المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقام الرابع: في قولهم أن القياس يفيد العلم بالتصديقات: - الرد على المنطقيين

[ابن تيمية]

الفصل: ‌المقام الرابع: في قولهم أن القياس يفيد العلم بالتصديقات:

المعصوم بل قد يسمون القياس المستدل على إحدى مقدماته بقول المعصوم من الخطابي والجدلى لأنهم يجعلون تلك القضايا من المسلمات والمقبولات لا من البرهانيات اليقينيات.

وهذا أيضا من ضلالهم فان القضية اليقينية ما علم أنها حق علما يقينيا فإذا علم بدليل قطعي أن المعصوم لا يقول إلا حقا وعلم بالضرورة أنه قضى بهذه القضية الكلية كما قضى ب أن الله بكل شيء عليم وأن الله خالق كل شيء وانه لا نبي بعده ونحو ذلك من القضايا الخبرية التي علم بالضرورة أن المعصوم أخبر بها عامة كلية كان هذا من أحسن الطرق في حصول اليقين وهذا الطريق لا يدخل في قياسهم البرهاني ولكن هذا لما كان مبنيا على مقدمات سمعية لم نقررها في هذا الموضع لم نحتج به عليهم بل احتججنا عليهم بما يسلمونه.

وما بيناه بمجرد العقل من أن قولهم العلوم الكسبية لا تحصل إلا بقياسهم البرهاني قول باطل بل هو من أبطل الأباطيل.

هذا في جانب النفي.

ص: 246

‌المقام الرابع: في قولهم أن القياس يفيد العلم بالتصديقات:

فصل:

وأما المقام الثاني وهو المقام الرابع من المقامات الأربعة المذكورة أولا وهو أدق المقامات.

ص: 246

تبصرة على ما تقدم من المقامات:

فان ما نبهنا عليه خطأهم في منع إمكان التصور إلا ب الحد بل ومن نفى دعوى حصول التصور ب الحد وبقى انحصار التصديق فيما ذكروه من والقياس مدركه قريب والعلم به ظاهر وخطأ المنطقيين فيه واضح بأدنى تدبر وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل.

المقامان الأول والثاني.

وأظهرها خطأ دعواهم أن التصورات المطلوبة لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد ثم أن مجرد الحد يفيد تصور الحقائق الثابتة في الخارج بمجرد قول الحاد سواء جعل الحد هو الجملة التامة الخبرية التي يسمونها القضية والتقييد الجزئي أو جعل الحد هو خبر المبتدأ المفرد وإن كان له صفات تقيده وتميزه.

فإنه إذا قال ما الإنسان فقيل الحيوان الناطق أو قيل الإنسان الحيوان الناطق فقد يقال الحد هو قولك الإنسان هو الحيوان الناطق وقد يقال بل الحد الحيوان الناطق وهذا في حكم المفرد وليس هذا كلاما تاما يحسن السكوت عليه أن لم يقدر له مبتدأ يكون خبرا عنه أو جعل مبتدأ خبر محذوف ومن جعل هذا وحده هو الحد وجعله بمجرده يفيد تصور الحقيقة فقوله أبعد عن الصواب.

المقام الثالث:

وبعد ذلك قولهم أن شيئا من التصديقات المطلوبة لا ينال إلا بما ذكروه من القياس فان هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به ولا يقوم عليه دليل أصلا وقد اشرنا إلى فساد ما ذكروه مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس كما يحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد.

بخلاف هذا المقام الرابع فان كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد

ص: 247

النتيجة هو أمر صحيح في نفسه.

كون القياس المنطقي عديم التأثير في العلم:

لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية بل كل ما يمكن علمه ب قياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه ب قياسهم فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما ولكن فيه تطويل كثير متعب فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الأذهان وتصنييع الزمان وكثرة الهذيان.

والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية إلى العلم وقالوا يعنى نظار المسلمين هذا لا يفيد هذا المطلوب بل قد يكون من الأسباب المعوقة له لما فيه من كثرة تعب الذهن كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعي معتدل وإذا قيض له من يسلك به التعاسيف والعسف في اللغة الأخذ عل غير طريق بحيث يدور به طرقا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة فانه يتعب تعبا كثيرا حتى يصل إلى الطريق المستقيمة أن وصل وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب فيعتقد اعتقادات فاسدة وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والإعياء فلا هو نال مطلوبه ولا هو استراح هذا إذا بقى في الجهل البسيط وهكذا هؤلاء.

ولهذا حكى من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين في زمانه الخونجي صاحب الموجز وكشف الأسرار وغيرهما أنه قال عند موته أموت وما

ص: 248

علمت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبي أموت وما علمت شيئا.

فهذا حالهم إذا كان منتهى احدهم الجهل البسيط وأما من كان منتهاه الجهل المركب فكثير والواصل منهم إلى علم يشبهونه بمن قيل له أين أذنك فأدار يده فوق رأسه ومدها إلى أذنه بكلفة وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه فهو أسهل وأقرب.

استعمال طرق غير الفطرية تعذيب للنفوس بلا منفعة:

والأمور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها كما لو قيل لرجل اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية فان هذا ممكن بلا كلفة فلو قال له قائل اصبر فانه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها وتميز بينها وبين الضرب فان القسمة عكس الضرب فان الضرب هو تضعيف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الآخر ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر ثم يقال ما ذكرته في حد الضرب لا يصح فانه إنما يتناول ضرب العدد الصحيح لا يتناول ضرب المكسور بل الحد الجامع لهما أن يقال الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى احد المضروبين كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر فإذا قيل اضرب النصف في الربع فالخارج هو الثمن ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد.

فهذا وإن كان كلاما صحيحا لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى يتصور هذا كله كان هذا

ص: 249

تعذيبا له بلا فائدة وقد لا يفهم هذا الكلام وقد يعرض له فيه إشكالات.

الدليل ما كان موصلا إلى المطلوب:

فكذلك الدليل والبرهان فان الدليل هو المرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود وكل ما كان مستلزما لغيره فانه يمكن أن يستدل به عليه ولهذا قيل الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن وبعض المتكلمين يخص لفظ الدليل بما يوصل إلى العلم ويسمى ما يوصل إلى الظن أمارة وهذا اصطلاح من اصطلح عليه من المعتزلة ومن تلقاه عنهم.

فالمقصود أن كل ما كان مستلزما لغيره بحيث يكون ملزوما له فانه يكون دليلا عليه وبرهانا له سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديا والآخر عدميا فأبدا الدليل ملزوم للمدلول عليه والمدلول لازم للدليل.

ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين وقد يحتاج إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب بل ذلك بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب والدليل ولوازم ذلك وملزوماته.

فإذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب إلا مقدمة واحدة كان دليله الذي يحتاج إلى بيانه له تلك المقدمة كمن علم أن الخمر محرم وعلم أن النبيذ المتنازع فيه مسكر لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر فهو لا يحتاج إلا إلى هذه المقدمة فإذا قيل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر " حصل مطلوبه ولم يحتج إلى أن يقال: "كل نبيذ مسكر""وكل مسكر خمر" ولا أن يقال: "كل مسكر خمر""وكل خمر حرام" فان هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه إلا أن اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين أو هو شامل لكل مسكر فإذا ثبت له عن صاحب الشرع

ص: 250

أنه جعله عاما لا خاصا حصل مطلوبه وهذا الحديث في صحيح مسلم ويروى بلفظين: "كل مسكر خمر"، "وكل مسكر حرام ".

ولم يقل: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" كالنظم اليوناني وإن كان روى في بعض طرق الحديث فليس بثابت فان النبي صلى الله عليه وسلم اجل قدرا في عمله وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم فانه أن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله إلى دليل وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القران عامة المطالب الإلهية التي تقرر الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق وأحسنهم بيانا له.

فعلم أنه ليس جميع المطالب يحتاج إلى مقدمتين ولا يكفى في جميعها مقدمتان بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة أو مقدمتين أو أكثر وما قصد به هدى عاما كالقرآن الذي انزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة.

وأما ما قد يعرض لبعضهم في بعض الأحوال من سفسطة تشككه في المعلومات فتلك من جنس المرض والوساوس وهذه إنما يمكن بيان أنواعها العامة وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله ونظرة هو فيما يخص حاله ونحو ذلك.

وأيضا فما يذكرونه من القياس لا يفيد إلا العلم بأمور كلية لا يفيد العلم بشئ معين من الموجودات ثم تلك الأمور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم فلا تعلم كلية بقياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون

ص: 251

قياسهم الشمولى وربما كان أيسر فان العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات وهذا مبسوط في موضعه.

ليس في قياسهم إلا صورة الدليل من غير بيان صحته أو فساده:

والمقصود هنا أن المطلوب هو العلم والطريق إليه هو الدليل فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه سواء نظمه بقياسهم أم لا ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم ولا يقال أن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها فان هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم فان قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته وأما كون الدليل المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير كما نبه عليه في موضع آخر.

الحقيقة المعتبرة في كل دليل هو اللزوم:

والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم فمن عرف أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ بل من عرف أن كذا لا بد له من كذا أو أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا فقد علم اللزوم كما يعرف أن كل ما في الوجود فهو أية لله فانه مفتقر إليه محتاج إليه لا بد له منه فيلزم من وجوده وجود الصانع.

وكما يعلم أن المحدث لا بد له من محدث كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أنه لما قدم في فداء الأسرى عام بدر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور قال: فلما سمعت قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}

ص: 252

أحسست بفؤادي قد انصدع.

فان هذا تقسيم حاصر يقول أخلقوا من غير خالق خلقهم فهذا ممتنع في بداية العقول أم هم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا فعلم أن لهم خالقا خلقهم وهو سبحانه وتعالى ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن أحدا إنكارها فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه ولا يمكنه أن يقول هو أحدث نفسه.

وقد بسطنا الكلام على ما قاله الناس في هذا المقام من الحدوث والإمكان وعلة الافتقار إلى المؤثر وذكرنا عامة طرائق أهل الأرض في إثبات الصانع من المتكلمين والفلاسفة وطرق الأنبياء صلوات الله عليهم وما سلكه عامة نظار الإسلام من معتزلي وكرامى وكلابي واشعري وفيلسوف وغيرهم في غير موضع مثل كتاب تعارض العقل والنقل وغير ذلك

ص: 253

وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في شرح الأصبهانية وكتاب الرد على النصارى وغيرهما.

وبينا أن كثيرا من النظار يسلك طريقا في الاستدلال على المطلوب ويقول لا يوصل إلى المطلوب إلا بهذا الطريق ولا يكون الأمر كما قاله في النفي وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق فان المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على

ص: 254

عقول الناس معرفة أدلته فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس في معرفتها كثيرة وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره أو من أعرض عن غيره وبعض الناس يكون الطريق كلما كان ادق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان انفع له لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته لا لكون العلم بالمطلوب متوقفا عليها مطلقا فان من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم فيجب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات وهذا يسلك معه هذه السبيل.

وأيضا فان النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدر به ويقويه على العلم فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال وهذا مقصد حسن.

ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور لشحذ الذهن فانه علم صحيح في نفسه ولهذا يسمى الرياضي فان لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة.

ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض" أراد إذا لهوا بعمل أن يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي وإذا لهوا بكلام لهوا بكلام ينفعهم أيضا

ص: 255

في عقلهم ودينهم وهو الفرائض.

وعلم الفرائض نوعان: أحكام وحساب.

فالأحكام ثلاثة أنواع: أحدها: علم الأحكام على مذهب بعض الفقهاء وهذا أولها ويليه علم أقاويل الصحابة والعلماء فيما اختلف فيه منها ويليه علم أدلة ذلك من الكتاب والسنة.

وأما علم حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات وللفرائض في ذلك طريق معلومة وكتب مصنفة وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كما يعلم بالعقل سائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاجها إليها الناس.

ثم قد ذكروا حساب المجهولات الملقب بحساب الجبر والمقابلة وهو علم قديم لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك أول من عرف أنه ادخله في ذلك محمد بن موسى الخوارزمي وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه تكلم في ذلك وانه تعلم زيادة ذلك من يهودي وهذا كذب على علي رضي الله عنه

ص: 256

ونحن قد بينا في الكتاب المصنف في الدور لما ذكرنا فيه أن لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع:

الدور الكوني الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا ولا يكون هذا حتى يكون هذا وطائفة من النظار كالرازي يقولون هو ممتنع والصواب أنه نوعان كما يقوله الآمدي وغيره دور قبلي ودور معي في الدور القبلي ممتنع والدور المعى ممكن.

ف الدور القبلي الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك مثل أن يقال لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لأنه يفضى إلى الدور.

وهو أن يكون هذا قبل ذاك وذاك قبل هذا وذاك فاعل لهذا وهذا فاعل لذاك فيكون الشيء فاعلا لفاعله ويكون قبل قبله وقد اورد الرازي وغيره عليه إشكالات ذكرناها وبينا وجه حلها طرق إثبات الصانع.

وأما الدور المعى فهو كدور الشرط مع الشروط وأحد المتضائفين مع الآخر إذا قيل صفات الرب لا تكون إلا مع ذاته ولا تكون ذاته إلا مع صفاته فهذا صحيح وكذلك إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع النبوة ولا تكون النبوة إلا مع الأبوة.

والنوع الثاني: مما يسمى دورا الدور الحكمى الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها وقد أفردنا في هذا مصنفات وبينا حقيقة هذا الدور وأنه باطل عقلا وشرعا وبينا في مصنف آخر هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا.

والنوع الثالث: الدور الحسابي وهو أن يقال لا يعلم هذا حتى يعلم هذا فهذا هو الذي يطلب حله بحساب الجبر والمقابلة

ص: 257

وقد ذكر كثير من متأخري الفقهاء مسائل وذكروا أنها لا تنحل إلا بطريق الجبر والمقابلة وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون حساب الجبر والمقابلة وإن كان أيضا حساب الجبر والمقابلة صحيحا وقد كان لأبي وجدي رحمهما الله فيه من النصيب ما قد عرف.

ليست شريعة الإسلام موقوفة على شيء من علومهم:

فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا وإن كان طريقا صحيحا بل طريق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق.

وهكذا كل ما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم مثل العلم بجهة القبلة والعلم بمواقيت الصلاة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال فكل هاذ يمكن العلم به بالطرق المعروفة التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاج معها إلى شيء آخر وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر وكثير منهم يظن أنه لا يمكن المعرفة بالشريعة إلا بها وهذا من جهلهم.

العلم بجهة القبلة:

كما قد يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها

ص: 258

وعرض البلد هو بعد ما بينه وبين خط الاستواء والموازي كدائرة معدل النهار وذلك يعرف بارتفاع القطب الشمالي فان القطبين إذا كانا على دائرة الأفق كان بعد كل منها عن خط الاستواء بعدا واحدا وليس لخط الاستواء عرض فإذا بعد الإنسان عن خط الاستواء مقدار درجة فلكية ارتفع القطب في قطره عن دائرة الأفق مقدار درجة ثم إذا بعد درجتين ارتفع القطب درجتين وهلم جرأ فعرض البلد يعرف بارتفاع القطب فإذا كان البلدان عرضهما سواء ك دمشق وبغداد وعرض كل منهما ثلاثا وثلاثين درجة يكون ارتفاع القطب فيهما واحدا.

وأما الطول فليس له حد في السماء يضبط به إذ هو بحسب المعمور من الأرض فيجعل الطول مبدأ العمارة وكانوا يحدون بجزائر تسمى جزائر الخالدات من جهة الغرب ويمكن أن تفرض بلدة ويجعل الطول شرقيا وغربيا كما فعل بعضهم حيث جعل مكة شرفها الله تعالى هي التي يعتبر بها الطول لأنها باقية محفوظة محروسة وجعل الطول نوعين شرقيا وغربيا.

فهذا علم صحيح حسابي يعرف بالعقل لكن معرفة المسلمين بقبلتهم في الصلاة ليست موقوفة على هذا بل قد ثبت عن صاحب الشرع صلوات الله عليه أنه قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة " قال الترمذي: "حديث صحيح" وبهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلى ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا الجدى ولا غير ذلك بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق

ص: 259

عن شماله كانت صلوته صحيحة فان الله إنما أمر باستقبال شطر المسجد الحرام وفي الحديث المسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الأرض ولهذا لم يعرف عن الصحابة أنهم ألزموا الناس في الصلاة أن يعتبروا الجدي.

كون اعتبار الجدى لمعرفة القبلة بدعة:

ولهذا أنكر الإمام احمد وغيره من العلماء على من ألزم الناس باعتبار الجدي فضلا عن طول البلاد وعرضها بل المساجد التي صلى فيها الصحابة كمسجد دمشق وغيره فيه انحراف يسير عن مسامتة عين الكعبة وكذلك غيره فكان هذا من الحكمة أن يعرف إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على أن المصلى ليس عليه مسامتة عين الكعبة بل تكفيه الجهة التي هي شطر المسجد الحرام.

من بدع المتكلمين ردهم ما صح من الفلسفة:

وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك علم صحيح لا يدفع والأفلاك مستديرة ليست مضلعة ومن قال أنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام فهو وأمثاله ممن يرد على الفلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول مع كونه موافقا للمشروع وهذا من بدع أهل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه فإنهم ناظروا الفلاسفة في العلم الإلهي في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع ومسائل المعاد والنبوات وغير ذلك بطرق فاسدة حائدة من مسلك الشرع والعقل.

وكان ذلك من أسباب ضلال كثير من الناس حيث ظنوا أن ما يقوله هؤلاء المبتدعون هو الشرع المأخوذ عن الرسول وليس الأمر كذلك بل كلما علم بالعقل الصريح فلا يوجد عن الرسول إلا ما يوافقه ويصدقه.

إجماع المسلمين على أن الفلك مستدير:

وما نحن فيه من كرية الأفلاك واستدارتها من هذا الباب بل هذا مما أجمع

ص: 260

عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لا يعرف بينهم نزاع في أن الفلك مستدير وقد حكى إجماع علماء المسلمين على ذلك غير واحد منهم أبو الحسين بن المنادى الإمام الذي له أربعمائة مصنف وكان من الطبقة الثانية من أصحاب احمد ومنهم أبو محمد بن حزم ومنهم أبو الفرج بن الجوزي والآثار بذلك معروفة ثابتة عن السلف كما دل على ذلك الكتاب والسنة.

وقد ذكرنا طرفا من ذلك في جواب مسألة سئلنا عنها في هذا الباب فذكرنا دلالة الكتاب والسنة على ذلك موافقا لما علم بالحساب العقلي.

وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وقال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

تفسير قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

وقد ذكر الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره ثنا أبى يعنى الإمام أبا حاتم الرازي ثنا نصر بن علي حدثني أبي عن شعبة بن الحجاج عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {َكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "في فلكة مثل فلكة المغزل".

وذكر عن احمد الزبيري عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في

ص: 261

قوله: (يسبحون) قال: "يدورون في أبواب السماء كما يدور المغزل في الفلكة".

وقال ثنا الحسن بن الحسن ثنا إبراهيم بن عبد الله بن الهروى ثنا حجاج عن أبي جريج اخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: " {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "النجوم والشمس والقمر فلكة كفلكة المغزل" وقال: "مثل ذلك الحسبان -يعنى مجاهد- حسبان الرحى" وهو سفودها القائم الذي يدور عليه والحسبان في اللغة: سهام قصار الواحدة حسبانة وكان مجاهد يفسر قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} بهذا وقال غيره: "هو من الحساب" قيل هو مصدر وقيل: جمع حساب كشهاب وشهبان.

قال مجاهد: "ولا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل ولا يدور الحسبان إلا بالرحى ولا يدور الرحى إلا بالحسبان" قال: "فكذلك النجوم والشمس والقمر هي في فلك لا يدمن إلا به ولا يدوم إلا بهن" قال: "فنقر بأصبعه" قال: فقال مجاهد: "يدمن كذلك كما نقر" قال: "فالحسبان والفلك يصيران إلى شيء واحد غير أن الحسبان في الرحى والفلك في المغزل" كل ذلك عن مجاهد.

قلت: قوله: "لا يدوم إلا به" أي لا يدور إلا به ومنه الدوامة بالضم والتشديد وهي فلكة يرميها الصبي بخيط فتدوم على الأرض أي تدور ومنه تدويم الطير وهو تحليقه وهو دورانه في طيرانه ليرتفع إلى السماء وقوله نقر بأصبعه يعنى نقر بها من الأرض وأدارها ليشبه بذلك دوران الفلك.

وقال ابن أبي حاتم قرى على يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب ثنا السري ابن يحيى قال: سأل رجل الحسن البصري عن قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}

ص: 262

قال: "يعنى استدارتهم".

وقال بندة ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عائشة ثنا عبد الواحد بن زياد ثنا أبو روق سمعت الضحاك في قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "يدور ويذهب".

ثنا أبي ثنا مسروق بن المرزبان ثنا يحي بن أبي زائدة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "الفلك كحديدة الرحى" يعنى قطب كحديدة الرحى وهو قطب الرحى وهو السفود القائم الذي يسمى أيضا حسبانا.

ثنا بن على الحسين بن حنيد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن الضحاك {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "الفلك السرعة والجري في الاستدارة و (يسبحون) يعملون" يريد أن لفظ الفلك يدل على الاستدارة وعلى سرعة الحركة كما في دوران فلكة المغزل ودوران الرحى.

وقال ثنا أبي ثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {فِي فَلَكٍ} يقول: "دوران" وقوله: "يسبحون يعني يجرون".

وعن إياس بن معاوية قال: "السماء على الأرض مثل القبة".

وقد بسط القول في ذلك بدلائله من الكتاب والسنة في غير هذا الموضع.

ولفظ الفلك في لغة العرب يدل على الاستدارة قال الجوهري: "فلكة المغزل سميت بذلك لاستدارتها والفلكة قطعة من الأرض أو

ص: 263

الرمل تستدير وترتفع على ما حولها والجمع فلك" وقال: "ومنه قيل: فلك ثدي الجارية تفليكا وتفلك استدار".

قلت: والسباحة تتضمن الجري بسرعة كما ذكر ذلك أهل اللغة.

العلم بالهلال:

وكذلك أيضا الهلال فان الشارع جعله معلقا بالرؤية فقال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وقال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" وقال: "صوموا من الوضح إلى الوضح ".

والعارفون بالحساب لا يتنازعون في أن الهلال لا يمكن ضبط وقت طلوعه بالحساب فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس وعرفوا أنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء فإذا فارق الشمس صار فيه النور فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله فيحسبونه.

فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها لأن الرؤية أمر حسى لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره وارتفاع المنظر وانخفاضه وحدة البصر وكلالة فمن الناس من لا يراه ويراه من هو أحد بصرا منه ويرى من مكان عال ولا يرى من منخفض

ص: 264

ويكون الجو صافيا فيرى ويكون كدرا فلا يرى.

فلما كانت أسباب الرؤية لا تنضبط بالحساب لم تمكن معرفة وقت الرؤية بالحساب ولهذا كان قدماء علماء الهيئة كبطلميوس صاحب المجسطي وغيره لم يتكلموا في ذلك بحرف وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه لما رأوا الشريعة قد جاءت باعتبار الرؤية أحبوا أن يعرفوا ذلك بالحساب فضلوا وأضلوا.

ومن قال أنه لا يرى على اثنتي عشرة درجة أو عشر أو نحو ذلك فقد أخطأ فان من الناس من يراه على أقل من ذلك ومنهم من لا يراه على ذلك بل قد يراه نصف النهار إذا فارق الشمس أدنى مفارقة فلا للعقل اعتبروا ولا للشرع عرفوا ولهذا أنكر عليهم ذلك حذاق صناعتهم.

العلم بطلوع الفجر:

وهكذا أمر الفجر فان الزمان يوم وأسبوع وشهر وعام فأما اليوم فيعلم بالحس والمشاهدة وكذلك الشهر والعام يعرف بالعدد في القمرية وبالرؤية في الشمسية قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} كانت ثلثمائة شمسية وثلثمائة وتسع هلالية.

وأما الأسبوع فليس له حد يعرف بالحس والعقل وإنما عرف بإخبار الأنبياء أن الله خلق هذا العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش ولهذا شرع الله لأهل الملل أن يجتمعوا في الأسبوع يوما لعبادة الله وحده ويكون ذلك سببا لحفظ الأسبوع

ص: 265

الذي به يعلم أن الله خلق هذا العالم في ستة أيام ولهذا لا توجد أسماء الأسبوع في لغة من لا يعرفون شرائع الأنبياء كالمشركين من الترك وغيرهم فإنهم لا يعرفونه والعادة تتبع التصور فمن لم يتصور شيئا لم يعرفه.

واليوم يعرف بطلوع الفجر وهو النور الذي يظهر من جهة المشرق وهو أول نور الشمس المتصل الذي لا ينقطع بخلاف الفجر الأول فانه يأتي بعده ظلمة والاعتبار في الشرع في الصلاة والصيام وغير ذلك بالثاني ويعرف بالحس والمشاهدة كما يعرف الهلال ويعرف بالقياس على ما قرب منه تقريبا إذا عرف عند طلوعه مواضع الكواكب من السماء فيستدل في اليوم الثاني بذلك على وقت طلوعه.

وأما تقدير حصة الفجر بأمر محدود من حركة الفلك مساو لحصة العشاء كما فعله طائفة من الموقتين فغلطوا في ذلك كما غلط من قدر قوس الرؤية تقديرا مطلقا وذلك لأن الفجر نور الشمس وهو شعاعها المنعكس الذي يكون من الهواء والأرض وهذا يختلف باختلاف مطارحة التي ينعكس عليها فإذا كان الجو صافيا من الغيوم لم يظهر فيه النور كما يظهر إذا كان فيه بخار فان البخار لغلظه وكثافته ينعكس عليه الشعاع ما لا ينعكس على الهواء الرقيق إلا ترى أن الشمس إذا طلعت إنما يظهر شعاعها على الأرض والجبال ونحو ذلك من الأجسام الكثيفة وان كانت صقيلة كالمرآة والماء كان اظهر وأما الهواء فانه وان استنار بها فان الشعاع لا يقف فيه بل يخرقه إلى أن يصل إلى جسم كثيف فينعكس.

ففي الشتاء تكون الأبخرة في الليل كثيرة لكثرة ما يتصعد من الأرض بسبب رطوبتها ولا يحلل البخار فيها فينعكس الشعاع عليه فيظهر الفجر حينئذ قبل ما يظهر لو لم يكن بخار وأما الصيف فان الشمس بالنهار تحلل البخار فإذا غربت الشمس لم يكن للشعاع التابع لها بخار يرده فتطول في الصيف حصة العشاء بهذا

ص: 266

السبب وتطول في الشتاء حصة الفجر بهذا السبب وفي الصيف تقصر حصة الفجر لتأخر ظهور الشعاع إذ لا بخار يرده لأن الرطوبات في الصيف قليلة وتقصر حصة العشاء في نهار الشتاء لكثرة الأبخرة في الشتاء فحاصلة أن كلا من الحصتين تتبع ما قبلها في الطول والقصر بسبب البخار لا بسبب فلكي.

والذين ظنوا أن ذلك يكون عن حركة الفلك قدروه بذلك فغلطوا في تقديرهم وصاروا يقولون حصة الفجر في الشتاء اقصر منها في الصيف وحصة العشاء في الصيف اقصر منها في الشتاء فان هذه جزء من الليل وهذه جزء من النهار فتتبعه في قدره ولم يعرفوا الفرق بين طلوع الشمس وغروبها وبين طلوع شعاعها فان الشمس تتحرك في الفلك فحركتها تابعة للفلك والشعاع هو بحسب ما يحمله وينعكس عليه من الهواء الأبخرة وهذا أمر له سبب ارضي ليس مثل حركة الفلك.

ولهذا كان ما قالوه بالقياس الفاسد أمرا يخالقه الحس ويعرف كذب ما قالوه باتفاق طوائف بني ادم فالذي يعرف بالحس والعقل الصريح لا يخالفه شرع ولا عقل ولا حس فان الأدلة الصادقة لا تتعارض مدلولاتها ولكن ما يقال بقياس فاسد وظن فاسد يقع فيه الاختلاف.

كون عدد الأفلاك تسعة ليس عليه دليل:

وعدد الأفلاك وكونها تسعة ليس أمرا معلوما ولا قام دليل على أنه ليس وراء التسعة شيء بل صرح أئمتهم بأنه يجوز أن تكون أشياء أخر وهذه التسعة إنما أثبتوها بما راوه من اختلاف حركات الكواكب وكذلك اثبتوا لكل كوكب من الخمسة المتحيزة عددا من الأفلاك بسبب اختلاف حركاته وعرفوا ارتفاع بعضها فوق بعض بكسوف الأسفل للأعلى وبينهم اختلاف كثير يطول وصفه في الأمور الفلكية التي لا تعرف بالحس وكثير مما يقولونه في ذلك لا يقوم عليه دليل.

ولهذا لما أخبرت الأنبياء بعرش الرب وكرسيه ظن بعضهم أن الكرسي هو الفلك الثامن والعرش هو الفلك التاسع وهذا القول مع أنه لا دليل عليه أصلا فهو

ص: 267

باطل من وجوه كثيرة قد بينا بعضها في مسألة الإحاطة.

وجمهورهم يقولون بحدوث هذا العالم وإنما عرف القول بقدمه من أرسطو ومتبعيه وقد رأيت كلام أرسطو في ذلك في مقالة اللام وهي آخر العلم الإلهي ومنتهى فلسفته وتكلمنا على ما ذكره هو وغيره من الفلاسفة وبينا أن ما قاله خالف فيه جمهور الفلاسفة وأساطينهم وليس معه قط دليل يدل على قدم شيء من العالم وإنما تدل على دوام الفاعلية وتوابع ذلك.

وقد بسطنا الكلام على ذلك في الكلام على هذا الأصل وما اضطربوا فيه وهم المبتدعون من المتكلمين الذين يضيفون إلى الشريعة ما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله احد من سلف الأمة ولا أئمتها فيجمعون في كلامهم بين حق وباطل والمتفلسفة في كلامهم حق وباطل وكلا الطائفتين لا يوافق ما دل عليه العقل الصريح المطابق لما جاءت به الرسل.

اختلافهم في مدة بقاء العالم:

ثم الجمهور منهم القائلون بحدوث هذا العالم تكلم منهم طوائف في بقائه وفي وقت فنائه من الروم والهند وغيرهم لكن بلا دليل صحيح وسبب ذلك أنهم لم يعرفوا للحوادث التي في هذا العالم سببا إلا حركة الفلك وما يتجدد فيه من الأشكال واتصالات الكواكب فقاسوا بقاءه على ذلك فمنهم من قال: "يبقى اثني عشر ألف سنة" ومنهم من قال: "ستة وثلاثين ألف سنة" ومنهم من قال: "ثلثمائة ألف وستون ألف سنة" ومنهم من قال: "ثمانية وأربعين ألف سنة أو أربعة وعشرين ألف سنة" وكل ذلك قول بلا علم

ص: 268

فإن منشأ النزاع أن الثوابت كان المعروف عندهم أنها تقطع الفلك كل مائة سنة درجة من درجات الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة فلما رصدوها زمن المأمون زعموا أن الصحيح أنها تقطعها في ثلثي هذه المدة كل سنة وستين سنة وثلثي سنة والصواب أن الرصد الأول هو الصحيح وقد اعتبر ذلك بمواضع الكواكب التي ذكرها غير واحد من القدماء في كتبهم واصطرلاباتهم ومواضعها الآن تدل على اعتبار ذلك على أن الرصد القديم هو الصحيح وأنها تقطع الدرجة في مائة سنة.

وإذا ضرب ذلك في ثلثمائة وستين كان على القول الأول ستة وثلاثين ألفا وعلى القول الثاني أربعة وعشرين ألفا ومن قال ثلثمائة ألف وستون ألفا قال هذا دور في عشرة ادوار ومن قال اثنا عشر ألف سنة جعل لكل برج ألف سنة وليس معهم دليل يدل على أن هذه المدة هي مدة بقاء الفلك.

والأصل الذي بنوا عليه فاسد وهو ظنهم أن الحوادث جميعها سببها حركات الفلك.

تقابلهم لمنكري تأثير حركات الفلك في الحوادث مطلقا:

وهذا الأصل قد تقابلوا فيه هم والمبتدعة من أهل الكلام فأولئك يقولون ليس لشيء من حركات الفلك تأثير في هذا العالم ولا شيء منها سبب في حدوث شيء

ص: 269

بل يطردون هذا في جميع الموجودات فلا يجعلون الله خلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا يجعلون للإنسان قدرة تؤثر في مقدورها ولا لشيء من الأجسام طبيعة ولا غريزة بل يقولون فعل عنده لا به وخالفوا بذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة وصرائح العقول.

فان الله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أقلتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يذكر سبحانه أنه فعل هذا بهذا كما ذكر أنه انزل الماء بالسحاب وانه أحيا الأرض بالماء.

والعلماء متفقون على إثبات حكمة الله في خلقه وأمره وإثبات الأسباب والقوى كما قد ذكرنا أقوالهم في موضعها وليس من السلف من أنكر كون حركات الكواكب قد تكون من تمام أسباب الحوادث كما أن الله جعل هبوب الرياح ونور الشمس والقمر من أسباب الحوادث.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة "

ص: 270

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء والصدقة والعتاقة والاستغفار وكذلك عند سائر الآيات التي يخوف الله بها عباده.

وقوله: "لا تنكسفان لموت احد ولا لحياته" رد لما كان قد توهمه بعض الناس من أن كسوف الشمس كان لأجل موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد مات وكسفت الشمس فتوهم بعض الجهال من المسلمين أن الكسوف كان لأجل هذا فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الكسوف لا يكون سببه موت احد من أهل الأرض ونفى بذلك أن يكون الكسوف معلولا عن ذلك وظنوا أن هذا من جنس اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما ثبت ذلك في الصحيح فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبين أن ذلك من آيات الله التي يخوف بها عباده.

والتخويف إنما يكون بما يكون سببا للشر قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} فلو كان الكسوف وجوده كعدمه بالنسبة إلى الحوادث لم يكن سببا لشر وهو خلاف نص الرسول.

وأيضا في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر وقال لعائشة: " يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا فان هذا هو الغاسق إذا وقب" والاستعاذة إنما تكون مما يحدث عنه شر.

وأمر صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئتة الله تعالى وقدرته من الصلاة والدعاء والذكر والاستغفار والتوبة والإحسان بالصدقة والعتاقة فان هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه كما في الحديث

ص: 271

"إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان".

وهذا كما لو جاء عدو فانه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له وإذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء.

وهذا ما اتفق عليه الملل وأساطين الفلاسفة حتى يذكر عن بطلميوس أنه قال: "واعلم أن ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات".

وكسوف الشمس إنما يكون وقت استسرار القمر آخر الشهر وخسوف القمر إنما يكون ليالي الابدار الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر كما أن الهلال قد يكون ليلة الثلاثين أو الحادي والثلاثين هذا الذي أجرى الله به عادته في حركات الشمس والقمر.

وما ذكره بعض الفقهاء من تقدير اجتماع الكسوف وصلاة العيد فهذا لم يقله احد من الصحابة ولا ذكره أكثر العلماء لا احمد ولا غيره ولكن ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد وغيرهما تبعا لما ذكره الشافعي وانه رضي الله عنه لما تكلم فيما إذا اجتمع صلاتان كيف يصنع وذكر أنه يقدم ما يفوت على ما لا يفوت ذكر من جملة التقدير صلاة العيد والكسوف طردا للقاعدة مع إعراضه عن كون ذلك يقع أو لا يقع كما يقدر الفقهاء مسائل كثيرة لطرد القياس مع إعراضهم عن وقوع ذلك في الوجود بل يقدرون ما يعلمون أنه لا يقع عادة كعشرين جدة وفروع الوصايا فجاء بعض الفقهاء فأخذ يكابر ويقول أن هذا قد يقع

ص: 272

وذكروا عن الواقدي أنه قال: "إبراهيم مات يوم العاشر وذلك اليوم كسفت الشمس" وهذا كله باطل والواقدي ليس بحجة بالإجماع إذا اسند ما ينقله فكيف إذا كان مقطوعا وقول القائل أنها كسفت يوم العاشر بمنزلة قوله طلع الهلال في عشرين من الشهر لكن هذه عادة ظاهرة يعرفها الناس كلهم وتلك عادة يعرفها من استقراها وعرف أسبابها ومجاري النيرين من الناس.

التكلم بلا علم في الشرعيات وفي العقليات وضرره:

فليس لأحد أن يتكلم بلا علم بل يحذر ممن يتكلم في الشرعيات بلا علم وفي العقليات بلا علم فان قوما أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة فكان ما فعلوه مما جرا الملحدين اعداء الدين عليه فلا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا.

وأقوام يدعون أنهم يعرفون العلوم العقلية وأنها قد تخالف الشريعة وهم من

ص: 273

أجهل الناس بالعقليات والشرعيات وأكثر ما عندهم من العقليات أمور قلدوا من قالها لو سئلوا عن دليل عقلي يدل عليها لعجزوا عن بيانه والجواب عما يعارضه ثم من العجائب أنهم يتركون اتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق ويعرضون عن تقليدهم ثم يقلدون في مخالفة ما جاءوا به من يعلمون هم أنه ليس بمعصوم وانه قد يخطىء تارة ويصيب أخرى.

وهؤلاء عندهم أمور معلومة من الحسابيات مثل وقت الكسوف والخسوف ومثل كرية الأفلاك ووجود السحاب من البخاري ونحو ذلك من الأمور الطبيعية والرياضية فيحتجون بها على من يظن أنه من أهل الشرع فيسرع ذلك المنتسب إلى الشرع برد ما يقولونه بجهله فيكون رد ما قالوه من الحق سببا لتنفيرهم عما جاء به الرسول من الحق بسبب مناظرة هذا الجاهل.

والله تعالى أمرنا أن لا نكذب ولا نكذب بحق وإنما مدح سبحانه من يصدق فيتكلم بعلم ويصدق ما يقال له من الحق قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} : {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهاتان صفتان لنوع واحد وهو من يجيء بالصدق ويصدق بالحق إذا جاءه فهذا هو المحمود عند الله وأما من كذب أو كذب بما جاءه من الحق فذلك مذموم عند الله تعالى.

وكذلك قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تقل ما ليس لك به علم {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .

ص: 274

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} ومثل هذا متعدد في كتاب الله تعالى.

حقيقة ملائكة الله تعالى وعقول الفلاسفة:

ثم أن حركات الأفلاك وان كانت من جملة الأسباب فليس الحوادث كلها صادرة عن حركة الفلك بل فوق ذلك من مخلوقات الله أمور أخر.

وملائكة الله الذين يدبر بهم أمر السماء والأرض وهم المدبرات أمرا والمقسمات أمرا التي اقسم الله بها في كتابه ليست هي الكواكب عند احد من سلف الأمة وليست الملائكة هي العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة المشاون اتباع أرسطو ونحوهم كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وبين خطأ من يظن ذلك ويجمع بين ما قالوه وبين ما جاءت به الرسل.

ويقول: أن قوله: "أول ما خلق الله العقل" هو حجة لهم على العقل الأول ويسمونه القلم ليجعلوا ذلك مطابقا لقوله أول ما خلق الله القلم بسطنا الكلام على ذلك في نحو مجلد في الكلام على السبعينية وغيرها وذكرنا أن حديث العقل ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث كأبي حاتم بن حبان وأبي جعفر العقيلي وأبي الحسن الدارقطني وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم بل هو موضوع عندهم

ص: 275

ومع هذا فلفظه: "أول ما خلق الله العقل قال له: اقبل فأقبل فقال له: أدبر فأدبر فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك فبك اخذ ربك أعطى وبك الثواب وبك العقاب" فان كان الحديث صحيحا فهو حجة عليهم لأن معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه بهذا الخطاب وفيه أنه لم يخلق خلقا أكرم عليه منه فهذا يدل على أنه خلق قبله غيره.

وأيضا فالعقل في لغة الرسول وأصحابه وأمته عرض من الأعراض يكون مصدر عقل يعقل عقلا كما في قوله: {لعلهم يعقلون} و {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} و {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ونحو ذلك وقد يراد به الغريزة التي في الإنسان قال احمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: "إن العقل غريزة".

والعقل في لغة فلاسفة اليونان جوهر قائم بنفسه فأين هذا من هذا ولهذا قال في الحديث: "فبك اخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب" وهذا يقال في عقل بني ادم.

