاستثنائي يمكن تصويره بصورة الاقتراني فيعود الأمر إلى معنى واحد
وهو مادة الدليل والمادة لا تعلم من صور القياس الذي ذكروه بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة سواء صورت بصورة القياس أو لم تصور وسواء عبر عنها بعباراتهم أو بغيرها بل العبارات التي صقلها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير.
والاقترانى كله يعود إلى لزوم هذا لهذا وهذا لهذا كما ذكر وهذا بعينه هو الاستثنائي المؤلف من المتصل والمنفصل.
فان الشرطي المتصل استدلال باللزوم بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم هو التالي وهو الجزاء أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم هو المقدم وهو الشرط.
وأما الشرطي المنفصل وهو الذي يسميه الأصوليون السبر والتقسيم وقد تسميه أيضا الجدليون التقسيم والترديد فمضمونه الاستدلال بثبوت احد النقضين على انتفاء الآخر وبانتفائه على ثبوته أو الاستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر وأقسامه أربعة ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه أن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذلك الآخر وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذلك الآخر.
ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت احد الضدين على انتفاء الآخر والأمران متنافيان
ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم والنقيضان لا يرتفعان فمنعت الخلو منهما ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر ليس هو وجود الشيء وعدمه ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازما للآخر وإن كانا لا يرتفعان لأن ارتفاعهما يقتضى ارتفاع وجود شيء وعدمه معا.
مدار الاستدلال على مادة العلم لا على صورة القياس:
وبالجملة ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه وله مناف مضاد لوجوده فيستدل عليه بثبوت ملزومه وعلى انتفائه بانتفاء لازمه.
ويستدل على انتفائه بوجود منافيه ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده إذا انحصر الأمر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعا كما لم يمكن وجودهما جمعيا.
وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولوازمها وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع من صور الأدلة لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس فضلا عما سموه البرهان فان البرهان شرطوا له مادة معينة وهي القضايا التي ذكروها واخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات وما سموه مشهورات وحكم الفطرة بهما لا سيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان.
وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم وأن ما أخرجوه يخرج به ما ينال به اشرف العلوم من العلوم النطرية والعلوم العملية ولا يبقى بأيديهم إلا أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان ولولا أن هذا الموضع لا يتسع لحكاية ألفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والإلهية فإنها هي المطلوبة.
والكلام في المنطق إنما وقع لما زعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن
يزل في فكره فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة هل هي كما قالوا أو ليس الأمر كذلك.
تزييف القول بأن هذه علوم قد صقلتها الأذهان الخ:
ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقولهم ما يتبين به ضلالهم وعجز عن دفع ذلك يقول هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء فيقال له عن هذا أجوبة.
أحدها: أنه ليس الأمر كذلك فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم.
فأما القدماء فالنزاع بينهم كثير معروف وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره.
وأما أيام الإسلام فان كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية بل والطبيعية بل والرياضية كثير قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة.
وأما شهادة سائر العلماء وطوائف أهل الإيمان بضلالهم وكفرهم فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند والمؤمنون شهداء الله في الأرض.
فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم أما جملة وأما تفصيلا امتنع أن كون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول.
الوجه الثاني: أن هذا ليس بحجة فان الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبلة بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم المنطقية وغيرها وبينوا خطأهم ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله لأنهم يقولون إنما قصدنا الحق ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين
الثالث: أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو فان أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة فانه كان في زمن الاسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى.
الرابع: أن يقال فهب أن الأمر كذلك فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل وإنما تعلم بمجرد العقل فلا يجوز أن تصحح بالنقل بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها لم يجز رده فان أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عمن يجب تصديقه بل عن عقل محض فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح
فصل:
قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن عند المناطقة بخلاف الاستقراء:
وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل دون الاستقراء فقالوا أن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن وإن المحكوم عليه قد يكون جزئيا بخلاف الاستقراء فانه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليا.
قالوا وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلى بما تحقق في جزئياته فان كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك ب الجسمية لكونها محكوما بها على جميع جزئيات المتحرك من الحيوان والجماد والنبات
والناقص كالحكم على الحيوان ب أنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته ولعله فيما لم يستقرا على خلافه كالتمساح والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني وإن كان منتفعا به في الجدليات.
وأما قياس التمثيل فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما كقولهم العالم موجود فكان قديما كالباري أو هو جسم فكان محدثا كالإنسان وهو مشتمل على فرع واصل وعلة وحكم فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان والعلة الموجود أو الجسم والحكم القديم أو المحدث.
قالوا ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيا والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا.
إشكالات أوردها نظار المسلمين على قياس التمثيل:
قالوا وهو غير مفيد لليقين فانه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم وكل ما يدل عليه فظني فان المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم.
أما الطرد والعكس فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما ولا بد في ذلك من الاستقراء ولا سبيل إلى دعواه في الفرع إذ هو غير المطلوب فيكون الاستقراء ناقصا لا سيما ويجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها ويكون وجودها في الأوصاف متحققا فيها فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته وعند انتفائه فينتفى لنقضان العلة وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع ثبوت الحكم لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها
وأما السبر والتقسيم فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة وإبطال كل ما عدى المستبقى وهو أيضا غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتا في الأصل لذات الأصل لا لخارج وإلا لزم التسلسل وان ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها ابدا وان لم يطلع عليه البحث عنه وليس الأمر كذلك في العاديات فانا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر من زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا ونحن لا نشاهده وان كان منحصرا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تحلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى ولا امتناع فيه وان كان لا علة له سواه فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه وان بين أن ذلك الوصف يلزمه لعموم ذاته الحكم فمع بعده يستغنى عن التمثل.
قالوا والفراسة البدنية هي عين التمثيل غير أن الجامع فيها بين الأصل والفرع دليل العلة لا نفسها وهو المسمى في عرف الفقهاء ب قياس الدلالة فإنها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الآخر إذ مبناها على أن المزاج علة لخلق باطن وخلق ظاهر فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج ثم بالمزاج على الخلق الباطن كالاستدلال ب عرض الأعلى على الشجاعة بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الأسد.
ثم إثبات العلة في الأصل لا بد فيها من الدوران أو التقسيم كما تقدم وان قدر أن علة الحكمين في الأصل واحدة فلا مانع من ثبوت أحدهما في الفرع بغير علة الأصل وعند ذلك فلا يلزم الحكم الآخر.
هذا كلامهم على ما حرره لهم نظار المسلمين الذين أوردوا على قياس التمثيل هذه الإشكالات وإلا فكلام أئمتهم في قياس التمثيل ليس فيه هذا التحرير الذي
حرره لهم نظار المسلمين.
رد المنصف إشكالاتهم على قياس التمثيل:
فيقال تفريقهم بين قياس المشمول وقياس التمثيل بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن فرق باطل بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن فان إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه عل صورة أحدهما دون الآخر بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين فان كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين وان لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن.
والذي يسمى في أحدهما حدا أوسط هو في الآخر الوصف المشترك والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الأصل والفرع فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك.
فإذا قلت النبيذ حرام قياسا على الخمر لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة وهذا الوصف موجود في النبيذ كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالنتيجة قولك النبيذ حرام والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر والحرام محمولها وهو الحد الأكبر والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى.
فإذا قلت النبيذ حرام قياسا على خمر العنب لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو موجود في الفرع فثبت التحريم لوجود علته فإنما استدللت على تحريم النبيذ ب المسكر وهو الحد الأوسط لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الأصل الذي ضربته مثلا للفرع وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي وإذا قام الدليل على تأثير الوصف
المشترك لم يكن ذكر الأصل محتاجا إليه.
والقياس لا يخلو أما أن يكون ب إبداء الجامع أو بإلغاء الفارق والجامع أما العلة وأما دليلها وأما القياس بإلغاء الفارق فهنا إلغاء الفارق هو الحد الأوسط.
فإذا قيل هذا مساو لهذا ومساوي المساوي مساو كانت المساواة هي الحد الأوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة فإذا قيل لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو مهدر فهو بمنزلة قولك هذا مساو لهذا وحكم المساوي حكم مساويه.
وأما قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم فظني فيقال لا نسلم فان هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا ثم نقول الذي يدل به على عليه المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس الثمثيل سواء كان علميا أو ظنيا فان الجامع المشترك في التمثيل هو الحد الأوسط ولزوم الحكم له هو لزوم الأكبر للأوسط ولزوم الأوسط للأصغر هو لزوم الجامع المشترك للأصغر وهو ثبوت العلة في الفرع.
فإذا كان الوصف المشترك وهو المسمى ب الجامع والعلة أو دليل العلة أو المناط أو ما كان من الأسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتا في الفرع لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى وإذا كان الحكم ثابتا للوصف لازما له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى وذكر الأصل يتوصل به إلى إثبات إحدى المقدمتين.
فان كان القياس ب إلغاء الفارق فلا بد من الأصل المعين فان المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما وهو إلغاء الفارق وهو الحد الأوسط وإن كان
القياس بإبداء العلة فقد يستغنى عن ذكر الأصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر إليه وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف إليه فيذكر الأصل لأنه من تمام ما يدل على علية المشترك وهو الحد الأكبر.
وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل وقياس الشمول اخذوا يظهرون كون أحدهما ظنيا في مواد معينة وتلك المواد التي لا تفيد إلا الظن في قياس التمثيل لا تفيد إلا الظن في قياس الشمول وإلا فإذا أخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول أفاد اليقين في قياس التمثيل أيضا وكان ظهور اليقين به هناك أتم.
فإذا قيل في قياس الشمول كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم كان الحيوان هو الحد الأوسط وهو المشترك في قياس التمثيل بأن يقال الإنسان جسم قياسا على الفرس وغيره من الحيوانات فان كون تلك الحيوانات حيوانا هو مستلزم لكونها أجساما سواء كان علة أو دليل العلة والحيوانية موجودة في الإنسان فيكون جسما.
وإذا نوزع في علية الحكم في الأصل فقيل له لا نسلم أن الحيوانية تستلزم الجسمية كان هذا نزاعا في قوله كل حيوان جسم وذلك أن المشترك بين الأصل والفرع إذا سمى علة فانما يراد به ما يستلزم الحكم سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج أو كان مستلزما لذلك يسمى الأول قياس علة والثاني قياس دلالة.
ومن الناس من يسمى الجميع علة لا سيما من يقول أن العلة إنما يراد بها المعرف وهو الأمارة والعلامة والدليل لا يراد بها الباعث والداعي.
ومن قال أنه قد يراد بها الداعي وهو الباعث وهذا قول أئمة الفقهاء وجمهور المسلمين فانه يقول ذلك في علل الأفعال وأما غير الأفعال فقد تفسر العلة فيها بالوصف المستلزم كاستلزام الإنسانية ل الحيوانية والحيوانية
للجسمية وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الآخر.
عل أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما به يعلم كون الحيوان جسما به يعلم أن الإنسان جسم حيث بينا أن قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات به يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى بل وبذلك يعلم صدق النتيجة كما في قول القائل الكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشئ واحد متساوية والضدان لا يجتمعان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
حقيقة توحيد الفلاسفة:
وهذا كقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه أن ثبت لهم أن الرب تعالى بمعنى الواحد الذي يدعونه وهو أنه ليس له صفة ثبوتية أصلا بل هو مسلوب لكل أمر ثبوتي لا يوصف إلا بالسلب المحض أو بما لا يتضمن إلا السلب كالإضافة التي هي معنى السلب وجعلوا إبداعه للعالم أمرا عدميا لكونه إضافة عندهم وجعلوا العلم والعالم والمعلوم والعشق والعاشق والمعشوق واللذة كل ذلك أمورا عدمية ليس فيها أمر ثبوتي وادعوا أن نفس العلم والعناية والقدرة هو نفس العالم القادر المريد ونفس العلم هو نفس القدرة ونفس القدرة هو نفس العناية وهذا كله هو العشق وهو اللذة والعشق واللذة هو العاشق الملتذ والعشق واللذة هو نفس العلم ونفس القدرة وعلمه بنفسه هو علمه بالمعلومات إلى أمثال ذلك مما يتضمنه قولهم الذي يسمونه توحيد واجب الوجود.
رد قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد:
فان قدر ثبوت هذا المعنى الذي يسمونه توحيدا مع أن جماهير العقلاء من جميع الأمم إذا تصوروا ذلك علموا بضرورة العقل أن هذا قول باطل متناقض فان قدر ثبوته قيل حينئذ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقررونه بقولهم
لأنه لو صدر عنه اثنان لكان مصدر الألف غير مصدر الجيم وكان المصدر مع هذا الصادر مخالفا لهذا المصدر مع هذا الصادر فيكون في المصدر جهتان وذلك ينافى الوحدة وبهذا اثبتوا أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لئلا يكون فيه جهتان جهة فعل وجهة قبول فيكون مركبا.
فيقال لهم إذا كان صدور الصادرات عنه هو فعله لها والفعل إضافة محضة إليه وهو عندكم لا يوصف بصفة ثبوتية بل لا يوصف إلا بما هو سلب وقلتم أن الإضافة هنا سلب لم يكن ولو صدر عنه ألف صادر إلا بمنزلة سلب الأشياء عنه وإذا قلتم ليس هو بعرض ولا ممكن ولا محدث ونحو ذلك لم تكن كثرة السلوب توجب أمرا ثبوتيا والإبداع عندكم لا يوجب له وصفا ثبوتيا فكثرة الإبداعات منه لا توجب له وصفا ثبوتيا.
هذا مع أنهم متناقضون في جعلهم الإبداع أمرا عدميا بل في قولهم هو إضافة والإضافة أمرا عدميا قد قرروا في العلم الأعلى عندهم القاسم ل الوجود ولواحقه أن الوجود ينقسم إلى جوهر وعرض ومن الأعراض أن يفعل ومنها الإضافة والإبداع هو من مقولة أن يفعل وهو أمر وجودي وإبداع الباري أكمل من كل إبداع فكيف يكون أكمل أنواع أن يفعل عدميا.
ثم هم جعلوا الإضافة جنسا غير أن يفعل فان ثبت هذا بطل جعل إبداعه للعالم مجرد إضافة وإن سلم أنه إضافة ف الإضافة عندهم من جملة الأجناس الوجودية وهذا وأمثاله مما يبين فساد ما قالوه في الإلهيات من التعطيل مما يطول وصفه.
ثم إذا سلم هذا وسلم أن الإضافة عدمية وكثرة العدميات له لا توجب تكثر أمور ثبوتية فيه مثل تكثر سائر السلوب وإذا قدر أنه أبدع كل شيء بلا واسطة لم يكن في هذا إلا كثرة أمور عدمية يتصف بها وتلك لا توجب كثرة في
ذاته مثل سلب جميع المبدعات عنه فإذا قيل ليس بفلك ولا كوكب ولا شمس ولا جنة ولا نار ولا هواء ولا تراب ولا حيوان ولا إنسان ولا نبات كان سلبها عنه بمنزلة إضافتها إليه عندهم وإذا لم يكن هذا إثبات كثرة في ذاته فكذلك الآخر.
وقولهم مصدر ألف غير مصدر باء وهو مع هذا غير كونه مع هذا كما يقال سلب ألف عنه غير سلب باء عنه والشئ مع سلب ألف عنه ليس هو ذاك مع سلب باء عنه وإذا قيل كثرة السلوب لا توجب تعدد أمر ثبوتى له قيل وكثرة الإضافات كذلك عندكم.
ثم يقال الإضافات إليه مثل كونه علة ومبدعا وخالقا وفاعلا ونحو ذلك أما أن يوجب كون الفعل أمرا ثبوتيا يقوم به وأما أن لا يوجب ذلك فان كان الفعل أمرا ثبوتيا قام به بطل نفيكم للصفات ولزم أنه موصوف بالأمور الثبوتية التي منها تهربون وإن لم يكن ثبوتيا كان عدميا فلم يكن في كثرة المفعولات إلا كثرة الأفعال التي هي عدمية وكثرة العدميات لا توجب اتصافه بأمر ثبوتى وإذا كان كونه فاعلا عندكم ليس وصفا ثبوتيا فكونه قابلا كذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا يمتنع كون الشيء فاعلا وقابلا.
ومعلوم أن هذا التناقض لزمهم لكونهم جعلوا الأمور الوجودية عدما كما جعلوا نفس الفعل والتأثير ليس إلا إضافة عدمية ثم ادعوا ذلك في أكمل الفاعلين فعلا وأحقهم بالوجود التام من سائر الموجودات وإلا فهم قد قرروا في العلم الكلى أن الفعل والانفعال أمران وجوديان وهما من الأعراض الموجودة وهما مقولة أن يفعل وأن ينفعل وأن يفعل هو الفعل وأن ينفعل هو القبول وأثبتوا في بعض الأفعال الطبيعية أنها أمور وجودية وأن الفعل هناك وجودي ولكن نقضوا ما ذكروا هناك في العلم الإلهي
وكان ما نفوه أحق بالإثبات مما أثبتوه إذ كانوا معرضين عن الله ومعرفته وعبادته جاهلين بما يجب له ويستحقه يعبدون المخلوقات ويعظمونها ويعرفون من كمالها ما يتخذونها به آلهة إشراكا منهم بالله ويدعون رب العالمين لا يعرفونه ولا يعبدونه ولا يعرفون ما يستحقه من الكمال الذي به يجب أن يعبد بل الذي يعلم به أنه لا يستحق العبادة إلا هو وهذا كله مبسوط في مواضعه.
وأرسطو وأصحابه القدماء لم يثبتوا له فعلا ولا جعلوه مبدعا لبعدهم عن معرفته ولهذا كان في قولهم من الفساد ما يطول وصفه ولكن ابن سينا وأتباعه لما جعلوه مبدعا ظهر في كلامهم مثل هذا التناقض.
والمقصود هنا الكلام على المنطق ومثلنا بهذا إلا أن هذا من اشرف المطالب الإلهية التي يختصون هم بأثباتها والمقصود أن نبين أنه لا فرق بين القياس الشمولي والتمثيلي إذا أعطى كل منهما حقه.
ما أمكن إثباته بقياس الشمول كان إثباته ب التمثيل أظهر:
ثم إذا قدر أن ما ذكروه يدلهم على أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بهذا الطريق أثبت ذلك ب قياس التمثيل وكان أحسن مثل أن يقال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فالأول لا يصدر عنه إلا واحد لأن الواحد بسيط والبسيط لا يصدر عنه إلا بسيط كما أن الحار لا يصدر عنه إلا الحرارة والبارد لا يصدر عنه إلا البرودة وأمثال ذلك مما يذكر في الطبيعيات.
ومن هنا قالوا في الإلهيات الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لكن إذا أرادوا أن يثبتوا ذلك في الإلهيات ب قياس شمولي وقدر صحته أمكن جعله قياسا تمثيلا وإن قدر أنهم عجزوا أما مطلقا وأما في رب العالمين لكون الوحدة التي وصفوه بها تعطيلا له في الحقيقة ونفيا لوجوده وعجزوا عنه ولم يكن معهم إلا هذا القياس التمثيلي وإذا أثبتوه بالقياس التمثيلي واثبتوا فيه أن الحكم تعلق بالقدر المشترك فقد أفاد هذا ما أفاده قياس الشمول وزيادة
مثل أن يقولوا أن الواحد في مورد الإجماع إنما لم يصدر عنه إلا واحد لأنه بسيط فلو صدر عنه اثنان لكان مركبا فالنار البسيطة لا تصدر عنها إلا الحرارة ومتى قدر صدور الحر والبرد جميعا لزم أن تكون مركبة فهذا أن مشى لهم في قياس التمثيل مشى لهم في قياس الشمول وإن بطل هناك كان هناك أبطل.
وأما إثباته ب قياس الشمول دون التمثيل فممتنع فلا يمكن أحدا أن يثبت قضية كلية ب قياس شمول إلا وإثباتها ب التمثيل أيسر وأظهر وإن عجز عن إثباتها ب التمثيل فعجزه عن إثباتها ب الشمول أقوى وأشد.
فإنهم إذا قالوا الحار لا يصدر عنه إلا الحار لأنه واحد والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه قد يقال لهم ما تعنون ب الصدور أتعنون به استقلاله بصدور الأثر عنه أو أن يكون سببا في صدور الأثر بحيث إذ انضم إلى غيره حصل المؤثر التام.
ليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده:
فان أردتم الأول لم نسلم لكم أن في الوجود ما هو مؤثر تام ولا شيء مستقل بالفعل غير الله تعالى والحار الذي اثر حرارة والبارد الذي أثر برودة إنما اثر في محل قابل للتسخين والتبريد فكانت الحرارة الحاصلة في القابل بسببه وبسبب الحار معا وأيضا فذلك مشروط بانتفاء العائق المانع وإلا فلو حصل ما يمنع وصول الأثر إليه لم يحصل وكذلك الشعاع إذا قيل الشمس مستقلة به لم يسلم ذلك فانه مشروط بالجسم الذي ينعكس الشعاع عليه ومشروط بعدم المانع كالسحاب والسقف.
وعلى هذا فليس في الوجود واحد يفعل وحده إلا الله وحده قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال مجاهد وغيره: "تذكرون فتعلمون أن خالق الأرواح واحد".
قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فنفى التولد عنه لامتناع التولد من شيء واحد وأن التولد إنما يكون بين اثنين وهو سبحانه لا صاحبة له وأيضا فانه خلق كل شيء وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء وهو بكل شيء عليم وعلمه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلا بإرادته فان الشعور فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالما أن يكون كالأمور الطبيعية التي يتولد عنها الأشياء بلا شعور كالحار والبارد فلا يجوز إضافة الولد إليه بوجه سبحانه قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
والذين قالوا أن العقول والنفوس صدرت عنه خرقوا له بنين وبنات بغير علم فان أولئك لم يكونوا يجعلون شيئا من البنين والبنات مبدعة لكل ما سواه وهؤلاء يجعلون احد البنين وهو العقل أبدع كل ما سواه ويجعلون العقل كالذكر والنفس كالأنثى وهذا مما صرحوا به وكانت العرب تقر بأنه خلق السموات والأرض وأحدثهما بعد أن لم تكونا ولم يكونوا يقولون أنها قديمة أزلية معه لم تزل معه وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنهم لم يعلموا في الوجود شيئا واحدا صدر عنه وحده شيء عل سبيل الاستقلال فصار قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد باطلا في قياس الشمول وباطلا في قياس التمثيل لكن الغرض أنه لو أثبت هذا وأمثاله ب قياس الشمول لكان إثباته ب قياس التمثيل أولى.
وأيضا فهذا الحار الذي يفعل الحرارة والبارد الذي يفعل برودة إنما يفعل ذلك مع عدم العلم والإرادة بخلاف ما يفعل بعلم واختيار كالإنسان فان هذا
يفعل أفعالا متنوعة وتصدر عنه أمور مختلفة وهم يسلمون ذلك ويقولون أن الفاعل بالطبع يتحد فعله والفاعل الاختيار يتنوع فعله وإذا كان كذلك فمعلوم أن ما يفعل بالعلم والإرادة أكمل مما يفعل بلا علم ولا أرادة فالإنسان أكمل من الجماد وحينئذ فان كان باب القياس صحيحا فقياس الرب بما يفعل بعلم واختيار أولى من قياسه بما يفعل بلا علم ولا اختيار فما بالهم شبهوا رب العالمين بالجمادات ونزهوه أن يشبهوه بالأحياء الناطقين.
وهذا الخذلان أصابهم في باب صفاته وأفعاله فهم في باب الصفات يقولون إذا قلنا أنه حي عالم قادر مريد فقد شبهناه ب النفس الفلكية أو الإنسانية فيقال لهم إذا نفيم عنه العلم والحيوة والقدرة والإرادة فقد شبهتموه بالجمادات كالتراب والماء فان كنتم إنما هربتم من التشبيه فالذي إليه شر مما هربتم منه.
ثم إنكم تزعمون أن الفلسفة هي التشبة بالآلة على قدر الطاقة وان الفلك يتشبه به بحسب الإمكان فتجعلون مخلوقاته قادرة على التشبه به من بعض الوجوه فان كان التشبه به منفيا عنه من كل وجه امتنع أن يكون مقدورا للمخلوقات وإن جاز أو وجب إثباته من بعض الوجوه كان هو أقدر عليه من مخلوقاته فكان إذا كان التشبه من بعض الوجوه ممكنا أن يخلق ما فيه من صفات الكمال ما يشبهه من بعض الوجوه أولى من أن يقدر ذلك لمخلوق على أن يحدث لنفسه ما يصير به مشابها له من بعض الوجوه سواء قيل أنه خالق أفعال المخلوقات أو لم يقل بذلك فانه على الأول يكون هو الخالق لما فيه شبه له وحينئذ فيبطل قولهم وعلى الثاني فيكون المخلوق بدون إعانة الخالق له يقدر على أن يحدث ما يشبه الرب والرب لا يقدر على ذلك.
فتبين أن قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لا يصح استدلالهم به في حق الله تعالى بأي قياس استدلوا
وإن قالو أن الواحد من الوجه الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وان صدر منه اثنان فمن وجهين أو قالوا هذا معلوم بالضرورة فلا يحتاج إلى دليل فانه لا بد بين المصدر والصادر من مناسبة والوجه الواحد لا يناسب اثنين قيل لهم هذا يبطل قولكم في نفي الصفات فان الرب قد صدر عنه مخلوقات كثيرة وإذا كان الواحد لا يصدر عنه من الوجه الواحد إلا واحد امتنع أن تصدر هذه المخلوقات عن خالقها من وجه واحد فدل ذلك على أنه متصف بأمور متنوعة من صفات متنوعة وأفعال متنوعة صدر عنه باعتبارها ما وجد من المخلوقات فكان اصل ضلالهم توهمهم إمكان صدور المخلوقات عما قدروه من الواحد الذي لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال الصفع أحسن من توحيد الفلاسفة بل قصر فيما قال.
وإذا قالوا هو واحد ليس له صفات وأفعال تقوم به فلو صدر عنه أكثر من واحد لكان قد صدر عن الواحد من الوجه الواحد أكثر من واحد قيل لهم فذلك الأول أن كان واحدا من كل وجه لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد من كل وجه وهذا خلاف المشاهدة وان كان فيه كثرة بوجه ما فقد صدر عن الواحد من الوجه الواحد أكثر من واحد وان قالوا تلك الوجوه التي في الصادر الأول أمور عدمية قيل فقد صدر عنه باعتبارها كثرة وإذا جاز هذا جاز أن تجعل الأمور الإضافية الكثيرة في الأول مبدأ الكثرة فكيفما أدير قولهم تبين أنه افسد من قول النصارى في التثليث.
وحقيقة قولهم الذي قرره ابن سينا وأمثاله أنه أي موجود فرض في الوجود كان أكمل من رب العالمين وذلك أنه قرر أنه وجود مشروط بسلب جميع الأمور الثبوتية عنه وهو معنى قولهم هو الوجود المقيد بسلب جميع الماهيات وقولهم الوجود الذي لا يعرض له شيء من الماهيات فان هذا بناه على قوله أن وجود الماهيات عارض لها بناء على أن في الخارج لكل ممكن وجودا وماهية غير
الوجود وان ذلك الوجود عرض لتلك الماهية وان كان لازما لها ولهذا قالوا أن واجب الوجود وجوده لا يعرض لشيء من الماهيات لئلا يلزم التركيب والتعليل فيكون وجودا مقيدا بأن لا يعرض لشيء من الماهيات فلا يجوز أن يكون له حقيقة في نفسه غير الوجود المحض الذي لا يتقيد بأمر ثبوتي.