وهم يزعمون أن أول ما صدر عن رب العالمين جوهر قائم بنفسه وانه رب جميع العالم وان العقل العاشر هو رب كل ما تحت فلك القمر ومنه تنزلت الكتب على الأنبياء

ص: 276

وعندهم أن الله لا يعرف عين موسى ولا عيسى ولا محمد ولا غير ذلك من جزئيات هذا العالم فضلا عن علمه بتفاصيل ما جرى يوم بدر ويوم احد ويوم الأحزاب وغير ذلك من الأحوال التي يذكرها الله في القران ويخبر بما كان ويكون من الأمور المعينة الجزئية.

ولهذا كان قولهم في النبوة أنها مكتسبة وأنها فيض يفيض على روح النبي إذا استعدت نفسه لذلك فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه وان الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الأصوات بمنزلة ما يراه النائم في منامه.

ومن عرف ما اخبر الله به عن ملائكته جبريل وغيره في غير موضع علم أن هذا الذي قالوه اشد مخالفة لما جاءت به الرسل من أقوال الكفار المبدلين من اليهود والنصارى فان الله اخبر عن الملائكة لما جاءوا إلى إبراهيم في صورة البشر أضيافا ثم ذهبوا إلى لوط في غير موضع واخبر عن جبريل حين ذهب إلى مريم وتمثل لها بشرا سويا ونفخ فيها.

وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي غير مرة واتاه مرة في صورة أعرابي وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن الحرث بن هشام قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال: " يأتيني أحيانا

ص: 277

في مثل صلصلة الجرس وهو اشد على فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت: "عائشة لقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا".

وقد قال تعالى: {أنه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} وأكثر القراء يقرءون (بظنين) يعني بمتهم وقد قرى (بضنين) أي ببخيل وزعم بعض المتفلسفة أن هذا هو العقل الفعال لأنه دائم الفيض فيقال قد قال {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ} والعقل الفعال لو قدر وجوده فلا تأثير له فيما ثم وإنما تأثيره فيما تحت فلك القمر فكيف ولا حقيقة له.

بل ما يدعونه من المجردات والمفارقات غير النفس الناطقة كالعقول والنفوس إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان كما بسط الكلام عليها في الصفدية وغيرها فان ما يقولونه من العقليات في الطبيعيات غالبه صحيح وكذلك في الحساب المجرد حساب العدد والمقدار الكم والكيف فان هذا كله صحيح وإنما يغلط الإنسان فيه من نفسه.

ابن سينا والعبيديون الإسماعيلية:

وأما الإلهيات فكلام أرسطو وأصحابه فيها قليل جدا ومع قلته فكثير منه بل أكثره خطأ ولكن ابن سينا اخذ ما ذكروه وضم إليه أمورا أخر من أصول المتكلمين واخذ يقول ما ذكره على بعض ألفاظ الشرع وكان هو وأهل

ص: 278

بيته من الملاحدة الباطنية اتباع الحاكم وعيرة من العبيديين الإسماعيلية وأولئك كانوا يستعملون التأويل الباطن في جميع أمور الشريعة علميها وعمليها حتى تأولوا الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت لكن كانوا يأمرون بالشريعة لعوامهم فإنهم كانوا يتظاهرون بالتشيع.

وكانت الرافضة الاثنا عشرية تدعى أن الإمامة بعد جعفر في ابنه موسى بن جعفر فادعى هؤلاء أنها في ابنه إسماعيل بن جعفر وانتقلت إلى ابنه محمد بن إسماعيل وادعوا أن ميمون القداح بن محمد هذا وسموا محمد هذا هو الإمام المخفى وإنما كان ميمون هذا يعرف بالانتساب إلى باهلة وقد ذكر غير واحد من أهل المعرفة أنه كان يهوديا وكان من أبناء المجوس كما ذكر ذلك القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب كشف أسرارهم وهتك أستارهم وغيره من علماء المسلمين.

وأما قرامطة البحرين أبو سعيد بن الجنابى وأصحابه فأولئك كانوا يتظاهرون بالكفر الصريح ولهذا قتلوا الحجاج والقوهم في بئر زمزم واخذوا الحجر

ص: 279

الأسود وبقى عندهم مدة.

بخلاف العبيديين فإنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ويقولون أنهم شيعة فالظاهر عنهم الرفض لكن كان باطنهم الإلحاد والزندقة كما قال أبو حامد الغزالي في كتاب المستظهري ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم هو متفق عليه بين علماء المسلمين وكانوا يأمرون عامتهم بالعبادات وهم على درجات مرتبة عندهم كلما ارتفع درجة عبروا الشريعة عنده فإذا انتهى اسقطوا عنه الشرع.

وكان ابن صباح من أتباعهم أحنا عن المستنصر الذي جرى في أيامه فتنه البساسيرى وهو الذي أحدث السكين وأصحاب الالموت من اتباعه والذين كانوا بالشام كسنان ونحوه هم من اتباع أولئك وباطنهم مركب من مذهب المجوس والفلاسفة واخذوا عن المجوس الأصلين النور والظلمة واخذوا عن الفلاسفة العقل والنفس وعبروا هم عن ذلك ب السابق والتالي

ص: 280

فلما دخل معهم المتفلسفة كابن سينا وأمثاله تبين لهم أن ما يدعونه على الرسول من التأويلات مما يعلم بطلان كثير منها بالضرورة والفيلسوف من حيث هو فيلسوف ليس له غرض فيما يعلم أنه باطل فسلكوا مسلكا بين مسلك هؤلاء الملاحدة وبين دين المسلمين فالشرائع الظاهرة أقروها ولم يتأولوها لكن قد يقولون أن بعضها يسقط عن الخاصة ودخل معهم في هذا طائفة من متصوفة الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وغيرهما وأما العلميات فتأولوا بعضها كاللوح قالوا هو النفس الكلية والقلم هو العقل الفعال وربما قالوا عن الكوكب والشمس والقمر التي رآها إبراهيم أنها النفس والعقل الفعال والعقل الأول وتأولوا الملائكة ونحو ذلك.

وأما صفات الرب ومعاد الأبدان وغير ذلك فمذهب محققيهم كابن سينا وأمثاله أنها لا تتأول وأن ما دلت عليه ليس ثابتا في نفس الأمر ولا يستفاد منها علم قالوا بل المراد منها خطاب الجمهور بما يخيل إليهم ما يعتقدونه في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لينتفعوا بذلك الاعتقاد وإن كان باطلا لا حقيقة له في نفس الأمر فان هذا غايته أن الأنبياء كذبوا لمصلحة الجمهور وهم يرون مثل ذلك من تمام حكمتهم وهم يعظمون شرائع الأنبياء العملية وأما العلمية فعندهم العلم في ذلك بما يقوله الفلاسفة وأما الأنبياء فلا يستفاد من جهتهم علم بذلك.

ثم منهم من يقول النبي أعظم من الفيلسوف فيقولون النبي كان في الباطن على مذهب هؤلاء الفلاسفة لكن خاصته التخييل وإن كان كذبا في الحقيقة لمصلحة الجمهور ومنهم من يقول بل الفيلسوف أعظم من النبي، والنبي قد لا يكون عارفا في الباطن بما يجوز على الله وما لا يجوز وحقيقة الأمر في المعاد لكن هو حاذق في وضع الشرائع العملية.

وكثير من ملاحدة المتصوفة كابن عربي وابن سبعين والقونوي

ص: 281

والتلمساني وغيرهم يوافقونهم في أصولهم لكن يغيرون العبارات فيعبرون بالعبارات الإسلامية عما هو قولهم وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها وغيرها من كتب مصنفيها قطعة من هذا وبسبب ذلك وقع ابن عربي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة مع هؤلاء ولهذا كثر كلام علماء المسلمين في مصنفيها ومن الناس من ينكر أن تكون من كلام أبي حامد لما رأى ما فيها من المصائب العظيمة وآخرون يقولون بل رجع عن ذلك وختم له بالاشتغال بالبخاري ومسلم كما قد ذكر ذلك في سيرته.

وهؤلاء المتفلسفة ومتصوفوهم كابن سبعين وأتباعه يجوزون أن يكون الرجل يهوديا أو نصرانيا أو مشركا يعبد الأوثان فليس الإسلام عندهم واجبا ولا التهود والتنصر والشرك محرما لكن قد يرجحون شريعة الإسلام على غيرها وإذا جاء المريد إلى شيخ من شيوخهم وقال: "أريد أن اسلك على يديك" يقول له: "على دين المسلمين أو اليهود أو النصارى" فإذا قال له المريد: اليهود والنصارى أما هم كفار؟ يقول: لا ولكن المسلمون خير منهم" وهذا من جنس جهال التتر أول ما أسلموا فان الإسلام عندهم خير من غيره وإن كان غيره جائزا لا يوالون عليه ويعادون عليه.

وهذا أيضا أكثر اعتقاد علماء النصارى أو كثير من اليهود يرون دين المسلمين واليهود والنصارى بمنزلة المذاهب في دين المسلمين فيجوز للرجل عندهم أن

ص: 282

ينتقل من هذه الملة إلى تلك أما لرجحانها عنده في الدين وأما لمصلحة دنياه كما ينتقل الإنسان من مذهب بعض أئمة المسلمين إلى مذهب إمام آخر كما ينتقل من مذهب مالك إلى الشافعي ومن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب احمد ونحو ذلك.

أرسطو ومشركوا اليونان:

وأما أرسطو وأصحابه فكانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وهكذا كان دين اليونان والروم قبل ظهور دين المسيح فيهم وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلثمائة سنة وكان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ له اليهود والنصارى التأريخ الرومي وكان قد ذهب إلى ارض الفرس واستولى عليها.

وطائفة من الناس تظن أنه كان وزير الاسكندر ذي القرنين المذكور في القران وهذا جهل فان ذا القرنين كان مقدما على أرسطو بمدة عظيمة وكان مسلما يعبد الله وحده لم يكن مشركا بخلاف المقدوني وذو القرنين بلغ أقصى المشرق والمغرب وبنى سد يأجوج ومأجوج كما ذكر الله في كتابه والمقدوني لم يصل لا إلى هذا ولا إلى هذا ولا وصل إلى السد.

وآخر ملوكهم كان بطلميوس صاحب المجسطي وبعده صاروا نصارى وكانت اليونان والروم مشركين كما ذكر يعبدون الشمس والقمر والكواكب ويبنون لها هياكل في الأرض ويصورون لها أصناما يجعلون لها طلاسم من جنس شرك النمرود بن كنعان وقومه الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلوات الله

ص: 283

وسلامه عليه.

وبقايا هذا الشرك في بلاد الشرق في بلاد الخطا والترك يصنعون الأصنام على صورة النمرود ويكون الصنم كبيرا جدا ويعلقون السبح في أعناقهم ويسبحون باسم النمرود ويشتمون إبراهيم الخليل.

وكان من النفر القادمين إلى دمشق سنة 699 تسع وتسعين وستمائة بعض هؤلاء وهو يجمع بين أن يصلي الصلوات الخمس وبين أن يسبح باسم نمرود وهذا أيضا مذهب كثير من هؤلاء المتفلسفة وعلمائهم وعبادهم يصلون الصلوات الخمس ويعبدون الشمس والقمر أو غيرهما من الكواكب ومن هؤلاء طوائف موجودون في الشام ومصر والعراق وغير ذلك.

وسبب ذلك أنه يحصل لهم أحيانا من جنس ما يظهر للمشركين الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام فأنه كانت من الشياطين تدخل في الصنم وتكلم عابديه فتخبرهم بأمور مكاشفة لهم وتأمرهم بأمور يطلبون منهم قضاء حوائجهم.

قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَاناً مَرِيداً} قال ابن عباس: "كان في كل صنم شيطان يتراأى للسدنة فيكلمهم" وقال أبي بن كعب: "مع كل صنم جنية".

ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى وكانت العزى عند عرفات خرجت منها عجوز ناشرة شعرها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه شيطانة العزى وقد يئست العزى أن تعبد بأرض العرب " وكان خالد يقول: "يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك" وأما اللات فكانت عند الطائف ومناة الثالثة الأخرى كانت حذو قديد بالساحل

ص: 284

فان المدائن التي للمشركين بأرض الحجاز كانت ثلاثة: مكة والمدينة والطائف وكان لكل أهل مدينة طاغوت من هذه الثلاثة ولهذا خصصها سبحانه بالذكر في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي قسمة جائرة {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فإنهم كانوا يجعلون لله أولادا إناثا وشركاء إناثا فقال: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} .

أصل الشرك من تعظيم القبور وعبادة الكواكب:

والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين:

أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون الشرك وهو شرك قوم نوح قال ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن نوحا أول رسول بعث إلى أهل الأرض " ولهذا لم يذكر الله في القرآن قبله رسولا فان الشرك إنما ظهر في زمانه.

وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس وذكره أهل التفسير والسير من غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} "أن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم" وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب وذكر ابن عباس قبائل العرب التي كانت فيهم مثل هذه الأصنام

ص: 285

والسبب الثاني: عبادة الكواكب فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب ويتحرون الوقت المناسب لصنعة ذلك الطلسم ويصنعونه من مادة تناسب ما يرونه من طبيعة ذلك الكوكب ويتكلمون عليها بالشرك والكفر فتأتى الشياطين فتكلمهم وتقضى بعض حوائجهم ويسمونها روحانية الكواكب وهي الشيطان أو الشيطانة التي تضلهم.

والكتاب الذي صنفه بعض الناس وسماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فان هذا كان شرك الكلدانيين والكشدانيين وهم الذين بعث إليهم الخليل صلوات الله عليه وهذا أعظم أنواع السحر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ".

ولهذا صنف تنكلوشاه البابلي كتابه في درجات الفلك وكذلك

ص: 286

شرك الهند وسحرهم من هذا مثل كتاب طمطم الهندي وكذلك أبو معشر البلغي له كتاب سماه مصحف القمر وكذلك ثابت بن قرة الحراني صاحب الزيج.

حران دار الصابئة:

فان حران كانت دار هؤلاء الصابئة وفيها ولد إبراهيم أو انتقل إليها من العراق على اختلاف القولين.

وكان بها هيكل العلة الأولى هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس وكذلك الزهرة وعطارد والقمر.

وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الإسلام ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها أطباء وكتابا وبعضهم لم يسلم.

ولما قدم الفارابي حران في أثناء المائة الرابعة دخل عليهم وتعلم منهم وأخذ

ص: 287

عنهم ما أخذ من المتفلسفة وكان ثابت بن قرة قد شرح كلام أرسطو في الإلهيات وقد رايته وبينت بعض ما فيه من الفساد فان فيه ضلالا كثيرا.

وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور دين النصرانية وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي ولهذا توجد في دمشق مساجد قديمة فيها قبله إلى القطب الشمالي وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء.

فان الصابئة نوعان صابئة حنفاء موحدون وصابئة مشركون فالأولون هم الذين اثنى الله عليهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من هذه الملل الأربع المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين.

فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أنه حميد مجيد قبل نزول التوراة والإنجيل.

وهذا بخلاف المجوس والمشركين فأنه ليس فيهم مؤمن فلهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فذكر الملل الست هؤلاء وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيمة لم يذكر في الست من كان مؤمنا إنما ذكر ذلك في الأربعة فقط

ص: 288

ثم أن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين أما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ويقرون بمعاد الأبدان فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم.

ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب تقر بحدوثه وكذلك المشركون من الهند وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين هم أرسطو.

قسطنطين أول ملك اظهر دين النصارى:

وكان دين المسيح لما دخل فيه طائفة من أهل حران وفيهم هيلانة الحرانية الفندقانية فهولها ملك الروم أبو قسطنطين فتزوجها فولدت له قسطنطين فنصرت ابنها قسطنطين وهو الذي اظهر دين النصارى وبنى القسطنطينية وفي زمنه ابتدع النصارى هذه الامانة التي اتفقت عليها طوائفهم اليوم فانه اتفق عليها ثلثمائة وبضعة عشرة من علمائهم وعبادهم.

قالوا وهو الذي ابتدع الصلاة إلى الشرق وإلا فلم يصل قط أحد من أنبيائهم وأتباعهم إلى الشرق ولم يشرع الله مكانا يصلى إليه إلا الكعبة.

والأنبياء -الخليل ومن قبله- إنما كانوا يصلون إلى الكعبة وموسى صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلى إلى بيت المقدس بل قالوا أنه كان ينصب قبة العهد إلى

ص: 289

العرب ويصلى إليها في التيه فلما فتح يوشع بيت المقدس بعد موت موسى نصب القبة على الصخرة فكانوا يصلون إليها فلما خرب بيت المقدس وذهبت القبة صارت اليهود يصلون إلى الصخرة لأنه موضع القبة والسامرة يصلون إلى جبل هناك قالوا لأنه كان عليه التابوت.

ولما رأى علماء النصارى وعبادهم أن الروم واليونان مشركون واستصعبوا نقلهم إلى التوحيد المحض وضعوا لهم دينا مركبا من دين الأنبياء ودين المشركين فكان أولئك اليونان والروم يتخذون الأصنام المجسدة التي لها ظل فاتخذ النصارى الصور المرقومة في الحيطان والسقوف التي لا ظل لها وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر فصارت النصارى يسجدون إليها وجعلوا السجود إليها بدلا من السجود لها.

فضل محمد صلى الله عليه وسلم إمام التوحيد وأمته على من تقدم:

ولهذا لما بعث الله خاتم المرسلين وأفضل النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم إمام التوحيد الذي بعث الله به الرسل قبلة وأظهره وخلصه من شوائب الشرك فظهر التوحيد بسببه ظهورا فضله الله به وفضل به أمته على سائر من تقدم.

الأنبياء كلهم كانوا مسلمين:

فان الأنبياء جميعهم وأممهم كانوا مسلمين مؤمنين موحدين لم يكن قط دين يقبله الله غير الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أنه لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا معشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا أنه ليس بيني وبينه نبي" وقد أخبر

ص: 290

الله في القرآن عن جميع الأنبياء وأممهم من نوح إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين مؤمنين كما قد بسط في موضع آخر.

وقد قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم وذكرهم الله في آيتين من كتابه هذه السورة وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً} كما قال في يونس {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا

ص: 291

اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.}

فالمرسلون صلوات الله عليهم أجمعين أولهم وأخرهم بعثوا بدين الإسلام وهو عبادة الله وحدة لا شريك له يعبد في كل وقت بما أمر أن يعبد به في ذلك الوقت فالصلاة إلى بيت المقدس كان لما أمر الله به من دين الإسلام ثم لما نهى عنه وأمر ب الصلاة إلى الكعبة صارت الصلاة إلى الكعبة من دين الإسلام دون الصلاة إلى الصخرة.

فتنوع شرائع الأنبياء كتنوع الشريعة الواحدة ولهذا قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فالشرعة الشريعة والمنهاج الطريق والسبيل فالشرعة كالباب الذي يدخل منه والمنهاج كالطريق الذي يسلك فيه والمقصود هو حقيقة الدين بان يعبد الله وحده لا شريك له وهذه الحقيقة الدينية التي اتفق عليها الرسل هي دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره والشرك الذي حرمه على السن رسله أن يعبد مع الله غيره.

ومن لم يعبد الله أصلا كفرعون ونحوه ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فهؤلاء معطلة وهم شر الكفار ومع هذا يكون لهم ما يعبدونه دون الله كما قال تعالى في قوم فرعون: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} فقال غير واحد من السلف:" كان له آلهة يعبدها".

ومن عبد مع الله إلها آخر فهو مشرك الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وإن

ص: 292

كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خالق العالم وهذا كان شرك العرب كما أخبر الله عنهم في غير موضع من القرآن أنهم كانوا يقولون أن الله خلق العالم ولكن كانوا يتخذون الآلهة شفعاء يشفعون لهم يتقربون بهم إلى الله كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أن الحوادث كان لها أسباب وإن كانت حركات الفلك من جملة الأسباب.

فصل: القياس مع صحته لا يستفاد به علم بالموجودات.

فصورة القياس لا يدفع صحتها لكن يبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه نفس مطلوب شيء من الموجودات بل ما يحصل به قد يحصل بدونه وقد يحصل بدونه ما لا يحصل به.

فنقول أن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة فلا ريب أنه يفيد اليقين وإذا قيل: كل أ: ب وكل ب: ج وكانت المقدمتان معلومتين فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ: ج وهذا لا نزاع فيه.

فصورة القياس لا يتكلم على صحتها فان ذلك ظاهر سواء في ذلك الاقتراني المؤلف من الحمليات الذي هو قياس التداخل والاستثنائي المؤلف

ص: 293

من الشرطيات المتصلة الذي هو التلازم والتقسيم.

وكذلك ما ذكروه من أن الشكل الأول من الاقتران يفيد المطالب الأربعة النتائج الأربعة: الموجبة والسالبة والجزئية والكلية وان الثاني يفيد السالبة الكلية والجزئية وأن الثالث يفيد الجزئية سالبة كانت أو موجبة.

وفي التلازم استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم وهو قول نظار المسلمين وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم وانتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم بل هذا مع اختصاره فانه يشمل جميع أنواع الأدلة سواء سميت براهين أو أقيسة أو غير ذلك فان كل ما يستدل به على غيره فانه مستلزم له فيلزم من تحقق الملزوم الذي هو الدليل تحقق اللازم الذي هو المطلوب المدلول عليه ويلزم من انتفاء اللازم الذي هو المدلول عليه انتفاء الملزوم الذي هو الدليل.

ولهذا كان من عرف أن المدعى باطل علم أنه لا يقوم عليه دليل صحيح فانه يمتنع أن يقوم على الباطل دليل صحيح ومن عرف أن الدليل صحيح علم أن لازمه الذي هو المطلوب حق فانه يجب إذا كان الدليل حقا أن يكون المطلوب المدلول عليه حقا وإن تنوعت صور الأدلة ومقدماتها وترتيبها.

ولهذا كان الدليل الذي يصور بصورة القياس الاقتراني يصور أيضا بصورة الاستثنائي ويصور بصورة أخرى غير ما ذكروه من الألفاظ وترتيبها والمقصود هنا الكلام على ما ذكروه كما ذكرنا الكلام على الشرطي المتصل.

والتقسيم قد يكون مانعا من الجمع والخلو كما يقال العدد أما شفع وأما وتر وهما في معنى النقيضين الذين لا يجتمعان ولا يرتفعان فقد يكون مانعا من الجمع دون الخلو كالضدين الذين لا يجتمعان وقد يرتفعان كما يقال هذا أما أسود وأما أحمر وقد يخلو منهما

ص: 294

وقد يكون مانعا من الخلو دون الجمع كعدم المشروط ووجود الشرط والمراد بالشرط هنا ما يلزم من عدمه عدم الحكم سواء عرف ذلك بالشرع أو بالعقل مثل كون الطهارة شرطا في الصلاة والحيوة شرطا في العلم ليس المراد ما يسميه النحاة شرطا كالجملة الشرطية المعلقة ب أن وأخواتها فان هذا في المعنى سبب لوجود الجزاء ولفظ الشرط يقال على هذا وهذا بالاشتراك.

ومن جعل لفظ الشرط ينقسم إلى الثلاثة فقد غلط فانه قد يجتمع عدم المشروط ووجود الشرط إذ وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط ولكن لا يرتفعان جميعا فلا يرتفع وجود الشرط وعدم المشروط لأنه حينئذ يعدم الشرط ويوجد المشروط وهذا لا يكون كما إذا قيل هذا غرق بغير ماء أو صحت صلاته بغير وضوء أو وجب رجمه بغير زنا فيقال هذا أما أن يكون في ماء وأما أن لا يغرق وأما أن يكون متطهرا وأما أن لا تصح صلاته وأما أن يكون زانيا وأما أن لا يجوز رجمه.

وكذلك لو قيل ليس في الوجود واجب ولا ممكن ولا قديم ولا محدث فقيل لا بد في الوجود من واجب أو ممكن أو قديم أو محدث فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان.

وكذلك إذا قيل الوجود أما قائم بنفسه كالجسم وأما قائم بغيره ك العرض فهذان لا يرتفعان وقد يجتمعان فكل ما لا يخلو الوجود عنهما مع إمكان اجتماعهما أو لا يخلو بعض الأنواع عنهما مع إمكان اجتماعهما فهو من هذا الباب كما إذا قيل الوارث بطريق الأصالة أما أن يرث بفرض وأما أن يرث بتعصيب وقد يجتمع في الشخص الواحد أن يكون ذا فرض وعصبة كالزوج إذا كان ابن عم أو معتقا.

فالشرطي المتصل هو من التلازم والمنفصل هو في الثاني كما في الضدين والنقيضين وهذه الصورة صورة التقسيم الذي هو الشرطي المنفصل هي

ص: 295

أيضا تعود إلى اللزوم فانه يلزم من وجود احد الضدين عدم الآخر ومن عدمه وجوده وهذه مانعة الجمع والخلو.

فهذه الأشكال وإن تكثرت فجميعها يعود إلى أن الدليل يستلزم المدلول ويمكن تصوير ذلك بصور متعددة مما ذكروه ومما لم يذكروه.

فهم يقولون البرهان ينحصر في الاقتراني والاستثنائي فان الاقتراني ينحصر في أربعة أشكال والاستثنائي ينحصر في الشرطي المتصل والشرطي المنفصل فيعود إلى ستة أشكال وجمهورهم لا يذكرون الشكل الرابع من الاقترانيات لبعده عن الطبع وحصروها في أربعة بناء على حصرهم الدليل في مقدمتين تشتركان في حد أوسط ثم الأوسط أن كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الشكل الأول المنتج للمطالب الأربعة وإن كان موضوعا فيهما فهو الثاني المنتج للسلبيات وإن كان محمولا فيهما فهو الثالث المنتج للايجابيات وإن كان محمولا في الكبرى موضوعا في الصغرى عكس الأول فهو الرابع وهو أبعدها عن الطبع وأكثرهم لا يذكونه فيجعلون الأشكال خمسة هذه الثلاثة مع الاستثنائي الشرطي المتصل والشرطي المنفصل.

فهذه الأشكال إذا قدر أفادتها فهي صورة من صور الأدلة لا ينحصر تصوير الأدلة في هذه الأشكال كما لا ينحصر تصوير الدليل في مقدمتين بل هذا الحصر خطأ في النفي والإثبات فقد يكون الدليل مقدمة وقد يكون مقدمات وهذه الأشكال تكثر تصوير الدليل على أشكال أخر غير هذه فلا تنحصر في خمسة أو ستة وقد يؤتى بالدليل بدون هذه الأشكال جميعها وبدون المقدمتين إذا كان مقدمة واحدة.

وإذا قالوا أن جميع ما يذكر من الأدلة يرجع إلى هذه الأشكال قيل لهم بل جميع الأدلة يرجع إلى أن الدليل مستلزم للمدلول وحينئذ فإما أن يكون الاعتبار بما ذكروه من صور الأشكال ولفظها أو بما ذكروه من المعنى فان كانت العبرة

ص: 296

بالصورة لم يكن تخصيص صورة الدليل بخمسة أو ستة صوابا كما لم يكن تخصيصه بمقدمتين صوابا إذ كان يمكن تصويره بصور كثيرة متنوعة ليس فيها لفظ شرط لا متصل ولا منفصل ولا هو على صورة القياس الحملى كما ذكروه وإن كانت العبرة بالمعنى كان ذلك أدل عل فساد ما ذكروه فان المعنى هو أن يكون ما يستدل به مستلزما لما يستدل به عليه سواء كان مقدمة أو مقدمتان أو أكثر وسواء كان على الشكل والترتيب الذي ذكروه أو غيره.

والصواب في هذا الباب أن يقال ما ذكروه إذا كان صوابا فانه تطويل للطريق وتبعيد للمطلوب وعكس للمقصود فإنهم زعموا أنهم جعلوه آلة قانونية تمنع الذهن أن يزل في فكره وما ذكروه إذا كلفوا الناظر المستدل أن يلزمه في تصوراته وتصديقاته كان أقرب إلى زلله في فكره وضلاله عن مطلوبه كما هو الواقع فلا تجد أحدا التزم وضع هؤلاء واصطلاحهم إلا كان أكثر خطأ وأقل صوابا ممن لم يلتزم وضعهم وسلك إلى المطلوب بفطرة الله التي فطر عباده عليها ولهذا لا يوجد أحد ممن حقق علما من العلوم كان ملتزما لوضعه.

ولهذا يقال كثرة هذه الأشكال وشروط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل فانه متى كانت المادة صحيحة أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري فبقية الأشكال لا يحتاج إليها وإنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول أما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف وأما بالعكس المستوي أو عكس النقيض فان ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر إذا روعي التناقض من كل وجه فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها وعلى ثبوت عكسها المستوي وعكس نقيضها بل تصور الذهن بصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار.

والفطرة تصور القياس الصحيح من غير تعليم والناس بفطرهم يتكلمون ب الأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم كما يتكلمون بالحساب ونحوه والمنطقيون

ص: 297

قد يسلمون ذلك.

ويقولون أن المقدمتين لا بد منها لا أكثر ولا أقل ويقولون أكثر الناس يحذفون إحدى المقدمتين لظهورها اختصارا ويسمون هذا قياس الضمير وإن احتجاج المطلوب إلى مقدمات جعلوا القياس معنى أقيسة متعددة بناء على قولهم أنه لابد في القياس من مقدمتين ويسمونه القياس المركب ويقسمونه إلى موصول وهو ما لا يذكر فيه إلا نتيجة واحدة والى مفصول وهو ما يذكر فيه عقب كل مقدمتين نتيجة فالأول كقولك هذا نبيذ وكل نبيذ مسكر وكل مسكر خمر وكل خمر حرام فهذا حرام والثاني كقولك هذا نبيذ وكل نبيذ مسكر فهذا مسكر ثم تقول وكل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام ثم تقول هذا مسكر وكل مسكر حرام فهذا حرام.

وهذا كله مما غلطوا فيه والصواب الذي عليه جماهير النظار من المسلمين وغيرهم أن الدليل قد يتوقف على مقدمة تارة وقد يتوقف على مقدمتين تارة وعلى ثلاث تارة وعلى أكثر من تلك فما كان من المقدمات معلوما لم يحتج أن يستدل عليه وإنما يستدل على المجهول والمطلوب المجهول يعلم بدليله ودليله ما استلزمه وكل ملزوم فانه يصح الاستدلال به على لازمه وحينئذ فإذا كان المطلوب ملزوم يعلم لزومه له استدل عليه به وكفى ذلك وإن لم يكن المستدل يعلم إلا ملزوم ملزومه احتاج إلى مقدمتين وإن لم يعلم إلا ملزوم ملزوم ملزومه احتجاج إلى ثلاث وهلم جرا.

بيان أن حصول العلم لا يتوقف على القياس المنطقي:

وإذا كان كذلك فنقول لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية لكن نحن نبين أن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي بل يحصل بدون ذلك فلا يكون شيء من العلم متوقفا على هذا القياس

ص: 298

ونبين أن المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس.

بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل ب قياس التمثيل فلا يمكن قط أن يحصل بالقياس الشمولى المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل ب قياس التمثيل الذي يستضعفونه فان ذلك القياس لا بد فيه من قضية كلية والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك وهذا يحصل ب قياس التمثيل.

وكلا القياسين ينتفع به إذا تلقت بعض مقدماته الكلية عن خبر المعصوم إذا استعملت في الإلهيات بطريق الأولى كما جاء به القران وأما بدون هذين فلا ينفع في الإلهيات ولا ينفع أيضا في الطبيعيات منفعة علمية برهانية وإنما يفيد قضايا عادية قد تنحرف فتكون من باب الأغلب.

وأما الرياضي المجرد عن المادة كالحساب والهندسة فهذا حق في نفسه لكن ليس له معلوم في الخارج وإنما هو تقدير عدد ومقدار في النفس لكن ذلك يطابق أي معدود ومقدر واقعه في الخارج والبرهان لا يقوم إلا على ما في النفس لا يقوم على ما في الخارج وأكثر ما تعبوا في الهندسة ليتوصلوا بذلك إلى علم الهيئة كصفة الأفلاك والكواكب ومقادير ذلك وحركاته وهذا بعضه معلوم ب البرهان وأكثره غير معلوم ب البرهان وبينهم فيه من الاختلاف ما يطول وصفه فصار المعلوم ببراهينهم من الرياضي وغيره أمر لا تزكو به النفوس ولا يعلم به الأمور الموجودة إلا كما يعلم ب قياس الثمثيل.

وهذا يظهر بالكلام في مادة القياس فنقول هم لا ريب عندهم أنه لا بد في كل قياس من قضية كلية ولا قياس في جميع الأشكال لا عن سالبتين ولا عن جزئيتين ولا عن صغرى سالبة مع كبرى جزئية لكن قد يكون عن صغرى جزئية مع كبرى سالبه كلية والمقصود أنه لا بد في القياس في جميع صورة من قضية كلية وفي أكثر

ص: 299

القياس لا بد من موجبة كلية بل النتيجة الكلية لا تكون إلا عن موجبة كلية والسالبة الكلية لا تفيد حكما كليا إلا مع موجبه كلية.

بيان أصناف اليقينيات عندهم التي ليس فيها قضية كلية:

فإذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فنقول المواد اليقينيات قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم.

أحدها: الحسيات ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرا كليا عاما أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة في البرهان اليقيني وإذا مثلوا ذلك ب أن النار تحرق ونحو ذلك لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل لما يعلمونه من الحكم الكلى لا فرق بينه وبين قياس الشمول وقياس التمثيل وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة فالعلم بأن كل نار لا بد فيها من هذه القوة هو أيضا حكم كلى.

وإن قيل أن الصورة النارية لا بد أن تشتمل على هذه القوة وأن ما لا قوة فيه ليس بنار فهذا الكلام إذا قيل أنه صحيح قيل أنه لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة تحرق كل ما لاقاه وإن كان هو الغالب فهذا يشترك فيه قياس والتمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص ومعلوم أن كل من قال أن كل نار تحرق كل ما لاقته فقد أخطأ فانه لا بد من كون المحل قابلا للإحراق إذ قد علم أنها لا تحرق كل شيء كما لا تحرق السمندل والياقوت وكما لا تحرق الأجسام المطلية بأمور مصبوغة وأما خرق العادة فمقام آخر.

ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها مع أن القضية الكلية ليست حسية وإنما القضية الحسية أن هذه النار تحرق فان الحس لا يدرك إلا شيئا خاصا وأما الحكم العقلي فيقولون أن النفس عند رؤيتها هذه المعينات تستعد لان

ص: 300

تفيض عليها قضية كلي بالعموم ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل ولا يوثق بعمومه أن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر للمشترك وهذا إذا علم علم في جميع المعينات فلم يكن العلم بالمعينات موقوفا على هذا.

مع أنه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء بل والفلاسفة يجوزون خرق العادات لكن يذكرون أن لها أسبابا فلكية أو قوى نفسانية أو أسبابا طبيعية فهذه الثلاثة هي أسباب خرق العادات عندهم والى ذلك ينسبون معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء والسحر وغير ذلك وقد بسطنا الكلام على ذلك في مسألة معجزات الأنبياء هل هي قوى نفسانية أم لا وبينا فساد قولهم هذا حتى عند جماهير أساطين الفلاسفة بالأدلة الصحيحة بما ليس هذا موضعه وهي المعروفة ب مسألة الصفدية.

والثاني: الوجديات الباطنة كادراك كل احد جوعه وعطشه وحبه وبغضه وألمه ولذته وهذه كلها جزئيات وإنما يعلم الإنسان حال غيره والقضية الكلية ب قياس التمثيل بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر ففيها من الخصوص في المدرك والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات.

زعمهم تساوي النفوس سبب ضلالهم في معرفة النبوات:

ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال بل ولا على النفس الناطقة أنها مستوية الأفراد وهذا من أسباب ضلالهم في معرفة النبوات فإنهم عرفوا كثيرا من الأحكام التي تشترك فيها النفوس عادة وإن جاز انخرامها

ص: 301

ثم بلغهم أمور أخرى خارجة عن قياسهم فأرادوا إجراء تلك على ذلك القياس فرأوا أن لبعض النفوس قوة حدسية وانه قد يكون لها تأثير في بعض الأمور وقد يتخيل إليها ما تعلمه كما يتخيل إلى النائم ما يراه فظنوا أن جميع ما يحصل للنفوس من الوحي ونزول الملائكة وسمع كلام الله هو من هذا الباب وجعلوا خاصة النبوة هي هذه الثلاث فمن وجدت فيه كان نبيا وقالوا النبوة مكتسبة وصار فضلاؤهم تتعرض لأن يصيروا أنبياء كما جرى للسهرودي المقتول ولابن سبعين وغيرهم.

وابن عربي لما علم أنه لا يمكن دعوى النبوة ادعى ختم الولاية وادعى أن خاتم الأولياء أكمل في العلم بالله من خاتم الأنبياء وانه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى النبي وكان سبب هذا اعتقاد قول هؤلاء المتفلسفة الملاحدة أن النبي يأخذ عن جبريل الذي هو خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل قال فالنبي يأخذ عن هذا الخيال وأنا اخذ عن العقل الذي يأخذ منه الخيال.

وضموا هذا إلى أن جميع الحوادث إنما تحدث عن حركة الفلك وهو من افسد أصولهم التي ضلوا بها.

والثالث: المجريات وهي كلها جزئية فان التجربة إنما تقع على أمور معينة وكذلك المتواترات فان المتواترات إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي فالمسموع قول معين والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر ما معين.

وأما الحدسيات أن جعلت يقينية فهي نظير المجريات إذا الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص وإنما يعود إلى أن المجريات تتعلق بما هو من أفعال المجربين والحدسيات تكون عن أفعالهم وبعض الناس يسمى الكل تجربيات.

لا تستعمل القضايا الكلية في شيء من الموجودات:

فلم يبق معهم إلا الأوليات التي هي البديهيات العقلية والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم الواحد نصف الاثنين

ص: 302

والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية.

فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسهم لا تستعمل في شيء من الأمور الموجودة المعينة وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية فإذا لا يمكنهم معرفة الأمور الموجودة المعينة بالقياس البرهاني وهذا هو المطلوب.

لا دليل لهم على حصر أقسام الوجود في المقولات العشر:

ولهذا لم يكن لهم علم بحصر أقسام الوجود بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات من المقولات العشر الجوهر والكم والكيف والأين ومتى والوضع وأن يفعل وان ينفعل والملك وقد جمعها بعضهم في بيتين فقال:

زيد الطويل الأسود ابن مالك

في داره بالأمس كان يتكى

في يده سيف نضاه فانتضى

فهذه عشر مقولات سوى

لما حصرهم المعلم الأول في الجوهر والأعراض التسعة اتفقوا على أنه لا سبيل إلى معرفة صحة هذا الحصر حتى جعل بعضهم أجناس الأعراض ثلاثة وقيل غير ذلك.

لا دليل لهم على حصر الموجودات في الجواهر الخمسة:

وكذلك لما قسموا الجوهر إلى خمسة أقسام العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وجعلوا الجسم قسمين فلكيا وعنصريا والعنصري الأركان التي هي الاستقصاآت والمولدات الحيوان والنبات والمعدن كان هذا التقسيم مع فساده في الإثبات ليس حصر الموجودات فيه معلوما فانه لا دليل لهم على حصر الأجسام في الفلكيات والعنصريات وهم معترفون بإمكان وجود أجسام وراء

ص: 303

الأفلاك فلا يمكن الحصر فيما ذكر حتى يعلم انتفاء ذلك وهم لا يعلمون انتفاءه فكيف وقد قامت الأدلة على ثبوت أعيان قائمة بأنفسها فوق الأفلاك كما قد بسط في موضعه.

وهم منازعون في واجب الوجود هل هو داخل في مقولة الجوهر فأرسطو والقدماء كانوا يجعلونه من مقولة الجوهر وابن سينا امتنع من ذلك لكن أرسطو واتباعه لم يكونوا يقولون واجب الوجود إنما يقولون العلة الأولى والمبدأ وليس في كلام أرسطو تقسيم الموجودات إلى واجب بنفسه وممكن بنفسه مع كونه قديما أزليا بل كان الممكن عندهم الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا وإنما قسمه هذه القسمة متأخروهم من الملاحدة الذين انتسبوا إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله وجعلوا هذا عوضا عن تقسيم المتكلمين الموجود إلى قديم وحادث وسلكوا طريقة وركبوها من كلام المتكلمين ومن كلام سلفهم مثل استدلال أولئك بالتركيب على الحدوث فاستدل هو بالتركيب على الإمكان.

الكلام على قول الخليل عليه السلام {هَذَا رَبِّي} :

وأولئك زعموا أن قول إبراهيم: {لا أحب الآفِلِينَ} المراد به المتحركين لأن الحركة حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث فهي سمة الحدوث فاستدل بالحدوث على حدوث المتحرك والمعنى لا أحب المحدثين الذين تقوم بهم الحوادث.

فقال هؤلاء بل الأفول الذي هو الحركة دليل على أن المتحرك ممكن وان كان قديما أزليا قالوا والأفول هوى في حظيرة الإمكان وقوله لا أحب الآفلين أي الممكنين وان كان الممكن قديما.