فيقال له فعلى هذا التقدير قد شارك جميع الموجودات في مسمى الوجود وامتاز عنها بقيد عدمي وهو سلب كل ثبوت وامتاز به كل منها عنه بما يخصه من الحقيقة الموجودة ومعلوم أن الوجود أكمل من العدم وهم يسلمون ذلك فإذا اشترك اثنان في الوجود وامتاز أحدهما عن الآخر بأمر وجودي والآخر لم يميز إلا بأمر عدمي كان الممتاز بأمر وجودي أكمل من الممتاز بأمر عدمي لأنه شارك هذا في الوجود المشترك وامتاز عنه بالوجود المختص وذلك لم يمتز عنه إلا بعدم كل وجود خاص وسواء جعل الوجود المشترك جنسا أو عرضا عاما وجعل المميز بينهما فصلا أو خاصة فعلى كل تقدير يلزم أن يكون ما لم يتميز إلا بعدم دون ما تميز بوجود.
وهم يقولون إنما فررنا إلى هذا من التركيب فيقال أن كان التركيب نقصا لكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه فان الذي فررتم إليه يوجب أن لا يكون له وجود في الخارج لأن الموجود الذي لا يختص بأمر ثبوتي لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وإذا قدر ثبوته في الخارج فكل موجود ممكن أكمل منه فيلزم أن يكون كل مخلوق ولو أنه ذرة أو بعوضة أكمل من رب العالمين رب الأرض السموات والقول المستلزم هذا في غاية الفساد.
فالحمد لله الذي هدانا لمعرفة الحق وبيان ما التبس على هؤلاء الذين يدعون أنهم أكمل الناس وهم اجهل الناس برب العالمين.
والله تعالى اخبر عن المشركين ما ذكره في سورة الشعراء من قوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فهذا حال من سوى المخلوقات برب العالمين فكيف حال من فضل كل مخلوق على رب العالمين.
وإذا قيل هم لم يفهموا ولم يقصدوه قيل ونحن لم نقل أنهم تعمدوا مثل هذا الباطل لكن هذا لازم قولهم وهو دليل على غاية فساده وغاية جهلهم بالله تعالى وأنهم أضل من اليهود والنصارى ومشركي العرب وأمثالهم من المشركين الذين يعظمون الخالق أكثر من تعظيم هؤلاء المعطلين:
فان كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وان كنت تدري فالمصيبة أعظم
كون لفظ التركيب مجملا يطلق على معان:
وما فروا منه من التركيب قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وبينا أن لفظ التركيب مجمل يراد به تركيب الجسم من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت كتركيب السكنجبين وغيره من الأدوية بل ومن الأطعمة والأشربة والملابس والمساكن من أجزائها التي كانت متفرقة فألف بينها وركب بعضها مع بعض حتى صارت على الحال المركبة.
وقد يراد ب المركب ما لا يمتزج فيه احد الاثنين بالآخر كما يقال ركب الباب في موضعه وركب المسمار في الباب وهذا التركيب اخص من الأول وهو المشهور من الكلام وقد قال تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ومعلوم أن عاقلا لا يقول أن الله تعالى مركب بهذا المعنى الأول ولا بالثاني.
وقد يقال المركب على ما يمكن مفارقة بعض أجزائه لبعض كأخلاط الإنسان وأعضائه فإنها وان لم يعقل أنها كانت مفترقة فاجتمعت بل خلقه الله
من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولكن يمكن تفريق بعض أعضائه عن بعض ويعقل أيضا أنه إذا مات استحال فصار بعضه ترابا وبعضه هواء فتفرقت أعضائه وأخلاطه وكذلك سائر الحيوان والنبات ومعلوم أن عأقلا لا يقول أن هذا مركب بهذا الاعتبار.
وأما تسمية الواحد الموصوف بصفاته مركبا كتسمية الحي العالم القادر الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركبا فهذا اصطلاح لهم لا يعرف شيء من الشرائع ولا اللغات ولا عقول جماهير العقلاء جعلوا هذا تركيبا وان تسميته مركبا.
فإذا قالوا نحن نسميه تركيبا لأن فيه إثبات معان متعددة لذات واحدة ونحن نسمي ذلك تركيبا ونقيم الدليل العقلي على امتناعه قيل إذا كان إلا كذلك فالنظر في المعاني المعقولة لا في الألفاظ السمعية ونحن لا نوافقكم على جعل الإنسان مركبا من الحيوانية والناطقية ولا أن في الوجود شيئا مركبا من أجزاء عقلية بل المركب من الأجزاء العقلية إنما يكون في الأذهان لا الأعيان وكل ما في الوجود من المركبات فإنما هو مركب من أجزاء حسية موجودة في الخارج.
والناس قد تنازعوا في الجسم هل هو مركب من أجزاء حسية وهو الجواهر المفردة أو من أجزاء عقلية وهي المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال والصحيح عندنا القول الثالث ثم يليه قول من جعله مركبا من الأجزاء الحسية وافسد الثلاثة قول من جعله مركبا من الأجزاء العقلية كما قد بسط في موضعه.
وحينئذ فمن قال أن الباري جسم وان الجسم مركب من الأجزاء الحسية أو العقلية كان الاستدلال على بطلان هذا التركيب استدلالا مقبولا ممن يقوله
فان مطلوبه صحيح لكن يبقى النظر هل يحسن هذا المستدل الاستدلال عليه أو لا يحسنه.
واما من قال أنه ليس ب مركب لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وإنما اسميه جسما أو جوهرا لأن الجسم والجوهر عندي اسم لكل موجود قائم بنفسه فهذا النزاع معه في اسم الجسم والجوهر نزاع لفظي لا عقلي ولا شرعي فان الشرع لم ينطق بهذا الاسم لا نفيا ولا إثباتا والعقل إنما ينظر في المعاني لا في مجرد اللفظ فالنظر مع هذا أما في إثبات كون الجسم مركبا احد التركيبين وهذا بحث عقلي معروف وأما في كون لفظ الجسم في اللغة لكل مركب وهذا مركب وهذا بحث لغوي له موضع آخر.
وهؤلاء ليس مقصودهم بنفي التركيب هذا المعنى فقط فان هذا يوافقهم عليه كثير من مثبتة الصفات لكن مقصودهم أنه لا يتصف بصفة ثبوتية أصلا واخذوا لفظ التركيب الذي وافقتهم بعض أهل الكلام على نفي معناه وتوسعوا فيه حتى جعلوه اعم مما وافقهم عليه أولئك المتكلمون ونفوه وصاروا كالجهمية المحضة التي تنفي الأسماء والصفات أو تثبتها على وجه المجاز.
دليل نفاة الصفات والرد عليه:
والمقصود هنا أن نقول قولهم الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركب من هذا وهذا يقال لهم سموا هذا تركيبا أو تجسيما أو ما شئتم من الأسماء فما الدليل على نفي هذا عقلا أو سمعا قالوا الدليل على ذلك أن كل مركب مفتقر إلى أجزائه وجزؤه غيره ف المركب مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى غيره ليس واجبا بنفسه.
فيقال أجزاء هذا الدليل وألفاظه التي تسمونها حدودا كلها ألفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا واستعمال الألفاظ المجملة في الحدود والقياس من باب السفسطة.
فيقال لكم قد عرف أن لفظ المركب مجمل وان المراد به هنا ذات تقوم بها صفات وحينئذ فالمراد ب الافتقار تلازم الذات والصفات بمعنى
انه لا توجد الذات إلا مع وجود صفتها الملازمة لها ولا توجد الصفة إلا مع وجود الذات الملازمة لها ولو قدر أنه أريد بالتركيب التركيب من الأجزاء الحسية أو العقلية مع تلازم الأجزاء فهذا معناه.
فإذا قيل كل مركب مفتقر إلى جزئه أن عني به أنه مستلزم لجزئه وانه لا يوجد إلا بوجود جزئه فهذا صحيح فان وجود المجموع بدون كل من آحاده ممتنع وان أريد أنه يفتقر إليه افتقار المفعول إلى فاعله والمعلول إلى علته الفاعلة أو القابلة أو الغائية أو الصورية فهذا باطل فان الواحد من العشرة والجزء من الجملة لا يجوز أن يكون فاعلا ولا غاية ولا هي هو الصورة.
ثم قولكم وجزؤه غيره يقال لفظ الغير يراد به ما كان مباينا للشيء وما يجوز مفارقته له وما ليس إياه فان أردتم أن جزء المجموع ما هو مباين له فهذا باطل فانه يمتنع أن يكون مباينا له مع كونه جزءا منه فيمتنع أن يكون غيرا له بهذا الاعتبار وان قلتم يجوز أن يفارقه فهذا ليس عام على الإطلاق بل يجوز في بعض الأفراد أن يفارق غيره من الأجزاء ويفارق المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية ولا يلزم ذلك في كل مجموع لا سيما على أصلهم فان الفلك عندهم مركب من أجزائه وصفاته ولا يجوز عندهم على أجزائه التفرق.
والمسلمون وجمهور العقلاء عندهم أن الله حي عليم قدير ولا يجوز أن يفارقه كونه حيا عالما قادرا بل لم يزل ولا يزال كذلك وكونه حيا عالما قادرا من لوازم ذاته وهي ملازمة لذاته لا يجوز عليه الافتراق بوجه من الوجوه فامتنع أن تكون صفاته هذه أغيارا بهذا الاعتبار.
وان فسر الغيران بما ليس أحدهما هو الآخر أو بما يجوز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر فلا ريب أن صفة الموصوف التي يمكن معرفتها
بدونه غير له بهذا الاعتبار لكن إذا كانت تلك الصفة لازمة له وهو لازم لها لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون أحدهما مفتقرا إلى الآخر مفعولا للآخر ولا علة فاعلة ولا غائية ولا صورية أكثر ما في ذلك أن تكون الصفة مفتقرة إلى الذات افتقار الحال إلى محله القابل له وهم يسمون القابل علة قابلة لكن فيما يحدث لها من المقبولات لا فيما يكون لازما لها ازلا وأبدا وان قدر أنهم يسمون جميع ذلك علة ومعلولا فتكون الذات علة قابلة للصفة بهذا الاعتبار وكون الصفة معلولة هو معنى كونها صفة قائمة بالموصوف.
مجموع الذات والصفة لا يفتقر إلى العلل الأربع:
ومع هذا فليس مجموع الذات والصفة مفتقرا إلى شيء من أنواع العلل الأربع لا إلى الفاعل ولا إلى الغاية ولا إلى القابل ولا إلى الصورة فبطل أن يقال المجموع مفتقر إلى جزئه افتقار المعلول إلى علته بوجه من الوجوه لكن غايته أن فيه افتقار الصفة إلى الموصوف افتقار الحال اللازم لمحله إلى محله المستلزم له فيقال لهم وأي شيء في كونه موجودا بنفسه لا فاعل له ما يوجب نفي هذا التلازم الذي سموه افتقار نحو ذاته وصفاته.
وقولهم ما افتقر إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه يقال لهم قد علم أن المراد ب الافتقار التلازم والمراد ب الغير ما هو داخل في المجموع أما الذات وأما الصفات ليس المراد به ما هو مباين له وما يجوز مفارقته له وغايته أن يراد أن الصفة لا بد لها من الموصوف فليس المراد افتقار المعلول إلى علته الفاعلة وحينئذ فليس في هذا التلازم الذي سميتموه افتقارا ولا في هذه الصفات التي سميتموها أغيارا ما يوجب أن يكون شيء من ذلك مفعولا لفاعل ولا لعلة فاعلة.
وواجب الوجود الذي دلت الممكنات عليه هو الموجود بنفسه القائم بنفسه رب العالمين الذي لا يفتقر إلى فاعل ولا علة فاعلة بل هو بنفسه وصفاته
لا يفتقر إلى شيء من العلل الأربع.
كون صفاته تعالى واجبة الوجود:
وأما نفس صفاته فليس لها فاعل ولا علة فاعلة ولا علة غائية ولا صورية فهي واجبة الوجود إذا عنى ب واجب الوجود احد هذه المعاني.
وان عنى ب واجب الوجود ما هو اعم من ذلك حتى يدخل فيه ما ليس له محل يقوم به فليست واجبة الوجود بهذا التفسير بل هي ممكنة الوجود والذات مستلزمة لها وهي محل لها.
وإذا قيل فيلزم أن يكون الذات فاعلة وقابلة وذاك باطل قيل كلا المقدمتين ممنوعة فان كون الذات مستلزمة لصفتها القائمة بها لا يقتضى أن تكون فاعلة لها بل يمتنع أن تكون الذات فاعلة للصفة اللازمة في الممكن فكيف في رب العالمين بل يمتنع أن يكون الرب فاعلا لما هو لازم له وان كان بائنا عنه كالفلك فكيف يكون فاعلا لصفته اللازمة له وان قدر أنهم سموا هذا الاستلزام فعلا وقالوا هي فاعلة بهذا الاعتبار قيل لهم فلا نسلم أنه لا يجوز كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا بهذا الاعتبار بل ولا باعتبار آخر.
فان استدلوا على ذلك بحجتهم المعروفة المبينة على نفي التركيب فلا يمكنهم جعل ذلك مقدمة في نفس الدليل لأن هذا مصادرة على المطلوب وهو جعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه بعبارة أخرى فإنهم إذا نفوا التركيب عن الواجب بناء على مقدمات منها أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا واثبتوا هذه المقدمة بناء على نفي التركيب كانوا قد اثبتوا كلا من المقدمتين بالأخرى فلا تكون واحدة منهما ثابتة.
والدليل الدال على إثبات واجب الوجود دل على إثبات فاعل مبدع ل الممكنات والمبدع لها يمتنع أن يكون صفة قائمة بغيره فان ذلك الموصوف هو الفاعل حينئذ دون مجرد الصفة وهذا الواجب الذي دلت عليه آياته ليس
يفتقر إلى علة من العلل الأربع مع اتصافه بصفاته اللازمة له.
إذا جاز استلزام الذات للمفعولات فاستلزامها للصفات أولى:
ومن أعظم تناقض هؤلاء أنهم يقولون الذات إذا استلزمت الصفات كان ذلك افتقارا منها إلى الغير فلا تكون واجبة وهم يقولون أن الذات مستلزمة لمفعولاتها المنفصلة عنها ولا يجعلون ذلك منافيا لوجوب وجودها بنفسها فان كان الاستلزام للمفعولات لا ينافي وجوب الوجود فالاستلزام للصفات أولى أن لا ينافيه.
وان كان ذلك الاستلزام ينافي وجوب الوجود كان حينئذ قد عرض له أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا وهذا ممتنع عندهم وهذا اظهر المعقولات التي قهروا بها المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية والكلابية وأتباعهم ولم يميز الطائفتان بين فاعل النوع وفاعل العين.
ثم إذا جاز أن يفعل ف الفعل ثبوتي فيلزم قيامه به ودعوى أن المفعول عين الفعل مكابرة للعقل وإذا جاز قيام الفعل به كان قيام الصفات بطريق الأولى.
فساد القول بأن المفعول عين الفعل:
والذين جعلوا المفعول عين الفعل من أهل الكلام كالأشعرية ومن وافقهم من حنبلي وشافعي ومالكي وغيرهم إنما ألجاهم إلى ذلك فرارهم من قيام الحوادث بالقديم وتسلسل الحوادث وهذان كل منهما غير ممتنع عند هؤلاء الفلاسفة مع أن أولئك المتكلمين النفاة حجتهم على النفي ضعيفة.
وجماهير المسلمين وطوائفهم على خلاف ذلك والقول بأن الخلق غير المخلوق هو مذهب السلف قاطبة وذكر البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
انه قول العلماء مطلقا بلا نزاع وهو قول أئمة الحديث وجمهورهم وقول أكثر طوائف الكلام كالهشامية والكلابية والكرامية وقول جمهور الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وقول الصوفية كما حكاه عنهم صاحب التعرف لمذهب التصوف وهو قول أهل السنة فيما حكاه البغوي صاحب شرح السنة.
وحجة هؤلاء أنه لو كان الخلق غير المخلوق لكان أما قديما وأما حادثا فان كان قديما لزم قدم المخلوق فيلزم قدم العالم وان كان حادثا فانه يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل ويلزم أيضا كون الرب محلا للحوادث.
فيقال لهم جميع هذه المقدمات مما ينازعكم الناس فيها ولا تقدرون على إثبات واحدة منها فقولكم لو كان قديما لزم قدم المخلوق يقول لكم من توافقونه على قدم الإرادة نحن وانتم متفقون على قدم الإرادة وان تأخر المراد فتأخر المخلوق عن الخلق كذلك أو أولى وهذا جواب الحنفية والكرامية
وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية والصوفية وأهل الحديث لهم.
وإما قولهم أن كان محدثا افتقر إلى خلق آخر فهذا أيضا ممنوع فإنهم يسلمون أن المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث خلق فإذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدث فلان يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون خلق بطريق الأولى والأخرى.
ولهذا كان كثير من هؤلاء أو أكثرهم هم يقولون أن الخلق الذي قام به حادث لا محدث ويقولون ما قام به من الفعل حدث بنفس القدرة والإرادة لا يفتقر إلى خلق وإنما يفتقر إلى الخلق المخلوق والمخلوق ما كان منفصلا عنه وكثير منهم يسمونه محدثا ويقولون هو محدث ليس ب مخلوق فان المخلوق ما خلقه بائنا عنه وأما نفس فعله وكلامه ورضاه وغضبه وفرحه الذي يقوم بذاته ب قدرته فانه وان كان حادثا ومحدثا فليس ب مخلوق وليس كل حادث ولا محدث مخلوقا عند هؤلاء.