وكان قدماء المتكلمين يمثلون الدليل العقلي بقولهم كل متغير محدث والعالم متغير فهو محدث فجاء الرازي في محصله فجعل يمثل ذلك بقوله كل متغير ممكن والعالم متغير فهو ممكن

ص: 304

وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا ولا هذا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن كل واحد من الاستدلال بالحركة على الحدوث أو الإمكان دليل باطل كما يقول ذلك أكثر العقلاء من اتباع الأنبياء وأهل الكلام وأساطين الفلاسفة.

ولكن كان قومه يعبدون الكواكب مع اعترافهم بوجود رب العالمين وكانوا مشركين يتخذ احدهم له كوكبا يعبده ويطلب حوائجه منه كما تقدم الإشارة إليه ولهذا قال الخليل عليه السلام: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}

وقال تعالى أيضا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فأمر سبحانه بالتأسي بإبراهيم والذين معه في قولهم لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

وكذلك ذكر الله عنه في سورة الصافات أنه قال لقومه: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال لهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .

فالقوم لم يكونوا جاحدين لرب العالمين ولا كان قوله: {هَذَا رَبِّي} هذا الذي هو خلق السموات والأرض على أي وجه قاله سواء قاله إلزاما لقومه أو تقديرا أو غير ذلك ولا قال احد قط من الآدميين أن كوكبا من الكواكب أو أن الشمس والقمر أبدعت السموات كلها

ص: 305

ولا يقول هذا عاقل بل عباد الشمس والقمر والكواكب يعبدونها كما يعبد عباد الأصنام للأصنام وكما يعبد عباد الأنبياء والصالحين لهم ولتماثيلهم وكما يعبدون آخرون الملائكة وآخرون يعبدون الجن لما يرجون بعبادتها من جلب منفعة أو دفع مضرة لا لاعتقادهم أنها خلقت العالم.

بل قد يجعلونها شفعاء ووسائط بينهم وبين رب العالمين كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} .

والشفاعة التي أخبرت بها الرسل هي أن يأذن الله للشفيع فيشفع فيكون الأمر كله لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} وهذا بخلاف ما اتخذه المشركون من الشفعاء.

وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم فالشفاعة عندهم أن يفيض على المستشفع من الشفيع ما يقصده من غير قصد الشفيع ولا سؤال منه كما ينعكس شعاع الشمس من المرآة على الحائط وقد ذكر ذلك ابن سينا ومن تلقى عنه كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن اخذ عنه.

ص: 306

وهذا الشرك أعظم من شرك مشركي العرب والنصارى ونحوهم فان أولئك كانوا يقولون صانع العلم فاعل مختار وان الشافع يستله ويدعوه لكن يثبتون شفاعة بغير إذنه وشفاعة لما ليس له شفاعة ويعبدون الشافع ويسألونه من دون الله ويصورون على تمثاله صورة يعبدونها وكانت الشياطين تدخل في تلك الأصنام وتكلمهم وتتراأى للسدنة أحيانا كما يوجد نظير ذلك في هذا الزمان مواضع كثيرة.

بقية الكلام على الجواهر الخمسة:

وأيضا فدعواهم أن الجوهر جنس تحته أربعة وهي العقل والنفس والمادة والصورة والخامس هو الجسم إذا حقق الأمر عليهم كان ما يثبتونه من العقليات إنما هو موجود في الذهن والعقل بمنزلة الكليات لا وجود لها في الخارج وقد اعترف بهذا من ينصرهم ويعظمهم كابن حزم وغيره.

رد لقول من زعم أن عالم الغيب هو العالم العقلي:

ومن زعم أن عالم الغيب أخبرت به الرسل هو العالم العقلي الذي يثبته هؤلاء فهو من أضل الناس فان ابن سينا ومن سلك سبيله في هذا كالشهرستاني والرازي وغيرهما يقولون أن الإلهيين يثبتون العالم العقلي ويردون على الطبيعيين منهم الذين لا يثبتون إلا العالم الحسي ويدعون أن العالم العقلي الذي يثبتونه هو ما أخبرت به الرسل من الغيب الذي أمروا بالإيمان به مثل وجود الرب والملائكة والجنة.

وليس الأمر كذلك فان ما يثبتونه من العقليات إذا حقق الأمر لم يكن لها وجود إلا في العقل وسميت مجردات ومفارقات لأن العقل يجرد الأمور الكلية على المعينات.

وأما تسميتها مفارقات فكان أصله أن النفس الناطقة تفارق البدن وتصير حينئذ عقلا وكانوا يسمون ما جامع المادة بالتدبير لها كالنفس قبل الموت

ص: 307

نفسا وما فارقها بالكلية فلم يتعلق بها لا تعلق تدبير ولا غيره عقلا ولا ريب أن النفس الناطقة قائمة بنفسها باقية بعد الموت منعمة أو معذبة كما دل على ذلك نصوب الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم تعاد إلى الأبدان ومن قال من أهل الكلام أن النفس عرض من أعراض البدن أو جزء من أجزائه فقوله بدعة ولم يقل ذلك أحد من سلف الأمة.

ولكن ما يدعون ثبوته في الخارج من المجردات العقلية لا يثبت على السير العقلي له تحقق إلا في الذهن.

إثبات المجردات في الخارج هو مبدأ فلسفتهم:

وهذا كان مبدأ فلسفة هؤلاء فإنهم نظروا في الأجسام الطبيعية فعلموا القدر المشترك الكلى فصاروا يظنون ثبوته في الخارج فكان أولهم فيثاغورس وشيعته أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج ثم رد ذلك عليهم أفلاطون وشيعته وأثبتوا ماهيات كلية مجردة مثل إنسان كلى وفرس كلى أزلي أبدى خارج الذهن وأثبتوا أيضا زمانا مجردا سموه الدهر وأثبتوا مكانا مجردا سموه الخلاء واثبتوا مادة مجردة عن الصور وهي المادة الأولى والهيولى الأولى عندهم.

فجاء أرسطو وشيعته فردوا ذلك كله عليهم ولكن أثبتوا هذه المجردات في الخارج مقارنة للأعيان وفرقوا بين الشيء الموجود في الخارج وبين ماهيتة الكلية المقارنة لأفرادها في الخارج كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله وغلط هؤلاء في هذا وكذلك أثبتوا العقول العشرة وظنوا وجودها في الخارج وهم غالطون في ذلك وأدلتهم عليها في غاية الفساد وأما النفوس الفلكية فكان قدماؤهم يجعلونها أعراضنا لكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جواهر قائمة بنفسها كنفس الإنسان وهذا لبسطه موضع آخر.

كون منتهى محققيهم الوجود المطلق الكلى الخيالي:

والمقصود هنا أن ما يثبتونه من العقليات إذا حققت لم تكن إلا ما ثبت في

ص: 308

عقل الإنسان كالأمور الكلية فإنها عقلية مطابقة لأفرادها الموجودة في الخارج وكذلك العدد المجرد عن المعدود والمقدار المجرد عن المقدور والماهية المجردة عن الوجود والزمان المجرد عن الحركة والمكان المجرد عن الجسم وأعراضهم.

ولهذا كان منتهى محققيهم الوجود المطلق وهو الوجود المشترك بين الموجودات وهذا إنما يكون مطلقا في الأذهان لا في الأعيان والمتفلسفة يجعلون الكلي المشترك موضوع العلم الإلهي.

وأما الوجود الواجب فتارة يقولون هو الوجود المقيد بالقيود السلبية كما يقوله ابن سينا وتارة يجعلونه المجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي كما يقوله بعض الملاحدة من باطنية الرافضة والاتحادية وتارة يجعلونه نفس وجود الموجودات فلا يجعلون للممكنات وجودا غير الوجود الواجب وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.

وغايتهم أنهم يجعلون في أنفسهم شيئا ويظنون أن ذلك موجود في الخارج ولهذا تمدهم الشياطين فان الشياطين تتصرف في الخيال وتلقى في خيالات الناس أمورا لا حقيقة لها ومحققو هؤلاء يقولون ارض الحقيقة هي ارض الخيال.

كون أمور الغيب موجودة ثابتة مشهودة:

وأما ما أخبرت به الرسل صلى الله عليه وسلم من الغيب فهو أمور موجودة ثابتة أكمل وأعظم مما نشهده نحن في هذه الدار وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس ولكن بعد الموت وفي الدار الآخرة ويمكن أن يشهدها في هذه الدار من يختصه الله بذلك ليست عقلية قائمة بالعقل ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات

ص: 309

التي تشهدها أن تلك غيب وهذه شهادة قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .

وكون الشيء غائبا وشاهدا أمر إضافي بالنسبة إلينا فإذا غاب عنا كان غيبا وإذا شهدناه كان شهادة وليس هو فرقا يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشهد ولا تحس بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يشهد بحال فإنما يكون في الذهن.

والملائكة يمكن أن يشهدوا ويروا والرب تعالى يمكن رؤيته بالأبصار والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت النصوص في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها.

وإمكان رؤيته يعلم بالدلائل العقلية القاطعة لكن ليس هو الدليل الذي سلكه طائفة من أهل الكلام كأبي الحسن وأمثاله حيث ادعوا أن كل موجود يمكن رؤيته بل قالوا ويمكن أن تتعلق به الحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس فان هذا مما يعلم فساده بالضرورة عند جماهير العقلاء.

أغاليط المتكلمين والمتفلسفة:

وهذا من أغاليط بعض المتكلمين كغلطهم في قولهم أن الأعراض يمتنع بقاؤها وان الأجسام متماثلة وأنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة ولا يتميز منها جانب من جانب فان هذا غلط وقول المتفلسفة بأنها مركبة من المادة والصورة العقليين أيضا غلط كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع.

وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى أن الله لم يخلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا خص شيئا من الأجسام بقوى وطبائع وادعى أن كل ما يحدث فان الفاعل المختار الذي يخص احد المتماثلين بلا تخصيص أصلا يحدثه وأنكر ما في

ص: 310

مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وأمر لأجلها.

فان غلط هؤلاء مما سلط أولئك المتفلسفة وظنوا أن ما يقول هؤلاء وأمثالهم هو دين المسلمين أو قول الرسول وأصحابه ولهذا كانت مناظرة ابن سينا وأمثاله في كتبهم لمبتدعة أهل الكلام فعامة مناظرة ابن سينا هي للمعتزلة وابن رشد للكلابية وكانوا إذا بينوا فساد بعض ما يقوله مبتدعة أهل الكلام يظنون أنه لم يبق حق إلا ما يقولونه هم وذلك بالعكس وليس الأمر كذلك بل ما يقوله مبتدعة أهل الكلام فيه خطأ مخالف للشرع والعقل.

والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام فإن أكثر كلام أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع.

ونحن لم نقدح فيما علم من الأمور الطبيعية والرياضية لكن ذكرنا أن ما يدعونه من البرهان الذي يفيد علوما يقينية كلية بالأمور الطبيعية ليس كما يدعونه بل غالب الطبيعيات إنما هي عادات تقبل التغير ولها شروط وموانع وهم لا يريدون بالقضايا البرهانية الواجب قبولها إلا ما يكون لزوم المحمول منها للموضوع لزوما ذاتيا لا يقبل التغير بحال فإذا قالوا كل اب لم يريدوا أن كل ما هو في الوجود افهو ب ولا كل ما جد أو سيوجد وإنما يريدون أن كل ما يفرض ويقدر في العقل بل في نفس الأمر مع قطع النظر عن الوجودين الذهني والخارجي فهو ب كما قالوا كل إنسان حيوان فالطبيعة الإنسانية من حيث هي تستلزم الحيوانية.

وهم يدعون أن الماهية قد تنفك عن الوجودين الخارجي والذهني وهي من أغاليطهم ومعلوم أن هذا أن أريد به الإنسان المعروف فالإنسان المعروف لا يكون إلا حيوانا وهذا أمر واضح ليس هو مما يطلب علمه بالبراهين فالصفات

ص: 311

اللازمة للموصوف التي لا يكون له حقيقة إلا بها لا توجد بدونها.

وقد بسط الكلام على فرقهم بين اللازمة وبين الذاتية المقومة الداخلة في الماهية وبين اللازمة للماهية واللازمة لوجودها وبين أن هذا كله باطل إلا إذا أريد ب الماهية ما يتصور في الذهن وبالوجود ما يكون في الخارج فالفرق بين مصورات الأذهان وموجودات الأعيان فرق صحيح وأما أن يدعي في الخارج جوهرين قائمين بأنفسهما أحدهما الإنسان المحسوس والآخر إنسان معقول ينطبق على كل واحد من أفراد الإنسان ويدعي أن الصفات اللازمة التي لا يمكن تحقق الموصوف إلا بها منها ما هو داخل مقوم لماهيته الموجودة في الخارج ومنها ما هو خارج عارض لماهيته الموجودة في الخارج فهذا كله باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع.

أقيستهم مبنية على القضايا الكلية لا علم لهم بها:

والمقصود أن ما يذكرونه من الإلهية في العلوم الإلهية والطبيعية وما يتعلق بها فلا يفيد يقينا إلا كما يفيد قياس التمثيل إذ هي مبنية على قضية كلية لا يقين عندهم بأنها كلية إلا كاليقين الذي عندهم بقياس التمثيل ولا سبيل لهم إلى ذلك مثل قولهم في العلم الإلهي الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وأمثال هذه القضايا الكلية التي لا علم لهم بها ولا يستدلون على ذلك إلا بقياس فيه قضية كلية لا علم لهم بها وإن كان يمكن إبطالها.

لكن المقصود هنا بيان أنه لا علم بالموجود يحصل عن قياسهم وهذا باب واسع يظهر بالتدبر.

الكلام على الواحد البسيط الذي يجعلونه مبدأ المركبات:

فإن قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قضية كلية وهم لم يعرفوا في الوجود قط شيئا واحدا من كل وجه صدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان

ص: 312

والواحد البسيط الذي يصفون به واجب الوجود من جنس الواحد البسيط الذي يجعلونه مبدأ المركبات إذا قالوا الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية وينتهي الأمر إلى واحد بسيط لا تركيب فيه فان هذا الواحد لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج.

فان قولهم إنسان مركب من الحيوان والناطق والحيوانية والناطقية لا يصح منه إلا ما يتصور في الذهن فان المتصور يتصور في نفسه إنسانا ناطقا وجسما حساسا متحركا بالإرادة ناطقا فيكون كل من هذه الأجزاء جزءا مما تصوره في نفسه واللفظ الدال على جميعها يدل عليها بالمطابقة وعلى أبعاضها بالتضمن وعلى لازمها بالالتزام ومجموعها هي تمام الماهية المتصورة في الذهن والداخل فيها هو الداخل في تلك الماهية والخارج عنها هو الخارج عن تلك الماهية وتلك الماهية بحسب ما يتصوره الذهن فإذا تصور إنسانا ضاحكا كان الضاحك جزء هذه الماهية.

وأما دعوى المدعي أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من وهذا فلا يصح إلا إذا أريد به أنه متصف بهذين الوصفين وهما قائمان به وهو حامل لهما كما يحمل الجوهر أعراضه والموصوف صفاته.

وأما أن يقال أن الجوهر مركب من أعراض أو مركب من جواهر أحدها جسم والآخر حساس والآخر نام والآخر متحرك بالإرادة وان هذا الإنسان المعين فيه جواهر متعددة بتعدد هذه الأسماء وان الجوهر الذي هو الحساس ليس هو الذي هو متحركا بالإرادة ولا الذي هو جسم ولا الذي هو ناطق ولا الناطق هو الحساس فهذا مما يعلم فساده بعد تصوره بالصورة.

توحيد واجب الوجود عند الفلاسفة:

وكذلك الواحد الذي يصفون به واجب الوجود وانه مجرد عن جميع

ص: 313

الصفات الثبوتية ليس له حياوة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ويقولون مع ذلك هو عأقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ويقولون أن كل صفة من هذه الصفات هي الأخرى فاللذة هي العقل والعقل هي العشق ويقولون أن كل صفة من هذه الصفات هي الموصوف والعلم هو العالم واللذة واللذة هي الملتذ والعشق هو العاشق فهذا ونحوه من أقوالهم في صفات واجب الوجود مما إذا تصوره المتصور تصورا صحيحا كان مجرد تصوره يوجب العلم الضروي بفساده.

وقد بسطنا الكلام عليه وبينا ما ألجأهم إلى القول بهذا وكلامهم في التركيب وبينا أن أكثر الفلاسفة المتقدمين قبل أرسطو وكثير من المتأخرين كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره لا يقولون بهذا بل ردوا على من قاله واصل هذا كله ما ادعوه من أن إثبات الصفات تركيب ممتنع وهذا أخذوه عن المعتزلة ليس هذا من كلام أرسطو وذويه وقد تكلمنا في بيان فساده في مصنف مفرد في توحيد الفلاسفة وفي شرح الاصبهانية والصفدية وغير ذلك.

ثم بنوا هذا على أن الواحد لا يكون فاعلا وقابلا لأن ذلك يستلزم التركيب وان الواحد لا يصدر عنه إلا واحد لأن صدور اثنين يقتضى تعدد المصدر فمصدر ج غير مصدر ب وذلك يستلزم التركيب الممتنع.

فمدار كلامهم في التوحيد والصفات كله على لفظ التركيب وقد بسطنا القول فيه وبينا ما في هذا اللفظ من إجمال فان التركيب خمسة أنواع: أحدها: تركب الذات من وجود وماهية والثاني: تركيبها من وصف عام

ص: 314

ووصف خاص كالمركب من الجنس والفصل والثالث: تركيب من ذات وصفات والرابع: تركيب الجسم من المادة والصورة والخامس: تركيبه من الجواهر المنفردة.

وقد بينا أن ما يدعونه من التركيب من الوجود والماهية ومن الجنس والفصل باطل وأما تركيب الجسم من هذا وهذا فأكثر العقلاء يقولون الجسم ليس مركبا لا من المادة والصورة ولا من الجواهر المنفردة لم يبق إلا ذات لها صفات.

وقد بينا أن المركب يقال على ما ركبه غيره وعلى ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت وعلى ما يقبل مفارقة بعضه بعضا وهذه الأنواع الثلاثة منتفية عن رب العالمين باتفاق المسلمين.

وهم جعلوا ما يوصف بالصفات تركيبا وهذا اصطلاح لهم وحقيقة الأمر تعود إلى موصوف له صفات متعددة فتسمية المسمى هذا تركيبا اصطلاح لهم والنظر إنما هو في المعاني العقلية وأما الألفاظ فان وردت عن صاحب الشرع المعصوم كان لها حرمة وإلا لم يلتفت إلى من اخذ يعبر عن المعاني الصحيحة المعلومة بالعقل والشرع بعبارة مجملة توهم معاني فاسدة وقيل لهم البحث في المعاني لا في الألفاظ كما بسط في موضعه.

الوجه الثاني: إن المعين المطلوب علمه بالقضايا الكلية يعلم قبلها وبدونها:

الوجه الثاني: أن يقال إذا كان لا بد في كل قياس من قضية كلية فتلك القضية

ص: 315

الكلية لا بد أن تنتهي إلى أن تعلم بغير قياس وإلا لزم الدور والتسلسل فإذا كان لا بد أن تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس فنقول.

ليس في الموجودات ما تعلم الفطرة له قضية كلية بغير قياس إلا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية أقوى من علمها بتلك القضية الكلية مثل قولنا الواحد نصف الاثنين والجسم لا يكون في مكانين والضدان لا يجتمعان فان العلم بأن هذا الواحد نصف هذين الاثنين أقدم في الفطرة من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين وهكذا كل ما يفرض من الآحاد.

فيقال المقصود بهذه القضايا الكلية أما أن يكون العلم بالموجود الخارجي أو العلم بالمقدرات الذهنية أما الثاني ففائدته قليلة وأما الأول فما من موجود معين إلا وحكمه بعلم تعينه اظهر وأقوى من العلم به عن قياس كلى يتناوله فلا يحصل بالقياس كثير فائدة بل يكون ذلك تطويلا وإنما يستعمل القياس في مثل ذلك لأجل الغالط والمعاند فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة.

وكذلك قولهم الضدان لا يجتمعان فأي شيئين علم تضادهما فانه يعلم أنها لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان وما من جسم معين إلا يعلم أنه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين وكذلك قولهم النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فان مرادهم بذلك أن وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان ولا يرتفعان فما من شيء معين إلا ويعلم أنه لا يكون موجودا معدوما وانه لا يخلو عن الوجود والعدم قبل العلم بهذه القضية العامة وأمثال ذلك كثير لمن تدبره.

ويعلم أن المعين المطلوب علمه بهذه القضايا الكلية الأولية يعلم قبل أن تعلم هذه القضية الكلية ويعلم بدونها ولا يحتاج العلم به إلى القضية الكلية وإنما يعلم بالقضية الكلية ما يقدر في الذهن من أمثال ذلك مما لم يوجد في الخارج وأما الموجودات

ص: 316

الخارجية فتعلم بدون هذا القياس.

قياس الشمول مبناه على قياس التمثيل:

وإذا قيل أن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون أنه يقيني فهم بين أمرين أن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقيني وظني بطل تفريقهم وان ادعوا الفرق بينهما وان قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك وبين لهم أن اليقين لا يحصل في مثل هذه الأمور إلا أن يحصل ب التمثيل فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسا على ما علم منها وهذا حق لا ينازع فيه عأقل.

بل هذا من اخص صفات العقل التي فارق بها الحس إذا الحس لا يعلم إلا معينا والعقل يدركه كليا مطلقا لكن بواسطة التمثيل ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه لكن هي في الأصل إنما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة فقد يغلط كثيرا بأن يجعل الحكم أما اعم وأما اخص وهذا يعرض للناس كثيرا.

أنواع المفروضات الذهنية:

ومن هنا يغلط كثيرا ممن يسلك سبيلهم حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح ويكون عند التحقيق ليس كذلك وهم يتصورون الشيء بعقولهم ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل فيتكلمون عليه ويظنون أنهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي من غير أن تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن فيقولون الإنسان من حيث هو هو والوجود من حيث هو هو والسواد من حيث هو هو ونحو ذلك ويظنون أن هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد وذلك غلط كغلط أوليهم فيما جردوه

ص: 317

من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها بل هذه المجردات المسلوب عنها كل قيد ثبوتي وسلبي لا تكون إلا مقدرة في الذهن.

وإذا قال القائل فأنا افرض الإنسان مجردا عن الوجودين الخارجي والذهني قيل له هذا الفرض في الذهن أيضا كما تفرض سائر الممتنعات في الذهن مثل أن يفرض موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قائما بنفسه ولا بغيره ولا مبائنا لغيره ولا مجانبا له وهذا كله مفروض في الذهن وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج وليس كل ما حكم به الإنسان على ما يقدره ويفرضه في ذهنه يكون حكما صحيحا على ما يوجد في الخارج ولا كل ما أمكن تصور الذهن له يكون وجوده في الخارج.

بل الذهن يتصور اشياء ويقدرها مع علمه بامتناعها ومع علمه بامكانها في الخارج ومع عدم علمه بالامتناع الخارجي والإمكان الخارجي وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني فان الإمكان يستعمل على وجهين إمكان ذهني وامكان خارجي ف الإمكان الذهني أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بامكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذاك الشيء قد يكون ممتنعا في الخارج.

واما الإمكان الخارجي فأن يعلم إمكان الشيء في الخارج وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره أو وجود ما هو ابعد عن الوجود منه فإذا كان الابعد عن قبول الوجود موجودا ممكن الوجود فالأقرب إلى الوجود منه أولى.

طريقة القرآن في بيان إمكان المعاد:

وهذه طريقة القران في بيان إمكان المعاد يبين ذلك بهذه الطريق.

فتارة يخبر عمن اماتهم ثم احياهم كما اخبر عن قوم موسى بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

ص: 318

وكما اخبر عن المضروب بالبقرة بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} وكما اخبر عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} .

وكما اخبر عن: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وعن إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وكما اخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان يحيى الموتى باذن الله.

وكما اخبر عن أصحاب الكهف أنهم لبثوا نياما في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ} وقد ذكر غير واحد من العلماء أن الناس كانوا قد تنازعوا في زمانهم هل يبعث الله الارواح فقط أو يبعث الارواح والاجساد فأعثر الله هؤلاء على أهل الكهف وعلموا أنهم بقوا نياما لا يأكلون ولا يشربون ثلثمائة سنة شمسية وهي ثلثمائة وتسع هلالية فأعلمهم الله بذلك إمكان إعادة الأبدان

ص: 319

فهذه إحدى الطرق التي يبين الله بها إمكان المعاد.

وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى وان الإعادة اهون من الابتداء كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} وكما في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وكما قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وكما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} .

وتارة يستدل على إمكان ذلك بخلق السموات والأرض فان خلقها أعظم من إعادة الإنسان كما في قوله: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} وكما في قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَاّقُ الْعَلِيمُ} وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى أنه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات كما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أقلتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ

ص: 320

فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وكما في قوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} .

وقد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع وبين أن ما عند أئمة النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية فقد جاء القران بما فيها من الحق وما هو أكمل وابلغ منها على أحسن وجه مع تنزهه عن الاغاليط الكبيرة الموجودة عند هؤلاء فأن خطأهم فيها كثير جدا ولعل ضلالهم أكثر من هداهم وجهلهم أكثر من علمهم.

ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في اخر عمره في كتابه أقسام اللذات: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورايت أقرب الطرق طريقة القران اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

فساد إثبات الإمكان الخارجي بمجرد عدم العلم بالامتناع:

والمقصود هنا أن الإمكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع كما يقوله طائفة منهم الامدى إذا أرادوا وإثبات إمكان أمر قالوا لو

ص: 321

قدرنا هذا لم يلزم منه ممتنع فأن هذه القضية الشرطية غير معلومة فان كونه لا يلزم منه محذور ليس معلوما بالبديهة ولا اقام عليه دليلا نظريا.

وابعد من اثباته الإمكان الخارجي بالإمكان الذهني ما يسلكه طائفة من المتفلسفة والمتكلمة كابن سينا والرازي وغيرهما في إثبات الإمكان الخارجي بمجرد إمكان تصوره في الذهن كما أن ابن سينا واتباعه لما أداروا إثبات موجودفي الخارج معقول لا يكون محسوسا بحال استدلوا على ذلك بتصور الإنسان الكلي المطلق المتناول للافراد الموجودة في الخارج وهذا إنما يفيد إمكان وجود هذه المعقولات في الذهن فإن الكلي لا يوجد كليا إلا في الذهن وهذا ليس مورود النزاع وإنما النزاع في إمكان وجود مثل هذا المعقول في الخارج وليس كل ما تصوره الذهن يكون موجودا في الخارج كما يتصور الذهن فأن الذهن يتصور ما يمتنع وجوده في الخارج كما يتصور الجمع بين النقيضين والضدين.

وقد تبعه الرازي على الاستدلال بهذا واستدل هو غيره على إمكان ذلك بأن قال يمكن أن يقال الموجود أما أن يكون مجانبا لغيره وأما أن يكون مبائنا لغيره وأما أن لا يكون لا مجانبا لا مبائنا فظنوا أنه بامكان هذا التقسيم العقلى يستدل على إمكان وجود كل من الأقسام في الخارج وهذا غلط فان هذا التقسيم كقو ل القائل الموجود أما أن يكون واجبا وأما أن يكون ممكنا وأما أن لا يكون واجبا ولا ممكنا وأما أن يكون قديما وأما أن يكون محدثا وأما أن لا يكون قديما ولا محدثا وأما أن يكون قائما بنفسه وأما أن يكون قائما بغيره وأما أن لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره وأمثال ذلك من التقسيمات التي يقدرها الذهن ومعلوم أن هذا لا يدل على إمكان وجود موجود لا واجب ولا ممكن ولا قديم ولا حادث ولا قائم بنفسه ولا بغيره وكذلك ما تقدم فأين طرق هؤلاء في إثبات الإمكان الخارجي من طريقة القران

ص: 322

محاولتهم معارضة الفطر وتعاليم الرسل:

ثم أنهم بمثل هذه الطرق الفاسدة يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية وما جاءت به الرسل من الأخبار الإلهية عن الله تعالى واليوم الآخر.

وبينوا لرب العالمين من الوجود ما يستلزم الجمع بين النقيضين فيكذبوا بصريح المعقول وصحيح المنقول كقولهم لاهو مبائن للمخلوقات ولا مجانب لها ولا يشار إليه ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصفون بها رب العالمين مما لا يتضمن وصفه بصفة كمال بل يشاركه فيها الممتنعات والمعدومات وتستلزم كون الموصوف بها معدوما بل ممتنعا.

ويريدون أن يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة والخيالات الفاسدة اصولا عقلية يعارض بها ما ارسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الايات وما فطر الله عليه عباده وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها.

ولهذا كان أساطين الفلاسفة القدماء وكثير من المتأخرين منهم على خلاف قول هؤلاء النفاة وكانوا أقرب إلى موافقة الأنبياء وأتباع الأنبياء من هؤلاء النفاة من المتفلسفة والجهمية والمتكلمة كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا التنبيه على اصول سلموها أفسدوا بها العلوم العقلية والسمعية فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها ومبنى السمع على تصديق الأنبياء صلواة الله عليهم.

كون تعليم الأنبياء جامعا للأدلة العقلية والسمعية جميعا:

ثم الأنبياء صلوات الله عليهم كملوا للناس الأمرين فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب الإلهية التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم

ص: 323

وليس تعليم الأنبياء صلوات الله عليهم مقصورا على مجرد الخبر كما يظنه كثير من النظار بل هم بينوا من البراهين العقلية التي بها يعلم العلوم الإلهية ما لا يوجد عند هؤلاء البتة فتعليمهم ص جامع للادلة العقلية والسمعية جميعا بخلاف الذين خالفوهم فان تعليمهم غير مفيد للادلة العقلية والسمعية مع ما في نفوسهم من الكبر الذي ما هم ببالغيه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أنه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ومثل هذا كثير في القران وقد بسطنا القول فيه في بيان درء تعارض الشرع والعقل.

ولهذا لما كانوا يتصورون في اذهانهم ما يظنون وجوده في الخارج جعلوا علومهم ثلاثة أنواع ادناها عندهم الطبيعي وهو ما لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الكلام في الجسم واحكامه واقسامه واوسطها الرياضي وهو ما بتجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج مثل الحساب والهندسة فانه

ص: 324

لا يوجد في الخارج ذو مقدار إلا جسما ولكن يجرد المقدار في النفس واعلاها عندهم ما يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار الوجود العيني وقد يسمونه العلم الإلهي ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا وهو ما تجرد عن المادة في الذهن والخارج.

وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم في هذه الأنواع لم يجد عندهم علما بمعلومات موجودة في الخارج إلا القسم الذي يسمونه الطبيعي وما يتبعه من الرياضي وأما الرياضي المجرد في الذهن فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها في الخارج والذي سموه علم ما بعد الطبيعة وهو ما جردوه عن المادة في الذهن والخارج إذا تدبر لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج وإنما تصوروا أمورا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج ولهذا كان منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلى أو المشروط بسلب جميع الأمور الوجودية.

فموضوع العلم الالهى الناظر في الوجود ولواحقه هو الوجود الكلى المنقسم إلى جوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث وهذا لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهو العلم الأعلى عندهم فهذا العلم الأعلى مقدر في الذهن والعلى الأعلى الموجود في الخارج هو الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} .

وأما واجب الوجود الذي يثبتونه فاما أن يجعلوه وجودا مجردا عن كل قيد ثبوتي وعدمى وأما أن يقولوا بل هو مقيد بالامور السلبية دون الثبوتية كقول ابن سينا وأمثاله وهذا إنما يوجد في الذهن لا في الخارج فانه يمتنع ثبوث موجود خارجي لا يوصف بشئ من الأمور الثبوتية أو لا من الثبوتية ولا السلبية بل أي موجود حقير فرضته كان خيرا من هذا الذي لا يوصف بشئ ثبوتي فانه قد شارك ذلك الموجود الحقير في مسمى الوجود ولم يمتز عنه إلا بوصف عدمى

ص: 325

وذلك الموجود الحقير امتاز عنه بأمر وجودى الوجود خير من العدم فكان ما امتاز به ذلك الموجود الحقير خيرا مما ميزوا به واجب الوجود يزعمهم وقد بسط هذا في موضع آخر وبين أن ما يثبتونه ويجعلونه واجب الوجود هو ممتنع الوجود ولكن يفرض في الذهن كما يفرض سائر الممتنعات.

والمقصود هنا أنهم كثيرا ما يدعون في المطالب البرهانية من الأمور العقلية ما يكونوا قد قدروه في أذهانهم ويقولن نحن نتكم في الأمور الكلية والعقليات المحضة وإذا ذكر لهم شيء قالوا نتكلم فيما هو أعم من ذلك وفي الحقيقة من حيث هي هى ونحو هذه العبارات فيطالبون بتحقيق ما ذكروه في الخارج ويقال يبنوا هذا أي شيء هو فهنالك يظهر بجهلهم وأن ما يقولونه هو أمر مقدر في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان وهذا مثل أن يقال لهم اذكروا مثال ذلك والمثال أمر جزئي فإذا عجزوا عن التمثيل وقالوا نحن نتكم في الأمور الكلية فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم وفيما لا يعلمون أن له معلوما في الخارج بل فيما ليس له معلوم في الخارج وفيما قد يمتنع أن يكون له معلوم في الخارج وإلا فالعلم بالامور الموجودة إذا كان كليا كان له معلومات ثابتة في الخارج.

ولفظ الكلى يريدون به ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ثم قد يكون ممتنعا في الخارج كشريك الباري وقد يكون معدوما وإنما يقدره الذهن كما يقدر عنز ايل وهذا تمثيل أرسطو.

وقد يكون موجودا في الخارج لكن لا يقبل الشركة وقد يمكن وقوع الشركة فيه ولم تقع وهم يمثلون هذا باسم الاله والشمس ويجعلون مسمى هذا كليا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما امتنعت الشركة فيه لسبب خارجي فانحصر نوعه في شخصه لا لمجرد تصور معناه وهذا مشهور بينهم.

وإنما يصح هذا إذا كان لفظ الاله ولفظ الشمس اسم جنس بحيث لا يقصد به الشمس المعينة ولا الاله المعين المعروف فان الكلى عندهم مثل

ص: 326

اسم جنس في اصطلاح النحاة وهو ما علق على الشيء وعلى كل ما اشبهه والناس لا يقصدون بلفظ الشمس إلا الشمس المعينة واللام فيها لتعريف العهد لا للجنس كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فمسمى الشمس والقمر هنا جزئي لا كلى بخلاف لفظ الكوكب والنجم ونحو ذلك فانه كلى وكذلك اسم الاله عند المسلمين إنما يريدون به إلههم وهو الله لا إله إلا هو.

وعلى هذا فليس هذا ولا هذا كليا مشتركا بل نفس تصور معناه يمنع من وقوع الشركة فيه فهو معين مختص وهو الذي يسمونه الجزئي ليس مطلقا مشتركا وهو الذي يسمونه الكلى.

وكان الخسر وشاهى من أعيانهم وأعيان أصحاب الرازي وكان يقول: "ما عثرنا إلا على هذه الكليات" وكان قد وقع في حيرة وشك حتى كان يقول: "والله ما أدرى ما أعتقد والله ما أدرى ما أعتقد والله ما أدري ما اعتقد".

الاستدلال بالكليات على أفرادها استدلال بالخفي على الجلي:

والمقصود أن الذي يدعونه من الكليات هو إذا كان علما فهو مما يعرف ب قياس التمثيل لا يقف على القياس المنطقى الشمولي أصلا بل ما يدعون توقفه على هذا القياس تعلم أفراده التي يستدل عليها بدون هذا القياس وذلك أيسر وأسهل فيكون الاستدلال عليها بالقياس الذي يسمونه البرهاني استدلالا على الأجلى بالأخفى.

وإذا قيل فالبرهان يفيد قضية كلية قيل أما البرهان الذي يستحق اسم البرهان عندهم وهو ما كان مؤلفا من المقدمات اليقينية المحضة الواجب قبولها التي يمتنع

ص: 327

نقيضها فإنها بهذه المنزلة وأما ما لا يكون كذلك بل يكون مؤلفا من القضايا التجريبة العادية كالقضايا الطبيعية والطبية والنحوية ونحو ذلك فهذه كثيرا ما تكون منتقضة ولا يجزم العقل بامتناع انتقاضها إلا بشروط فان العاديات يجوز انتقاضها والقضية الكلية إذا جاز انتقاضها لم يكن عندهم مادة للبرهان بل للجدل والخطابة.

فان قيل وأنتم تجزمون بمراد المتكلم بكلامه في غالب المواضع كما تجزمون بمراد الرسول ومراد علماء الشرع والطب والنحو والعلم باللغات مبناه على القضايا العادية قيل الجزم بمراد الشخص المعين ليس هو قضية كلية بل هو علم بمراد شخص معين وهذا وإن كان علمنا بلغته وعادته هو مما يعين على العلم بمراده فلا بد مع ذلك من علم يختص به يعرف أنه إنما تكلمه بتلك العادة ليفهمنا مراده وحينئذ فليس هذا مما نحن فيه ولهذا لا نستدل على هذا بمجرد ما ذكروه من برهانهم.

وهم يعيبون في صناعة الحد أن يعرف الجلى بالخفي وهذا في صناعة البرهان اشد عيبا فان البرهان لا يراد به إلا به إلا بيان المدلول عليه وتعريفه وكشفه وأيضاحه فإذا كان هو أوضح وأظهر كان هذا بيانا للجلى بالخفي وأما الحد فالصواب أن المراد به التمييز بينه وبين المحدود لا تعريف الماهية وإذا كان مطلوبه هو التمييز فقد يكون المميز اخفى وقد يكون أجلى.

المقدمات الخفية قد تنفع بعض الناس وفي المناظرة:

ومع هذا فلما كان الجلاء والخفاء من الأمور النسبية فقد ينتفع بالدليل الخفي والحد الخفي بعض الناس وكثير من الناس إذا ذكر له الواضح لم يعبا به وقد لا يسلمه حتى يذكر له دليل مستلزم ثبوته فانه يسلمه وكذلك إذا ذكر له حد يميزه وهذا في الغالب يكون من معاند أو ممن تعودت نفسه أنها لا تعلم إلا ما تعنت عليه وفكرت فيه وانتقلت فيه من مقدمة إلى مقدمة فان العادة طبيعة ثانية فكثير ممن تعود البحث والنظر صارت عادة نفسه كالطبيعة له لا يعرف ولا يقبل ولا يسلم

ص: 328

إلا ما حصل له بعد بحث ونظر بل وجدل ومنع ومعارضة فحينئذ يعرف به ويقبله ويسلمه وإن كان عند أكثر الناس من الأمور الواضحة البينة لا تحتاج إلى بحث ونظر فالطريق الطويلة والمقدمات الخفية التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر وتنفع في المناظرة لقطع المعاند وتبكيت الجاحد.

فان السفسطة أمر يعرض لكثير من النفوس وهي جحد الحق وهي لفظه معربة من اليونانية أصلها سوفسطيا أي حكمه مموهة فلما عربت قيل سفسطة.

وأما ما يذكره طائفة من أهل الكلام ونأقلي المقالات أن في الناس رجل يقال له سوفسطا وانه وأصحابه ينكرون جميع الحقائق والعلوم فهذا باطل لا حقيقة له ولا يتصور أن يعيش احد من بني آدم بل ولا من البهائم مع جحد جميع الحقائق والشعور بها فان الإنسان مدنى بالطبع فلا بد أن يعرف بعض الناس بعضا ويعرف الإنسان جوعه وشبعه وعطشه وريه ولذته وألمه ويميز بين ما يأكله وما لا يأكله وما يلبسه وما لا يلبسه وبين مسكنه ومسكن جاره وبين الليل والنهار وغير ذلك من الأمور التي هي ضرورية في الحياة.

وكذلك ما يذكرونه أن في السمنية قوم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات حتى ينكروا المتواترات غلط على القوم فإنهم انكروا وجود ما لا يمكن الاحساس به لم ينكروا وجود ما لا يحسونه مم به وقد ذكر الامام احمد مناظرتهم للجهم بن صفوان وهي تقتضى ذلك وإلا فهؤلاء من عقلاء

ص: 329

الهند وحكمائهم وإن كانوا مشركين يعبدون الأصنام فلا يتصور أن احدهم ينكر ما كان قبل مولده فلا ينكر وجود البلاد والانهار والجبال والدور التي لم يرها ولا ينكر وجود كل إنسان أو بهمة لم يرها فان هذا ليس عليه أحد من بنى آدم بل بنو آدم كلهم متفقون على أن ما شاهدوه علموه بالمشاهدة وما غاب عنهم علموه بالأخبار فلا يتصور أن كل طائفة من الطوائف تتفق على جحد جنس الأخبار.