فان قيل النزاع في ذلك لفظي قيل هذا لا يضرهم فان من سمى ذلك القائم به مخلوقا قالوا له غايته أن المخلوق الذي هو نفس الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر ولا يلزم من ذلك أن المخلوق الذي ليس ب خلق لا يفتقر إلى الخلق فان من المعقول أن المخلوق لا بد له من خلق وأما الخلق نفسه إذا جوز وجود مخلوق بلا خلق فتجويز خلق بلا خلق أولى والمنازع لهم يجوز وجود كل مخلوق بلا خلق فإذا جوزوا هم نوعا منه بلا خلق كان ذلك أولى بالجواز والفرق بين نفس الخلق الذي به خلق المخلوق وبين المخلوق معقول.
البحث في قيام الحوادث به تعالى:
وكذلك احتجاجهم بامتناع حلول الحوادث لا ينفع الفلاسفة فان هذا إنما نفوه لامتناع قيام الحادث بالقديم وهؤلاء الفلاسفة يجوزون قيام الحادث
بالقديم ومن جوز قيام الصفات بالباري منهم جوز قيام الحوادث به مثل كثير من أساطينهم القدماء والمتأخرين كأبي البركات وغيره فهذان قولان معروفان لهم أما القول الثالث وهو تجويز الصفات دون الأفعال فهذا لا اعرف به قائلا منهم فان كان قد قاله بعضهم فالكلام معه كالكلام مع من قال ذلك من أهل الكلام.
وعلى هذا فلا يلزم التسلسل وان لزم فإنما هو تسلسل في الآثار وهو وجود كلام بعد كلام أو فعل بعد فعل والنزاع في هذا مشهور وإنما يعرف نفيه عن الجهمية والقدرية ومن وافقهم من كلابي وكرامي ومن وافقهم من المتفقه وأما أئمة السلف وأئمة السنة فلا يمنعون هذا بل يجوزونه بل يوجبونه ويقولون أن الله لم يزل متكلما إذا شاء بل يقولون أنه لم يزل فاعلا يقوم به الأفعال الاختيارية بمشيئته وقدرته وهذا كله مبسوط في مواضعه.
والمقصود هنا أنه يلزم من كونه فاعلا قيام الصفات به فان الفعل أمر وجودى وان يفعل من أقسام الوجود ووجود المخلوق المفعول بلا خلق ولا فعل ممتنع وإذا قام الخلق به ف العلم والقدرة لازمة الخلق وقيامهما به أولى.
وأنهم أن قالوا يستلزم المفعول ولا يستلزم الصفة لكون الملزوم مفتقرا إلى اللازم فهذا من أعظم التناقض وان قالوا أنه لا يستلزمه كان ذلك أدل على بطلان قولهم في الصفات والأفعال وكان الدليل يدل على قيام الأفعال به والصفات وقيام الصفات به أولى من قيام الأفعال فبطل ما نفوا به الصفات وسموه تركيبا.
والواحد الذي قالوا أنه لا يصدر عنه إلا واحد هو الواحد المسلوب عنه الصفات كلها بل هو الوجود المقيد بكل سلب وهذا لا حقيقة له إلا في الذهن وأي موجود مخلوق قدر فهو أكمل من هذا الخيال الذي لا حقيقة له في الخارج
والتعظيم له إنما نشأ من اعتقاد أنه رب العالمين وانه واجب الوجود ونحو ذلك من الصفات التي تظهر كمالها وأما من هذه الجهة النافية السلبية فما من وجود إلا وهو أكمل منه وإذا كانوا قد جمعوا بين وصفه بذلك الكمال وهذا النقصان الذي يكون كل موجود أكمل منه دل على تناقضهم وفساد قولهم وكان ما قالوه من الحق حقا وما قالوه من الباطل باطلا وهذه المسائل الإلهية مبسوطة في موضعها.
رد القول بأن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن:
والمقصود هنا الكلام على المنطق وما ذكروه من البرهان وأنهم يعظمون قياس الشمول ويستخفون ب قياس التمثيل ويزعمون أنه إنما يفيد الظن وان العلم لا يحصل إلا بذلك وليس الأمر كذلك بل هما في الحقيقة من جنس واحد وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علما كان أو ظنا من مجرد قياس الشمول ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون ب قياس التمثيل أكثر مما يستدلون ب قياس الشمول بل لا يصح قياس الشمول في الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور فانه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك الصورة ومثلنا هذا بقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فانه من أشهر أقوالهم الإلهية الفاسدة.
وأما الأقوال الصحيحة فهذا أيضا ظاهر فيها فان قياس الشمولي لا بد فيه من قضية كلية موجبة ولا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم والكلي لا يكون كليا إلا في الذهن فإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليا موجبا فانه إذا أحس الإنسان ببعض الأفراد الخارجية انتزع منه وصفا كليا لا سيما إذا كثرت أفراده فالعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية وحينئذ ف القياس التمثيلي أصل
لـ القياس الشمولي أما أن يكون سببا في حصوله وأما أن يقال لا يوجد بدونه فكيف يكون وحده أقوى منه.
وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل الكل أعظم من الجزء والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وما من كلي من هذه الكليات إلا وقد علم من أفراده الخارجة أمور كثيرة وإذا أريد تحقق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من أفرادها وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره أو ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي وهذا حقيقة قياس التمثيل.
ولو قدرنا أن قياس الشمول لا يفتقر إلى التمثيل وان العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر إلى العلم بمعين أصلا فلا يمكن أن يقال إذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض أفراده في الخارج كان انقص من أن يعلمه بدون العلم بذالك المعين فان العلم بالمعين ما زاده إلا كمالا فتبين أن ما نفوه من صورة القياس أكمل مما أثبتوه.
ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل هو من كلام متأخريهم:
واعلم أنهم في المنطق الإلهي بل والطبيعي غيروا بعض ما ذكره أرسطو لكن ما زادوه في الإلهي خير من كلام أرسطو فاني قد رأيت الكلامين وأرسطو واتباعه في الإلهيات اجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير وأما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد وأما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الإلهي.
وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل والاحتجاج عليه بما ذكروه هو من كلام متأخريهم لما رأوا استعمال الفقهاء له غالبا والفقهاء يستعملونه كثيرا في المواد الظنية وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس فلو صوروا تلك المادة ب قياس الشمول لم يفد أيضا إلا الظن لكن هؤلاء ظنوا أن الضعف من جهة الصورة فجعلوا صورة قياسهم يقينيا وصورة قياس الفقهاء ظنيا.
ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا أن المتكلمين يحتجون علينا بالأقيسة الظنية كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم أو مؤلف فكان محدثا قياسا على الإنسان وغيره من المولدات ثم اخذوا يضعفون هذا القياس لكن إنما ضعفوه بضعف مادته فان هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم على حدوث الأجسام أدلة ضعيفة لأجل مادتها لا لكون صورتها ظنية ولهذا لا فرق بين أن يصوروها بصورة التمثيل أو الشمول.
والآمدى ونحوه ممن يصنف في الفلسفة ويكره التمثيل بمثل هذا لما فيه من التشنيع على المتكلمين فيمثل بمثال متفق عليه كقوله العالم موجود فكان قديما كالباري فان أحدا من العقلاء لا يحتج على قدم العالم بكونه موجودا وإلا لزم قدم كل موجود وهذا لا يقوله عأقل.
إبطال القول بأن الدوران والتقسيم لا يفيدان إلا الظن:
وما ذكروه من أن قياس التمثيل إنما يثبت بالدوران أو التقسيم وكلاهما لا يفيد إلا الظن قول باطل ويلزمهم مثل ذلك في قياس الشمول.
أما التقسيم فإنهم يسلمون أنه يفيد اليقين إذا كان حاصرا وإذا كان كذلك فانه يمكن حصر المشترك في أقسام لا يزيد عليها وإبطال التعليل بجميعها إلا بواحد وان لم يمكن ذلك لم يمكن جعل ذلك المشترك حدا أوسط فلا يفيد اليقين ولو استعمل فيه قياس الشمول.
جواب اعتراضهم على السبر والتقسيم بقولهم:
وأما قوله يجوز أن يكون الحكم ثابتا في الأصل لذات الأصل وإلا لزم التسلسل فنقول لا يلزم التسلسل إلا إذا كان لا يثبت إلا لخارج أما إذا كان تارة يثبت لخارج وتارة لغير خارج لم يلزم التسلسل وحينئذ فلا يمتنع أن
تعلم أن الحكم في هذا الأصل المعين لم يثبت لما يختص به بل لوصف مشترك بينه وبين غيره.
فائدتان في تعليل الحكم بعلة قاصرة:
وهذا كما يقول الفقهاء أن الحكم يعلل تارة ب علة متعدية وتارة ب علة قاصرة والتعليل ب القاصرة إذا كانت منصوصة جائز باتفاق الفقهاء وإنما تنازعوا فيما إذا كانت مستنبطة والأكثرون على جواز ذلك وهو الصحيح وهو مذهب مالك والشافعي واحمد بن حنبل في المنصوص عنه فانه دائما يعلل بالعلل القاصرة وهو اختيار أبي الخطاب وغيره من أصحابه.
ولكن القاضي أبو يعلى وطائفة وافقوا أصحاب أبي حنيفة في منعهم التعليل ب القاصرة وهذا من كلام متأخريهم وسبب ذلك النزاع في مسألة تعليل الربو في المذهب والفضة وأمثالهما هل العلة فيه متعدية أو قاصرة وأما أبو حنيفة نفسه وصاحباه لم ينقل عنهم في ذلك شيء والذي يليق بعقلهم وفضلهم أنهم لا يمنعون ذلك مطلقا كما لا يمتنع في المنصوصة.