ولكن قد تعرض السفسطة لبعض الطوائف ولبعض الأشخاص في بعض المعارف فان أمراض القلوب كأمراض الأجسام فكما أنها ليس في الوجود أمة ولا شخص يمرض بكل مرض فليس فيهم من هو جاهل بكل شيء وفاسد الاعتقاد في كل شيء وفاسد القصد في كل شيء بل قد يوجد فيهم من هو مريض ببعض الامراض بل قد يوجد بعض الطوائف يكثر فيهم بعض الامراض وهؤلاء المرضى لا ينتفعون بالاغذية الفطرية بل يحتاجون إلى علاج وادوية تناسب مزاجهم.

وكذلك من كان به سفسطة ومرضت فطرته في بعض المعارف لا يستعمل معه الأدلة النظرية بل يستعمل معه نوع من العلاج والادوية فقد تكون الحدود والأدلة التي تحوجه إلى النظر والفكر إذا تصورها مقدمة مما يزيل

ص: 330

سفسطته وتحوجه إلى الاعتراف بالحق وهذا بمنزلة من يغلط في الحساب والحساب لا يحتمل وجهين وقد يكون غلطه ظاهرا وهو لا يعرفه أو لا يعترف به فيسلك معه طريق طويل يعرف بها الحق ويقال له أخذت كذا وأخذت كذا فصار كذا وأخذت كذا وأخذت كذا فصار كذا.

وكذلك للمناظر قد تضرب له الامثال فان المثال يكشف الحال حتى في المعلومات بالحس والبديهة وقد تستسلف معه المقدمات وإلا فقد يجحد إذا عرف أنه يلزمه الاعتراف بما ينكره وهي طريقة المتقدمين من نظار المسلمين وقدماء اليونان في المناظرة يكون المستدل هو السائل لا المعترض فيستسلف المقدمات ويقول ما تقول في كذا وفي كذا أو يقول ليبين كذا وكذا مقدمة مقدمة فإذا اعترف بتلك المقدمات بين ما تستلزمه من النتائج المطلوبه.

فيجب الفرق بين ما يقف معرفة الحق عليه ويحتاج إليه وبين ما يعرف الحق بدونه ولكن قد يزال به بعض الامراض ويقطع به بعض المعاندين والله سبحانه اعلم.

وكثير من النظار يسلك في معرفة المطلوب طريقا يقولون لا طريق إلا هو وكذلك في الحدود وقد تكون تلك الطريق فاسدة وقد تكون صحيحة ولكن للناس طرق أخرى كما قد يقوله كثير منهم في معرفة الصانع أو معرفة صدق رسوله أنه لا طريق إليها إلا هذه الطريق ويكون للناس طرق خير منها.

كتاب الآراء والديانات للنوبختي:

وكنت قد علقت الكلام على أهل المنطق في مجلس واحد بسرعة لسبب اقتضى ذلك ثم بعد مدة نظرت في كتاب الآراء والديانات لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختى فرأيته قد ذكر نحو هذا المعنى عمن تقدم من متكلمى المسلمين فانه

ص: 331

ذكر كلام أرسطوا مختصرا.

اختلاف الفلاسفة فيما بينهم:

وأرسطو هو المعلم الأول لاصحاب هذه التعاليم الذي يسمون المشائين وهم أصحاب هذا المنطق اليوناني الذي وضعه أرسطو وما يتبعه من الطبيعي والإلهي فان الفلاسفة ليسوا امة واحدة لها مقالة في العلم الإلهي والطبيعي وغيرهما بل هم أصناف متفرقون وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافا مضاعفة.

كلما كان القوم عن اتباع الرسل أبعد كان اختلافهم أكثر:

فان القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب المنزلة كان أعظم في تفرقهم واختلافهم فإنهم يكونوا أضل كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ قوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

ص: 332

ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقد أنزل مع رسله الكتاب والميزان كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} .

والميزان قال كثير من المفسرين: "هو العدل" وقال بعضهم: "هو ما به توزن الأمور وهو ما به يعرف العدل" وكذلك قالوا في قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} الامثال المضروبة والأقيسة العقلية التي تجمع بين المتماثلات وتفرق بين المختلفات وإذا أطلق لفظ الكتاب كما في قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} دخل فيه الميزان لأن الله تعالى بين في كتابه من الامثال المضروبة والمقاييس العقلية ما يعرف به الحق والباطل.

وهذا كلفظ الحكمة تارة يقرن ب الكتاب كما في قوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وتارة يفرد الكتاب كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وإذا أفرد دخلت الحكم في معناه وكذلك في لفظ القرآن والإيمان قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

ص: 333

وإذا أفرد لفظ القرآن فهو يدل على الإيمان كما الإيمان يدل على القرآن فهما متلازمان وسيأتي أن شاء الله الكلام على هذا وقد أمر الله بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقد اخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} .

ولهذا يوجد اتبع الناس للرسول أقلهم اختلافا كأهل الحديث والسنة فإنهم أقل اختلافا من جميع الطوائف ثم من كان إليهم أقرب من جميع الطوائف المنتسبة إلى السنة كانوا أقل أختلافا فأما من بعد من السنة كالمعتزلة والرافضة فتجدهم أكثر الطوائف اختلافا.

كثرة اختلاف الفلاسفة:

وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره احد وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات مقالات غير الإسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما وكذلك القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجدمين ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا أنواعا من المقالات وردوها

ص: 334

ولكن مذهب الفلاسفة الذين نصره الفارابي وابن سينا وأمثالها كالسهروردي وردى المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين اتباع أرسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب

ص: 335

مقاصد الفلاسفة وعليه رد في التهافت وهو الذي يذكره الرازي في الملخص والمباحث المشرقية ويذكره الامدى في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك.

وعلى طريقهم مشى أبو ابركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله وكذلك الرازي والامدى يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم وابن سينا أيضا قد يخالف الأولين في بعض ما ذكروه ولهذا ذكر في كتابه المسمى ب الشفاء أن الحق الذي ثبت عنده ذكره في الحكمة المشرقية والسهروردي ذكر ما ثبت عنده في حكمة الاشراق والرازي في المباحث المشرقية.

واتباع أرسطو من الأولين اشهرهم ثلاثة برقلس والاسكندر الافرديوسي وثامسطيوس صاحب الشروح والترجمة وإذا قال الرازي في كتبه: "اتفقت الفلاسفة" فهم هؤلاء وإلا فالفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضا وقد ذكروا أنه أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو

ص: 336

وقد ذكر محمد بن يوسف العامري وهو من المصنفين في مذاهبم أن قدماءهم دخلوا الشام واخذوا عن اتباع الأنبياء داود وسليمان وان فيثاغورس معلم سقراط اخذ عن لقمان الحكيم وسقراط هو معلم افلاطن وافلاطن معلم أرسطو.

والمقصود هنا أن نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويبينون خطاهم فيما ذكروه في الحد والقياس جميعا كما يبينون خطأهم في الإلهيات وغيرها ولم يكن احد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقتهم بل المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وسائر طوائف النظر كانوا يعيبونها ويثبتون فسادها واول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره.

كلام النوبختي في الرد على المنطق:

وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب أهل الكلام لكن اتفق اني رايت هذا الفصل أولا في كلام النوبختي فانه بعد أن ذكر طريقة أرسطو في المنطق قال:

"وقد اعترض قوم من متكلمي أهل الإسلام على اوضاع المنطق هذه وقالوا أما قول صاحب المنطق: "أن القياس لا يبنى من مقدمة واحدة" فغلط لأن القائل إذا أراد مثلا أن يدل على أن الإنسان جوهر فقال استدل على نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين وهو أن يقول: "أن الدليل على أن الإنسان جوهر أنه يقبل المتضادات في أزمان مختلفة" وليس يحتاج إلى مقدمة ثانية هي قول القائل: "أن كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر" لأن دلالته على أن "كل قابل للمتضادات في ازمان مختلفة فجوهر" هو نفس ما خولف فيه واراد الدلالة عليه لأن الخاص داخل في العام فعلى ايهما دل استغنى عن الآخر وقد يستدل الإنسان إذا شاهد الاثر على أن له مؤثرا والكتابة على أن لها

ص: 337

كاتبا من غير أن يحتاج في استدلاله على صحة ذلك إلى المقدمتين قالوا فنقول أنه لا بد من مقدمتين فإذا ذكرت احداهما استغنى بمعرفة المخاطب بالآخرى فترك ذكرها لا لأنه مستغن عنها.

قلنا لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة لأن القائل إذا قال: "الجوهر لكل حي" والحيوة لكل إنسان فتكون النتيجة أن الجوهر لكل إنسان فسواء في العقول قول القائل: "الجوهر لكل حي" وقوله: "لكل انسان".

قلت: معنى ذلك انا إذا قلنا كل إنسان حي وكل حي جوهر كما يقولون كل إنسان حيوان وكل حيوان جوهر أو جسم فسواء في العقول علمنا بان كل إنسان جوهر أو جسم وعلمنا بأن كل حيوان جوهر أو جسم فمن علم أن كل حيوان جوهر فقد علم أيضا أن كل إنسان جوهر.

ومقصوده أنهم لا يجدون مقدمتين أوليتين بديهيتين يستدل بهما على شيء من موارد النزاع التي تحتاج إلى البرهان بل لا بد أن يكون إحداهما أو كلاهما غير بديهية ومتى قدر أنهما بديهيتان فاحداهما تكفى كما ذكره من المثال وإن قدرت إحداهما نظرية فهي التي يحتاج إلى بيانها وإذا كانتا جميعا نظريتين احتيج إلى بيانهما جميعا كما لو كانت ثلاث مقدمات وما يحتاج إلى أنه يستدل عليه ثم يستدل به وإنما يستدل إبتداء بما هو بين بنفسه كالبديهيات".

قال: "ولا يجدون في المطالب العلمية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما بل إذا كان الأمر كذلك كانت إحداهما كافية".

قال: "ونقول لهم أرونا مقدمتين أوليتين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما يستدل بهما على شيء مختلف فيه وتكون المقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه".

قال أبو محمد الحسن بن موسى النوبخي: "وقد سألت غير واحد من رؤسائهم

ص: 338

ان يوجد بينة فما أوجد بينة".

قال: "فما ذكره أرسطو طاليس غير موجود ولا معروف".

قال: "وأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه وإذا كانا يصحان بقلب مقدماتهما حتى يعودا إلى الشكل الأول فالكلام حينئذ في الشكل الأول هو الكلام فيهما".

وذكر كلاما آخر ليس هذا موضعه ومقصوده أن سائر الاشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول أما بقياس الخلف الذي يتضمن إثبات الشيء بابطال نقيضه وأما بواسطة حكم نقيض القضية أو عكسها المستوى أو عكس نقيضها فبيان الاشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة مع أنه لا حاجة إليها فان الشكل الأول يمكن أن يستعمل فيه جميع المواد الثبوتية والسلبية الكلية والجزئية وقد عرفت انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى.

والمقصود هنا أن هذه الأمة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفظن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيا وراية من غر تشاعر ولا تواطؤ.

بطلان دعواهم أن النتائج النظرية تحتاج إلى مقدمتين:

وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه فان القياس مشتمل على مقدمتين صغرى وكبرى فالكبرى هي العامة والصغرى اخص منها كما إذا قلت كل نبيذ خمر وكل خمر حرام فان النبيذ المتنازع فيه اخص من الخمر والخمر اخص من الحرام فالأول هو الحد الأصغر والآخر هو الحد الأكبر والأوسط المتكرر فيهها هو الحد الأوسط وحاصل القياس إدراج خاص تحت عام.

ومعلوم أن من علم العام فقد علم شموله لافراده ولكن قد يعزب عنه دخول

ص: 339

بعض الأفراد فيه أما لعزوب علمه بالعام أو لعزوب علمه بالخاص كما مثله المنطقيون ابن سينا وغيره فيمن ظن أن هذه الدابة تحمل فيقال له أما تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم ويقال له أما تعلم أن البغلة لا تحمل فحينئذ يتفطن لأنها لم تحمل فهذا وان ذكر بشيء كان غافلا عنه لم يستفد بذلك علم ما لم يكن يعلمه فان لم يخطر بقلبه هذا لم يلزم من علمه بأنها بغلة أنها لا تحمل.

لكن هذا قد لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة وهي التي يذكرها فانه أن كان يعلم أن هذه الدابة بغلة ونسى أن البغلة لا تحمل بحمل وهو قد جهل أو نسى أن هذه بغلة عرف بهذه وحدها.

وقد تنازع في هذا الموضع طائفتان ابن سينا ومن معه والرازي ومن معه وسبب نزاعهما الأصل الفاسد الذي أخذوه تقليدا لارسطو فقال ابن سينا: "لا بد مع المقدمتين من التفطن لاندراج الخاص تحت العام" ومثله بهذا فقال: "قد يكون الرجل يعلم أن هذه الدابة المعينة بغلة ويعلم أن البغلة لا تحمل لكن يذهل عن دخول هذا المعين تحت ذلك العام فإذا تفطن لذلك حصل النتاج وإلا فلا".

وقال الرازي: "وهذا يقتضى أنه لا بد من ثلاث مقدمات مقدمة بأن يعلم أن هذه بغلة ومقدمة أن البغلة لا تحمل ومقدمة أن هذا يتناول هذا واختار أنه لا يحتاج إلا إلى مقدمتين أن هذه بغلة وان البغلة لا تحمل وانه إذا كان غافلا عن هذه الكلية لم يكن عالما بها بالفعل فإذا صار عالما بها بالفعل بحيث تكون حاضرة في ذهنه امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن هذه البغلة لا تحمل".

وفصل الخطاب أن المطلوب قد يحتاج إلى مقدمة والى اثنتين والى ثلاث والى اربع فأصل الاضطراب دعواهم أن النتائج النظرية تحتاج إلى مقدمتين وتكفى فيها مقدمتان فجعلوا لا بد في كل مطلوب نظري من مقدمتين وادعوا أنه يكفى في كل مطلوب نظري مقدمتان وكلا الأمرين باطل

ص: 340

فالشخص المعين إذا رأى دابة وظنها حاملا أن كان ممن لم يعلم أنها بغلة ولم يعلم أن البغال عقم أو يعلم الأمرين ونسيهها أو نسى أحدهما وجهل الآخر فانه يحتاج إلى العلم بمقدمتين وتذكر المنسي نوع من العلم يحتاج أن يعلم أنها بغلة ويعلم أن البغلات لا يحملن وإن كان يعلم أن البغلة لا تحمل لكن لم يعرف أنها بغلة احتاج إلى مقدمة واحدة فإذا قيل له هذه بغلة فإذا عرف أنها بغلة وفي نفسه معلوم أن البغلة لا تحمل علم أن هذه المعينة لا تحمل وإن كان يعلم أن هذه بغلة وقد علم قديما أن البغلة لا تحمل لكن عزب هذا العلم عن ذهنه في هذا الوقت ونسيه فهذا قد نسى علمه والنسيان من اضداد العلم فإذا ذكر بعلمه ذكره فإذا ذكر أن البغلة لا تحمل حصل له مقدمة واحدة.

والعلم يحصل بالعلم بالدليل لمن لم يكن عالما به قط ولمن يذكره بعد النسيان إذا كان قد علمه ثم نسيه ولهذا قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فبين سبحانه أن آياته تبصرة وتذكرة فالتبصرة بعد العمى وهو الجهل والتذكرة بعد النسيان وهو ضد العلم.

وهؤلاء لما تقلدوا قول من يقول أنه لا بد من مقدمتين وبهما يحصل النتاج فرأى بعضهم أن المقدمتين معلومتان لهذا الظان أن هذه البغلة حامل مع عدم العلم قال فلا بد من التفطن فيقال له ما ذكرته من التفطن هو الذي يحتاج إليه هذا لا يحتاج إلى شيء من المقدمات غير هذه وهذا التفطن هو تذكر ما نسيه وهو مقدمة واحده.

ومن قال أن هذا هو إحدى المقدمتين فقد أصاب في ذلك لكن يقال له لا تحتاج إلا إلى هذه المقدمة فقط لا تحتاج إلى غيرها وهذا الظان متى حضر في

ص: 341

ذهنه أن هذه بغلة وان البغلة لا تحمل لزم قطعا أن يحضر في ذهنه أنها لا تحمل.

فالمدلول لازم للدليل فمتى تصور الإنسان الدليل ولزوم المدلول له تصور المدلول فإذا تصور أنها بغلة وتصور لازم ذلك وهو نفى الحمل عن البغلة تصور قطعا نفيه عن هذه فأما مجرد الدليل بدون تصور لزوم المدلول له فلا يحصل به العلم واللوازم البين لزومها للدليل تعلم بمجرد العلم به وبلزومها له واللوازم الخفية التي يفتقر العلم بلزومها إلى وسط وهو دليل ثان على اللزوم يقف على ذلك والاذهان في هذا متفاوقة فقد يحتاج هذا الذهن في معرفة اللزوم إلى وسط وهو الدليل والآخر لا يحتاج إليه.

وقد تنازع النظار في العلم الحاصل بالدليل هل هو لزومه عن الدليل لزوما عاديا كما يقولونه في الشبع مع الأكل أو لزوما عقليا يسمى التضمن بحيث لا يمكن الانفكاك عنه كما يمتنع وجود العلم والإرادة بدون الحيوة.

والأول قول قدماء النظار ك الأشعري وغيره ولهذا جعله المعتزلة من باب التولد وهذا كالرؤية مع التحديق وكالسمع مع الاصغاء وإلا فحصول العلم بالدليل دون المدلول عليه ليس ممتنعا لذاته بل الأول سبب للثاني ومقتض له وموجب له بحكم سنة الله تعالى في عباده بخلاف الحيوة مع العلم فان الأول شرط للثاني ولهذا كان العلم يوجد مع الحيوة ليست الحيوة متقدمة عليه كما يتقدم العلم بالدليل على العلم بالمدلول عليه.

ونظار المسلمين مع تنازعهم في هذا متفقون على أن الدليل مقدمة واحدة كما ذكرناه وما ذكروه من البغلة موجود في سائر النظريات فان الإنسان قد يعلم الخاص ولا يعلم العام وقد يعلم العام ولا يعلم الخاص كما قد يعلم أن هذه بغلة ولا يعلم أن البغلة لا تحمل وقد يعلم أن البغلة لا تحمل ولا يعلم أن هذه بغلة ولا يجب أن يكون علمه بالخاص مقدما على العام ولا متاخرا بل قد يتفق في بعض الناس علمه بالخاص قبل العام وفي بعض الناس يعلم العام قبل الخاص

ص: 342

وكذلك المعينات وذلك أن علمه بأن هذه البغلة لا تحمل كعلمه بأن هذه لا تحمل وبأن هذه لا تحمل فلا يجب أن يعلم أن هذا المعين مثل هذا المعين بل قد يعلم احد المعينين ولا يعلم الآخر ولا يجب أن يكون علمه بالمعينات قبل علمه بالقضية العامة ولا أن يكون بالمعينات أعلم ولا يجب أن يكون بالقضية العامة الكلية التي يستفيد بها العلم بحكم الققضايا المعينة اعلم منه بوصف القضايا المعينة أي لا يجب أن يكون علمه بأن كل بغلة لا تحمل أقوى ولا يجب أن يكون العلم العام الذي يفيده علم المعينات في نفسه أسبق من علم معين علم به أنها بغلة أي العلم بأن البغلة لا تحمل لا يجب أن يكون أقوى ولا أسبق في الذهن من العلم بأن هذه الدابة بغلة بل قد يجهل أنها بغلة كما قد يجهل أن البغلة لا تحمل فإذا قدر أنه يعلم أن البغلة لا تحمل ومستنده في ذلك ما اشتهر من خبر الناس فذلك يتناول المعين كتناوله لما هو اعم منه مثل تناوله للبغلات الحمراء والسوداء ولما تكون أمه أتانا فلو خطر له أن ما تكون أمه أتانا وأبوه حصانا يحمل قيل له أما تعلم أن هذا البغلة وان البغلة لا تحمل.

وان كان مستنده في أن البغلة لا تحمل هو تجربته فالتجربة لا تكون عامة وإنما جرب ذلك في بغلات معينة فما به يعلم مساواة سائر البغلات لها يعلم مساواة هذه البغلة لها.

واعتبر هذا بنظائره يتبين لك أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي بل يكون استعماله تطويلا وتكثيرا للفكر والنظر والكلام بلا فائدة وان الحاجة إلى المقدمات بحسب حال المستدل فقد يحتاج تارة إلى مقدمة وتارة إلى ثنتين وتارة إلى ثلاث وتارة إلى أكثر من ذلك وانه تارة يجهل كون المعين بغلة وإذا كان كذلك فمتى علم أن هذه بغلة علم أنها لا تحمل إذا كان قد حصل في نفسه علم عام يتناول جميع البغلات وإذا علم المعين وهو أنها بغلة ولم يعلم المطلق لم يحتج إلا إلى علم العام وهو أن البغلة لا تحمل واعتبر هذا بسائر الأمور تجده كذلك

ص: 343

الوجه الثالث: عدم دلالة القياس البرهاني على إثبات الصانع:

الوجه الثالث: أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان وأما الموجودات في الخارج فهي أمور معينة كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشاركه فيها غيره فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي والمراد بالجزئي ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وكل موجود له حقيقة تخصه يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات وإنما يفيد أمورا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان.

وقد بسطنا الكلام على هذا وغيره في غير هذا الموضع وبين أن ما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه وتعالى لا يدل شيء منها على عينه وإنما يدل على أمر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.

فانا إذا قلنا هذا محدث وكل محدث فلا بد له من محدث أو ممكن والممكن لا بد له من واجب إنما يدل هذا على محدث مطلق أو واجب مطلق ولو عين بأنه قديم أزلي عالم بكل شيء وغير ذلك فكل هذا إنما يدل فيه القياس على أمر مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما يعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب وهم معترفون بهذا لأن النتيجة لا تكون ابلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لا بد من ذلك والكلي لا يدل على معين.

وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

ص: 344

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وغير ذلك فانه يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا} والدليل أتم من القياس فان الدليل قد يكون بمعين على معين كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة ف الآيات تدل على نفس الخالق سبحانه لا على قدر مشترك بينه وبين غيره فان كل ما سواه مفتقر إليه نفسه فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه.

الكلام على علة الافتقار إلى الصانع:

وقد بسط الكلام على هذا في مواضع مثل ما ذكرناه من طرق إثبات العلم بالصانع والطرق التي سلكها عامة النظار في هذا المطلوب والكلام على المحصل وغير ذلك فان المتأخرين من النظار تكلموا في علة الافتقار إلى المؤثر وان شئت قلت إلى الصانع هل هو الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما.

فالأول: قول المتفلسفة المتأخرين ومن وافقهم كالرازي ومقصودهم بذلك أن مجرد الإمكان بدون الحدوث يوجب الافتقار إلى الصانع فيمكن كون الممكن قديما لا محدثا مع كونه مفتقرا إلى المؤثر وهذا القول مما اتفق جماهير العقلاء من الأولين والآخرين على فساده حتى أرسطو وقدماء الفلاسفة ومن اتبعه من متأخريهم كابن رشد الحفيد وغيره كلهم يقولون أن ما أمكن وجوده وأمكن عدمه لا يكون إلا محدثا وإنما قال هذا القول ابن سينا وأمثاله واتبعهم الرازي وأمثاله وهؤلاء يجعلون الشيء الممكن مفتقرا إلى الفاعل في حال بقائه فقط فانه لم يكن له حال حدوث ولهذا لما جعلوا مثل هذا ممكنا اضطرب كلامهم في الممكن وورد عليهم إشكالات لا جواب لهم عنها كما ذكر في كتبه كلها الكبار والصغار ك الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغيرها وقد بسطناه في غير هذا الموضع

ص: 345

والقول الثاني: أن علة الافتقار مجرد الحدوث وان المحدث يفتقر إلى الفاعل حال حدوثه لا حال بقائه وهذا قول طائفة من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهذا أيضا قول فاسد.

والقول الثالث: أن علة الافتقار هي الإمكان والحدوث ولم يجعل أحدهما شرطا في الآخر وقد يجعل احد الشطرين وقد بينا في غير هذا الموضع أن كل واحد من الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى الصانع وان كانا متلازمين فإذا علمنا أن هذا محدث علمنا أنه مفتقر إلى من يحدثه وإذا علمنا أن هذا ممكن وجوده وممكن عدمه علمنا أنه لا يرجح وجوده على عدمه إلا بفاعل يجعله موجودا.

وكونه مفتقرا إلى الفاعل هو من لوازم حقيقته لا يحتاج أن يعلل بعلة جعلته مفتقرا بل الفقر لازم لذاته فكل ما سوى الله فقير إليه دائما لا يستغني عنه طرفة عين وهذا من معاني اسمه الصمد ف الصمد الذي يحتاج إليه كل شيء وهو مستغن عن كل شيء وكما أن غنى الرب ثبت له لنفسه لا لعلة جعلته غنيا فكذلك فقر المخلوقات وحاجتها إليه ثبت لذواتها لا لعلة جعلتها مفتقرة إليه.

فمن قال علة الافتقار إلى الفاعل هي الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما أن أراد أن هذه المعاني جعلت الذات فقيرة لم يصح شيء من ذلك وإن أراد أن هذه المعاني يعلم بها فقر الذات فهو حق فكل منهما مستلزم لفقر الذات وهي مفتقرة إليه حال حدوثها وحال بقائها لا يمكن استغناؤها عنه لا في هذه الحال ولا في هذه الحال.

وأما تقدير ممكن يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما مع أنه واجب الوجود لغيره أزلا وأبدا فهذا جمع بين المتناقضين فان ما يجب وجوده أزلا وأبدا لا يقبل العدم أصلا وقول القائل أنه باعتبار ذاته مع قطع النظر

ص: 346

عن موجبه يقبل الوجود والعدم باطل لوجوه.

منها أن هذا مبنى على أن له ذاتا محققة في الخارج غير الموجود المعين وأن تلك الذات تكون ثابتة مع عدمه وهذا باطل بل ليس له حقيقة في الخارج إلا الموجود الثابت في الخارج وما يكون حقيقة الوجود لا يقبل العدم أصلا فليس في الخارج ماهية ثابتة تكون ثابتة في الخارج في حال العدم حتى يقال أن الوجود يعرض ولكن الذات المعلومة المتصورة في الذهن تكون تارة موجودة في الخارج وتارة معدومة.

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع فان هذا يتعلق بقول من يقول المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم ويقول من يقول الماهيات ثابتة في الخارج وهي الموجودات المعينة كقول من يقول ذلك من المتفلسفة ومن وافقهم وكلاهما باطل بل الفرق المعقول هو الفرق بين ما يعلم في الأذهان وبين ما يوجد في الأعيان فإذا قيل لما يعلم في الذهن أنه شيء في الذهن أو العلم أو ثابت في العلم أو الذهن أو سمى ذلك ماهية وقيل أن المثلث تثبت ماهيته في الذهن مع الشك في وجوده فهذا صحيح وأما إذا قيل في الخارج ذات ثابتة لا موجودة أو في الخارج ماهية المثلث أو غيره ثابتة مع أنه ليس موجودا فهذا باطل يعلم بطلانه بالتصور الجيد السليم والدلائل الكثيرة كما قد بسط في موضعه.

ومنها أنه لو فرض أن ل الممكن ذاتا غير وجوده فإذا كان الموجود لازما لها أبدا وأزلا واجبا بغيرها لم تقبل هذه الذات أن تكون معدومة قط وقول القائل هي في نفسها ليس لها وجود إذا قدر أن هناك ذاتا غير الوجود لا يقتضى أنه يمكن عدمها ويمكن وجودها مع القول بوجوب وجودها أزلا وأبدا.

ومنها أن الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله المعين لا يجوز مقارنته له في الزمان وما يذكرونه من تقدم حركة اليد على حركة الخاتم ونحو ذلك ويجعلونه تقدما بالعلة ليس في شيء من ذلك علة فاعلة أصلا وإنما ذلك شرط في هذا ولا يمكن أحدا

ص: 347

قط أن يبين في الوجود علة فاعلة لمعلول مفعول مع مقارنتها له في الزمان أصلا وإنما يمكن المقارنة بين الشرط والمشروط ولكن لفظ العلة فيه إجمال يراد به الفاعل ويراد به القابل والشروط.

وهذا أيضا مما حصل فيه تلبيس في صفات واجب الوجود لما قالوا لو كانت له صفات لكانت معلولة للذات والواجب لا يكون معلولا فيقال لهم واجب الوجود قد يعنى به ما لا يحتاج إلى فاعل فالصفات واجبة بهذا الاعتبار وقد يعنى به ما لا يفتقر إلى محل وعلى هذا فالذات واجبة وأما الصفات فليست واجبة بهذا التفسير والبرهان قام على أن الممكنات لا بد لها من فاعل لا يفتقر إلى ما سواه لم يقم على أن صفاته كذاته لا تفتقر إلى محل وهذه الأمور مبسوطة في موضعها.

الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا:

والمقصود هنا الكلام على جنس القياس والدليل مطلقا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على ما ذكروه من أن الاستدلال تارة يكون بالعام على الخاص وهو القياس وتارة بالخاص على العام وهو الاستقراء وتارة بأحد الخاصين على الآخر وهو التمثيل وبينا فساد هذا الحصر والتقسيم وفساد ما ذكر في حكم الأقسام فان من أنواع الاستدلال ما يستدل فيه بمعين على معين وبالمساوي على المساوي سواء كان معينا أو كليا.

فليس من ضرورة الدليل أن يكون أعم أو اخص بل لا بد في الدليل من أن يكون ملزوما للحكم والملزوم قد يكون اخص من اللازم وقد يكون متساويا له ولا يجوز أن يكون أعم منه لكن قد يكون اعم من المحكوم عليه الموصوف الذي هو موضوع النتيجة المخبر عنه.

فان المطلوب الذي هو النتيجة إذا كانت هو أن النبيذ المسكر المتنازع فيه حرام فاستدل على ذلك بان النبيذ المسكر خمر بالنص وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر رواه مسلم وغيره ف الخمر أعم من النبيذ المتنازع فيه

ص: 348

أخص من الحرام والحرام هو الحكم وهو الخبر وهو الصفة وهو المطلوب بالدليل وهو الذي يسمونه الحد الأكبر ويسمونه محمول النتيجة والنبيذ هو المحكوم عليه وهو المخبر عنه وهو الموصوف وهو محل الحكم وهو الذي يسمونه الحد الأصغر وموضوع النتيجة والخمر هو الدليل وهو الحد الأوسط والمطلوب بالدليل معرفة الحكم لا معرفة عينة فهذا الدليل يجب أن لا يكون أخص من محل الحكم بل يكون أما مساويا له وأما أعم منه لأنه لا بد أن يشمل جميع محل الحكم فإذا كان اخص لم يشمله.

ويجب أن لا يكون أعم من الحكم بل يكون أما مساويا له وأما اخص منه لأنه مستلزم للحكم والحكم لازم له فإذا كان أعم منه أمكن وجوده بدون وجود الحكم فلا يصلح أن يكون دليلا مستلزما له فلا بد في الدليل أن يكون مساويا للحكم أو أخص منه ليكون مستلزما له ولا بد أن يكون أعم من المحكوم عليه أو مساويا له ليتناول جميع صور المحكوم عليه وإلا لم يكن دليلا على حكمه بل على حكم بعضه.

والناس هنا قد يضطرب أذهانهم في الدليل هل يجب أن لا يكون اعم من المدلول عليه أو لا يكون اخص وسبب ذلك أن المدلول عليه قد يعنى به الحكم نفسه وقد يعنى به المحكوم عليه فإذا أقمنا الدليل على أن النبيذ حرام فقد يقال المدلول عليه هو النبيذ وهذا يجب أن لا يكون أعم من الدليل بل أما مساويا وأما أخص وقد يقال المدلول عليه هو الحكم وهو حرمة النبيذ وهذا الحكم يجب أن لا يكون اخص من الدليل بل يكون أما مساويا له وأما أعم منه لأن الحكم لازم للدليل والدليل لازم للمحكوم عليه فلا بد أن يكون المحكوم عليه مستلزما للدليل بحيث يكون حيث وجد وجد الدليل ليشمله الدليل ولا بد أن

ص: 349

يكون الحكم لازما للدليل بحيث يكون حيث تحقق الدليل تحقق الحكم حتى يثبت الحكم في جميع صور المحكوم عليه.

وإذا كان كذلك فقد يستدل بالمعين على المعين المساوي له في العموم والخصوص كالاستدلال بإحدى كواكب السماء على الملازم كما يستدل بالجدي على بنات نعش وببنات نعش على الجدي ويستدل بالجدي على جهة الشمال وبجهة الشمال على الجدي ويستدل بالشمس على المشرق وبالمشرق على الشمس ومن هذا الباب ما ذكر من أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء قبله فإنها صفات مطابقة له ليست اعم منه ولا أحص منه وكذلك سائر الأمور المتلازمة فانه يستدل بأحد المتلازمين على ثبوت الآخر وبانتفائه على انتفائه فإذا كان المدلول معينا كانت الآية معينة.

وقد تكون الآية تستلزم وجود المدلول من غير عكس كآيات الخالق سبحانه وتعالى فانه يلزم من وجوده وجدوده ولا يلزم من وجوده وجودها وهي كلها آيات دالة على نفسه المقدسة لا على أمر كلى لا يمنع تصوره من وقوع الاشتراك فيه بينه وبين غيره بل ذلك مدلول القياس.

والقرآن يستعمل الاستدلال بالآيات ويستعمل أيضا في إثبات الإلهية قياس الأولى وهو أن ما ثبت لموجود مخلوق من كمال لا نقص فيه فالرب أحق به وما نزه عنه مخلوق من النقائص فالرب أحق بتنزيهه عنه كما ذكر سبحانه وتعالى هذا في محاجته للمشركين الذين جعلوا له شركاء فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} .

وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ

ص: 350

بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} وكذلك في إثبات صفاته وإثبات النبوة والمعاد كما قد بسط في موضعه.

وأما القياس الذي يستوي أفراده ويماثل الفرع فيه أصله فهذا يمتنع استعماله في حق الله تعالى فان الله لا مثل له سبحانه وتعالى وإذا استعمل فيه مثل هذا القياس لم يفد إلا أمرا كليا مشتركا بينه وبين غيره لا يدل على ما يختص به الرب سبحانه إلا أن يضم إليه علم آخر فان هذا الكلى الذي هو مدلول القياس قد انحصر نوعه في شخصه وهذا أيضا لا يفيد التعيين بل لا بد في التعيين من علم آخر.

الوجه الرابع: التصور التام للحد الأوسط يغنى عن القياس المنطقي:

الوجه الرابع: أن يقال القياس ثلاثة أنواع قياس التداخل وقياس التلازم وقياس التعاند باعتبار القضايا الحملية والشرطية المتصلة والشرطية المنفصلة ومن ذلك تعرف المختلطات فنقول مثلا في قياس التداخل له ثلاثة حدود الحد الأصغر والحد الأوسط والحد الأكبر إذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام ف المسكر مثلا هو الحد الأصغر والخمر الأوسط والحرام الأكبر والأصغر لا بد أن يكون داخلا في الأوسط لأنه اخص منه أو مساويا له والشئ يدخل في أكثر منه وفي نظيره كما يدخل الإنسان في الحيوان فان الحيوان اعم وكذلك الإنسان والناطق والضحاك متلازمة فكل منها يتناول الآخر فكذلك التداخل في الأحكام الشرعية فان من شرب الخمر ثم شرب ثم شرب كفاه حد

ص: 351

واحد والنتيجة المطلوبة هي كل مسكر حرام.

والنظر نوعان: أحدهما: النظر في المسألة التي هي القضية المطلوب حكمها ليطلب دليلها الذي هو الحد الأوسط مثلا وهذا هو النظر الذي لا يجامع العلم بل يضاده لأن هذا الناظر طالب للعلم بها ولو كان عالما بها لم يطلب العلم لأن ذلك تحصيل الحاصل والثاني: النظر في الدليل وهو العلم بالدليل المستلزم للعلم بالمدلول عليه وهو تصور الحد الأوسط المستلزم لثبوت الأكبر للأصغر مثل من يعلم أن الخمر حرام وأن كل مسكر خمر فيلزم أن يعلم أن كل مسكر حرام وهذا النظر هو ترتيب المقدمتين في النفس وهذا النظر هو الذي يوجب العلم ولا ينافى العلم.

وللناس في هذا الباب اضطراب عظيم هل النظر مفيد للعلم أو غير مفيد وهل هو ضد العلم أم لا وأمثال ذلك وكثير من النظار يقول في مصنفه أن النظر يضاد العلم ويقول أيضا أنه مستلزم للعلم وهذا تناقض بين فان ملزوم الشيء لا يكون مضادا له لكن النظر الذي يستلزم العلم غير النظر الذي يضاده فذاك هو النظر الاستدلالي وهذا هو النظر الطلبي ذاك هو نظر في الدليل فإذا تصوره وتصور استلزامه للحكم علم الحكم والنظر الطلبي نظر في المطلوب حكمه هل يظفر بدليل يدله على حكمه أو لا يظفر كطالب الضالة والمقصود قد يجده وقد لا يجده وقد يعرض عنهما فان الأول انتقال من المبادئ إلى المطالب والآخر انتقال من المطالب إلى المبادئ.

وتحقيق الأمر أن النظر نوعان بمنزلة نظر العين وهو نوعان: أحدهما: التحديق لطلب الرؤية وهو بمنزلة تحديق القلب في المسألة لطلب حكمها وهذا قد يحصل معه العلم وقد لا يحصل ولا يكون طالب العلم حين الطلب عالما بمطلوبة تصديقا كان علمه أو تصورا على رأى من جعل التصور المطلوب خارجا عن التصديق والثاني: نفس الرؤية وهو بمنزلة رؤية الدليل كترتيب المقدمتين والظفر بالحد الأوسط

ص: 352

فهذا يوجب العلم كما توجب رؤية العين العلم بالمرئي ولا ينافى هذا النظر العلم فهذا الثاني نظر في الدليل كالذي ينظر في القرآن والحديث فيعلم الحكم والأول نظر في الحكم كالذي ينظر في المسألة لينال دليلها من القرآن والحديث.

فنقول من المعلوم أن معرفة القلب بثبوت المحمول للموضوع وهو ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم المسئول عنه مثل حرمة المسكر قد تحصل بواسطة هذا الحد وهو أن يعلم أن هذا خمر مع علمه أن الخمر حرام وهذا قياس الشمول وقد يحصل بغير هذا مثل أن يرى أن المسكر مساو لخمر العنب في مناط التحريم فيستوي بينهما في التحريم وهذا قياس التمثيل وقد يحصل بأن يرى فيه المفسدة التي في الخمر فيحكم بالتحريم لدرء تلك المفسدة وهذا قياس التعليل.

وقياس التمثيل وقياس التعليل يشملهما جنس القياس لكن القياس قد يحتاج في إثبات الحكم في الفرع إلى اصل معين فيلحق الفرع به أما لإبداء الجامع وأما لإلغاء الفارق فان إبداء الجامع وهو علة الحكم في الأصل يسمى قياس العلة وأما ما يدل على العلة وهو قياس الدلالة فهذا صار قياس تمثيل وتعليل معا وإن قاس بإلغاء الفارق وهو أن يبين له أنه ليس بينهما فرق مؤثر وإن لم يعلم عين العلة فهذا قياس تمثيل لا تعليل وقد يقوم دليل على أن الوصف الفلاني مستلزم للحكم وإن لم يعرف له أصل معين وهذا قياس تعليل وهو يشبه قياس الشمول.

وقياس الشمول وقياس التمثيل متلازمان فكل ما ذكر بهذا القياس يمكن ذكره بهذا القياس فان قياس الشمول لا بد فيه من حد أوسط مكرر وذاك هو مناط الحكم في قياس التمثيل وهو القدر المشترك وهو الجامع بين الأصل والفرع مثال ذلك إذا قيل النبيذ حرام قياسا على الخمر لأن فيه الشدة المطربة

ص: 353

وهذه هي العلة في التحريم أو لأنه مسكر والمسكر هو علة التحريم وبين ذلك بدليله كان قياسا صحيحا وإذا قيل النبيذ مسكر وكل مسكر حرام أو النبيذ فيه الشدة المطربة وما فيه الشدة المطربة فهو حرام فهذا أيضا صحيح وكل ما أمكن أن يستدل به على صحة المقدمة الكبرى أمكن أن يستدل به على كون الوصف المشترك علة للحكم في الأصل وكل ما أمكن يستدل به على الصغرى فانه يستدل به على ثبوت الوصف في الفرع.

ثم أن كان ذاك الدليل قطعيا فهو قطعي في القياسين وإن كان ظنيا فهو ظني في القياسين وأما دعوى من يدعى من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل ب قياس الشمول دون قياس التمثيل فهو قول في غاية الفساد وهو قول من لم يتصور حقيقة القياسين كما قد بسط في موضعه.