وفي ذلك فائدتان: قصر الحكم على مورد النص ومنع الإلحاق لئلا يظن الظان أن الحكم يثبت فيما سوى مورد النص كما يعلل تحريم الميتة بعلة تمنع دخول المذكي فيها ويعلل تحريم الدم بعلة تمنع دخول العرق والريق وغيرهما فيها ويعلل اختصاص الهدى والأضحية بالإنعام بعلة تمنع دخول غيرها فيها ويعلل وجوب الحد في الخمر بعلة تمنع دخول الدم والميتة فيها وأمثال ذلك كثيرة بل من يقول أن جميع
الأحكام يثبت بالنص يقول أنها معللة بعلل قاصرة لكن إنما يعلل بالعلة المتعدية نص يتناول بعض أنواع الحكم فيعلل ذلك الحكم بعلة تتعدى إلى سائر النوع الذي دل على ثبوت الحكم فيه نص آخر.
والفائدة الثانية معرفة حكم الشرع وما اشتمل عليه من مصالح العباد في المعاش والمعاد فان ذلك مما يزيد به الإيمان والعلم ويكون أعون على التصديق والطاعة واقطع لشبه أهل الإلحاد والشناعة وانصر لقول من يقول أن الشرع جميعه إنما شرع لحكمة ورحمة لم يشرع لا لحكمة ورحمة بل لمجرد قهر التعبد ومحض المشيئة.
وإذا كانت الأوصاف في الأصل قد تكون مختصة بذات الأصل وقد تكون مشتركة بينه وبين غيره خارجة عنه لم يلزم إذا كان هذا الأصل ثبت الحكم فيه لخارج مشترك أن يكون الحكم في كل اصل لخارج مشترك.
جواب قولهم:
قوله وان ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغير ما أبدى وان لم يطلع عليه مع البحث عنه بخلاف الحسيات فيقال أما أن يكون التقسيم في العقليات قد يفيد اليقين وأما أن لا يفيده بحال فان كان الأول بطل جعلهم الشرطي المنفصل من صور القياس والبرهان وان كان الثاني بطل كلامهم هذا ومعلوم أن هذا أحق بالبطلان من ذاك فان القائل إذا قال الوجود أما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا وأما أن يكون قديما وأما أن يكون حادثا وأما أن يكون قائما بنفسه وأما أن يكون قائما بغيره وأما أن يكون مخلوقا وأما أن يكون خالقا ونحو ذلك من التقسيم الحاصر لجنس الوجود كان هذا حصرا
لكلي عقلي بل الوجود اعم الكليات وإذا أمكن العقل أن يحصر أقسامه فحصر أقسام بعض أنواعه أولى وهم يسلمون هذا كله وهذا هو العلم الأعلى عندهم فكيف يقولون أن السبر والتقسيم لا يفيد اليقين.
تمثيل التقسيم الحاصر في مسألة الرؤية:
ثم إذا اختلف الناس في ما يجوز رؤيته فقال بعضهم المصحح للرؤية أمر لا يكون إلا وجوديا محضا فما كان وجوده أكمل كان أحق أن يرى وقال آخر بل المصحح لها ما يختص بالوجود الناقص الذي هو أولى بالعدم مثل كون كل الشيء محدثا مسبوقا بالعدم أو ممكنا يقبل العدم كان قول من علل إمكان الرؤية بما يشترك فيه القديم والحادث والواجب والممكن أولى من هذا فان الرؤية وجود محض وهي إنما تتعلق بموجود لا بمعدوم فما كان أكمل وجودا بل كان وجوده واجبا فهو أحق بها مما يلازمه العدم ولهذا يشترط فيها النور الذي هو بالوجود أولى من الظلمة والنور الأشد كالشمس لم يمتنع رؤيته لذاته بل لضعف الإبصار فهذا يقتضى أنا نعجز عن رؤية الله مع ضعف أبصارنا ولهذا لم يطق موسى رؤية الله في الدنيا لكن لا يمتنع أن تكون رؤيته ممكنه والله قادر على تقوية أبصارنا لنراه.
وإذا قيل هي مشروطة ب اللون والجهة ونحو ذلك مما يمتنع على الله قيل له كل ما لا بد منه في الرؤية لا يمتنع في حق الله فإذا قال القائل لو رؤى للزم كذا واللازم منتف كانت إحدى مقدمتيه كاذبة وهكذا كل ما اخبر به الصادق الذي اخبر بأن المؤمنين يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر كل ما اخبر به وظن الظان أن في العقل ما يناقضة لا بد أن يكون إحدى مقدماته باطلة.
فإذا قال لو رؤى لكان متحيزا أو جسما أو كان في جهة أو كان ذا لون وذلك منتف عن الله قيل له جميع هذه الألفاظ مجملة لم يأت شرع بنفي
مسماها حتى تنفى بالشرع وإنما ينفيها من ينفيها فيستفسر عن مراده إذ البحث في المعاني المعقولة لا في مجرد هذه الألفاظ.
فيقال: ما تريد بأن المرئي لا بد أن يكون متحيزا فان المتحيز في لغة العرب التي نزل بها القرآن يعنى به ما يحوزه غيره كما في قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} فهذا تحيز موجود يحيط به موجود غيره إلى موجودات تحيط به وسمى متحيزا لأنه تحيز من هؤلاء إلى هؤلاء والمتكلمون يريدون بالتحيز ما شغل الحيز والحيز عندهم تقدير مكان ليس أمرا موجودا فالعالم عندهم متحيز وليس في حيز وجودي والمكان عند أكثرهم وجودي.
فإذا أريد ب المتحيز ما يكون في حيز وجودي منعت المقدمة الأولى وهو قوله: "كل مرئي متحيز" فان سطح العالم يمكن أن يرى وليس في عالم آخر وإن قال: بل أريد به "لا بد أن يكون في حيز وإن كان عدميا" قيل له العدم ليس بشئ فمن جعله في الحيز العدمى لم يجعله في شيء موجود ومعلوم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا كان الخالق بائنا عن المخلوقات كلها لم يكن في شيء موجود وإذا قيل هو في حيز معدوم كان حقيقته أنه ليس في شيء فلم قلت أن هذا محال.
وكذلك إذا قال يلزم أن يكون جسما ففيه إجمال التنبيه عليه.
وكذلك إذا قال في جهة فان الجهة يراد بها شيء موجود وشئ معدوم فان شرط في المرئي أن يكون في جهة موجودة كان هذا باطلا برؤية سطح العالم وإن جعل العدم جهة قيل له إذا كان بائنا عن العالم ليس معه هناك غيره فليس في جهة وجودية وإذا سميت ما هنالك جهة وقلت هو في جهة على هذا التقدير منعت انتفاء اللازم وقيل لك العقل والسمع يدلان على ثبوت هذا اللازم لا
على انتفائه.
وهذا التقسيم مثلنا به في مسألة الرؤية فإنها من أشكل المسائل العقلية وأبعدها من قبول التقسيم المنحصر ومع هذا فان حصر الأقسام فيها ممكن فكيف يغيرها.
وحيئنذ فإذا احتج عليها ب قياس التمثيل فقيل المخلوقات الموجودة يمكن رؤيتها فالخالق أحق بإمكان الرؤية لأن المصحح للرؤية في المخلوقات أمر مشترك بين الخالق والمخلوق لا يختص بالمخلوق وإذا كان المشترك مستلزما لصحة الرؤية ثبتت صحة الرؤية.
ولا يجعل المشترك المصحح هو مجرد الوجود كما يسلكه الأشعري ومن اتبعه كالقاضي أبى بكر وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبى يعلى بل يجعله القيام بالنفس كما يسلكه ابن كلاب وغيره من مثبتي الرؤية من أصحاب احمد وغيرهم كأبي الحسن الزاغونى أو لا يعين المصحح بل يجعل قدرا مشتركا
كالتقسيم الحاصر وهو أيضا يفيد اليقين كما قد بسط في موضعه.
وإذا كانت مسألة الرؤية والمصحح لها أمكن تقريره على هذا الوجه فكيف فيما هو أوضح منها إذا قيل الفاعل منا مريد وهو متصور لما يفعله فالخالق أولى أن يعلم ما خلق أو قيل إذا كان الفعل الاختياري فينا مشروطا بالعلم فهو في حق الخالق أولى لأن ما به استلزمت الإرادة العلم أما أن يختص بالعبد أو يكون مشتركا والأول باطل فتعين الثاني لأن استلزام الإرادة العلم كمال للفاعل لا نقص فيه والواجب أحق بالكمال الذي لا نقص فيه من الممكن المخلوق فإذا كان العبد يعلم ما يفعل فالباري أولى أن يعلم ما يفعل.
وإذا قيل إذا كان الرب حيا أمكن كونه سميعا بصيرا متكلما وما جاز له من الصفات وجب له لأن ثبوت صفاته له لا تتوقف على غيره ولا يجعله غيره متصفا بصفات الكمال لأن من جعل غيره كاملا فهو أحق بالكمال منه وغيره مخلوقه ويمتنع أن يكون مخلوقه أكمل منه بل ويمتنع أن يكون هو الذي أعطاه صفات الكمال لأن ذلك يستلزم الدور القبلي أو غير ذلك من الأدلة التي بسطت في غير هذا الموضع.