وقد يعلم الحكم المطلوب بنص على أن كل مسكر حرام كما قد ثبت هذا الحديث في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة فانه قد يعلم بلا قياس.

وإذا علم بقياس الشمول فكل ما يعلم بقياس الشمول فانه يعلم بقياس التمثيل أيضا كما تقدم ويجعل الحد الأوسط هو الجامع بين الأصل والفرع والدليل الذي يقيمه صاحب قياس الشمول على صحة المقدمة الكبرى الكلية يقيمه صاحب قياس التمثيل على علية الوصف وإن الجامع وهو الوصف المشترك الذي هو الحد الأوسط في قياس الشمول هو مستلزم للحكم وهو علية في الأصل كما يقيمه في ذاك على أن الحد الأكبر لازم للحد الأوسط فالحد الأكبر في قياس الشمول هو الحكم في قياس التمثيل والحد الأوسط هو الجامع المشترك ويسمى المناط والحد الأصغر هو الفرع ويمتاز قياس التمثيل بأن فيه ذكر اصل يكون نظيرا للفرع الذي هو الحد الأصغر وقياس الشمول ليس فيه هذا فصار في قياس التمثيل ما

ص: 354

في قياس الشمول وزيادة وقد بسط هذا في موضع آخر.

وقد لا يحتاج إلى دليل آخر ذي مقدمتين ولا قياس ولا غيره بل يكفيه مقدمة واحدة وقد يستغنى أيضا عن تلك المقدمة بتصوره التام ابتداء مثل أن يكون نفس علمه بأن الخمر حرام قد تصور معه مسمى الخمر أنها المسكر فصار علمه بجميع مفردات الخمر سواء فيعلم أن هذا المسكر خمر حرام وهذا المسكر خمر حرام وأمثال ذلك أو يعلم أن الخمر حرام ولا يعلم أن كل مسكر يسمى خمرا بل يظن ذلك الاسم مختصا ببعض المسكرات فإذا علم بنص الشارع أو باستعمال الصحابة الذين نزل فيهم القرآن أو بأنها لما حرمت لم يكن عندهم من عصير الأعناب شيء وإنما كان الذي يسمونه خمرا هو المسكر من نبيذ التمر أو بغير ذلك من الأدلة إذا علم هذه المقدمة الواحدة وهو أن كل مسكر خمر علم الحكم.

فتبين أن قولهم أن المطلوب لا بد فيه من القياس وذلك القياس يجب أن يكون القياس المنطقي الشمولي ولا بد فيه من مقدمتين ليس بصواب وهذا يبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم وأما هنا فالمقصود بيان قلة منفعته أو عدمها وذلك أن هذا المطلوب أن كان معه قضية علمت من جهة الرسول تفيده العموم وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسل تفيد العلم في المطالب الإلهية.

وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه أما منتقضة وأما أنها بمنزلة قياس التمثيل وأما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة فانه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول

ص: 355

وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفا على شيء من الأقيسة بل يعلم بالآيات الدالة على شيء معين لا شركة فيه ويحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر وما يحصل منها بالقياس الشمولي فهو بمنزلة ما يحصل بقياس التمثيل فهو أمر كلى لا يحصل به العلم بما يختص به الرب وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه.

والعلم بصدق المخبر المعين وإن لم يكن نبيا يعلم بأسباب متعددة غير القياس ويعلم أيضا بقياس التمثيل كما يعلم بقياس الشمول فكيف العلم بصدق النبي الصادق صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا طرقا من الطرق التي يعلم بها صدق الأنبياء في غير هذا الموضع.

والناس يعلمون الأمور الموجودة وصفاتها وأحوالها من غير قياس شمولي فضلا عن أن يقال لا بد هنا من مقدمتين صغرى وكبرى فالصغرى هي المشتملة على الحد الأصغر والكبرى المشتملة على الحد الأكبر والحد الأوسط متكرر فيها خبر محمول في الصغرى ومبتدأ موضوع في الكبرى كقولك كل خمر حرام فيقال إذا علم أن كل خمر حرام فقد يعلم ابتداء مفردات الخمر وأنها شاملة لكل مسكر بل يظن أنها متناولة لبعض المسكر كعصير العنب التي المشتد ثم يعلم بعد ذلك شمولها لكل مسكر وهو إذا تجدد له هذا العلم فإنما يجدد له علمه بالعموم وعلمه بالعموم إنما يعود بتصوره التام لمسمى الخمر فانه كان قبل ذلك لم يتصورها تصورا جامعا بل تصورا غير جامع ولو حصل له هذا التصور الجامع لم يحتج إلى قياس فقد تبين أن القياس المفيد للتصديق يغنى عنه التصور التام للحد الأوسط.

كل تصور يمكن جعله تصديقا وبالعكس:

وهذا يؤول إلى أمر وهو أن كل ما يسمونه تصورا يمكن جعله تصديقا وما يسمونه تصديقا يمكن جعله تصورا فان القائل إذا قال ما الخمر

ص: 356

المحرمة فقال المجيب هي المسكر كان هذا عندهم تصورا واحدا وهو تصور مسمى الخمر وهذا في الحقيقة تصديق مركب من موضوع ومحمول وإذا قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام كان هذا قياسا وهو يفيد التصديق الذي هو المسكر حرام ويفيد أن المسكر داخل في مسمى الخمر وإن أريد بيان الحد المطرد المنعكس قيل المسكر هو الخمر وكل خمر حرام فيفيد هذا القياس تصور معنى الخمر.

وسبب ذلك أن كل ما يتكلم به في الحد والقياس هو قضية تامة وهي الجملة في اصطلاح النحاة والجواب في السؤال عن التصور وعن التصديق هو بقضية تامة هي جملة خبرية فكلاهما قول مركب في السؤال والجواب وكلاهما فيه إثبات صفة لموصوف كإثبات الخمرية للمسكر وهو إثبات محمول لموضوع والإنسان هو في الموضعين قد تصور أن المسكر هو الخمر وصدق بأن المسكر هو الخمر فأما التصور المفرد الذي لا يعبر عنه إلا ب اسم مفرد فذلك لا يسأل عنه باللفظ المفرد ولا يجاب عنه باللفظ المفرد حتى يفصل نوع تفصيل يصلح لمثله لأن يكون جملة.

وهذا قد بسط في غير هذا الموضع كما بسط في الكلام على المحصل وغيره وبين أن قولهم العلم ينقسم إلى تصور وتصديق وأن التصور وهو التصور الساذج العرى عن جميع القيود الثبوتية والسلبية كلام باطل فان كل ما عرى عن كل قيد ثبوتي وسلبي يكون خاطرا من الخواطر ليس هو علما أصلا بشئ من الأشياء فان من خطر بقلبه شيء من الأشياء ولم يخطر بقلبه صفة لا ثبوتية ولا سلبية لم يكن قد علم شيئا.

وإذا قيل الإنسان حيوان والعالم مخلوق ونحو ذلك فهنا قد تصور إنسانا علم أنه موجود لم يتصور شيئا تصورا ساذجا لا نفى فيه ولا إثبات بل تصور وجوده وغير ذلك من صفاته وكذلك العالم قد تصور وجوده وإذا تصور بحر زئبق وجبل ياقوت فان لم يتصور مع هذا عدمه في الخارج

ص: 357

ولا امتناعه ولا شيء من الأشياء كان هذا خيالا من الخيالات ووسواسا من الوساوس ليس هذا من العلم في شيء فان تصور مع ذلك عدمه في الخارج كان قد تصور تصورا مقيدا بالعدم لم يكن تصوره خاليا من جميع القيود.

فان قلت: فما التصور القابل للتصديق المشروط فيه قيل هو التصور الخالي عن معرفة ذلك التصديق ليس هو الخالي عن جميع القيود السلبية والثبوتية فإذا كان يشك هل النبيذ حرام أم لا فقد تصور النبيذ وتصور الحرام وكل من التصورين متصور بقيود فهو يعلم أن النبيذ شراب وأنه موجود وأنه يشرب وأنه يسكر وغير ذلك من صفاته لكن لم يعلم أنه حرام فليس من شرط التصور المشروط في التصديق أن يكون ساذجا خاليا عن كل قيد ثبوتي وسلبي بل أن يكون خاليا عن التقييد بذلك التصديق.

وقول القائل التصديق مسبوق بالتصور مثل قوله القول مسبوق بالعلم فليس لأحد أن يتكلم بما لا يعلم كذلك لا يصدق ولا يكذب لما لا يتصوره وحينئذ فالتصور التام مستلزم للتصديق والتصور الناقص يحتاج معه إلى دليل يثبت له حكم.

وهذا يقرر ما عليه نظار المسلمين كما قررنا ذلك من قبل من أن التصورات المفردة لا تعلم بمجرد الحد وأن المطلوب بالحد هو تصديق يفتقر إلى ما تفتقر إليه التصديقات فكما ذكرنا هناك أن الذي يجعلونه حدا هو تصديق يفتقر إلى دليل فيقال هنا ما يجعلونه قياسا يعود في الحقيقة إلى الحد والتصور كما يعود هذا القياس إلى أن يعلم مسمى الخمر وإذا كان كذلك فإذا كانوا يقولون أن الحد لا يقام عليه دليل ولا يحتاج إلى قيام دليل فنقول العلم بمسمى الخمر لا يحتاج إلى قياس بل قد يعلم بما يعلم به سائر التصورات المفردة ومسميات جميع الأسماء من تفطن النفس لشمول ذلك المعنى لهذه الصورة وثبوته فيها.

وكلما تدبر العاقل هذا وعرفه معرفة جيدة تبين له أن الصواب ما عليه نظار المسلمين

ص: 358

وجماهير العقلاء من أن الحدود بمنزلة الأسماء وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال وأن المطلوب من الحد هو التمييز بين المحدود وغيره وذلك يكون بالوصف الملازم له طردا وعكسا بحيث يكون الحد جامعا مانعا.

وأنه مع ذلك ليس لأحد أن يدعي دعوى غير بديهية إلا بدليل فالحاد أن كان يحد مسمى اسم كما يقول في الخمر أنها المسكر وفي الغيبة أنها ذكرك أخاك بما يكره وفي الكبر أنه بطر الحق وغمط الناس فعليه أن يبين أن ما ذكره مطابق لمسمى ذلك الاسم أما بالنقل عن الشارع المتكلم بهذه الأسماء مثل أن يقول قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر " وما ليس بمسكر فليس بخمر بالإجماع فيثبت أن الخمر هو المسكر أو يقول ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره" فقال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ".

فإذا عورض هذا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية فقال: "أما أبو جهم فرجل ضراب للنساء " وفي لفظ "لا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحى أسامة " فإذا قال المعترض هنا قد ذكر كلا منهما بما يكره والغيبة محرمة كان الجواب مع إحدى المقدمتين بأن يقال لا نسلم أن هذا داخل في حد الغيبة وإن سلم دخوله في الحد دل على جواز الغيبة لمصلحة راجحة مثل نصيحة المستشير فإنها لما استشارته وجب نصحها ومثل ذلك الكلام في جرح الرواة الكاذبين والغالطين وشهادة الشاهد الكاذب وشكاية المظلوم وغير

ص: 359

ذلك عما دل الشرع على جوازه.

فانه يقال فيه أحد الأمرين لازم أما أن يقال المؤمن لا يكره ذلك إذا كان صادق الإيمان لأن المؤمن لا يكره ما أمر الله ورسوله به وهذا مما أمر الله به ورسوله ويقال أن كرهه فهو من هذه الجهة ناقص الإيمان فيه شعبة نفاق فلا يكون هو الأخ الذي قيل فيه ذكرك أخاك بما يكره وهذا مبنى على أن الشخص الواحد يكون فيه طاعة ومعصية وبر وفجور وخير وشر وشعبة إيمان وشعبة نفاق أو يقول إذا سلم شمول اللفظ له هذا من الغيبة المباحة فلا بد من التزام أحد أمرين أما أنه لم يدخل في مسمى الغيبة وأما أنه لم يدخل فيما حرم منها ولهذا نظائر.

والمقصود التنبيه على المثال وأن من ادعى حد اسم فلا بد له من دليل وكذلك أن ادعى حدا بحسب الحقيقة.

وهذا الذي عليه نظار المسلمين وغيرهم أصح مما عليه أهل المنطق اليوناني من وجوه فان أولئك يدعون أن الحد يفيد تصوير الماهية في نفس المستمع ويدعون أن ذلك يحصل بمجرد قول الحاد من غير دليل أصلا.

ثم أنهم عمدوا إلى الصفات اللازمة للموصوف ففرقوا بينها وجعلوها ثلاثة أصناف ذاتية داخلة في الماهية وخارجة لازمة للماهية دون وجودها وخارجة لازمة لوجودها وهذا كله باطل إذا أريد بالماهية الموجودات الخارجية وهي التي تقصد بالحد والتعريف وأما إذا قدر أن الماهية هي مجرد ما يتصوره النفس فقدر تلك الماهية وصفتها يتبع تصور المتصور فتارة يتصور جسما حساسا ناميا متحركا بالإرادة ناطقا فتكون الماهية هي هذه الأجزاء كلها وتارة يتصور حيوانا ناطقا وتارة يتصور حيوانا ضاحكا وتارة يتصور ضاحكا فقط وتارة يتصور ناطقا فقط فإذا جعل ما دخل في تصوره داخلا فيه وما

ص: 360

خرج عنه لازما له أو غير لازم كما ذكر ذلك بعضهم وكما ذكروه من دلالة المطابقة والتضمن الالتزام كان هذا صحيحا لكن ليس فيه منفعة في العلوم والحقائق ومعرفة صفاتها الذاتية وغير الذاتية أصلا بل هذا يرجع إلى تصور مراد المتكلم سواء كان حقا أو باطلا.

وأما نظار المسلمين فالحد عندهم يكون بالوصف الملازم والوصف الواحد الملازم كاف لا يذكرون معه الوصف المشترك لا الجنس ولا العرض العام بل يعيبون على من يذكر ذلك في الحدود وهل يحد بالتقسيم لهم فيه قولان والصفات تنقسم إلى قسمين لازمه للموصوف وغير لازمة والذي عليه نظار أهل السنة وسائر المثبتين للصفات والقدر أن وجود كل شيء في الخارج عين حقيقته فاللازم للموجود الخارجي لازم للحقيقة الخارجية ولا يقبل من أحد دعوى غير معلومة إلا بدليل فأين هذا المنطق وأين هذا الميزان المستقيمة العادلة من ميزان أولئك الجائرة الغائلة التي ليس فيها لا صدق ولا عدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} .

الوجه الخامس: من الأقيسة ما تكون مقدمتاه ونتيجته بديهية

الوجه الخامس: أن يقال هذا القياس هو قياس الشمول وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد.

فنقول قد علم وسلموا أنه لا بد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض

ص: 361

أفرادها بديهيا فان النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلم بدون مقدمتين وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان ولهذا كان من المقرر عند أهل النظر أنه لا بد في التصورات والتصديقات من تصورات بديهية وتصديقات بديهية.

ولفرض المقدمتين البديهيتين كل مسكر خمر وكل خمر حرام وإن لم يكن هذا بديهيا لكن المقصود التمثيل ليعلم بالمثال حكم سائر القضايا فإذا قدر أنه علم بالبديهة أن كل فرد من أفراد الخمر حرام وعلم بالبديهة أن كل فرد من أفراد المسكر خمر كان علمنا بالبديهة أن هذه الأفراد حرام من أسهل الأشياء.

وإنما يخفى ذلك لكون أكثر المقدمات لا يكون بديهية بل مبينة بغيرها كافي هذا المثال فان المقدمة الثانية ثابتة بالنص والإجماع والأولى ثابتة بالسنة الصحيحة لكن لم يعرفها كثير من العلماء فطريق العلم بالمقدمتين يختلف.

وأما إذا أفردنا ذلك في مقدمتين طريق العلم بهما واحد لم نحتج إلى القياس مثل العلم بأن كل إنسان حيوان وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة فهنا قد يكون العلم بأن كل إنسان حساس متحرك بالإرادة أبين وأظهر وكذلك إذا قلنا كل إنسان جسم أو جوهر أو حامل للصفات ثم قلنا كل ما هو جسم أو جوهر أو حامل للصفات فليس بعرض أو هو قائم بنفسه أو هو موصوف بالصفات ونحو ذلك كان العلم بأن كل إنسان هو كذلك مما لا يحتاج إلى هذا التطويل فالمقدمتان أن كان طريق العلم بهما واحدا وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها وإن لم يحتج إلى الأخرى التي علمها وهذا ظاهر في كل ما تقدره.

فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان وكذلك إذا علمنا أن كل رسول نبي وكل نبي فهو في الجنة فعلمنا أن كل

ص: 362

رسول فهو في الجنة أبين من هذا وهذا كثير جدا.

الوجه السادس: من القضايا الكلية ما يمكن العلم به بغير توسط القياس

وهو يتضح بالوجه السادس وهو أن يقال لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها لا يكون أخص منها والنتيجة اخص من الكبرى أو مساوية لها واعم من الصغرى أو مساوية لها كالحدود الثلاثة فان الأكبر أعم من الأصغر أو مثله والأوسط مثل الأصغر أو اعم ومثل الأكبر أو اخص ولا ريب أن الحس يدرك المعينات أولا ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة فان الإنسان يرى هذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان ويرى أن هذا حساس متحرك بالإرادة ناطق وهذا كذا وهذا كذا فيقضى قضاء عاما أن كل إنسان حساس متحرك بالإرادة ناطق.

فنقول العلم بالقضية العامة أما أن يكون بتوسط قياس أو بغير توسط قياس فان كان لا بد من توسط قياس والقياس لا بد فيه من قضية عامة لزم أن لا يعلم العام إلا بالعام وذلك يستلزم الدور أو التسلسل فلا بد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة معلومة بالبديهة وهم يسلمون ذلك.

وإن أمكن علم القضية العامة بغير توسط قياس أمكن علم الأخرى فان كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه بل هو أمر نسبى إضافي بحسب حال علم الناس بها فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ومن احتاج إلى نظر واستدلال بدليل كانت نظرية له.

وكذلك كونها معلومة بالعقل أو الخبر المتواتر أو خبر النبي الصادق أو الحس ليس هو أمرا لازما لها بل كذب مسيلمة الكذاب مثلا قد يعلم بقول

ص: 363

النبي الصادق أنه كذاب وقد يعلم ذلك من باشره ورآه يكذب ويعلم ذلك من غاب عنه بالتواتر ويعلم ذلك بالاستدلال فانه ادعى النبوة وأتى يناقض النبوة فيعلم بالاستدلال وكذلك الهلال قد يعلم طلوعه بالرؤية فتكون القضية حسية ويعلم ذلك من لم يره بالأخبار المتواترة فتكون القضية عنده من المتواترات ويعلم ذلك من علم أن تلك الليلة إحدى وثلاثون بالحساب والاستدلال ومثل هذا كثير فالمعلوم الواحد يعلمه هذا بالحس وهذا بالخبر وهذا بالنظر وهذه طرق العلم لبني آدم وهكذا القضايا الكلية إذا كان منها ما يعلم بلا قياس ولا دليل وليس لذلك حد في نفس القضايا بل ذلك بحسب أحوال بنى آدم لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس أنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس بل هذا نفى كاذب.

الوجه السابع: الأدلة القاطعة على استواء قياسي الشمول والتمثيل.

الوجه السابع: أن يقال هم يدعون أن المفيد لليقين هو قياس الشمول فأما قياس التمثيل فيزعمون أنه لا يفيد اليقين ونحن نعلم أن من التمثيل ما يفيد اليقين ومنه ما لا يفيده ك الشمول فان الشيئين قد يكون تماثلهما معلوما وقد يكون مظنونا كالعموم وإن جمع بينهما بالعلة فالعلة في معنى عموم الشمول.

يوضح هذا أن يقال قياس الشمول يؤول في الحقيقة إلى قياس التمثيل كما أن الآخر في الحقيقة يؤول إلى الأول ولهذا تنازع الناس في مسمى القياس فقيل هو قياس التمثيل فقط وهو قول أكثر الأصوليين وقيل قياس الشمول فقط وهو قول أكثر المنطقيين وقيل بل القياسان جميعا وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وذلك أن قياس الشمول مبناه على اشتراك الأفراد في الحكم العام وشموله لها وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الاثنين في الحكم الذي يعمهما

ص: 364

ومآل الأمرين واحد وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

ونحن نذكر هنا ما لم نذكره في غير هذا الموضع فنقول قد تبين فيما تقدم أن قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس فإذا قال القائل في مسألة القتل بالمثقل قتل عمد عدوان محض لمن يكافئ القاتل فأوجب القود كالقتل بالمحدد فقد جعل القدر المشترك الذي هو مناط الحكم القتل العمد العدوان المحض للمكافئ وهذا يسمى العلة والمناط والجامع والمشترك والمقتضى والموجب والباعث والأمارة وغير ذلك من الأسماء فإذا أراد أن يصوغه ب قياس الشمول قال هذا قتل عمد عدوان محض للمكافئ وما كان كذلك فهو موجب للقود.

والنزاع في الصورتين هو في كونه عمدا محضا فان المنازع يقول العمدية لم تتمحض وليس المقصود هنا ذكر خصوص المسألة بل التمثيل وهذا نزاع في المقدمة الصغرى وهو نزاع في ثبوت الوصف في الفرع فان قياس التمثيل قد يمنع فيه ثبوت الوصف في الأصل ويمنع ثبوته في الفرع وقد يمنع كونه علة الحكم.

ويسمى هذا السؤال سؤال المطالبة وهو أعظم أسئلة القياس وجوابه عمدة القياس فان عمدة القياس على كون المشترك مناط الحكم وهذا هو المقدمة الكبرى وهو كما لو قال في هذه المسألة لا نسلم أن كل ما كان عمدا محضا يوجب القصاص وكذلك منع الحكم في الأصل أو منع الوصف في الأصل وهو منع للمقدمة الكبرى في قياس الشمول.

أللهم إلا أن يقيم المستدل دليلا على تأثير الوصف في غير أصل معين وهذا قياس التعليل المحض كما لو قال النبيذ المسكر محرم لأن المعنى الموجب للتحريم

ص: 365

وهو كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة موجود فيها وهذا المعنى قد دل النص على أنه علة التحريم وقد وجد فيثبت فيه التحريم.

وهم في قياس الشمول إذا أرادوا إثبات المقدمة الكبرى التي هي نظير جعل المشترك بين الأصل والفرع مناط الحكم فلا بد من دليل يبين ثبوت الحكم لجميع أفراد المقدمة باعتبار القدر المشترك الكلى بين الأفراد وهذا هو القدر المشترك الجامع في قياس التمثيل فالجامع هو الكلى والكلى هو الجامع.

ومن قال من متأخري النظار كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد أن العقليات ليس فيها قياس بل الاعتبار فيها بالدليل فهذا مع أنهم خالفوا فيه جماهير النظار وأئمة النظر فنزاعهم فيها يرجع إلى اللفظ فإنهم يقولون العقليات لا تحتاج إلى أن يعين فيها أصل يلحق فيه الفرع وليس جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا بأولى من العكس بل الاعتبار بالدليل الشامل للصورتين فيقال لهم لا ريب أنه في العقليات والشرعيات لم يقع النزاع في جميع أفراد المعنى العام الذي يسمى الجامع المشترك بل وقع في بعضها وبعضها متفق عليه فتسمية هذا أصلا وهذا فرعا أمر إضافي ولو قدر أن بعض الناس علم حكم الفرع بنص وخفي عليه حكم الأصل لجعل الأصل فرعا والفرع أصلا والجمع أما أن يكون بإلغاء الفارق وأما أن يكون بإبداء الجامع وهذا يكون في العقليات قطعيا وظنيا كما يكون في الشرعيات

ص: 366

فإذا قيل الأحكام والإتقان يدل على علم الفاعل شاهدا فكذلك غائبا أو قيل علة كون العالم عالما قيام العلم به في الشاهد فكذلك في الغائب أو قيل الحيوة شرط في العلم شاهدا فكذلك غائبا أو قيل حد العالم في الشاهد من قام به العلم فكذلك في الغائب فهذه الجوامع الأربعة التي تذكرها الصفاتية من الجمع بين الغائب والشاهد في الصفات الحد والدليل والعلة والشرط فذكر الشاهد حتى يمثل القلب صورة معينة ثم يعلم بالعقل عموم الحكم وهو أن الأحكام والإتقان مستلزم لعلم الفاعل فان الفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم وكذلك سائرها.

وهذا كسائر ما يعلم من الكليات العادية إذا قيل هذا الدواء مسهل للصفراء ومنضج للخلط الفلاني ونحو ذلك فان التجربة إنما دلت على أشياء معينة لم تدل على أمر عام لكن العقل يعلم أن المناط هو القدر المشترك بما يعلم من انتفاء ما سواه ومناسبته أو لا يعلم مناسبته وهذا قد يكون معلوما تارة كما يعلم أن أكل الخبز يشبع وشرب الماء يروي وأن السقمونيا مسهل للصفراء وإن كان قد يتخلف الحكم بفوات شرطه إذ قدمنا أن الطبيعيات التي هي العاديات ليس فيها كليات لا تقبل النقض بحال فكان ذكر الأصل في القياس العقلي لتنبيه العقل على المشترك الكلى المستلزم للحكم لا لأن مجرد ثبوت الحكم في صورة يوجب ثبوته في أخرى بدون أن يكون هناك جامع يستلزم الحكم.

وإذا قيل فمن أين يعلم أن الجامع مستلزم للحكم قيل من حيث يعلم القضية الكبرى في قياس الشمول فإذا قال القائل هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك وفي قياس الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي يثبت الحكم فيها ومعلوم أن ذكر الكلى المشترك مع

ص: 367

بعض أفراده اثبت في العقل من ذكره مجردا عن جميع الإفراد باتفاق العقلاء.

ولهذا هم يقولون أن العقل بحسب إحساسه بالجزئيات يدرك العقل بينها قدرا مشتركا كليا فالكليات في النفس تقع بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس ويكون عدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل فان خاصة العقل معرفته الكليات بتوسط معرفته بالجزئيات فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوى من ذكرها مع التمثيل لمواضعها المعينة كان مكابرا والعقلاء باتفاقهم يعلمون أن ضرب المثل الكلى مما يعين على معرفته وانه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردا عن الأمثال.

ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والطبيعيات والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الأمر كذلك فإذا قيل يسخن جوف الإنسان في الشتاء ويبرد في الصيف لأنه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة إلى باطن البدن لأن الضد يهرب من الضد والشبيه ينجذب إلى شبيه فتظهر البرودة إلى الظاهر لأن شبه الشيء منجذب إليه كان هذا أمرا كليا مطلقا فإذا قيل ولهذا يسخن جوف الأرض في الشتاء وجوف الحيوان كله ولهذا تبرد الأجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة إلى الأجواف كان كلما تصور الإنسان النظائر قويت معرفته بتلك الكلية وهو أن الضد يهرب من ضده والنظير ينجذب إلى نظيره وهذا معلوم في الطبيعيات والنفسانيات وغيرهما لكن إذا ذكرت النظائر قوى العلم بذلك وقد يعبر عن ذلك بأن الجنسية علة الضم.

وكذلك إذا قيل الشمس إذا وقعت على البحر أو غيره تسخنه فتصاعد منه بخار لأن الحرارة تحلل الرطوبة ثم قيل كما يتصاعد البخار من القدر التي فيها الماء الحار

ص: 368

كان هذا المثال مما يؤكد معرفة الأول.

والأقيسة التي يستعملها الفلاسفة في علومهم ويجعلونها كلية كلها يعتضدون فيها بالأمثلة وليس مع القوم إلا ما علموه من صفات الأمور المشاهدة ثم قاسوا الغائب على المشاهد به بالجامع المشترك الذي يجعلونه كليا فان لم يكن هذا صحيحا لم يكن مع أحد من أهل الأرض علم كلى يشترك فيه ما شهده وما غاب عنه حتى قوله الخبز يشبع والماء يروي ونحو ذلك فانه لم يعلم بحسه إلا أمورا معينة فمن أين له أن الغائب بمنزلة الشاهد إلا بهذه الطريق والإنسان قد ينكر أمرا حتى يرى واحدا من جنسه فيقر بالنوع ويستفيد بذلك حكما كليا.

ولهذا يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} ونحو ذلك وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد لكن كانوا مكذبين بجنس الرسل لم يكن تكذيبهم بالواحد لخصوصه وهذا بخلاف تكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يكذبوا جنس الرسل إنما كذبوا واحدا بعينه بخلاف مشركي العرب الذين لم يعرفوا الرسل فان الله يحتج عليهم في القرآن بإثبات جنس الرسالة.

ولهذا يجيب سبحانه عن شبه منكري جنس الرسالة كقولهم: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} فيقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هذا متواتر عند أهل الكتاب فاسألوهم عن الرسل الذين جاءتهم أكانوا بشرا أم لا وكذلك قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} فإنهم لا يستطيعون الأخذ عن الملك في صورته فلو أرسلنا إليهم ملكا لجعلناه رجلا في صورة الإنسان وحينئذ كان يلتبس عليهم الأمر ويقولون هو رجل والرجل لا يكون رسولا وكذلك الرسل قبله قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ

ص: 369

مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} وكما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} ونحو ذلك.

فكان علمهم بثبوت معين من هذا النوع يوجب العلم بقضية مطلقة وهو أن هذا النوع موجود بخلاف ما إذا اثبت ذلك ابتداء بلا وجود نظير فانه يكون أصعب وإن كان ممكنا فان نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ولم يكن قبله رسول بعث إلى الكفار المشركين يدعوهم إلى الانتقال عن الشرك إلى التوحيد وآدم والذين كانوا بعده كان الناس في زمنهم مسلمين كما قال ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الإسلام" لكن لما بعث الله نوحا وأنجى من آمن به وأهلك من كذبه صار هذا المعين يثبت هذا النوع أقوى مما كان يثبت ابتداء.

والذين قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان مبدأ كلامهم في الأمور الطبيعية فإنهم رأوا البارد إنما يقتضى التبريد فقط والحار إنما يقتضي التسخين فقط وكذلك سائرها لكن هذا ليس فيه إحداث واحد لواحد فان البرودة الحاصلة لا بد لها مع السبب من محل قابل وارتفاع موانع فلم يحصل السبب إلا عن شيئين لا عن واحد لكن هذا كان مبدأ كلامهم.

وأما احتجاج ابن سينا وأمثاله بأنه لو صدر اثنان لكان مصدر هذا غير مصدر هذا ولزم التركيب المنافي للوحدة فهذه الحجة تبع لحجة التركيب وهذه أخذوها من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم ليست هذه من كلام أئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه لا سيما أكثر أساطين الفلاسفة فإنهم كانوا يقولون بإثبات الصفات لله تعالى بل وبقيام الأمور الاختيارية كما ذكرنا كلامهم في غير هذا الموضع وهو اختيار أبي البركات صاحب المعتبر ومن قال أنه خالف أكثر الفلاسفة فمراده المشائين وأما الأساطين قبل هؤلاء فكلام كثير منهم يدل على هذا الأصل كما هو مذكور في موضعه

ص: 370

ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا يجعل حكمهما واحدا كما إذا رأى الماء والماء والتراب والتراب والهواء والهواء ثم حكم بالحكم الكلى على القدر المشترك وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد إذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس.

وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس فانه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل ما فعلوا أصابه ما أصابهم فيتقى تكذيب الرسل حذرا من العقوبة وهذا قياس الطرد ويعلم أن من لم يكذب الرسل بل أتبعهم لا يصيبه ما أصاب هؤلاء وهذا قياس العكس وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين فان المقصود ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره والاعتبار يكون بهذا وبهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} وقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ}

الميزان المنزل من الله هو القياس الصحيح:

وقد قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} والميزان يفسره السلف بالعدل ويفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان وقد أخبر أنه انزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط.

فما يعرف به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات فمعرفة أن هذه الدارهم أو غيرها من الأجسام الثقيلة

ص: 371

بقدر هذه تعرف بموازينها وكذلك معرفة أن هذا الكيل مثل هذا يعرف بميزانه وهو المكاييل وكذلك معرفة أن هذا الزمان مثل هذا الزمان يعرف بموازينه التي يقدر بها الأوقات كما يعرف به مظلال وكما يعرف بجري من ماء ورمل وغير ذلك وكذلك معرفة أن هذا بطول هذا يعرف بميزانه وهو الذارع فلا بد بين كل متماثلين من قدر مشترك كلى يعرف به أن أحدهما مثل الآخر.

فكذلك الفروع المقيسة على أصولها في الشرعيات والعقليات تعرف بالموازين المشتركة بينهما وهي الوصف الجامع المشترك الذي يسمى الحد الأوسط فانا إذا علمنا أن الله حرم خمر العنب لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء ثم رأينا نبيذ الحبوب من الحنطة والشعير والرز وغير ذلك يماثلها في المعنى الكلى المشترك الذي هو علة التحريم كان هذا القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان التي انزلها الله في قلوبنا لنزن بها هذا ونجعله مثل هذا فلا نفرق بين المتماثلين والقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله تعالى به.

ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينات لم يكن بها اعتبار كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة ولا ريب أنه إذا احضر احد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان كان اتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف المشترك الكلى في العقل أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها فان هذا أيضا وزن صحيح وذلك أحسن في الوزن فانك إذا وزنت بالصنجة

ص: 372

قدرا من النقدين ثم وزنت بها نظيره والأول شاهد والناس يشهدون أن هذا وزن به هذا فظهر مثله أو أكثر أو أقل كان أحسن من أن يوزن أحدهما في مغيب الآخر فانه قد يظن أن الوازن لم يعدل في الوزن كما يعدل إذا وزنها معا فان هذا يعتبر بأن يوزن أحدهما بالآخر بلا صنجة وهكذا الموزونات بالعقل.

وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع وبينا أن القياس الصحيح هو من العدل الذي انزله وانه لا يجوز قط أن يختلف الكتاب والميزان فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح لا قياس شرعي ولا عقلي ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية وأن القياس الشرعي الذي روعيت شروط صحته يخالف نصا من النصوص وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح بل على خلاف القياس الفاسد كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد وذكرنا في كتاب درء تعارض العقل والنقل ومتى تعارض في ظن الظان الكتاب والميزان النص والقياس الشرعي أو العقلي فأحد الأمرين لازم أما فساد دلالة ما احتج به من النص أما بأن لا يكون ثابتا عن المعصوم أو لا يكون دالا على ما ظنه أو فساد دلالة ما احتج به من القياس سواء كان شرعيا أو عقليا بفساد بعض مقدماته أو كلها لما يقع في الأقيسة من الألفاظ المجملة المشتبهة.

وأبو حامد ذكر في القسطاس المستقيم الموازين الخمسة وهي منطق اليونان بعينة غير عبارته ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي انزل الله هو منطق اليونان لوجوه: أحدها: أن الله انزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلثمائة سنة فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن بهذا الثاني: أن امتنا أهل

ص: 373

الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية ولم يسمع سلفنا بذكر هذا المنطق اليوناني وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في دولة المأمون أو قريبا منها الثالث: أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية.

ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم فانه ليس الأمر كذلك بل فيه معان كثير فاسدة ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية وزعموا أنه آله قانونية

ص: 374

تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره وليس الأمر كذلك فانه لو احتاج الميزان إلى ميزان لزم التسلسل وأيضا فالفطرة أن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق لو كان صحيحا إلا بلادة وفسادا ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه لا بد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود اعرض عن اعتبارها بالمنطق لما فيه من العجز والتطويل وتبعيد الطريق وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط.

كل قياس في العالم يمكن رده إلى القياس الاقتراني:

فان قيل ما ذكرته من أن قياس الشمول يرجع إلى قياس التمثيل يتوجه في قياس الاقتراني دون الاستثنائي فان الاستثنائي ما تكون النتيجة أو نقيضها مذكورة فيه بالفعل بخلاف الاقتراني فان النتيجة إنما هي فيه بالقوة والاستثنائي مؤلف من الشرطيات المتصلة وهو التلازم ومن المنفصلة وهو التقسيم ولا ريب أن الحد الأوسط في الاقترانى يمكن جعله الجامع المشترك في القياس التمثيلي بخلاف الاستثنائى قيل الجواب من وجوه.

منها أن التلازم والتقسيم إذا قيل هذا مستلزم لهذا حيث وجد وجد فان هذا قضية كلية فتستعمل على وجه التمثيل وعلى وجه الشمول بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل القدر المشترك هو مناط الحكم وكذلك إذا قيل هذا أما كذا وأما كذا فهو أيضا كلى يبين بصيغة التمثيل وبصيغة الشمول ولهذا كانت الأحكام الثابتة بصيغة العموم يمكن استعمال قياس التمثيل فيها بأن يقاس بعض أفرادها ببعض ويجعل المعنى المشترك هو مناط الحكم.

ومنها أن كل قياس في العالم يمكن رده إلى الاقترانى فإذا قيل بصيغة الشرط أن كانت الصلاة صحيحة فالمصلى متطهر أمكن أن يقال كل مصل فهو متطهر وأن يقال الصلاة مستلزمة الطهارة ونحو ذلك من صور القياس الاقتراني والحد الأوسط فيه أن استثناء عين المقدم ينتج عين التالي واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض

ص: 375

المقدم وهذا معنى قولنا إذا وجد الملزوم وجد اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فان المقدم هو الملزوم والتالي هو اللازم وهكذا كل شرط وجزاء فالشرط ملزوم والجزاء لازم له.

وهذا إذا جعل بصيغة الاقترانى فقيل هذا مصل وكل مصل متطهر فهذا متطهر أو قيل هذا ليس بمتطهر ومن لا يكون متطهرا ليس بمصل فهذا ليس بمصل والقضية الكلية فيه أن كل مصل متطهر وأن كل من ليس بمتطهر فليس بمصل فالسالبة والموجبة كلاهما كليتان وهذه الكلية معروفة بنص الشارع ليست مما عرفت بالعقل ولو كانت مما تعرف بالعقل المجرد لعرفت ب قياس التمثيل مع أنها تصاغ ب قياس التمثيل فيقال هذا مصل فهو متطهر كسائر المصلين أو هذا ليس بمتطهر فليس بمصل كسائر من ليس بمتطهر ثم يبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم كما في الأول.

وكذلك الشرطي المنفصل الذي هو التقسيم والترديد إذا قيل هذا أما أن يكون شفعا أو وترا ونحو ذلك قيل هذا لا يخلو من كونه شفعا أو وترا ولا يجتمع هذا وهذا معا وهو شفع فلا يكون وترا أو هو وتر فلا يكون شفعا وهذه القضية معلومة بالبديهة لكن تصور أفرادها أبين من تصور كليتها فلا يحتاج شيء من أفرادها أن يبين بالقياس الكلى المنطقي فانه أي شيء علم أنه شفع علم أنه ليس بوتر بدون أن يوزن بأمر كلى عنده ولا بقياس على نظيره فلا يحتاج أن يقال وكل شفع فليس بوتر أو كل وتر فليس بشفع.

وهذا كما تقدم التنبيه عليه أن ما يثبتونه بالقضايا الكلية تعلم مفرداتها بدون تلك القضايا بل وتعرف بدون قياس التمثيل فإذا عرف أن هذا الثوب أو غيرة اسود عرف أنه ليس بأبيض بدون أن يقال كل اسود فانه ليس بأبيض وهذه الكلية من أن كل أسود لا يكون أبيض يعرف بدون أن يعرف أن كل ضدين لا يجتمعان ولو أثبت تلك المعينات بهذه الكلية لاحتيج أن يبين أنهما ضدان فانه لا يعلم أنهما

ص: 376

ضدان حتى يعلم أنهما لا يجتمعان وإذا علم أنهما لا يجتمعان أغنى ذلك عن الاستدلال عليه بكونهما ضدين.

فعلم أنه لا يحتاج أن يبين ما يندرج في هذا الكلى لا من الأنواع ولا من الأعيان المعينة به بل العلم بها أبين من العلم بهذه الكلية بل إذا أرادوا أن يبينوا أن الضدين لا يجتمعان قالوا المراد بالضدين هما الوصفان الوجوديان اللذان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض فيعود الأمر إلى تعريفهم مرادهم بهذا اللفظ وأما بيان ما دل عليه من المعاني المعقولة فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بالكلى وكذلك في النقيضين وكذلك في الشرط والمشروط والعلة والمعلول وسائر هذه الأمور الكلية.

إبطال القول باقتران العلة والمعلول في الزمان:

ولهذا من لم يحكم معرفة هذا وإلا التبست عليه المعقولات ودخل عليه غلطهم سواء كانوا قد غلطوا هم في التصور وهو الغالب على أئمتهم أو كانوا يقصدون التغليط كما يفعله بعضهم.

مثال ذلك أنه إذا قيل لهم في مسألة حدوث العالم كيف يكون العالم مفعولا مصنوعا للرب وهو مساوق له أزلا وأبدا مقارن له في الزمان هذا مما يعلم فساده بضرورة العقل فان المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان قالوا بل هذا ممكن وهو أن تقدم العلة على المعلول تقدما عقليا لازما كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم الذي فيها وتقدم الشمس على الشعاع وتقدم الحركة على الصوت الناشئ عنها ثم أن كان ممن تكلم في العلة والمعلول المذكور في الصفات والأحوال وهو يقول العلم علة كون العالم عالما كما يقوله مثبتوا الأحوال من النظار كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي في أول قوليه والقاضي أبي يعلى وأمثالهم فانه قد ألف أن العلة والمعلول متلازمان مقترنان فلا يستنكر مثل هذا هنا

ص: 377

ولهذا غلط بسبب متابعتهم في هذا طوائف من الفقهاء في الفقه كأبي المعالي واتباعه أبي حامد والرافعي وغيرهم فادعوا شيئا خالفوا فيه جميع أئمة الفقه المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ولم يقله الشافعي ولا احد من أئمة أصحابه ولا غيرهم وهو أنه إذا قال لامرأته إذا شربت أو زنيت أو فعلت كذا فأنت طالق وقصده أن يقع بها الطلاق إذا وجد ذلك الشرط أو قال إذا أعطيتني ألفا فأنت طالق أو قال إذا طلقتك فأنت طالق طلقة أخرى أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق أو قال مثل ذلك في العتق فزعموا أن الحكم المعلق بشرط يقع هو والشرط معا في زمن واحد بناء على أن الشرط علة للحكم والمعلول يقارن العلة في الزمان.

وهذا خطأ شرعا ولغة وعقلا أما الشرع فان جميع الأحكام المعلقة بالشروط لا تقع شيء منها إلا عقيب الشروط لا تقع مع الشروط والفروع المنقولة عن الأئمة تبين ذلك وأما لغة فإن الجزاء عند أهل اللغة يكون عقب الشرط وبعده ولا يكون الجزاء مع الشرط في الزمان ولهذا قد يكون الجزاء مما يتأخر زمانه كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وفي النذر إذا قال: إن شفى الله مريضي فعلى صوم سنة فلا يجب عليه الصوم إلا بعد الشفاء لا مقارنا للشفاء ولا في زمن الشفاء وكذلك إذا قال: إن سلم الله مالي الغائب وكذلك إذا قال: من رد عبدي الآبق أو بنى لي هذا الحائط ونحو ذلك وأيضا فهذا يذكر بحرف الفاء والفاء للتعقيب يوجب أن يكون الثاني عقيب الأول لا معه وأما عقلا فلأن الأول هنا كالفاعل

ص: 378

الموجب للثاني ولا يعرف قط أن الفاعل يقارنه مفعوله.

وما ذكروه من اقتران العلة العقلية لمعلولها كالعلم والعالمية فجوابه أنه عند جماهير العقلاء ليس هنا علة ومعلول بل العلم هو العالمية وهذا مذهب جمهور نظار أهل السنة والبدعة وهو نفي الأحوال فلا علة ولا معلول وإن جعلت المعلول الحكم بكونه عالما والخبر عنه بكونه عالما فهذا قد يتأخر عن العلم وعلى قول من أثبت الحال هو يقول أنها ليست موجودة ولا معدومة فليست نظير المعلولات الوجودية.

وأيضا فهؤلاء يقولون أن العالم فاعل للعالمية ولا هو جاعل العالمية ولا هذا عنده من باب تأثير الوجود كالأسباب والعلل فان كونه عالما لازم للعلم بما يلزم العلم أنه علم ليس هذا مثل كون قطع الرقبة سببا للموت ولا كون الأكل سببا للشبع من الأسباب التي خلقها الله فكيف بالأسباب التي يصنعها العباد كقوله إذا زنيت فأنت طالق فهنا علق حادثا بحادث وحكم بكون ذلك الأول سببا للثاني فأين هذا من العلم والعالمية وإنما غرهم الاشتراك في لفظ العلة.

وكذلك المتفلسفة ليس في جميع ما مثلوا به علة فاعله قارنت مفعولها في الزمان فحركة اليد ليست هي الفاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لهما واحد ولكن حركتهما متلازمة لاتصال الخاتم باليد كحركة بعض اليد مع بعض وكما يقال حركت يدي فتحرك الخاتم وكما يقال حركت كفى فتحركت أصابعي وليست حركة الكف فاعلة لحركة الأصابع وإن قدر أنها بعدها لم يسلم اقترانهما في الزمان بل تكون كأجزاء الزمان المتصل بعضها ببعض فانه لا فصل بينهما وإن كان الجزء الثاني متصلا بالأول كذلك أجزاء الحركة كحركة الظل وغيره كل جزء منها يحدث بعد الآخر وفي الزمان الذي يلي حركة الجزء الأول فأما أن يقال الحركتان وجدتا معا وأحدهما فاعلة للأخرى فهذا باطل.

وأيضا فان المعروف أنه إذا قيل حركت يدي فتحرك خاتمي أو المفتاح في

ص: 379

كمى ونحو ذلك إذا تحرك بحركة تخصه مثل أن يكون الخاتم ملقى فإذا حرك يده علق في يده فتحرك وهذه الحركة بعد حركة اليد في الزمان وأما إذا كان الخاتم متصلا بالإصبع ثابتا فيها وإنما يتحرك كما تتحرك الأصابع فالمحرك للجميع واحد ولو كان الإنسان نائما أو ميتا فرفع رجل يده وفيها الخاتم لكانت أيضا متحركة بحركة اليد وهى حركة واحدة شملت الجميع لاتصال بعضه ببعض ليس هنا حركتان إحداهما سبب الأخرى فضلا عن أن تكون فاعلة لها ومن قال في مثل هذا حركت يده فتحرك خاتمه فإنما هو كقوله فتحركت اليد فإنما يريد بذلك أن الحركة شملت الجميع ولم يرد بذلك أن حركة اليد كانت سببا للحركة الأولى ولا نعرف عاقلا يقول هذا ويقصد هذا وإن قدر أنه وجد فليس قوله حجة على سائر العقلاء ومن رفع يد ميت أو نائم وفيها خاتم لم تكن حركة بعض ذلك سببا لبعض بل الجميع موجود في زمان واحد لفاعل واحد وسبب واحد.

فبطل أن يكون في الوجود سبب يقارن مسببه في الزمان بل لا يكون إلا قبله فكيف بالفاعل المستقل وإنما الذي يقارن الشيء في الزمان شرطه وتقدم الواحد على الاثنين هو من هذا الباب لا من باب تقدم الشرط على المشروط وحركة الخاتم مع اليد هي من باب المشروط مع الشرط ليست من باب المفعول مع الفاعل ولكن لفظ العلة فيه إجمال.

وكذلك الصوت مع الحركة فان الصوت يحدث عقيب الحركة وغايته أن يكون معها كالجزء الثاني من الحركة مع الأول والحركة المتصلة والزمان المتصل ليس بعضه مع بعض في الزمان فغاية الصوت مع الحركة أن تكون كذلك وكذلك الشعاع مع ظهور الشمس مع أن الشمس ليست فاعلة للشعاع بل الشعاع يحدث في الأرض إذا قابل الشمس ما ينعكس الشعاع عليه وكذلك الحركة ليست

ص: 380

هي الفاعلة للصوت ولكن الشمس شرط في الشعاع والحركة شرط في الصوت.

وأما فاعل يبدع مفعوله ويكون مقارنا له في الزمان فهذا لا يوجد قط لكن لفظ العلة فيه إجمال فالعلة الفاعلة شيء والعلة التي هي شرط شيء آخر والشرط قد يقارن المشروط في زمانه بخلاف الفاعل فانه لا بد أن يتقدم فعله على المعين وإذا قدر أنه لم يزل فاعلا فكل جزء من أجزاء الفعل مسبوق بجزء آخر وإن كان نوع الفعل لم يزل فلا يتصور أن يكون فعله أو مفعوله معينا مع الله أزلا وأبدا وإن قيل أنه لم يزل فاعلا بمشيئته فدوام نوع الفعل شيء ودوام الفعل المعين والمفعول المعين شيء آخر.

والذي أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول واتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين أن الله خالق كل شيء وأن كل ما سواه فهو مخلوق له وكل مخلوق محدث مسبوق بالعدم وأما تغيير هؤلاء للفظ المحدث وقولهم إنا نقول أنه محدث حدوثا ذاتيا بمعنى أنه معلول فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه فان المحدث معلوم أنه قد كان بعد أن لم يكن وأنه مفعول أحدثه محدث إحداثا وما لم يزل ولا يزال فلا يسميه أحد من العقلاء في لغة من اللغات محدثا بل ولا يقول أحد من العقلاء أنه مفعول مصنوع مخلوق ولا يقول أحد أنه ممكن يمكن وجوده ويمكن عدمه إلا هذه الشرذمة من الفلاسفة.

الميزان العقلي هو المعرفة الفطرية للتماثل والاختلاف:

وهذه الأمور مبسوطة في مواضعها وإنما المقصود هنا أنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية وضعوا ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة وكانوا فيها من المطففين {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ

ص: 381

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس بل هم بمنزلة من قد ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له وتارة عليه ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة.

والميزان التي انزلها الله مع الكتاب حيث قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} هي ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله وخلافه فيسوى بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عبادة وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف.

فان قيل إذا كان هذا مما يعرف بالعقل فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل قيل لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف فان الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية فليست العلوم النبوية مقصورة على مجرد الخبر كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام ويجعلون ما يعلم بالعقل قسيما للعلوم النبوية بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علما وعملا وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه أو كانت الفطرة قد فسدت بما حصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة فأزالت ذلك الفساد وبينت ما كانت الفطرة معرضة عنه حتى صار عند الفطرة معرفة الميزان التي أنزلها الله وبينها رسله.

والقرآن والحديث مملوء من هذا يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة ويبين طرق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي هذا

ص: 382

حكم جائر لا عادل فان فيه تسوية بين المختلفين وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ومن التسوية بين المتماثلين قوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} .

والقرآن مملوء من ذلك لكن ليس هذا موضعه وإنما المقصود التنبيه على جنس الميزان العقلي وانها حق كما ذكر الله في كتابه وليست هي مختصة بمنطق اليونان وإن كان فيه قسط منها بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل وصيغ التمثيل هي الأصل وهي أكمل والميزان القدر المشترك وهو الجامع وهو الحد الأوسط.

وإنزاله تعالى الميزان مع الرسل كإنزاله الإيمان وهو الأمانة معهم والإيمان لم يحصل إلا بهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة وحدثنا عن رفع الأمانة" قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منترا وليس فيه شيء" فقد بين في هذا الحديث

ص: 383

أن الأمانة التي هي الإيمان أنزلها في أصل القلوب فان الجذر هو الأصل وهذا إنما كان بواسطة الرسل لما اخبروا بما اخبروا به فسمع ذلك ف ألهم الله القلوب الإيمان وانزله في القلوب.

وكذلك أنزل الله سبحانه الميزان في القلوب لما بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الأمور حتى تعرف التماثل والاختلاف وتضع من الآلات الحسية ما يحتاج إليه في ذلك كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك وهذا من وضعه تعالى الميزان قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وقال كثير من المفسرين: "هو العدل" وقال بعضهم: "ما يوزن به ويعرف العدل" وهما متلازمان

الوجه الثامن: ليس عندهم برهان على علومهم الفلسفية

إنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا الحسيات والأوليات والمتواترات والمجربات والحدسيات ومعلوم أنه لا دليل على نفى ما سوى هذه القضايا كما تقدم البينة عليه.

ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرهما ما جرت العادة باشتراك بنى آدم فيه وتناقضوا في ذلك وذلك أن بنى آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق وإن لم يكن ما رآه هؤلاء من ذلك هو ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد وأما ما يسمعه بعضهم من كلام

ص: 384

بعض وصوته فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم وكذلك أكثر المرئيات فانه ما من شخص ولا أهل درب ولا مدينة ولا إقليم إلا ويرون من المرئيات ما لا يراه غيره وأما الشم والذوق واللمس فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه بل الذي يشمونه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين كما يتفقون في شرب جنس الماء ومس جنس النساء.

وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس فانه قد يتواتر عند هؤلاء ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ولم يجربوه ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية ويجرب الآخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب.

ثم هم مع هذا يقولون في المنطق أن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره فيقال لهم وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات بل اشتراك الناس في المتواترات أكثر فان الخبر المتواتر ينقله عدد كثير فيكثر السامعون له ويشتركون في سماعه من العدد الكثير لا سيما إذا كان العدد الكثير مئين وألوفا فبطائفة من هؤلاء يحصل العلم المتواتر فإذا نقل هؤلاء لقوم وهؤلاء لقوم وهؤلاء لقوم حصل العلم المتواتر لأمم لا يحصى عددهم إلا الله بخلاف ما يدرك بالحواس فانه يختص بمن أحسه فإذا قال رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانا على غيره ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر فإذا ادعوا أن الخبر المتواتر مختص بالحسيات فلا يقوم به البرهان على المنازع فالحسيات أعظم اختصاصا فيلزم أن لا يقوم بها برهان على المنازع وليس في الحسيات أكثر اشتراكا

ص: 385

الرؤية فان الناس يشتركون في رؤية الأنوار العلوية كالشمس والقمر والكواكب ولكن مواد البرهان لا يختص بذلك.

وإن قالوا الحسيات تحصل ب الاشتراك في جنسها كاشتراك الناس في معرفة الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة وإن لم يكن عين ما أحسه هؤلاء هو عين ما احسه هؤلاء لكن اشتركا في الجنس قيل والمتواترات والمجربات قد يشتركون في جنسها كما تقدم بل وجود الشبع والري عقيب الأكل والشرب هو من المجربات والناس يشتركون في جنسه وكذلك وجود اللذة بذلك وبالجماع وغير ذلك بما إذا فعله الإنسان وجد عقيبه أثرا من الآثار ثم يتكرر ذلك حتى يعلم أن ذاك سبب هذا الأثر فهذا هو التجربيات.

والقضايا الظنية أصلها التجربيات وهو من هذا الباب فان المراد أنه إذا استعمل الدواء الفلاني وجد زوال المرض أو حصل به ألم المرض فوجود المرض بهذا ووجود زواله بهذا هو من التجربيات وكذلك الالام واللذات التي تحصل بالمشمومات والمسموعات والمرئيات والملموسات فان الحس ينال كذا ويرى هذا ويسمع هذا ويذوق هذا ويلمس هذا ثم وجود اللذة في النفس هو من الوجديات المعلومة بالحس الباطن وهو من جنس الحسيات الظاهرة.

وأما الاعتقاد الكلى القائم في النفس من أن هذا الجنس يحصل به اللذة وهذا الجنس يحصل به الألم فهذا من التجربيات إذ الحسيات الظاهرة والباطنة ليس فيها شيء كلى فالقضاء الكلى الذي يقوم بالقلب هو مركب من الحس والعقل وهو التجربيات كما في اعتقاد حصول الشبع والري بما يعرف من المأكولات والمشروبات والموت والمرض بما يعرف من السموم القاتلة والأسباب الممرضة وزوال ذلك بالأسباب المعروفة وكل هذا من القضايا التجربية فالحس به يعرف الأمور المعينة ثم إذا تكررت مرة بعد مرة أدرك العقل أن هذا بسبب القدر المشترك الكلى فقضى فضاء كليا أن هذا يورث اللذة الفلانية وهذا يورث الألم الفلاني.

ص: 386

والحدسيات هي كذلك فبالحس يعرف أعيانها ثم يتكرر فتعلم بالعقل القدر المشترك لكن ذلك التكرر لا يكون بفعل الإنسان بل هو كما يعرف من الأمور السماوية مثل أن يرى اختلاف أنوار القمر عند اختلاف مقابلته للشمس فيحدس أن ضوءه مستفاد منها ومثل ما يرى الثوابت لا تختلف حركتها بالطول والعرض بل حركتها حركة واحدة فيحدس أن فلكها واحد وإلا فيجوز أن يكون لكل واحد فلكا حركته مثل حركة الآخر ومثل ما يرى اختلاف حركات السبعة فيحدس عن اختلاف أفلاكها وهذا يسمى في اللغة تجربيات وكثير منهم أيضا يسميه تجربيات ولا يجعل قسما غير المجربات.

وبالجملة الأمور العادية سواء كان سبب العادة أرادة نفسانية أو قوة طبيعية فالعلم بكونها كلية هو من التجربيات أو الحدسيات أن جعلت نوعا أخر حتى العلم بمعانى اللغات هو من الحدسيات فان الإنسان يسمع لفظ المتكلم ثم قد يعلم مراده المعين بإشارة إليه أو بقرينة أخرى ثم إذا تكرر تكلمه بذلك اللفظ مرة بعد مرة وهو يريد به ذلك المعنى علم أن هذه عادته الإرادية وهو أرادة هذا المعنى بهذا اللفظ إذا قصد إفهام المخاطب وهذا مما يسمونه الحدسيات إذ ليس كلام المتكلم موقوفا على اختيار المستمع وهو من التجربيات العامة فان السمع إنما عرف به الصوت والمعنى المعين قد يفهم أولا بأسباب متعددة أما كون هذا المتكلم من عادته ولغته أنه إذا تكلم بهذا اللفظ أراد ذلك المعنى فهذا من هذا الباب وكذلك سائر ما يعلم من عادات الناس وعادات البهائم وعادات النبات وعادات سائر الأعيان هو من هذا الباب.

وقد يعلم احد الشخصين بعادة نظيره فإذا كان من عادة شخص إذا قال أو فعل أمرا أراد به شيئا ورأى نظيره يقول ذلك أو يفعله فقد اعتقد أنه أراد ما أراد لأن العادة عرف أنها للنوع لا للشخص كعادة الناس في اللغات والأفعال

ص: 387

من العبادات وغير العبادات فإذا رأى الرجل يدخل المسجد قرب صلاة الجمعة وعليه أهبة أهل الصلاة اعتقد أنه يدخله للصلاة لأن هذا عادة هذا النوع وكذلك إذا رأى قاعدا في محل التطهير شارعا فيما يشرع فيه المتطهر عرف أنه يتطهر ثم العاديات قد تنتقض وقد يعلم ما يفعله الفاعل من العلم بصفاته ويعلم صفاته من أفعاله لكن ذاك من باب الاستدلال النظري العقلي وهو الاستدلال بالملزوم على اللازم فليس ذاك من هذا.

كون العلوم الفلسفية من المجربات:

فعامة ما عند الفلاسفة بل وسائر العقلاء من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هو من العلم بعادة ذلك الموجود وهو مما يسمونه الحدسيات وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية والعلوم الفلكية كعلم الهيئة فهو من هذا القسم من المجربات أن كان علما فان هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع فليس عند القوم برهان على المنازع وأيضا فان كون هذه الأجسام الطبيعية جربت وكون الحركات الفلكية جربت لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل والتواتر في هذا قليل وإنما الغاية أن تنتقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب.

وعلم الهيئة الذي هو أعظم علومهم الرياضية العقلية الذي جعله أرسطو أهله هم أئمة الفلاسفة وعلمهم اصل الفلسفة فانه منه تعرف عدد الأفلاك وحركاتها وإلا فالحس لا يرى إلا حركة الأجسام المعينة فيرى الشمس متحركة والقمر متحركا والكواكب متحركة هذا الذي يعلم بالحس وأما كون هذه مذكورة في أفلاك متحركة فهذا إنما يعلمونه من علم الهيئة والعلم بأن بعض الأفلاك فوق بعض علموه بكسوف الأعلى الأسفل فلما رأوا القمر يكسف سائرها استدلوا بذلك على أنه تحت الجميع ولما رأوا زحل لا يكسف شيئا والجميع تكسفه استدلوا بذلك على أنه فوق

ص: 388

الجميع وكذلك كون الثوابت في الثامن ادعوا علمه بأنها لا تكسف شيئا بل قد يكسفها غيرها وأما أفلاكها فاستدلوا عليها بالحركات.

والعلم بقدر حركاتها وبكسوف بعضها لبعض ونحو ذلك مداره على الإرصاد وغايته أن بعض الناس رأى هذا فأخبر به غيره وليس هذا خبرا متواترا بل غالبه خبر واحد ثم أن الأرصاد يقع فيها من الغلط ما هو معروف ولهذا اختلفت أرصاد المتقدمين والمتأخرين في حركة الثوابت هل تقطع درجة فلكية في كل مائة سنة أو في ستة وستين وثلثي سنه كما زعمه أهل الرصد المأموني ولما اخبرهم أهل الهيئة بحركة الفك استدلوا بذلك على أن لها نفسا تحركه بالإرادة لأن حركته دورية ليست طبيعية واستدلوا على عدد النفوس التسعة بالأفلاك التسعة وعلى العقول العشرة بالأفلاك التسعة مع العقل العاشرة الذي هو أول صادر عن واجب الوجود وجعلوا الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى ليخرج ما فيه من الايون والأوضاع وغاية الفلسفة عندهم التشبه بالعلة الأولى بحسب الإمكان فهذا هو العلم الإلهي الذي هو الفلسفة الأولى والحكمة العليا وفيه من المقدمات الضعيفة ما ليس هذا موضع بسطه.

وإنما المقصود أن مبناه على قضايا يخبر بها بعض الناس عن قضايا حدسية فإذا قالوا أن هذه لا يقوم فيها برهان على المنازع والقضايا الطبيعية مبناها على ما ينقله بعض الناس من التجارب فإذا لم يكن في هذا ولا هذا برهان لم يكن عند القوم برهان على ما يختصون به وأما ما يشتركون فيه هم وسائر الناس فهذا ليس مضافا إليهم ولا هو من علمهم فأين البرهان على العلوم الفلسفية مع العلم بأن العاديات التي هي عامة علومهم الكلية منتقضة كما بيناه في غير هذا الموضع فنحن نعلم أنه ليس معهم في عامة ما يدعونه برهانيا برهان يقيني ولكن مع هذا نذكر بعض تناقضهم.

ص: 389

سنة الله التي لا تنتقض بحال:

ولكن العادة التي لا تنتقض بحال ما اخبر الله أنها لا تنتقض كقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَاّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَاّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} فهذه سنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين إذا قاموا بالواجب على الكافرين وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين هي سنة الله التي لا توجد منتقضة قط وكما قال قبل هذا {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} لم يقل هنا ولن تجد لأن هذه سنة شرعية لا ترى بالمشاهدة بل تعلم بالوحي بخلاف نصره للمؤمنين وعقوبته للمنذرين فانه أمر مشاهد فلن يوجد منتقضا.

وقد أراد بعض الملاحدة كالسهروردي المفتول في كتابه المبدأ والمعاد الذي سماه الالواح العمادية أن يجعل له دليلا من القرآن والسنة على إلحاده فاستدل

ص: 390

بهذه الآية على أن العالم لا يتغير بل لا تزال الشمس تطلع وتغرب لأنها عادة الله فيقال له انخراق العادات أمر معلوم بالحس والمشاهدة بالجملة وقد أخبر في غير موضع أنه سبحانه لم يخلق العالم عبثا وباطلا بل لأجل الجزاء فكان هذا من سنته الجميلة وهو جزاؤه الناس بأعمالهم في الدار الآخرة كما أخبر به من نصر أوليائه وعقوبة أعدائه فبعث الناس للجزاء هو من هذه السنة وهو لم يخبر بان كل عادة لا تنتقض بل أخبر عن السنة التي هي عواقب أفعال العباد بإثابته أولياءه ونصرهم على الأعداء فهذه هي التي اخبر لن يوجد لها تبديل ولا تحويل كما قال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} .

وذلك لأن العادة تتبع أرادة الفاعل وإرادة الفاعل الحكيم هي أرادة حكيمة فتسوى بين المتماثلات ولن يوجد لهذه السنة تبديل ولا تحويل وهو إكرام أهل ولايته وطاعته ونصر رسله والذين آمنوا على المكذبين فهذه السنة تقتضيها حكمته سبحانه فلا انتقاض لها بخلاف ما اقتضت حكمته تغييره فذاك تغييره من الحكمة أيضا ومن سنته التي لا يوجد لها تبديل ولا تحويل لكن في هذه الآيات رد على من يجعله يفعل بمجرد أرادة ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فان هؤلاء ليس عندهم له سنة لا تتبدل ولا حكمة تقصد وهذا خلاف النصوص والعقول فإن السنة تقتضي تماثل الآحاد وأن حكم الشيء نظيره فيقتضي التسوية بين المتماثلات وهذا خلاف قولهم.

المتواتر عن الأنبياء أعظم من المتواتر عن الفلاسفة:

والمقصود هنا الكلام على الفلاسفة فنقول معلوم أن من شياطينهم من يقول المتواترات لا يقوم بها البرهان على المنازع ليدخل في ذلك ما تواتر عن الأنبياء صلوات الله عليهم من الآيات والبراهين والمعجزات التي بعثوا بها كما

ص: 391

يدخلون ما اخذ عن الأنبياء من المقبولات.

فيقال لهم من المعلوم بالاضطرار أن تواتر خروج محمد صلى الله عليه وسلم ومجيئه بهذا القرآن أعظم عند أهل الأرض من تواتر وجود الفلاسفة كلهم فضلا عما يخبرون به من القضايا التجربية والحدسية التي استدلوا بها على الطبيعيات والفلكيات وكذلك ما تواتر من سائر معجزاته وما تواتر من أخبار موسى والمسيح صلوات الله عليهما هذا معلوم عند الناس أعظم من تواتر وجود أولئك فضلا عن تواتر ما يخبرون به.

ولهذا صار ظهور الأنبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم بظهور أمرهم عند الخاصة والعامة فان التاريخ يكون بالحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى بعده وقبله كما أن النهار يعرف بطلوع الشمس والشهر بالهلال لأنه نور ظاهر يشترك الناس في رؤيته ولهذا جعل عمر تاريخ المسلمين من الهجرة النبوية فإنها أظهر أحوال الرسول المشهورة وهو خروجه من بلد إلى بلد وبها اعز الله الإسلام وكانت العرب قبل الإسلام تؤرخ بالحوادث المشهورة وكذلك الروم والفرس والقبط وسائر الأمم يؤرخون مثل ذلك فنحن اليوم إذا أردنا أن نعرف زمان واحد من هؤلاء المتفلسفة قلنا كان قبل المسيح بكذا وكذا سنة.

بل أرسطو إنما عرف زمانه لأنه قد عرف أنه كان وزير الاسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان وكانوا مشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويعانون السحر أرسطو وملكه وغيرهما وهذا الاسكندر لما جاء إلى الشام أقام أيام بني إسرائيل غلب عليهم فذكروا أنه طلب أن يكتب في التوراة فقالوا ما يمكن هذا فقال اجعلوا لي تأريخا فصار التاريخ الرومي الذي تؤرخ به اليهود والنصارى مؤرخا به وأرسطو وزيره فعرف وقته من هذا الوجه وكان قبل المسيح بثلثمائة سنة.

ص: 392

والتواريخ التي تختص بها اليهود هي من الأنبياء وأحوال بيت المقدس يقولون في البيت الأول في البيت الثاني.

ثم عرف أرسطوا بهذه الكتب المنسوبة إليه كما عرف بطليموس المجسطى وكما عرف ابقراط وجالينوس بما ينسب إليهما من كتب الطب وإلا فأي شيء هو الذي تواتر عند الناس من أخبار هؤلاء فضلا عن أن يتواتر عنهم ما يذكرونه في كتبهم من القضايا التجربية والحدسية وغاية ما يوجد أن يقول بطلميوس هذا مما رصده فلان وأن يقول جالينوس هذا مما جربته أنا أو ذكر لى فلان أنه جربه أو نحو ذلك من الحكايات التي ملأ بها جالينوس كتابه وليس في هذه شيء من المتواتر وإن قدر أن غيره جرب أيضا فذاك خبر واحد.

ولكن ما يدعى في تجارب الأطباء من الأدوية أقرب إلى التسليم مما يدعونه في تجاربهم الرصدية وذلك لاشتراك كثير من الأطباء في تجربة الدواء الواحد وأيضا فلكثرة وجود ما يدعى فيه التجربة من النبات وتواطؤ المجربين له وليس كذلك ما يدعونه من فلسفتهم فانا رأينا تجارب الأطباء على غير منوالهم وعلمنا صدقها كثيرا وليس القصد إلا بفساد تأصيلهم فقط وإلا فالأطباء في تجاربهم أسد حالا منهم لأن القوم إنما يذكرون دواء موجودا يمكن تجربته كثيرا لوجوده ولكثرة المحتاجين إليه ممن يصيبه ما يقال أن ذلك الدواء يؤثر فيه شفاء والله فاعل ذلك الشفاء في ذلك الدواء فبينهم حينئذ فرق من حيث ما قررته

ص: 393

فالتواتر عزيز عندهم جدا وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه ولا علموا بالارصاد ما ادعوا أنهم علموه وإذا قيل قد اتفق على ذلك رصد فلان وفلان كان غاية ما عندهم أن يذكروا جماعة رصدوا وهذا غاية أن يكون من المتواتر الخاص الذي ينقله طائفة.

فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانا بمثل هذا التواتر ويعظم علم الهيئة والفلسفة ويدعى أنه علم عقلي معلوم بالبرهان.

كون الفلاسفة من أجهل الخلق برب العالمين:

وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله فما الظن بالإلهيات التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين وصار يتعجب تعجبا لا ينقضي ممن يقرن علم هؤلاء بالإلهيات إلى ما جاءت به الأنبياء ويرى أن هذا من جنس من يقرن الحدادين بالملائكة بل من يقرن دهاقين القرى بملوك العالم فهو أقرب إلى العلم والعدل ممن يقرن هؤلاء بالأنبياء فان دهقان القرية متول عليها كتولي الملك على مملكته فله جزء من الملك.

وأما ما جاءت به الأنبياء فلا يعرفه هؤلاء البتة وليسوا قريبين منه بل كفار اليهود والنصارى أعلم بالأمور الإلهية ولست أعنى بذلك ما اختص الأنبياء بعلمه من الوحي الذي لا ينال غيرهم فان هذا ليس من علمهم ولا من علم غيرهم وإنما أعنى العلوم العقلية التي بينها الرسل للناس بالبراهين العقلية في أمر معرفة الرب وتوحيده ومعرفة أسمائه وصفاته وفي النبوات والمعاد وما جاءوا به من مصالح الأعمال التي تورث السعادة في الآخرة فان كثيرا من ذلك قد بينه الرسل بالأدلة العقلية فهذه العقليات الدينية الشرعية الإلهية هي التي لم يشموا رائحتها ولا في علومهم ما يدل عليها وأما ما اختصت الرسل بمعرفته وأخبرت به من الغيب فذاك

ص: 394

أمر أعظم من أن يذكر في ترجيحه على الفلسفة وإنما المقصود الكلام في العلوم العقلية التي تعلم بالأدلة العقلية دع ما جاءت به الأنبياء فانه مرتبة عالية.

وهؤلاء المتكلمون من أهل الملل الذين يدعهم أهل السنة من أهل الملل كالجهمية والمعتزلة وما يفرع على هؤلاء من جميع طوائف الكلام فان الفلاسفة تقول أن هؤلاء أهل جدل ليسوا أصحاب برهان ويجعلون نفوسهم هم أصحاب البرهان ويسمون هؤلاء أهل الجدل ويجعلون أدلتهم من المقاييس الجدلية إذ كانوا قد قسموا القياس خمسة أقسام برهاني وخطابي وجدلي وشعري وسوفسطائي كما سنتكلم عليه أن شاء الله ولهذا تجد ابن سينا وابن رشد وغيرهما من المتفلسفة يجعل هؤلاء أهل الجدل وان مقدماتهم التي يحتجون بها جدلية ليست برهانية ويجعلون أنفسهم أصحاب البرهان.

ونحن لا ننازعهم أن كثيرا مما يتكلمه المتكلمون باطل لكن إذا تكلم بالإنصاف والعدل ونظر في كلام معلمهم الأول أرسطو وأمثاله في الإلهيات وفي كلام من هم عند المسلمين من شر طوائف المتكلمين كالجهمية والمعتزلة مثلا وجد بين ما يقوله هؤلاء المتفلسفة وبين ما يقوله هؤلاء من العلوم التي يقوم عليها البرهان العقلي من الفروق التي تبين فرط جهل أولئك بالنسبة إلى هؤلاء ما لا يمكن ضبطه وهذا كلام أرسطو موجود وكلام هؤلاء موجود فان هؤلاء المتكلمين يتكلمون بالمقدمات البرهانية اليقينية أكثر من أولئك بكثير كثير وأرسطو أكثر ما يبني الأمور الإلهية على مقدمات سوفسطاية في غاية الفساد ولولا أن هذا ليس موضع ذكره لذكرت كلامه في مقالة اللام التي هي آخر علومه بألفاظها وكذلك كلامه في اثولوجيا

ص: 395

وهذا ابن سينا أفضل متأخريهم الذي ضم إلى كلامه في الإلهيات من القواعد التي أخذها عن المتكلمين أكثر مما أخذه عن سلفه الفلاسفة أكثر كلامه فيها مبني على مقدمات سوفسطائية ملبسة ليست خطابية ولا جدلية ولا برهانية مثل كلامه في توحيد الفلاسفة وكلامه في أسرار الآيات وكلامه في قدم العالم كما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

الوجه التاسع: الرد على ابن سينا والرازي في كلامهما في القضايا المشهورة المشتمل على ثمانية أنواع.

الوجه التاسع: أنهم اخرجوا القضايا التي يسمونها الوهميات والتي يسمونها الآراء المحودة عن أن تكون يقينيات وقد بينا في غير هذا الموضع أنها وغيرها من العقليات سواء ولا يجوز التفريق بينهما وان اقتضاء الفطرة لهما واحد.

أما المشهورات فان ابن سينا قال في إشاراته:

أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة مسلمات ومظنونات وما معها ومشبهات بغيرها ومتخيلات والمسلمات أما معتقدات وأما مأخوذات والمعتقدات أصنافها ثلاثة الواجب قبولها والمشهورات والوهميات والواجب قبولها أوليات ومشاهدات ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا قياساتها معها" إلى أن قال:

"فأما المشهورات في هذه الجملة فمنها أيضا هذه الأوليات ونحوها مما يوجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها".

ص: 396

قال: "ومنها الآراء المسمات بالمحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى إنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها ولم يفد الاستقراء ظنه القوى إلى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل والأنفة والحمية وغير ذلك لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان قبيح وان الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه".

قال: "ومن هذا الجنس ما يسبق وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجه العقل الساذج ولو توهم الإنسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع انفعالا نفسانيا أو خلقا لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه وليس كذلك حال قضائه أن الكل أعظم من الجزء".

وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وان كانت صادقة ليست تنسب إلى الأوليات ونحوها إذا لم تكن بينة عند العقل الأول إلا بنظر وان كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب.

والمشهورات أما من الواجبات وأما من التأديبات الصلاحية وما تطابق عليها الشرائع الإلهية وأما خلقيات وانفعاليات وأما استقرائيات وهي أما بحسب الإطلاق وأما بحسب أصحاب صناعة وحكمة.

وقد ذكر الرازي في شرحه للإشارات تقرير الفرق بين الأوليات العقلية والمشهوارات والوهميات:

وقالوا المشهورات تشبه بالأوليات ووجه الفرق ظاهر فان الأولى

ص: 397

هو الذي يكون حكمه على موضوعه في الوجودين حملا أولا لا ثانيا أي لا يكون حمله بتوسط فان المحمول على غيره بتوسط شيء آخر كان بعد حمل ذلك الشيء فلا يكون حمله عليه أولا بل ثانيا.

وهذا إنما يظهر إذا لم يكن للعقل في ذلك الحكم موجب آخر إلا مجرد حضور طرفي الموضوع والمحمول أما إذا كان هناك أسباب أخر من الرقة أو الأنفة أو الحمية أو العادة أو الحمد على النظام الكلى والمصلحة العامة فحينئذ لا يعرف أن الموجب لحكم العقل بذلك هو نفس حضور طرفي الموضوع والمحمول أو ذلك لأسباب أخر.

فإذا أردت أن تمتحن ذلك فعليك أن تقدر نفسك كأنك خلقت في هذه الحال ولا تلتفت إلى مقتضيات العادات وأحكام سائر القوى من الرأفة والرقة وتجرد عما تعودته والفتة من القضايا المصلحية ثم تعرض على نفسك طرفي الموضوع والمحمول فان كان نفس حضورهما يوجب حكم العقل بتلك النسبة كانت القضية أولية وإلا كانت مشهورة وهو مثل قولنا الكذب قبيح فان السبب في شهرته تعلق المصلحة العامة به وقولنا الإيلام قبيح والسبب فيه الرقة والدليل على أن ذلك ليس من الأوليات انا عند الفرض المذكور إذا عرضنا على العقل أن الشيء لا يخلو عن النفي والإثبات وعرضنا عليه أن الكذب قبيح وجدنا العقل جازما بالأول متوقفا في الثاني فعرفنا أن ذلك ليس من المحولات الأولية.

ثم أن المشهور قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا فالصادق قد يكون أوليا وقد لا يكون بل يحتاج في إثباته إلى البرهان فان كل أولى لا بد أن يكون مشهورا لكن لا ينعكس فان السبب في الشهرة أما كونه أوليا أو تعلق النظام به أو الانفعالات النفسانية كما ذكرنا أو الاستقراء العام فان لكل مذهب أمورا مشهورة عندهم ربما لا تكون

ص: 398

مشهورة عند من يخالفهم.

قلت: والكلام على هذا بأنواع متعددة.

النوع الأول: الكلام على تفريقهم بين الأوليات والمشهورات.

النوع الأول: أن التفريق بين الأوليات وغيرها بأن الأوليات ما كان ثبوت الموضوع للمحمول وهو ثبوت الصفة للموصوف والمحكوم به للمحكوم عليه والمخبر به للمخبر عنه كثبوت الخبر للمبتدأ بالتفريق بين الأولى وغيره بان الموضوع أن ثبت للمحمول بنفسه في الوجودين الذهني والخارجي فهو أولى وإن افتقر إلى وسط فليس بأولى فرق بنى على اصل فاسد وهو أن الصفات اللازمة للموصوف منها ما يلزم بنفسه ليس بينه وبين الموصوف وسط في نفس الأمر ومنها ما لا يلزم بنفسه بل بوسط في نفس الأمر يكون ذلك الوسط لازما للموصوف ويكون هذا المحمول لازما لذلك اللازم.

وهذا الفرق قد ذكره غير واحد كالرازي وغيره في الصفات اللازمة وابن سينا ذكره أيضا لكن ابن سينا ذكر أنه إنما أراد ب الوسط الحد الأوسط في القياس وهو ما يقرن باللام في قولك لأنه وهذا هو الدليل والدليل هو وسط في الذهن للمستدل ليس هو وسطا في نفس ثبوت الصفة للموصوف فانه قد يستدل بالمعلول على العلة كما يستدل بالعلة على المعلول ويستدل بأحد المعلولين على الآخر ويستدل بثبوت احد الضدين على انتفاء الآخر وبثبوت احد المتلازمين على تحقق الآخر.

ولا ريب أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما لزومه بين للإنسان والى ما ليس هو بينا بل يفتقر ملزومه إلى دليل وكونه بينا للإنسان وغير بين ليس هو صفة الشيء في نفسه وإنما هو إخبار عن علم الإنسان به وتنبيه له فهو

ص: 399

إخبار عن الوجود الذهني لا الخارجي فما كان بينا للإنسان معلوما له موجودا في ذهنه لم يحتج فيه إلى دليل وما لم يكن كذلك احتاج فيه إلى دليل وكون الشيء بينا وغير بين نسبة وإضافة بين المعلوم والإنسان العالم وهذا يختلف فيه أحوال الناس فقد يتبين لزيد ما لا يتبين لعمرو فان أسباب العلم وقوة الشعور وجودة الأذهان متفاوتة فلا يلزم إذا تبين لإنسان ثبوت بعض الصفات أو لزومها أو اتصاف الموصوف بها أن يتبين ذلك لكل احد ولا يلزم إذا خفي على بعض الناس أن يكون خفيا على كل احد.