وهم في كلامهم في جنس القياس لم يتعرضوا لآحاد المسائل ونحن لا نحتاج إلى ذلك لكن الغرض التمثيل لمسائل قد يشكل على كثير من الناس استعمال القياس فيها لأجل المادة فتبين أن لها مادة يمكن أن يستخرج منها أدلة تلك المطالب وتلك المادة تصور بصورة الشمول تارة وبصورة التمثيل أخرى لكن إذا صورت بصورة الشمول علم أن أفرادها لا تتساوى وإذا صورت بصورة التمثيل علم أن الرب أحق بكل كمال لا نقص فيه أن يثبت له وأحق بنفي كل نقص عنه من نفيه عن سائر الموجودات.
جواب قولهم:
وإن كان منحصرا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع
وأما قولهم إذا انحصرت الأقسام فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع فيقال هذا ممكن في بعض الصور كالمسائل الظنية من الفقه أو غيره إذا قيل خيار الأمة المعتقة تحت العبد كقصة بريرة أما أن يكون ثبت لكونها كانت تحت ناقص وأما أن يكون لكونها ملكت نفسها أمكن أن يقال وأما أن يكون لمجموع الأمرين.
لكن تعليله بما يختص الأصل سواء كان هو المجموع أو بعض منه إنما يمكن العلم بنفيه كما يمكن العلم بغيره من المنفيات كما إذا قيل: "الإنسان إنما كان حساسا متحركا بالإرادة لحيوانيته لا لإنسانيته والحيوانية مشتركة بينه وبين الفرس وسائر الحيوان فيكون حساسا متحركا بالإرادة" فلا يمكن أن يدعى في مثل هذه أن المختص بالإنسان هو علة كونه حساسا متحركا بالإرادة بل العلة ليست إلا المشترك بينه وبين الحيوان.
وكذلك إذا قيل القديم لا يجوز عدمه لأن قدمه أما بنفسه أو بموجب يجب قدمه بنفسه وما كان قديما بنفسه كان موجودا بنفسه بالضرورة فان القدم أخص من الوجود فيلزم من ثبوته ثبوت الوجود فإذا قديما بنفسه فهو موجود بنفسه بالضرورة وما كان موجودا بنفسه فهو واجب بنفسه وإلا لافتقر إلى فاعل فالقديم أما واجب بنفسه وأما لازم للواجب بنفسه وكلاهما ممتنع العدم لأنه يستلزم عدم الواجب بنفسه ولو عدم لكان قابلا للعدم فلا يكون واجبا بنفسه ولهذا اتفق العقلاء على هذا وهو أن القديم أما موجود واجب بنفسه وأما لازم لما هو كذلك
فإذا قال القائل: "لو كانت الأفلاك قديمة لامتنع عدمها لكن عدمها ممكن بالأدلة الدالة عليه فلا تكون قديمة" لم يجز أن يقال: "بل القديم لا يجوز عدمه لعلة مختصة بالقديم بنفسه دون ما كان معلولا لغيره" فالأفلاك وإن قيل هي قديمة فهي ممكنة العدم فان هذا باطل لما ذكرناه من أن المشترك بين الواجب بنفسه والواجب بغيره هو مستلزم لقدم المشترك بين القديم الموجود بنفسه والقديم الموجود بغيره فمن ادعى قديما موجودا بغيره وقال أنه مع هذا يمكن عدمه فقوله متناقض كما بسط في موضعه ولهذا لم يقل احد من العقلاء أنها قديمة يمكن عدمها الإمكان المعروف وإنما ادعوا أن لها ماهية باعتبار نفسها فقيل الوجود والعدم ولكن وجب لها الوجود من غيرها.
وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذا قول مخالف لجميع العقلاء حتى أرسطو واتباعه لا يكون عندهم ممكنا إلا المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه أو حتى هؤلاء الذين قالوا بأنها قديمة يمكن وجودها وعدمها كابن سينا واتباعه تناقضوا ووافقوا سلفهم وسائر العقلاء فذكروا في عدة مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا وان كل ما كان دائما لا يكون ممكنا وأما القديم الذي لا يمكن عدمه فليس عندهم ممكنا وان كان وجوبه بغيره.
وإنما خالف في هذا طائفة من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله الذين أرادوا أن يجمعوا بين قول سلفهم وبين ما جاءت به الرسل مع دلالة العقول عليه فلم يمكنهم ذلك إلا بما خالفوا به الرسل مع مخالفة العقول مع مخالفة سلفهم فيما أصابوا فيه وموافقتهم فيما اخطئوا فيه وكان كفرا في الملل ومع تناقضهم ومخالفة جميع العقلاء.
وأما قولهم: "بثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز أن يكون الحكم في تلك معللا بعلة أخرى" فيقال هذا غلط وذلك أنه متى ثبت الحكم مع المشترك في
صورة تمتنع أن تكون الأوصاف الزائدة المقارنة له في الأصل مؤثرة في الحكم مع تخلف غيره من الأوصاف فإنها مختصة بالأصل فلو كانت مؤثرة لم يجز أن يوجد الحكم في غير الأصل وحينئذ فعدمها لا يؤثر والصورة الأخرى قد يثبت فيها وجود المشترك.
وأما إمكان وجود وصف آخر مستقل بعلة فهذا لا بد من نفيه أما بدليل قاطع أو ظاهر أو بأن الأصل عدمه ويكون القياس حينئذ يقينيا أو ظنيا.
والكلام فيما إذا حصرت أقسام العلة ونفي التعليل عن كل منها إلا واحد والنفي قد يكون لنفي التعليل بها من الأصل وقد يكون لنفي التعليل مطلقا فالأول يحتاج معه إلى الثاني في تلك الصورة وأما الثاني فهو يتناول النفي في تلك الصورة وغيرها.
وقولهم: "وإن كان لا علة له سواه فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه" فيقال هذا هو في معنى السؤال الأول وهو أن يكون الحكم ثبت لذات المحل لا لأمر منفصل وهو التعليل بالعلة القاصرة الواقفة على مورد النص.
وأما قولهم: "أن بين أن ذلك الوصف يستلزم الحكم وأن الحكم لازم لعموم ذاته فمع بعده يستغنى عن التمثيل" فيقال لا بعد في ذلك بل كلما دل عل أن الحد الأوسط يستلزم الأكبر فانه يستدل به على جعل ذلك الحد وصفا مشتركا بين أصل وفرع ويلزمه الحكم.
وأما قوله: "إنه يستغنى عن التمثيل" فيقال: نعم والتمثيل في مثل هذا يذكر للإيضاح وليتصور للفرع نظير لأن الكلى إنما وجوده كلى في الذهن لا في الخارج فإذا عرف تحققه في الخارج كان أيسر لوجود نظيره ولان المثال قد يكون ميسرا لإثبات التعليل بل قد لا يمكن بدونه وسائر ما تثبت به العلة من الدوران والمناسبة وغير ذلك إذا اخذ معه السبر والتقسيم أمكن كون القياس قطعيا
وأيضا فقد يكون قياس التمثيل يقينيا في كذا فان الجمع بين الأصل والفرع كما يكون بإبداء الجامع يكون بإلغاء الفارق وهو أن يعلم أن هذا مثل هذا لا يفترقان في مثل هذا الحكم ومساوي المساوي مساو والعلم بالمساواة والمماثلة مما قد يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع فإذا علم حكم أحد المتماثلين علم أن الآخر مثله لا سيما إذا كان الكلام فيما تجرد من المعقولات مثل القول بأن شيئا من السواد عرض مفتقر إلى المحل فيقال سائر أفراد السواد كذلك بل ويقال وسائر الألوان كذلك وكذلك أن قيل أن حركة الكواكب تحدث شيئا بعد شيء قيل وسائر الحركات كذلك.
وبالجملة فقد بينا أن كل قياس لا بد فيه من قضية كلية إيجابية وبينا أن تلك القضية لا بد أن يعلم صدق كونها كلية وكل ما به يعلم ذلك به يعلم أن الحكم لازم لذلك الكلى المشترك فيمكن جعل ذلك الكلى المشترك هو الجامع بين الأصل والفرع فكل قياس شمول يمكن جعله قياس تمثيل فإذا أفاد اليقين لم يزده التمثيل إلا قوة.
إذا علمت إحدى المقدمتين بنص المعصوم فاستعمال الشمول أولى:
وقياس التمثيل يمكن جعله قياس شمول لكن قد يكون بيان صحته محتاجا إلى بيان إحدى مقدمتيه لا سيما الكبرى فإنها هي في الغالب التي تحتاج إلى البيان وإذا كان كذلك الأصل المقيس عليه أولا أسهل في البيان ف قياس التمثيل أعون على البيان إلا إذا كانت القضية الكلية معلومة بنص المعصوم فهنا يكون الاستدلال بها أولى من الاستدلال بقياس التمثيل لكن الدليل هنا يكون شرعيا لم تعلم إحدى مقدمتيه إلا بنص المعصوم أو الإجماع المعصوم لم تعلم بمجرد العقل وهم.
والكلام مع من يجعل مواد البرهان القضايا الكلية المعلومة بدون قول