وحينئذ فإذا فرق بين الأولى وغيره بان الأولى لا يحتاج إلى وسط فبين كون القضية أولية أو غير أولية فرق إضافي بحسب أحوال الناس فيكون ذلك بمنزلة أن يقال القضية أما أن تكون معلومة وأما أن لا تكون وأما أن تكون ظاهرة وأما أن لا تكون وأما أن تكون واضحة وأما أن لا تكون وأما أن تكون جلية وأما أن لا تكون وأما أن يتصور الإنسان صدقها وأما أن لا يتصور وهذا فرق صحيح فإن كل قضية بالنسبة إلى كل احد أما أن تكون بينة له وأما أن لا تكون بينة له ولكن ليس هذا الفرق يميز بين أجناس القضايا حتى يجعل جنس منها بتمامه من قبيل غير البين وجنس آخر بتمامه من جنس البين فإن هذا الفرق لا يعود إلى صفة لازمة للقضية كما ادعاه من أن اللازم البين ما ثبت للموصوف بلا وسط في نفس الأمر واللازم غير البين ما كان ثبوته بوسط في نفس الأمر بل جميع اللوازم للموصوف ليس بينها وبين الموصوف وسط أصلا في نفس الأمر وإن احتجاج الإنسان في علمه بثبوتها إلى دليل فليس كل ما لا يعلم لزومه للموصوف إلا بدليل لا يكون ثبوته له إلا بوسط كما تقدم بيانه فإن المعلول لازم لعلته المعينة لا يمكن تخلف المعلول عن علته التامة التي دخل فيها وجود الشروط وانتفاء الموانع ومع هذا فقد لا يعلم ثبوت المعلول إلا بوسط بأن يستدل بمعلول آخر على العلة

ص: 400

ثم بالعلة على المعلول كما يستدل بالرائحة التي في الشراب على أنه مسكر ويستدل بالمسكر على التحريم كقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه مسلم وكما يستدل بثبوت كفارة اليمين في الالتزام على أنه يمين ويستدل بأنه يمين على انعقاد الإيلاء به وكذلك بالعكس وكما يستدل بالشعاع المنتشر على طلوع الشمس وبطلوعها على فوات الفجر وكما يستدل بفيء الظلال على زوال الشمس وبزوالها على دخول وقت الظهر فإنها لا تفيء من المغرب إلى المشرق إلا إذا زالت الشمس ولا يسمى فيئا إلا ما كان بعد الزوال والظل اسم عام لما كان في أول النهار وآخره وإن شئت تستدل بتزايد الظلال بعد تناهي قصرها على الزوال وبه على دخول وقت الظهر وكما يستدل بالجدي على جهة الشمال ويستدل بها على جهة الكعبة بأن يعلم أن الكعبة في تلك الأرض من جهة الجنوب والقطب شماليها أما محاذيا للركن الشامي سواء كما في أرض حران وما سامتها وأما مائلا إلى المشرق وجهة الباب فينحرف إلى المغرب كما في أرض العراق ومثل هذا كثير.

وبالجملة فالدليل باتفاق العقلاء اعم من العلة بل كل ملزوم يستلزم غيره يمكن الاستدلال به عليه مطلقا ولا يفرق في هذا بين لازم ولازم ولا يقال من اللوازم ما يلزم بوسط فلا يمكن العلم به إلا بعد ذلك الوسط بل يمكن الاستدلال به عليه كما يمكن الاستدلال بكل ملزوم على لازمه فإن شرط ذلك العلم بالملزوم متى علم أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم.

فقد يكون ما هو لازم بغير وسط عندهم ولا يعرف لزومه إلا بالوسط الذي هو الدليل كالمعلول مع العلة وقد يكون ما يزعمون أنه لازم بوسط ويمكن العلم بلزومه بلا وسط كما ذكروه من المثال في ذلك فزعموا أن اللونية للسواد والجسمية للحيوان ذاتية لثبوتها بلا وسط وزعموا أن الزوجية والفردية للعدد عرضية قالوا لأنا وإن علمنا أن الأربعة زوج والثلاثة فرد فلا يعلم ذلك في كل الأعداد بل يفتقر علمنا بأن المائتين واثنين وستين زوج والإحدى

ص: 401

وستون فرد إلى وسط وهو أن يقسم هذه فإذا انقسمت بقسيمين متساويين علمنا أنها زوج.

وقد بينا في كلامنا على فساد قولهم في الفرق بين الذاتي واللازم أن الفرق لا يعود إلى صفة الموصوف في نفس الأمر بل كون الزوجية والفردية لازمة للزوج والفرد كلزوم العددية للعدد ولزوم اللونية للبياض والسواد ولزوم الجسمية للحيوان ولكن بعض اللوازم بين لبعض الناس أنه لازم لجميع الأفراد وبعضها يخفي ثبوته لبعض الأفراد وهذا فرق يعود إلى الإنسان كما أن من الأشياء ما نراها ومن الأشياء ما لا نراها وكذلك من الأشياء ما نعلمها ومن الأشياء ما لا نعلمها ولا يقتضى ذلك أن يكون ما علمه من الصفات هو أجزاء للماهية تركبت منها لو جاز أن تتركب الماهية من الأوصاف وما لم يعلمه لا يكون أجزاء للماهية فكيف إذا كان تركب الماهية الموجودة في الخارج من صفات قائمة بها ودعوى أن تلك الصفات أجزاء لها مقومة وهي سابقة عليها في غاية الفساد.

والرازي وأمثاله لما شاركوا المنطقيين في هذا الخطأ زعموا أن الوسط الذهني هو وسط خارجي فهذا باطل وما علمت قدماء المنطقيين يقولونه ولا رايته في كلام ابن سينا وأمثاله وإنما الذي رايته في كلامه أن الوسط هو الدليل.

برهان للرازي على هذا التفريق وبيان تناقضه من ثلاثة عشر طريقا:

فالرازي لما ادعى ما ادعاه لزمه تناقض زائد على تناقض المنطقيين.

قال الرازي:

"والبرهان على أن ما يكون لزومه بغير وسط كان بينا هو أن الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم فإذا عقلنا الماهية وجب أن نعقل منها أنها

ص: 402

لما هي هي تقتضى ذلك اللازم وإلا لما كنا عقلنا الماهية لما هي هي وإذا عقلنا منها لما هي مقتضية للازم الفلاني وجب أن نعقل اللازم الفلاني لأن العلم بإضافة أمر إلى أمر يتضمن العلم بكل المضافين".

قال: "فهذا ما قيل في هذا الباب وفيه بحث لا بد من ذكره فان لقائل أن يقول أن ما يحصل لزومه من العلم بالماهية العلم بلازمها القريب وذلك القريب علة قريبة للازم الثاني فحينئذ يجب أن يعلم اللازم الثاني وان يعلم من ذلك الثاني اللازم الثالث فكان يجب أن يكون العلم بالماهية مقتضيا للعلم بجميع لوازمها القريبة والبعيدة وذلك محال فثبت أن العلم بالماهية لا يقتضى العلم بلازمها".

قال: "أيضا فان ماهية العلة غير مقولة بالقياس إلى المعلوم وعلته والعلة مقولة بالقياس إلى المعلول فإذن ماهية العلة مغايرة لعلتها فإذن لا يلزم من العلم بماهية العلة العلم بدليل المعلول.

ثم قال لكنا نقول في جواب هذا الشك العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول إلا بشرط اخر وهو حصول تصور المعلول فان العلية أمر إضافي لا يحصل بمجرد ذات العلة فلا يكون العلم بذات العلة كافيا في العلم بالعلية لكن ذات العلة وذات المعلول هما لذاتيهما يقتضيان الوصف الإضافي وهو العلية والمعلولية لا جرم عند حصول تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب أحدهما إلى الآخر وهذا هو المعنى بقولنا اللازم الذي يكون بغير وسط يكون بين الثبوت.

قال وإذا ثبت أن تصور العلة إنما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب له عند تصور المعلول ثم من الجائز أن لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بثبوت كل

ص: 403

اللوازم القريبة والبعيدة".

قال: "وأما الشك الثاني فهو أيضا خارج لانا لا نسلم أن العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي أن تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول".

قلت: فهذا الكلام الذي زعموا أنه برهان قرروا به الأصول الكلية ل الحد والبرهان وفيه من الفساد والخطأ والتناقض ما يطول وصفه لكن ننبه على بعضه وذلك من طرق.

الطريق الأول:

إن قوله: "الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم" أن عني به أن الماهية الملزومة هي العلة في حصول لازمها في نفس الأمر كما يقتضيه كلامه فهذا من أبطل الباطل فليس كل ما كان لازما لغيره يكون ذلك الغير هو العلة المقتضية لوجوده في نفس الأمر فان العلة نفسها لازمة لمعلولها المعين لا يوجد المعلول المعين إلا بتلك العلة وان قدر وجود ما هو من جنسه بغير تلك العلة فليس هو ذلك المعين والعلة لا تكون معلولة لمعلولها وهي لازمة له.

وكذلك احد المعلولين يلازم المعلول الآخر كالأبوة والبنوة هما متلازمان وليس وجود أحدهما علة للآخر بل كلاهما معلول علة أخرى وكذلك جميع المتلازمات كالناطقية والضاحكية للإنسان متلازمان وليس أحدهما علة للآخر وكذلك الحس والحركة الإرادية متلازمان وليس أحدهما علة الآخر ونظير هذا كثير في الحسيات والعقليات والشرعيات وكل شيء فان نجوم الثريا متلازمة ما دام الفلك موجودا على هذه الصفة وليس بعضها علة لبعض وكذلك الأخلاط الأربعة في جسد ابن ادم متلازمة وليس بعضها علة لبعض وصفات الرب تعالى كعلمه وقدرته متلازمة وليس إحدى الصفتين علة للأخرى والأدلة الدالة على

ص: 404

الصانع جل جلاله وهي جميع مخلوقاته ملزومة لوجوده وليس فيها والعياذ بالله ما يجوز أن يقال أنه علة له.

وبالجملة فكل دليل فهو مستلزم لمدلوله والمدلول لازم للدليل وهذا متفق عليه بين العقلاء ومتفق بين العقلاء على أن الدليل لا يختص بان يكون معلولا لمدلوله بل الدليل اعم وكل من هذين أمر بين مع اتفاق العقلاء عليه فكيف يجوز أن يقال أن كل ما لزم غيره فان الملزوم هو العلة المقتضية للازم وكل مدلول فهو لازم لدليله مع انتفاء هذا الاقتضاء في أكثر الأدلة.

فان قيل: نحن لا نعني اللازم هنا إلا الصفات اللازمة لموصوف وتلك الماهية الموصوفة مقتضية لذاتها لتلك الصفات قيل هذا خطأ من وجوه:

أحدها: أنهم لم يعنوا ذلك كما حكينا كلامهم بل جعلوا القضايا التي ليست أولية هي ما يفتقر إلى هذا الوسط الذي جعلوه هنا معلولا للماهية كما قد حكينا كلامهم وان الأوليات حمل محمولها على موضوعها في الوجودين الذهني والخارجي حملا أوليا بلا وسط فجعلوا الوسط الذهني هو الخارجي والخارجي هو الذي ذكروه هنا وجعلوه معلول الماهية وأيضا فإنهم بهذا فرقوا بين اللازم البين واللازم غير البين.

الوجه الثاني: أن يقال هب أنهم أرادوا الصفات اللازمة للماهية فكل دليل فهو ملزوم لمدلوله فكونه مستلزما لمدلوله صفة له لازمة له وهي على قولهم أما أن تكون بوسط وأما أن تكون بغير وسط فآيات الله المخلوقة وهي العالم جميعه مستلزمة لوجود الرب تعالى ووجوده لازم لها وكونها ملزومة لذلك صفة لها لازمة لا يتصور قط أن يزول عنها هذا اللازم فإنها مفتقرة بالذات إلى الخالق وهذا الفقر لازم لها لا يفارقها البتة وحدوثها دليل على الباري وليست هي التي اقتضت وجوده وكذلك المعلول تقوم به صفات لازمة له وهو وصفاته تستلزم العلة

ص: 405

والمعلول وصفاته من العلة ليس هو علة لصفاته.

الوجه الثالث: أن يقال لا نسلم أن في الموصوفات ما هو علة فاعلة لصفته أصلا بل هو محل لصفاته القائمة به والموصوف أن كان رب العالمين فلا فاعل لصفاته كما لا فاعل لذاته وان كان مخلوقا فالفاعل لذاته هو الفاعل لصفاته أما كون ذاته علة فاعلة لصفاته فهذا باطل قطعا.

ومما يتبين بطلانه أن الكلام في صفاته اللازمة وتلك لا تفارقه ولا يتصور أن يكون فاعلا إلا بعد وجودها فيمتنع كونه هو الموجد لها وأما صفاته المقومة فتلك عندهم هي المقومة لذاته ليست ذاته السابقة لها وهي كالعلة فجعلوا بعض صفاته اللازمة علة لذاته وهي الصفات المقومة وبعضها معلولة وهي اللازمة غير المقومة والقسمان خطأ فليس في صفات الموصوف اللازمة ما هو علة للذات ولا معلول للذات بل هي صفات قائمة بالذات وفاعل الذات فاعل صفاتها أن كانت الذات من الذوات المفعولة والذي خلق الإنسان خلق الحيوانية والناطقية وخلق الضاحكية وغيرها ليس بعض هذه الصفات سابقا لذات الإنسان أو مادة لها ولا علة لها ولا بعضها معلول لها بل هي صفات قائمة بالإنسان لازمة له والذي خلقه خلق هذه الصفات اللازمة له وكذلك سائر المخلوقات.

الوجه الرابع: أن يقال ما تعني بقولك وتلك الماهية الموصوفة مقتضية بصفاتها أن عنيت أنها مستلزمة لها فحينئذ جميع الملزومات كذلك كما تقدم فبطل كونهم أرادوا بعض الملزومات وان عنيت أنها فاعلة للزومها فليس في الماهيات ما يفعل شيئا من صفاتها.

الطريق الثاني:

أن يقال لو سلم أنها مقتضية لذلك اللازم بمعنى أنها علة كما ادعاه أو بمعنى أنها ملزومة لذلك اللازم كما هو الحق في نفس الأمر فان كون الملزوم ملزوما واللازم لازما له هو ثابت لا ريب فيه وأما كون الملزوم فعل اللازم أو علة للازم

ص: 406

فهذا قد يكون في بعض الملزومات كالمعلول المعين اللازم لعلته وإلا فأكثر اللوازم ليست معلولة لملزوماتها وسواء قدر أنها معلولة أو لم يقدر فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام مجمل فان كون الشيء ملزوما لغيره هو أنه متى تحقق الملزوم تحقق اللازم فقوله الماهية لما هي هي مقتضية لذلك اللازم كلام فيه إجمال فان كونها ملزومة حقيقة معقولة فقول القائل لما هي هي يقتضى أن اللزوم قسمان لزوم لما هي هي ولزوم لغير ما هي هي.

فان قيل نعم عندي اللزوم نوعان فاللازم البين الذي لا يفتقر إلى وسط هو اللازم لما هي هي واللازم الذي يفتقر إلى وسط هو اللازم لأجل الوسط لا لما هي هي قيل له الكلام في هذا الفرق فأنت تريد أن تقيم البرهان على أن ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يفتقر إلى دليل بل كان من الأوليات فمجرد تصور طرفي القضية كاف في العلم به والمنازع يقول لك قد يكون اللازم بغير وسط كالعلة مع معلولها لا يعلم إلا بدليل ووسط فيكون وسطا في العلم والذهن لا وسطا في الخارج وأنت قد ادعيت أن كل ما كان مفتقرا إلى وسط في الذهن فانه يفتقر إلى وسط في الوجود وان ما لا يفتقر إلى وسط في الوجود لا يفتقر إلى وسط في الذهن وعلى هذا ادعيت إقامة البرهان.

ونحن نقول مجرد التصور التام لما ادعيته يوجب العلم الضروري بفساده لكن نبين مع ذلك فساد ما دللت به على دعواك كما نبين فساد شبه السوفسطائية وان سموها براهين وهو انك صادرت على المطلوب فجعلت المطلوب مقدمة في إثبات نفسه فانك لم يمكنك الاستدلال حتى أخذت مسلما أن اللوازم تنقسم إلى البين الذي يلزم لما هي هي والى اللازم بوسط الذي يفتقر إلى وسط في نفس الأمر والمنازع لك يقول لا نسلم افتقار شيء من اللوازم إلى وسط في نفس الأمر بل جميع اللوازم يلزم الملزوم نفسه وان كان بعض الملزومات شرطا في البعض كما أن العلم مشروط بالحيوة والإرادة مشروطة بالعلم فليس الشرط وسطا ملزوما للازم الثاني كما

ص: 407

ادعيته بل الذات مستلزمة الجميع ومتى تحققت تحقق الجميع ولا يتحقق شيء منها إلا مع الذات وبعضها لا يتحقق إلا مع بعض بل قد تكون متلازمة كصفات الله تعالى لا يتحقق شيء منها إلا مع الأخرى فحياته لازمة لعلمه وقدرته ومشيئته وكذلك قدرته ملازمة لعلمه وحياته فهي كلها متلازمة وهي أيضا لازمة للذات والذات لازمة لها وليس شيء من الصفات هو وسطا للأخرى كما ادعيته من أن بعض اللوازم لازم للذات وبعضها لازم اللازم وبعضها لازم لازم اللازم بل جميعها لازمة للذات وهي أيضا متلازمة.

والذي ذكرناه من أن بعض الصفات قد يكون شرطا وهو من جنس الصفات وأما الصفات اللازمة للموصوف مطلقا سواء كان هو الخالق أو كان الملزوم مخلوقا كصفات الإنسان اللازمة كلها متلازمة فحيوانية الإنسان وناطقيته وضاحكيته متلازمة لا يوجد واحد منها دون الآخر وان وجدت حيوانية في غيره فتلك حيوانية غير حيوانيتة والفصول والخواص كلها متلازمة كالناطقية والضاحكية وإذا كانت متلازمة وبعضها شرطا في بعض امتنع أن يكون الشرط هو الوسط الذي به يثبت المشروط كما ادعوه لأن ذلك مستلزم أن يكون كل صفة لازمة وسطا للأخرى وان يكون ليس شيء من الصفات اللازمة يلزم بنفسه فيلزم الجمع بين النقيضين فعلم أن كون إحدى الصفتين شرطا في الأخرى لا يقتضى كونها وسطا في الثبوت كما ادعوه وإذا كان المنازع يمنع انقسام اللوازم إلى ما لا يلزم بنفسه وبوسط وبرهانك مبنى على اخذ هذا التقسيم مسلما كنت مصادرا على المطلوب مثبتا للشيء بنفسه.

فان قلت: أنا أقيم هذا البرهان على من يسلم لي من المنطقيين أن من اللوازم ما يلزم بوسط وبغير وسط قيل لك فهذا أيضا خطأ من وجوه: أحدها: أن القياس يكون حينئذ جدليا لا برهانيا وأنت جعلته برهانيا الثاني: أن المنطق الذي هو ميزان العلوم عندكم لا يجوز أن تجعل المقدمات المبينة له جدلية فانه حينئذ لا

ص: 408

يكون علما بل يكون شيئا اتفق بعض الناس على دعواه ونحن نعلم أن كثيرا من الناس يدعون صحة المنطق ولكن أي فائدة في هذا الثالث أن يقال ولو سلم لك هذا التقسيم فالبرهان خطأ كما سيأتي بيانه وخطأه دليل على فساد اصل التقسيم وإذا كان اصل التقسيم خطا كان البرهان باطلا وكان التقسيم باطلا وهو المطلوب.

الطريق الثالث:

أن يقال قولكم فإذا عقلنا الماهية وجب أن نعقل منها أنها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم يقال هذا ممنوع وذلك أن قول القائل عقلنا الماهية وتصورنا الماهية ونحو ذلك من العبارات لفظ مجمل فانه قد يعني به التصور التام والعقل التام الذي يتضمن تصور الملزوم وقد نعني به أنا عقلناها وتصورنا نوعا من العقل والتصور وان لم يكن تاما ولا شك أن مثل هذا لا يستلزم تصور الملزوم فدعواك أن كل عقل للماهية يوجب أن نعقل منها أنها لما هي هي تقتضى ذلك اللازم ممنوع وهو خلاف الواقع فان الناس لا يزالون يعقلون بعض الماهيات نوعا من العقل فلا يعقلون أنها لما هي هي تقتضى اللازم وبالجملة فنحن في هذا المقام يكفينا المنع فان الدعوى ليست بديهية ولم يقم عليها دليلا إلا قوله وإلا لما عقلنا الماهية لما هي هي فان أراد بهذا اللازم المنفي العقل التام الذي هو التصور التام فنحن نسلم ذلك ونقول ليس كل من تصور ماهية ما وعقلها نوعا من العقل والتصور يكون قد عقلها وتصورها عقلا تاما وتصورا تاما وان أراد بهذا اللازم المنفي أنا لا يكون حصل لنا شيء من التصور والعقل فهذا ممنوع.

الطريق الرابع:

أن يقال ما ذكره يستلزم أن لا يعقل شيء من المفردات البسائط ولا يعقل شيء وحده بل كل من عقل شيئا فلا بد أن يعقل لازمه القريب فيكون قد عقل اثنين وتصور اثنين لم يعقل واحدا ولم يتصور واحدا وهذا مناقض لما زعموه من

ص: 409

أن العلم ينقسم إلى تصور وتصديق وان التصور هو التصور الساذج الذي لا يكون معه حكم بشيء أصلا لا بنفي ولا بإثبات ونحن وان كنا قلنا أن مثل هذا ليس بعلم وانه لا يسمى علما إلا ما تضمن العلم بنفي أو إثبات فلا يمتنع أن يتصور الشيء من بعض الوجوه وان لم يتصور أنه ملزوم للوازم له يلزمه بنفسها فقد ثبت أن قوله باطل باتفاق العقلاء

الطريق الخامس:

أن يقال لو كان ما ذكرته صحيحا للزم أن من عقل شيئا عقل لوازم الشيء جميعها فانه إذا عقل الملزوم وجب أن يعقل لازمه الذي بغير وسط ثم عقل ذلك اللازم يوجب عقل الآخر وهلم جرا فيلزم أن يكون قد عقل اللوازم جميعها وهذا كما أنه يبطل حجته فهو يبطل اصل قولهم أن اللازم بغير وسط لا يفتقر إلى دليل في حق احد.

فانه لو كان كذلك لكان من تصور شيئا تصور جميع لوازمه ويلزم أن من عرف الله عرف جميع ما يعلمه الله فيعلم كل شيء لأن علمه سبحانه من لوازم ذاته بل يلزم أن من علم شيئا من مخلوقاته علم كل شيء فان المخلوق مستلزم للخالق والخالق مستلزم لعلمه بكل شيء بل وهو مستلزم لمشيئته ومشيئته مستلزمة لجميع ما خلقه فانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلو كان من علم الملزوم لا بد أن يعلم لازمه لزم أن من علم شيئا فقد علم كل شيء.

وفساد هذا بين مع أن فساد هذه الدعوى اظهر من أن يحتاج إلى دليل لكن إذا عرف شناعة لوازمها كان أدل على قبحها وفسادها وهذا يتضمن السؤال الذي ذكره وقال فيه بحث لا بد من ذكره كما تقدم حكاية لفظه والجواب الذي ذكره عنه باطل وقد تناقض فيه وذلك يتبين بذكر

ص: 410

الطريق السادس:

وهو أن قوله العلم بماهية العلة لا يقتضى العلم بالمعلول إلا بشرط آخر وهو حضور تصور المعلول فيقال المعلول عندكم هنا هو اللازم الأول الذي كان الموصوف علة له في ذاته لم يفتقر في كونه علة له إلى المعلول فان العلة لو افتقرت في كونها علة إلى المعلول لم تكن وحدها علة وللزم تقدم المعلول على علية علته وعلية علته متقدمة على ذاته وهذا دور ممتنع باتفاق العقلاء.

وانتم جعلتم ما كان يفتقر لزومه إلى وسط افتقر العلم به إلى وسط وما لزم بلا وسط علم بلا وسط فإذا جعلتم العلم بلزومه موقوفا على تصور المعلول والعلة والملزوم واللازم جميعا وقلتم لا يعلم اللزوم إلا بعد هذين التصورين واللزوم الخارجي موقوف على العلة وحدها لا على الاثنين بطل قولكم أن الوسط الذهني هو الخارجي فان هذا يتوقف العلم بلزومه على تصورين ولزومه في الخارج إنما هو لازم لواحد لا لاثنين.

الطريق السابع:

قولك في الجواب أن الماهية وحدها لا تكفي في حصول العلية لأن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين كلام باطل سواء كانت العلية أمرا عدميا أو وجوديا فإنها أن كانت عدمية بطل هذا الكلام وان كان أمرا وجوديا فمعلوم أن العلة وحدها هي الموجبة للمعلول وإلا لم تكن علة له بل جزء علة والمعلول لا يكون إلا بعد العلة فإذا كانت وحدها موجبة وهو لا يوجد إلا بوجود العلة علم أنها وحدها توجب المعلول والعلية.

الطريق الثامن:

قولك الأمور الإضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد تعني به في الذهن أو في الخارج فان هذا الموضع فيه التباس أن عنيت أنها لا تتصور إلا بتصور

ص: 411

شيئين فهذا صحيح ولا ريب أن العلية لا تتصور إلا بتصور العلة والمعلول فحصولها في التصور الذهني مشروط بحصول تصور المضافين في الذهن وان عنيت أنها لا توجد في الخارج إلا بالشيئين فهذا باطل بالضرورة واتفاق العقلاء فان ذات الرب وحدها مستلزمة لكل ما يتصف به من الأمور الثبوتية والإضافية وهذا متفق عليه بين المسلمين والفلاسفة وسائر الناس فان كونه خالقا للعالم وربا وفاعلا هو الذي يسمونه علة ومؤثرا والناس متنازعون في الخلق هل هو أمر عدمي وهو نفس المخلوق كما يقوله أكثر المعتزلة والأشعرية أم الخلق زائد على المخلوق كما هو قول جماهير المسلمين وهو قول السلف والأئمة وذكر البخاري أنه قول العلماء مطلقا لم يذكر فيه نزاع وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أنه على كل قول فلا يقول عاقل أن المخلوق أوجب كونه خالقا ولا المعلول جعل العلة علة ولا أنه شرط في ذلك بل الخالق سبحانه هو وحده خلق جميع المخلوقات وكونه خالقا على قول الجمهور حاصل بقدرته ومشيئته عند المسلمين ليس خاصا بالمخلوقات بل خلق المخلوق متقدم عليه في نفس الأمر فكيف يكون الخلق معلولا ل المخلوق وكذلك علية العلة متقدمة على المعلول في نفس الأمر فكيف يكون المعلول جزء علية العلة فقوله أن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا يكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فيه تغليط بسبب الإجمال في قوله فالشيء الواحد لا يكفي في حصولها فان ما ذكره صحيح في الحصول في العلم والتصور وأما الحصول الخارجي فالشيء الواحد قد يكون علة لأمور كثيرة إضافية والعلة علة المعلول وعلة عليتها وهما جميعا حاصلان بالعلة وكذلك الأبوة والبنوة من المتضائفات وهما لازمان للإيلاد فعلة الايلاد أوجبت هذين المتضائفين

ص: 412

فان قيل أراد أن الأمور الإضافية لا توجد إلا بوجود المضافين وان كان أحدهما مستقلا بوجود المضافين قيل عن هذا جوابات أحدها: بأنه لم يرد هذا ولو أراده لم ينفعه وكان خطأ فهذه ثلاثة أجوبة.

وذلك أن كلامه في وجود علية العلة هو حصل بالعلة وحدها أو بها وبالمعلول فلا بد أن يدخل صورة الدعوى في دليله ولفظه تقدم قال فيه وبيانه أن ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لأن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد بل لا بد من حصول كلا المضافين فإذا لم تكن ذات العلة مستقلة باقتضاء حصول صفة العلية لا جرم لم يكن العلم بذات العلة كافيا في حصول العلم بالعلية فقد تبين مراده وهو أن العلة لا تستقل باقتضاء صفة العلية بل المقتضى بحصول هذه الصفة العلة والمعلول جميعا وهذا باطل.

ولو قدر أنه أراد أن الأمور الإضافية تتوقف على وجود المضافين وان لم يكن أحدهما علة بل شرطا أي لا توجد الإضافة إلا مع وجود المضافين لم ينفعه هذا فانه يقول العة أوجبت الأمرين معا ولم يوجد أحدهما إلا مع الآخر ويلزمه أن يقول في العلم مثل ذلك فيقول العلم بالملزوم يوجب العلم باللازم وبالملزوم فان الملزوم هو العلة عندهم في هذا موضع واللازم هو المعلول.

ثم أنه لا يسلم له أن كل إضافة تتوقف على وجود المضافين في أن واحد فان التقدم والسبق ونحو ذلك من الأمور الإضافية توجد قبل وجود احد المضافين وكذلك علية العلة التي ليست تامة توصف بها العلة قبل وجود المعلول وهي التي يسميها الفقهاء الأسباب فيقال ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة والسببية من الأمور الإضافية والنصاب موصوف بها قبل وجوب الزكاة وكذلك يقال هذا موجود قبل هذا أو هو متقدم على هذا أو هو أسبق من هذا

ص: 413

ومثل هذا كثير.

الطريق التاسع:

انه قال: "أن ذات العلة والمعلول يعني اللازم والملزوم بغير وسط عند تصورهما يجب حصول التصديق بانتساب أحدهما إلى الآخر" فيقال هذا أول الدعوى فانه أن أراد بالتصور التام الذي يحصل معه تصور الملزوم فهذا حق ولكن لا ينفعه فانه ادعى أن مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وأيضا فانا نلزمه مثل ذلك في جميع الملزومات أنها متى تصورت تصور اللازم وهو باطل وأيضا فانا نحن نلتزم مثل ذلك في التصور التام فنقول في جميع اللوازم متى تصور الملزوم تصورا تاما يحصل به تصور الملزوم حصل معه العلم بأن هذا لازم وان لم يحصل هذا التصور لم يجب العلم باللازم في شيء من الأمور كما سيأتي ذكر ذلك.

وقوله: "متى تصورنا حقيقة العلة وحقيقة المعلول امتنع عند ذلك أن لا نصدق بثبوت أحدهما للآخر" أن أراد التصور التام فهذا مشترك بين جميع اللوازم وان أراد غيره فالحكم ممنوع وهو إنما ادعى أن مطلق عقل الماهية يوجب ذلك وقد بينا أن عقلها أو تصورها ينقسم إلى تام وغير تام وان ما ذكره إنما يلزم في التام.

الطريق العاشر:

أن يقال أن كنت تعني باللزوم البين هذا فهكذا يفسر به لازم اللازم فيقال إذا تصور اللازم الأول وتصور لازم لازمه امتنع حينئذ أن لا بعرف أن أحدهما علة للآخر فيلزم ما فررت منه وهو أنه متى تصور شيئا تصور جميع لوازمه.

الطريق الحادي عشر:

قوله: "إذا اثبت أن تصور العلة إنما يوجب التصديق بثبوت المعلول القريب عند تصور المعلول ثم من الجائز أن لا يحصل تصور المعلول عند تصور العلة لا جرم لا يلزم من العلم بحقيقة العلة العلم بكل اللوازم القريبة والبعيدة فيقال له أنت فرقت

ص: 414

بين اللوازم القريبة والبعيدة بأن القريبة ما كان بين اللزوم وادعيت أن ما كان بين اللزوم وهو ما ثبت بغير وسط يجب أن يعلم إذا تصور الملزوم فلا يفتقر إلى وسط وقد فسرت ذلك في آخر الأمر بأن المراد إذا تصور الملزوم واللازم جميعا فيجب أن يعلم الملزوم فيقال لك وهكذا أيضا إذا تصور اللازم الأول ولازمه الثاني فقد تصور الملزوم ولازمه القريب فيجب أن يتصور لزومه له وقد كان تصور لزوم الأول فيلزم ما فررت منه من أنه إذا عرف لزوم الأول عرف لزوم سائر اللوازم فإذا شرطت في العلم بلزوم الأول حضورهما جميعا فكذلك فاشرطه في العلم بلزوم الثاني وإن حذفت الشرط في الثاني فاحذفه من الأول حتى يكون الكلام عدلا.

وعلى التقديرين يلزم بطلان الفرق بين لازم ولازم بأن هذا بوسط وبأن هذا بغير وسط إذا فسر الوسط بوسط في نفس الأمر وبطلان ما ادعوه من أن اللازم بغير وسط يجب العلم به بلا دليل وان اللازم بوسط لا يعلم إلا بالعلم بالوسط فما ادعوه من هذا وهذا باطل فبطل ما ذكروه من دليل الفرق بين الأوليات والمشهورات وهو المطلوب.

الطريق الثاني عشر:

انه قال في جواب السؤال الثاني "لا نسلم أن العلية مغايرة لحقيقة ذات العلة لكنا ندعي أن تصور حقيقة العلة مع تصور حقيقة المعلول القريب يوجب العلم بكون العلة علة لذلك المعلول" فيقال هذا كلام مناقض لما تقدم مع تناقضه في نفسه فان العلية أن لم تكن مغايرة لذات العلة بطل قولك أن ماهية العلة وحدها لا تكفي في حصول العلية لأن العلية أمر إضافي والأمور الإضافية لا تكفي في حصولها الشيء الواحد فإنها إذا لم تغايرها لم يكن هناك شيء يكون معلولا لا للعلة ولا لها ولغيرها بل ولا هناك شيء يتصور إذا تصورت العلة والمعلول وان قيل هي مغايرة في العلم لا في الأعيان فإنها أمر عدمي قيل وهذا يبطل قوله فان العدم المحض لا

ص: 415

حصول له فضلا عن أن يفتقر إلى علة لحصوله ولكن تصورها في الذهن يتوقف على المضافين وهذا مما قدمنا أنه حق وهو مبطل لما قاله.

الطريق الثالث عشر:

أنهم قد زعموا أن اللوازم مترتبة في نفسها بالذات مستلزمة للأول والثاني مستلزم للثالث والثالث للرابع وان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا لا يحتاج إلى دليل وقد تناقض تفسيره لذلك لتناقض القول في نفسه فيقال له أي شيء قلته في لزوم الأول للملزوم الأول يقال في اللازم الثاني للأول سواء بسواء من كل وجه وحينئذ فأي شيء فسرت به العلم بلزوم الأول لا يفتقر إلى وسط يلزمك مثله في الثاني فيكون موجب برهانك أن من علم شيئا علم جميع لوازمه وهذا في غاية الفساد.

فصل: برهان آخر للرازي على هذا التفريق.

ثم ذكر برهانا آخر على ما ادعاه من أن ما كان لزومه بغير وسط كان بينا فقال: "برهان آخر وهو أنا إذا عقلنا ماهية فانه تبقى بعض لوازمها مجهولة ويمكننا تعرف تلك اللوازم المجهولة فلولا وجود لوازم بينه الثبوت للشيء وإلا لزم التسلسل وأما عدم تعرف تلك اللوازم وكلاهما باطلان".

قال: "وهذا البرهان كاف في إثبات اصل المقصود من أن الصفات اللازمة في نفسها يلزم بعضها بوسط في نفس الأمر وبعضها بغير وسط وإنما يدل هذا على أن الإنسان قد يتبين له لزوم بعض اللوازم بلا دليل وبعضها لا يتبين إلا بدليل.

وهذا لا ريب فيه لكن الدليل كل ما كان مستلزما للمدلول لا يختص بما يكون علة للمدلول ولا بعض اللوازم في نفس الأمر علة لبعض ولا كل ما كان بينا لزيد يجب أن يكون بينا لعمرو.

فتبين أن الفرق الذي ذكره بين الأوليات والمشهورات من أن الأولى هو الذي يكون حمله على موضوعه أولا في الوجودين حملا ثانيا غلط لا يستقيم إلا

ص: 416

في الوجود الخارجي فانه ليس في اللوازم ترتيب حتى يكون بعضها أولا وبعضها ثانيا ولا في الذهن فان الوسط إنما هو الدليل فيعود الفرق إلى أن الأوليات ما لا يفتقر إلى دليل والنظريات ما يفتقر إلى دليل وهذا كلام صحيح متفق عليه لا يحتاج إلى ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية أولية ونظرية هو من الأمور الإضافية فقد تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار تمام التصور فمتى تصور الشيء تصورا أتم من تصور غيره تصور من لوازمه ما لم يتصوره ذو التصور الناقص فلم يحتج في معرفته بتلك اللوازم إلى وسط واحتاج صاحب التصور الناقص إلى وسط وأيضا فهذا لا يوجب كون المشهورات ليست يقينية كما سنذكره أن شاء الله.

رد ابن سينا تفريقهم بين الصفات الذاتية واللازمة:

ولفظ ابن سينا في إشاراته قال:

"وأما اللازم غير المقوم يخص باسم اللازم فان كان المقوم أيضا لازما فهو الذي يصحب الماهية ولا يكون جزءا منها مثل كون المثلث مساوي الزوايا القائمتين".

قال: "وأمثال هذا أن كان لزومها بغير وسط كانت معلومة واجبة اللزوم وكانت ممتنعة الرفع من الوهم مع كونها غير مقومة وان كان لها وسط بين يبين به علمت واجبة به".

قال: "وأعني بالوسط ما يقرن بقولنا لأنه كذا وهذا الوسط أن كان مقوما للشيء لم يكن اللازم مقوما له لأن مقوم المقوم مقوم بل كان لازما له أيضا فان احتاج إلى وسط تسلسل إلى غير نهاية فلم يكن وسطا وان لم يحتج فهناك لازم بين اللزوم بلا وسط وان كان الوسط لازما متقدما واحتاج إلى توسط لازم آخر أو مقوم غير منته من ذلك إلى لازم بلا وسط تسلسل إلى غير النهاية فلا بد في كل حال من

ص: 417

لازم بغير وسط وقد بان أنه ممتنع الرفع في الوهم فلا يلتفت إذا إلى ما يقال أن كل ما ليس بمقوم فقد يصح رفعه من الوهم ومن أمثلة كون كل عدد مساويا للآخر أو مفاوتا.

قلت: مقصوده بهذا الرد على من قال من المنطقيين أن الفرق بين الصفة الذاتية والعرضية اللازمة أن ما ليس بذاتي يمكن رفعه في الوهم فيمكن تصور الموصوف بدون تصوره بخلاف الذاتي فتبين أن اللوازم لا بد أن تنتهي إلى لازم بين لا يفتقر إلى وسط وذاك يمتنع رفعه في الوهم إذا تصور الموصوف وهذا الذي قاله جيد وهو يبطل الفرق الذي هو عمدتهم.

ولهم فرق ثان بأن الذاتي ما لا يفتقر إلى علة واللازم ما يفتقر إلى علة والعلة هي الوسط وهذا الفرق افسد من الذي قبله فان كون بعض الصفات اللازمة تفتقر إلى علة دون بعض باطل ثم سواء قيل يفتقر إلى علة أو وسط وسواء جعل ذلك هو الدليل أو هو أيضا علة لثبوته في الخارج فان من اللوازم ما لا يفتقر إلى علة فبطل هذا الفرق الثاني.

والفرق الثالث التقدم في الذهن أو في الخارج وهو أن الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف إلا بعد تصوره بخلاف اللازم العرضي فانه متصور بعد تصور الملزوم والذاتي هو المقوم وهذا الفرق أيضا فاسد فان الصفة لا تتقدم على الموصوف في الخارج أصلا وأما في الذهن فقد تتصور الصفة والموصوف جميعا فلا يتقدم تصور الصفة وبتقدير التقدم فهذا يختلف باختلاف التصور التام والناقص لا باختلاف اللوازم نفسها.

فعلى هذه الفروق الثلاثة أو أحدها يعتمدون حتى الذين صاروا يجعلون المنطق في أول أصول الفقه من المتأخرين هذا عمدتهم كما يذكر ذلك الآمدي وابن الحاجب وغيرهما وكلها باطلة أما التقدم الخارجي فمن المعلوم بصريح العقل

ص: 418

أن الصفة القائمة بالموصوف والعرض القائم بالجوهر لا يعقل تقدمه عليه بوجه من الوجوه بل إذا اعتبر تقدم عقلي أو غيره فالذات متقدمة على الصفات.

وأما في التصور فالتصور مراتب متعددة يكون مجملا ومفصلا فالإنسان قد يخطر له الإنسان ولا يستحضر شيئا من صفاته فهذا تصوره تصورا مجملا وقد يخطر له مع ذلك أنه ناطق كما قد يخطر له مع ذلك أنه ضاحك وإذا تصور الحيوان قد يخطر له أنه حساس كما قد يخطر له أنه متحرك بالإرادة وكما يخطر له أنه متألم أو متلذذ وانه يحب ويبغض وإذا تصور أن الإنسان حيوان ناطق ولم يتصور الحيوان مفصلا لم يكن قد تصور الإنسان مفصلا فما من صفة لازمة إلا ويمكن وجودها في التصور المفصل وحذفها في التصور المجمل.

وحينئذ فقول القائل: "أن الذاتي ما لا يتصور الموصوف إلا بعد تصوره" إن ادعاه في كل تصور فهذا باطل وهو ممن يسلم بطلانه فانه يقول: "قولك عن الإنسان أنه حيوان ناطق حمد تام يفيد تصور حقيقته" ومع هذا لم يتصور الذاتيات مفصلة فانه لم يستحضر في ذهنه أن الحيوان هو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة فثبت أنهم يجعلونه متصور الحقيقة بدون استحضار الذاتيات على وجه التفصيل فلا يجب في كل ذاتي أن يتقدم تصوره المفصل.

وأما التصور المجمل فلا يجب فيه استحضار شيء من الصفات وتصور الإنسان مجملا كتصور الحيوان مجملا ومعلوم أن الموصوف يشاركه غيره في صفات ويفارقه في صفات فإذا لم يجب ذكر جميع الصفات المشتركة على وجه التفصيل فدعوى الاكتفاء ببعضها دون بعض تحكم محض وإذا كانت حقيقة الإنسان عندهم متصورة بدون تصور الصفات الذاتية المشتركة على وجه التفصيل علم أن ما ذكروه من أن

ص: 419

الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف بدونه باطل وان اكتفوا بالتصور المجمل فمن تصور الإنسان مطلقا فقد دخل في جميع ذلك صفاته وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا الكلام على ما فرقوا به بين الأوليات والمشهورات من أن الأوليات ليس بين الموصوف وصفته وسط في نفس الأمر بخلاف غيره وقد تبين بطلان هذا الفرق طردا وعكسا وانه قد يكون من اللوازم التي لا وسط لها في نفس الأمر ما يفتقر إلى دليل ومن اللوازم التي يدعون افتقارها إلى وسط ما يعلم ثبوته بلا دليل وان التفريق بين اللوازم بوسط في نفس الأمر باطل وان الوسط الذي هو الدليل يختلف باختلاف أحوال الناس ليس هو أمرا لازما للقضايا فهذه عدة أوجه من هذا الطريق الأول.

النوع الثاني: لا دليل على دعواهم أن المشهورات ليست من اليقينيات:

النوع الثاني: أن يقال المراد ب المشهورات عندهم هي القضايا العلمية كلها مثل كون العدل حسنا والظلم قبيحا والعلم حسنا والجهل قبيحا والصدق حسنا والكذب قبيحا والإحسان حسنا ونحو ذلك من الأمور التي تنازع الناس هل حسنها وقبحها بالعقل أم لا.

المثبتة والنفاة للحسن والقبح العقليين:

وأكثر الطوائف على إثبات الحسن والقبح العقليين لكن لا يثبتونه كما يثبته نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم بل القائلون بالتحسين والتقبيح من أهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول به من الطوائف الأربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه المعتزلة أهل السنة ويقولون مع هذا بإثبات الحسن والقبح العقليين وهذا قول الحنفية ونقلوه أيضا عن أبي حنيفة نفسه وهو قول كثير من المالكية والشافعية والحنبلية كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وغيرهما

ص: 420

من أئمة أصحاب احمد كأبي علي بن أبي هريرة وأبي بكر القفال الشاشي وغيرهما من الشافعية وكذلك من أصحاب مالك وكذلك أهل الحديث كأبي نضر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما.

بل هؤلاء ذكروا أن نفي ذلك هو من البدع التي حدثت في الإسلام في زمن أبي الحسن الأشعري لما ناظر المعتزلة في القدر بطريق الجهم بن صفوان ونحوه من أئمة الجبر فاحتاج إلى هذا النفي قالوا وإلا فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله احد من سلف الأمة ولا أئمتها بل ما يؤخذ من كلام الأئمة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره وبيان ما فيما أمر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة.

والنفاة ليس لهم حجة في النفي أصلا وقد استقصى أبو الحسن الآمدي ما ذكروه من الحجج وبين أنها عامتها فاسدة وذكر هو حجة اضعف من غيرها وهو أن الحسن والقبح عرض والعرض لا يقوم بالعرض فان إثبات هذا لا

ص: 421

يحتاج إلى قيام العرض بالعرض كما توصف الأعراض بالصفات وجميع ذلك قائم بالعين الموصوفة فنقول هذا سواد شديد وهذه حركة سريعة وبطيئة وهم يسلمون أن كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص أو ملائما للفاعل أو منافرا له قد يعلم بالعقل وهذه صفات للفعل وهي قائمة بالموصوف.

ومن الناس من يظن أن الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف وان معنى كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه وليس الأمر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا في حال قبيحا في حال كما يكون نافعا ومحبوبا في حال وضارا وبغيضا في حال والحسن والقبح يرجع إلى هذا وكذلك يكون حسنا في حال وسيئا في حال باعتبار تغير الصفات.

والحسن والقبح من أفعال العباد يرجع إلى كون الأفعال نافعة لهم وضارة لهم وهذا مما لا ريب فيه أنه يعرف بالعقل ولهذا اختار الرازي في آخر أمره أن الحسن والقبح العقليين ثابتان في أفعال العباد وأما إثبات ذلك في حق الله تعالى فهو مبني على معنى محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وفرحه بتوبة التائب ونحو ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهل ذلك صفات ليست هي الإرادة كما اتفق عليه السلف والأئمة أو ذلك هو الإرادة بعينها كما يقوله من يقوله من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم.

بيان أن قضايا التحسين والتقبيح من أعظم اليقينيات:

والمقصود هنا ذكر هذه القضايا المشهورة من بني ادم كلهم كقولهم العدل حسن وجميل وصاحبه يستحق المدح والكرامة والظلم قبيح مذموم سيء وصاحبه يستحق الذم والإهانة فان هؤلاء نفوا كونها من اليقينيات وهذا يستلزم أن لا يقول الفلاسفة بالحسن والقبح العقليين إذ لم يكن في العقل قضية برهانية عقلية ومن الناس

ص: 422

من حكى عنهم القول بذلك والتحقيق أنهم في ذلك متنازعون مضطربون كما في أمثال ذلك.

فنقول دعوى المدعي أن هذه القضايا ليست من اليقينيات دعوى باطلة بل هذه من أعظم اليقينيات المعلومة بالعقل وذلك أن التصديق مسبوق بالتصور فينبغي أن ننظر معنى قولنا العدل حسن والظلم قبيح ثم ننظر في ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع ولنتكلم في عدل الناس وظلمهم.

فنقول الناس إذا قالوا العدل حسن والظلم قبيح فهم يعنون بهذا أن العدل محبوب للفطرة يحصل لها بوجوده لذة وفرح نافع لصاحبه ولغير صاحبه يحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس وإذا قالوا الظلم قبيح فهم يعنون به أنه ضار لصاحبه ولغير صاحبه وانه بغيض يحصل به الألم والغم وما تتعذب به النفوس ومعلوم أن هذه القضايا هي في علم الناس لها بالفطرة وبالتجربة أعظم من أكثر قضايا الطب مثل كون السقمونيا تسهل الصفراء فلم كانت التجربيات يقينية وهذه التي هي اشهر منها وقد جربها الناس أكثر من تلك لا تكون يقينية مع أن المجربين لها أكثر واعلم واصدق وجزئياتها في العالم أكثر من جزئيات تلك والمخبرون بذلك عنها أيضا أكثر واعلم واصدق.

فان الإنسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والإحسان والسرور بذلك ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل والناس الذين وصل إليهم ذلك والذين لم يصل إليهم ذلك يجدون في أنفسهم من اللذة والفرح والسرور بعدل العادل وبصدق الصادق وعلم العالم وإحسان المحسن ما لا يجدونه في الظلم والكذب والجهل والإساءة ولهذا يجدون في أنفسهم محبة لمن فعل ذلك وثناء عليه ودعاء له وهم مفطورون على محبة ذلك واللذة به لا يمكنهم دفع ذلك من أنفسهم كما فطروا على وجود اللذة ب الأكل والشرب والألم بالجوع والعطش فلم كانت تلك القضايا من اليقينيات المعلومة بالحس والعقل كالتجربة وغيرها ولم تكن هذه من القضايا

ص: 423

العقلية المعلومة أيضا بالحس والعقل والأمر فيها أعظم واللذة التي توجد بهذه لذة روحانية عقلية شريفة والإنسان كلما كمل عقله كانت هذه اللذة أحب إليه من تلك اللذة.

ثم الفلاسفة اثبتوا معاد الأرواح واللذة العقلية وهي مبنية على هذه القضايا التي سموها المشهورات فان لم تكن معلومة كان ما أثبتوه من ذلك ليس فيه شيء من العلم بل يقولون ما يقوله غيرهم من أن اللذات الباطنة أقوى واشرف من اللذات الظاهرة ويدعون الضرورة في إثبات لذة وراء اللذات الحسية الظاهرة وإذا كانت اللذة أما إدراك الملائم كما قد يزعمونه أو هي تابعة ولازمة للإدراك الملائم كما يقوله غيرهم وهو الصحيح فمعلوم أن العلم والعدل والصدق والإحسان ملائم لبني آدم فيكونوا ملتذين بذلك بل يكون التذاذهم بذلك أعظم من غيره وهذا معنى كون الفعل حسنا ومعنى كونه قبيحا ضد ذلك.

وإذا تصور معنى الحسن والقبح علم أن هذه المشهورات من أعظم اليقينيات فإنها ما اتفقت عليها الأمم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه أعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه وقد يعيش طوائف من الناس زمانا لا تخطر لهم القضايا الكلية العقلية التي جعلوها مبادئ العلم كقول القائل النفي والإثبات لا يجتمعان وان يعلم أن هذا الشيء المعين إذا كان موجودا لم يكن معدوما لكن قد لا تخطر لهم القضية الكلية بل وقد لا يخطر لهم تقدير اجتماع وجوده وعدمه فان هذا التقدير ممتنع فلا يخطر لأكثر الناس ولا توجد طائفة إلا وهي تحسن العدل والصدق والعلم وتقبح ضد ذلك.

وأيضا فالحكمة عندهم وعند سائر الأمم نوعان علم وعمل وهذه الحكمة عند المسلمين قال مالك رحمه الله: "الحكمة معرفة الدين والعمل به" ولذلك قال ابن قتيبة: "الحكمة عند العرب العلم والعمل" والحكمة العملية عندهم وعند غيرهم

ص: 424

تتضمن علم الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدنية وبنى ذلك كله على هذه القضايا المشهورة بل وكل عمل يؤمر به فلا بد فيه من العدل فالعدل مأمور به في جميع الأعمال والظلم منهي عنه نهيا مطلقا.

ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكلميه فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ومثل هذا كثير.

وكذلك تحريم الظلم بمجموع أنواعه كثير في النصوص الإلهية حتى في الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني اغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم

ص: 425

وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

والمقصود أن الحكمة العملية كلها مبنية على هذه القضايا والنفس لها قوتان العلمية والعملية والعمل لا بد أن يكون بعلم فان لم يكن هذه القضايا معلومة لم يكن شيء من الحكمة العملية معلوما ولا شيء من الأعمال والأخلاق المحمودة والمذمومة معلوما وهذا مع ما فيه من المناقضة لما يقولونه هو وغيرهم من العقلاء فهو مكابرة ظاهرة مع أنا في هذا النوع من الكلام لم نقصد إقامة الدليل على فساد قولهم بل صورناه لتعلم حقيقته وطالبناهم بالدليل على أن هذه المشورات ليست يقينية فإنهم لم يذكروا على ذلك دليلا أصلا وسنتكلم على ما توهموه دليلا من

النوع الثالث: في بيان كون المشهورات من جملة القضايا الواجب قبولها

قولهم هذه القضايا ليست بأولية لما ذكروه من الفرق بين الأولى

ص: 426

وغيره قد تقدم بطلان هذا الفرق ولكن نحن نسلم أن من القضايا ما يكون بديهيا أوليا لبعض الناس أو لكلهم ويكون مجرد تصور طرفى القضية موجبا للحكم لكن ليس علة ذلك كون المحمول لازما للموضوع بلا وسط في نفس الأمر كما ذكر ذلك الرازي ونحوه وإن كان هذا لم نجده في كلام ابن سينا وأمثاله بل الوسط عنده الدليل كما تقدم بل ولا ذاك أمرا لازما للقضية بل قد تكون بديهية لزيد ونظرية لعمرو بحسب المتصور لتمامه ونقضانه.

وهذا مما قد تنازع فيه بعضهم ويدعون أن كل ما كان أوليا لزيد فهو أولى لغيره كما يدل كلامهم على ذلك وأن الادميين يشتركون في العلم بكل ما هو أولى لكل شخص منهم لانها موجب العقل والعقل مشترك وهذا القول أن كنا نبطله ونقول القضية قد تكون ضرورية لزيد نظرية لعمرو كذلك غير ذلك من القضايا قد تكون المتواترة لهذا محسوسة لهذا والمجربة لهذا معلومة بالاستدلال لهذا ونحو ذلك.

وإذا كان كذلك فنحن ليس مقصودنا أن هذه القضايا المشهورة أولية أو ليست أولية ولا أنها أوليه لجميع الناس أو لبعضهم بل المقصود أنها من جملة القضايا الواجب قبولها التي يجب التصديق بها وتكون مادة للبرهان فإنهم جعلوا المعتقدات ثلاثة الواجب قبوها والمشهورات والوهميات والمقصود هنا أن المشهورات العامة مثل حسن العدل وقبح الظلم هي من الواجب قبولها وإن لم نقل هي أولية فان الواجب قبولها قد جعلوها اصناقا أوليات ومشاهدات ومجربات وحدسيات ومتواترات وقضايا قياساتها معها.

وهذه المشهورات إذا لم تكن أولية لم تكن بدون كثير من المجربات والحدسيات ونحو ذلك فتكون مادة للبرهان اليقيني كالمتواترات والمجربات فان المتواترات

ص: 427

والمجربات ليست أوليات وهذه المشهورات ابلغ من كثير من المجربات والعلم بها والتصديق بها في نفوس الأمم قاطبة أقوى واثبت من العلم بكثير من المجربات والمتواترات التي تواترت عند بعض الأمم دون بعض.

وبهذا الاعتبار فلم يذكروا حجة على أنها ليست من اليقينيات فان قولهم موجب الحكم بها العادات أو الاحوال النفسانية أو مصلحة النظام هذا لا ينافي كونها يقينية بل هو دليل على ذلك كما سنذكره أن شاء الله تعالى فان المجربات كلها عاديات فكونها عاديات لا ينافى كونها يقينيات وكذلك كون قوى النفس تقتضيها فان هذا يدل على الملائمة والمنافرة وهذا هو معنى الحسن والقبح فلذلك لا ينافى كونها قضايا صادقة معلومة الصدق وكذلك كون نظام العالم مربوطا بها لا ينافى كونها صادقة معلومة فليس فيما ذكروه ما ينافي العلم بها ولا يدعى كونها أولية بالمعنى الذي ذكروه كما لا يدعى ذلك في المجربات والمتواترات وذلك لا ينافى كونها من اليقينيات.

النوع الرابع: خاصة العقل والفطرة استحسان الحسن واستقباح القبيح

النوع الرابع: أن يقال قوله: "لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه إلى قوله لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح وأن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه".

فيقال لا نسلم هذا فان هذا دعوى مجردة وقوله سلب مال الإنسان قبيح لفظ عام وقد يسلب ماله بعدل وقد يسلب بظلم والكلام فيما إذا علم الإنسان أنه سلب ماله ظلما مثل أن يعلم أن الاثنين المشتركين في المال من كل وجه استولى أحدهما على الآخر فسلبه أكثر من نصف ونحو ذلك فان عقول العقلاء قاطبة

ص: 428

وأوهامهم تقضى بقبح هذا.

أما الوهم فانه قد فسره بقوله في الاشارات:

"وأيضا فان الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معانى جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها.

فهذه القوة التي سموها الوهم هي التي يدرك بها الإنسان صداقة الصديق وعدواة العدو ويدرك بها كل من الزوجين ما في الزوج الآخر من الأمر المحبوب وبها يميل الإنسان إلى غيره وبها ينفر عنه ولهذا يقولون: "اكبر حاكم على النفوس الوهم".

ومعلوم أن هذه القوة تميل إلى الشخص الذي تعلم أنه عادل صادق محسن وتنفر عن الشخص الذي تعلم أنه كاذب ظالم مسئ بل تميل إلى هذا الشخص وإن لم يصل إليها من جهته نفع وضرر والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعنى بكونه حسنا وهذا البغض هو المعنى بكونه قبيحا كما يقال في الصورة الظاهرة هذا حسن وهذا قبيح فالحسن الظاهر ما يحسه الحس الظاهر والحسن الباطن ما يحسه القلب الباطن وإذا كانت النفوس مجبولة على محبة هذا وبغض هذا فهذا معنى الحسن والقبح فكيف يقال لو ترك الإنسان وحسه وعقله ووهمه لم يقض بها ونفوس بنى آدم مجبولة على استحسان هذا واستقباح هذا؟

وأما العقل فأخص صفات العقل عند الإنسان أن يعلم الإنسان ما ينفعه ويفعله ويعلم ما يضره ويتركه والمراد بالحسن هو النافع والمراد بالقبيح هو الضار فكيف يقال أن عقل الإنسان لا يميز بين الحسن وبين القبيح وهل أعظم تفاضل

ص: 429

العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا بل وجنس الناس يميل إلى من يتصف بالصفات الجميلة وينفر عمن يتصف بالقبائح فذاك يميل جنس الإنسان إلى سمع كلامه ورؤيته وهذا ينفر عن رؤيته وسمع كلامه.

النوع الخامس: في بيان كون هذه المشهورات معلومة بالفطرة

النوع الخامس: أن مبادىء هذه القضايا أمر ضروري في النفوس فإنها مفطورة على حب ما يلائمها وبغض ما يضرها والمراد بالحسن ما يلائمها وبالقبيح ما يضرها وإذا كانت مفطورة على حب هذا وبغض هذا فالمراد بقولنا حسن أنه ملائم نافع والمراد بقولنا قبيح أنه ضار مؤذ وهذا أمر فطري فعلم أن الناس بفطرتهم يعلمون هذه القضايا المشهورة بينهم.

النوع السادس: في بيان كون الموجب لاعتقاد هذه المشهورات من لوازم الإنسانية

النوع السادس: أن يقال: لو لم يكن لهذه القضايا مبدأ في قوى الإنسان لم تشتهر في جميع الأمم فان المشهور في جميع الأمم لا بد أن يكون له موجب في الفطرة المشتركة بين جميع الأمم فعلم أن الموجب لاعتقاد هذه القضايا أمر اشتركت فيه الأمم وذلك لا يكون إلا من لوازم الإنسانية فان الأمم لم تشترك كلها في غير لوازم الإنسانية.

النوع السابع: رد ابن سينا على نفسه في قوله بأن المشهورات لا تدرك بقوى النفس

النوع السابع: قوله: "لو توهم الإنسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع انفعالا نفسانيا ولا خلقا لم يقض في أمثاله بشيء" هذا ممنوع بل أن كان تام العقل علم أن العلم والعدل والصدق ينفعه وتصلح به نفسه وتلتذ وأن الكذب والظلم يضره ويفسد نفسه ويؤلمها ولو قدر أنه لا يعلم به أحد غير

ص: 430

علم العقل بأنه إذا ظلم أبغضه الناس وعادوه وغير علمه بأن الله يعاقبه.

فان قيل الإنسان يلتذ بما يراه قبيحا كما قد يلتذ بما يأخذه ظلما فيأكله ويشربه قيل وإن التذ بدنه فان قلبه وعقله لا يلتذ بذلك بل يلتذ إذا عدل وإن قدر أنه يلتذ به لذة حاضرة فانه يتألم بقبح عاقبته عنده وإذا لم يتألم فلغيبة عقله عن إدراك المؤلم كما قد يحصل للسكران وغيره من أمور تؤلمه ولا يتألم بها لغيبة عقله عن إدراكها.

وهذا مما قد ذكره ابن سينا نفسه فقال في نمط البهجة والسعادة.

"إنه قد يسبق إلى الأوهام العامية أن اللذات القوية المستعلية هي الحسية وأن ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقة".

وقد يمكن أن ينبه من جملتهم من له تمييز ما فيقال له أليس ألذ ما يصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها وانتم تعلمون أن المتمكن من غلبة ما ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له منكوح ومطعوم فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية وقد يعرض منكوح ومطعوم لطالب العفة والرياسة مع صحة جسمه في صحبة حشمه فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة فيكون مراعاة الحشمة آثر وألذ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم.

وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بإنعام يصيبون موضعه أثروه على الالتذاذ بمشتهى حيواني متنافس فيه وآثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به

ص: 431

وكذلك فان كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ويستحقر هول الموت ومفاجأة العطب عند مناجزة المبارزين وربما اقتحم الواحد على عدد دهم ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقعه من لذة الحمد ولو بعد الموت كأن تلك تصل إليه وهو ميت.

فقد بان أن اللذات الباطنة مستعلية على اللذات الحسية وليس ذلك في العاقل فقط بل وفي العجم من الحيوانات فان من كلاب الصيد ما يقنص الصيد على الجوع ثم يمسكه على صاحبه وربما حمله إليه والراضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها وربما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها.

فإذا كانت اللذات الباطنة أعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقلية فما قولك في العقلية.

فيقال له هذا كله حجة عليك في قولك أن استحسان الحسن واستقباح القبيح لا يدركه الإنسان لا بحسه ولا بعقله ولا بوهمه وأنت قد ذكرت أن الإنسان بل الحيوان يلتذ بالحمد والثناء ويلتذ بالغلبة ويلتذ بالإنعام والإحسان والرحمة أعظم من التذاذة بالأكل والشرب ومعلوم أن لذة الأكل والشرب مما يعلم بالحس الظاهر فهذه اللذه الباطنة يعلم بالحس الباطن وبالوهم فكيف تقول أن الحسن والوهم والعقل لا يعلم به حسن الحسن وقبح القبيح وما ذكرته من التذاذ الإنسان بالإيثار وتركه الطعام الشهي مراعاة الحشمة ونحو ذلك إنما هو لكونه يرى ذاك قبيحا وهذا جميلا ويلتذ بفعل الجميل لذة باطنة يحس بها فكيف يقال أن الحسن والقبيح لا ينال بشيء من قوى النفس وإنما يصدق به لمجرد الشهرة فقط من غير موجب حسي ولا وهمي ولا عقلي

ص: 432

النوع الثامن: رد قولهم أن العقل بمجرده لا يقضى في المشهورات بشيء

النوع الثامن: أنه قال:

"تنبيه أن اللذة هي إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والألم هو إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك نقص وشر من حيث هو كذلك وقد يختلف الخير والشر بحسب القياس فالشيء الذي هو عند الشهوة خير هو مثل المطعم الملائم والملمس الملائم والذي هو عند الغضب خير فهو الغلبة والذي عند العقل فتارة وباعتبار فالحق وتارة وباعتبار فالجميل ومن العقليات نيل الشكر ووفور الحمد والمدح والكرامة وبالجملة فان همم ذوي العقول في ذلك مختلفة.

وكل خير بالقياس إلى شيء ما فهو الكمال الذي يختص به وينحوه باستعداده الأول وكل لذة فإنها تتعلق بأمرين بكمال خيري وبادراك له من حيث هو كذلك".

فيقال: هذا تصريح بان العقل يحب الحق ويلتذ به ويحب الجميل ويلتذ به وان محبة الحمد والشكر والكرم هي من العقليات وهذا صحيح فان للإنسان قوتين قوة علمية فهي تحب الحق وقوة عملية فهي تحب الجميل والجميل هو الحسن والقبيح ضده.

وتفريقه بين الحق والجميل هو بحسب اصطلاحه وإلا فاللغة التي جاء بها القرآن وتكلم بها الرسول لفظ الحق منها يتضمن النوعين كقوله صلى الله عليه وسلم:

ص: 433

"كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق" وقوله: "الوتر حق فمن شاء أوتر بركعة ومن شاء أوتر بثلاث ومن شاء أوتر بخمس أو سبع" ومثل هذا موجود في غير موضع من كلامه ومن هذا الباب قوله: "اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

...

...ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ} ومعلوم أن ما عبد من دونه موجود مخلوق ولكن عبادته باطلة وهو باطل لأن المقصود منه بالعبادة معدوم ولهذا يقول الفقهاء بطلت العبادة وبطل العقد وقد قال تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} والإبطال ضد الإحقاق وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}

ص: 434

وقد بين الله أن الأعمال السيئة القبيحة باطلة في مثل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} فهذا الثاني مثل ما يصدر عن الجهل البسيط والأول الجهل المركب وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} فهذا مثل إبطال العمل بالمن والأذى وبالرياء والكفر والمقصود أنها لم تبق نافعة بخلاف العمل الحق المحمود فانه نافع ومنه قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .

وبالجملة فما ذكروه تصريح منهم بأن العقل يميز بين الجميل والقبيح وأن العاقل يلتذ بالجميل ويتألم بالقبيح وأن الجميل كمال وخير للقوة العاقلة من حيث هي كذلك وهذا مناقض لقولهم أن العقل بمجرده لا يقضى في أمثال هذا بشيء لا بحسن ولا بقبيح وهكذا تناقضوا في نفس الوهميات كما سنذكره إن شاء الله وسبب ذلك أنهم تارة يقولون بموجب الفطرة فيكون كلامهم صحيحا وتارة يقولون بمقتضى الفطرة الفاسدة التي قد فسدت بالاعتقادات الفاسدة فيقولون باطلا.

كون الوجود كله مبنيا على الحق والعدل:

وهذه القضايا التي اتفقت الأمم عليها مثل حسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم داخلة في مسمى الحق كما تقدم في كلام الله ورسوله وكذلك كلام العقلاء قاطبة يسمون هذا كله حقا ويقولون لصاحب الدين: "له عليه حق"

ص: 435

وأعطيه حقه وإذا حكم بينهما بعدل وقسم بإنصاف يقولون هذا حق وإن حكم بخلاف ذلك يقولون هذا ظلم وجور وإذا لم يكن عنده شيء حق بل هو يدعى الباطل فيسمون الصدق حقا والكذب باطلا كما في كلام الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لصاحب الحق مقالا " وفي لفظ: "إن لصاحب الحق اللسان واليد " وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك لما طلب غريمه أي كعب: " دع الشطر" قال: قد فعلت يا رسول الله قال "قم فاقضه ".

وذلك لأن الأمور الحسنة تتضمن أمرا موجودا ماضيا ومستقبلا ففيها وجود وكمال الوجود والأمور القبيحة تتضمن عدما ماضيا أو مستقبلا ففيها نفى الوجود أو كمال الوجود فان كان موجودا كان العلم بوجوده حقا مطابقا له والأخبار عن وجوده كذلك وأما الكذب المتضمن نفيه والجهل الذي هو عدم العلم به فهو عدم علم وعدم قول حق بل الكذب من جنس الجهل المركب وأيضا العلم كمال وجود والصدق كمال وجود والجهل والكذب صفة نقص.

وكذلك العدل كالتسوية بين المتماثلين والتفصيل بين المختلفين هو تحقيق الأمور على ما هي عليه وتكميلها ولهذا مبنى الوجود كله على العدل حتى في المطاعم والملابس والأبنية ونحو ذلك فالبيت المبنى أن لم تكن حيطانه معتدلة بل كان بعضها أطول من بعض طولا فاحشا أو كان منحنيا غير مستقيم فسد السقف وكذلك الثياب أن لم تكن على مقدار لا بسيها معادلة لهم وإلا لم ينتفعوا بها وكذلك ما يضع من المطاعم والأدوية أن لم أجزاؤه معتدلة في الصفة والقدر في الكم والكيف فسد وكان مضرا لا نافعا فهذا موجود في الأمور المحسوسة أن العدل فيها حسن أي تحصل به المنفعة والمصلحة والظلم فيها قبيح أي تحصل به المضرة والفساد

ص: 436

وعلم الأخلاق والسياسة عندهم وعند سائر العقلاء مبنى على العدل ولهذا جعلوا كمال الإنسان العملى أربعة أمور أصلاح الشهوة والغضب والعدل بينهما وفي العلم بذلك والذي ذكروه هو بعض صفات الكمال التي أرسل الله بها رسله وانزل بها كتبه والاقتصار على ما ذكروه لا تحصل به السعادة التي هي كمال الإنسان ولكنه من الأمور المعتبرة فيها.

وقد بسطنا هذه الأمور وبينا قصور فلسفتهم عن حصول السعادة والكمال بها وأنها ابلغ في القصور من دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل وان ما عندهم إذا أخذ منه الحق وترك الباطل كان جزءا من الأجزاء المحصلة للسعادة وفيه أمور كثيرة باطلة وأمور هي حق لكن ليس مما تحصل به السعادة والكمال.

الوجه العاشر: لا حجة على تكذيبهم بأخبار الأنبياء الخارجة عن قياسهم

الوجه العاشر: أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة أيضا وأمثالها فان ادخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفى ما لم يدركوه ولم يبق لهم ضابط وهذا موضع ينبغي تحقيقه.

وهم أعني ابن سينا واتباعه جعلوا القضايا من جهة ما يصدق بها المستعملة بين القائسن ومن يجرى مجراهم أربعة أصناف الأول الواجب قبولها التي هي مادة البرهان وهي الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه.

وإذا كان كذلك لم يلزم أن كل ما لم يدخل في قياسهم أن لا يكون معلوما وحينئذ

ص: 437

فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ فانه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذه الطرق لم يمكن وزنها بهذه الآلة وعامة هؤلاء المنطقيون يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم وهذا في غاية الجهل لا سيما أن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء فيكونون ممن قال الله فيه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وهذا صار بمنزلة المنجم إذا كذب بعلم الطب أو الطبيب إذا كذب بعلم النجوم والناس أعداء ما جهلوا ومن جهل شيئا عاداه.

فإذا كان اشرف العلوم لا سبيل إلى معرفتها بطريقهم لزم أمران أحدهما أنه لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه والثاني أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة

الوجه الحادي عشر: بطلان قولهم: "إن البرهاني والخطابي والجدلى هي المذكورة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} .

الوجه الحادي عشر: أنهم يجعلون ما هو حق وعلم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل ليس بعلم علما وذلك أن هؤلاء جعلوا أجناس الأقيسة باعتبار مادتها خمسة البرهان والخطابة والجدل والشعر والسفسطة أصله سوفسطيقا وكذلك سائرها لها أسماء باليونانية ولسائر أجناس المنطق لكنها ألفاظ طويلة مثل قاطيغورياس وانولوطيقا إلى غير ذلك واللغة العربية أوجز وأبين فهي أكمل بيانا وأوجز لفظا.

ويجعلون القياس باعتبار صورته قسمين الاقتراني والاستثنائي لتأليفه من الحمليات والشرطيات المتصلة والمنفصلة ويتكلمون قبل القياس في القضايا وأقسامها

ص: 438

وأحكامها مثل النقيض والعكس المستوى وعكس النقيض فإنها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فإذا قيل كل إنسان حيوان فنقيضه باطل وهو أنه ليس شيء من الإنسان حيوان وصح عكسه وهو أن بعض الحيوان إنسان وعكس نقيضه وهو أن ما ليس بحيوان فليس بإنسان فإن التناقض اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى وإن العكس جعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا مع بقاء الصدق وعكس النقيض والسالبة هو أن يجعل الموضوع محمولا مع جعل الإيجاب سلبا.

وأقسامها: الكلية والجزئية والموجبة والسالبة أي العامة والخاصة والمثبتة والنافية وقبل ذلك يتكلمون في مفردات القضية وهي المعاني المفردة مثل الكلام في الكلي والجزئي والذاتي والعرضي وقبل ذلك في الألفاظ الدالة على المعاني كدلالة المطابقة والتضمن والالتزام.

والمقصود في هذا كله هو الحد والقياس والقياس هو المطلوب الأعظم والمطلوب الأعظم من أنواع القياس هو القياس البرهاني قالوا والبرهان ما كانت مواده يقينية وهي التي يجب قبولها كما تقدم وأما الخطابي فمواده هي المشهورات التي تصلح لخطاب الجمهور سواء كانت علمية أو ظنية والجدلي هو الذي مواده ما يسلمها المجادل سواء كانت علمية أو ظنية أو مشهورة أو غير مشهورة وهذا أحسن ما تفسر به هذه الأصناف الثلاثة.

وكثير منهم يقول بل البرهاني ما كانت مقدماته واجبة القبول كما تقدم والجدلي ما كانت مقدماته مشهورة سواء كانت حقا أو باطلا أو واجبة أو ممتنعة أو ممكنة والخطابي ما كانت مقدماته ظنية كيف كانت فالخطابي هو الذي يفيد الظن مطلقا سواء كانت مقدماته مسلمة أو مشهورة والجدلي ما يكون مقدماته مشهورة

ص: 439

ومنهم من يقول بل البرهاني مؤلف من الواجبات والجدلي من الأكثريات والخطابي من المتساويات والشعري من الممتنعات وهذا ليس بشيء فان الشعري ما تشعر به النفس فيقصد به تنفيرها وترغيبها وترهيبها وقد يكون صدقا وقد يكون كذبا ولكن المقصود بالشعريات تحريك النفس لا لإفادتها علما.

وابن سينا رد هذا القول فقال: "ولا يلفت إلى ما يقال من أن البرهانيات واجبة والجدلية ممكنة أكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا مثل فيها ولا قدرة والشعرية كاذبة ممتنعة فليس الاعتبار بذلك ولا أشار إليه صاحب المنطق لكنه مع رده لهذا ذكر القول الثاني فقال القياسات البرهانية مؤلفة من المقدمات الواجب قبولها والجدلية مؤلفة من المشهورات والتقريرية ما كانت واجبة أو ممكنة أو ممتنعة والخطابية مؤلفة من المظنونات والمقبولات التي ليست بمشهورة وما يشبهها كيف كانت ولو ممتنعة والشعرية مؤلفة من المقدمات المخيلة من حيث يشعر من يخيلها كانت صادقة أو كاذبة وأما السوفسطائية فهي التي تستعمل الشبهة ويشاركها في ذلك الممتحنة المجربة على سبيل التغليط فان كان التشبيه بالواجبات ونحو استعمالها سمي صاحبها سوفسطائيا وان كان بالمشهورات سمي صاحبها مشاغبا ومماريا والمشاغب بإزاء الجدلي والسوفسطائي بإزاء الحليم".

وهذا الذي ذكره في مواد الجدلي والخطابي ضعيف أيضا بل مواد الجدلي هي المسلمات التي يسلمها المجادل سواء كانت مشهورة أو لم تكن وسواء كانت حقا أو باطلا ومواد الخطابي هي المشهورات ونحوها التي يخاطب بها الجمهور وكل من ذلك يكون برهانيا وغير برهاني ويكون صادقا وكاذبا هذا مراد قدمائهم وهو أشبه باللفظ والتقسيم.

وأما كون الخطابيات هي الظنيات مطلقا فهذا خطا عند القوم فانه إذا كانت الجدليات قد تكون علمية فالخطابيات التي هي اشرف منها أولى أنها قد تكون علمية فان

ص: 440

الخطاب ارفع من الجدل عندهم والتفسير الأول تفسير محققيهم المتقدمين فانه ليس من شرط الخطابي ولا الجدلي أن لا يكون علميا كما أنه ليس من شرط البرهاني أن لا يخاطب به الجمهور وان لا يجادل به المنازع بل البرهاني إذا كان مشهورا صلح للبرهان والخطابة والجدلي إذا كان برهانيا صلح للبرهان والجدل وإذا كانت القضية مبرهنة وهي مشهورة مسلمة من المناظر صلحت للبرهان والخطابة والجدل بخلاف الشعري فان المقصود به تحريك النفس ليس المراد به أن يفيد لا علما ولا ظنا فلهذا لم يدخل مع الثلاثة وأيضا فالخطابيات يراد بها خطاب الجمهور وهذا إنما يكون بالقضايا المشهورة عند الجمهور وان كانت ظنية وإذا كانت علمية فهو أجود فليس من شرطها أن لا تكون علمية وأما الجدلي فإنما هو خطاب لناس معينين فإذا سلموا تلك المقدمات حصل مقصود الجدلي وان لم تكن مشهورة.

وأما السوفسطائي فهو المشبه الملبس وهو الباطل الذي اخرج في صورة الحق والمراد بيان فساده وإلا فليس لأحد أن يتكلم به فانه كذب في صورة صدق وباطل في صورة حق لكن المقصود بذكره تعريفه وامتحان الأذهان بحل شبه السوفسطائية.

ثم قد يقول من يقول من حذاقهم ومن يروم أن يقرن بين طريقهم وطريق الأنبياء أن الأقسام الثلاثة البرهان والجدل والخطابة هي المذكورة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

كلام أهل الفلسفة في الأنبياء عليهم السلام:

ثم يقولون أن ما جاءت به الأنبياء فهو من جنس الخطابة التي قصد بها خطاب الجمهور لم يقصد به تعريف الحقائق هذا في الأمور العملية فان مبادىء الأمور العلمية قد لا يجعلونها من البرهانيات بل من المشهورات كالعلم بحسن العدل وقبح

ص: 441

الظلم وأما العلميات فيقولون أن الأنبياء لم يذكروا حقائق الأمور في معرفة الله والمعاد وإنما اخبروا الجمهور بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا بذلك الحق ويقولون أنهم أرادوا بخطابهم للناس أن يعتقدوا الأمور على خلاف ما هي عليه وهي من جنس الكذب لمصلحة الناس وهم يعلمون هذه المرتبة ثم النبي عندهم هل يعرف الأمور العلمية فيه نزاع بينهم.

وهم يعظمون محمدا صلى الله عليه وسلم يقولون لم يأت إلى العالم ناموس أفضل من ناموسه ويفضله كثير منهم على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف عليه وهم حائرون في أمور الأنبياء ولهذا كلامهم في الأنبياء في غاية الاضطراب ولم ينقلوا عن أرسطو واتباعه فيهم شيئا بل ذكروا من كلام أفلاطون وغيره في النواميس ما جعلوا به واضعي النواميس من اليونان وغيرهم من جنس الأنبياء الذين ذكرهم الله في القران ونحن نعلم أن الرسل جميعهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} والنواميس التي يذكرونها فيها شرك لا يأمر به أحد من أنبياء الله فعلم أن كل من ذكروه من واضعي النواميس المخالفة لما اتفقت عليه الرسل فليس بني ولا متبع لنبي بل هو من جنس واضعي النواميس من ملوك الكفار ووزرائهم وعقلائهم وعلمائهم وعبادهم.

وهم وان عظموا الأنبياء ونواميسهم فلأجل أنهم أقاموا قانون العدل الذي لا تقوم مصلحة العالم إلا به ويوجبون طاعة الأنبياء والعمل بنواميسهم وهي الشرائع التي جاؤوا بها ولكنهم لم يأتوا بالأمور العلمية بل بالعمليات النافعة والعلميات عندهم أما أن تكون التي علمها وما أمكنه إظهارها بل اظهر ما يخالف الحق عنده لمصلحة الجمهور وأما أنه لم يعلمها وإلا فهم يجوزون للرجل أن يتمسك بأي ناموس كان ولا يوجبون اتباع نبي بعينه لا محمد ولا غيره إلا من جهة مصلحة دنياهم بذلك

ص: 442

لا لأنه يعذب في الآخرة على مخالفة شريعة محمد أو غيره.

ولهذا لما ظهرت الترك الكفار وأراد من أراد منهم أن يدخل في الإسلام قبل ظهور الإسلام عليهم أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل فان ذاك لسانه عربي ولا يحتاجون إلى شريعته ونحو هذا الكلام يبين أن الشريعة التي جاء بها محمد لا يحتاج إليها مثلكم وأمثالكم وقد قيل أن الذي أراد الدخول في الإسلام وقال له منجمه هذا هو هولاكو ولما قدم هولاكو الشام وتقلد القضاء من جهته بعض قضاة الشام الذين كانوا يعظمون صوفية الفلاسفة كابن عربي ونحوه ودخل إلى البلد أخذ يثني على ملك الكفار ويعظمه ويذكر ما يذكر من فضائله بزعمه فقال له بعض الحاضرين يا ليته كان مسلما فقال القاضي وأي حاجة لهذا إلى الإسلام سواء كان مسلما أو لم يكن وهذا بناء على هذا الأصل.

فالنبي عندهم يشبه من بعض الوجوه أئمة المذاهب عند المتكلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي وداود بن علي وغير هؤلاء من أئمة الفقهاء

ص: 443

فان المتكلمين يعظمون هؤلاء في علم الشريعة العملية والقضايا الفقهية وأما في الكلام وأصول الدين مثل مسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوات والمعاد فلا يلتزمون موافقة هؤلاء بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك وقد يقولون أنهم وان علموا ذلك لكن لم يبسطوا القول فيه ولم يبينوه كما فعل ذلك شيوخ المتكلمين.

فالنبي عند هؤلاء المتفلسفة يشبه المجتهد المتبوع عند المتكلمين ولهذا يقول من يقرنهم بالأنبياء كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم اتفقت الأنبياء والحكماء أو يقولون الأنبياء والفلاسفة كما يقول الأصوليون اتفق الفقهاء والمتكلمون وهذا قول الفقهاء والمتكلمين ونحو ذلك والذين يعظمونهم يريدون التوفيق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الأنبياء كما تقدم أنهم يجعلون الأقيسة الثلاثة هي المذكورة في صورة النحل ويجعلون الملائكة هي هي العقول والنفوس ومنهم طائفة ادعت كثرة الملائكة كأبي البركات صاحب المعتبر وهؤلاء أقرب عندهم فان الأنبياء صرحوا بكثرة الملائكة وقد يجعلون الجن والشياطين هي قوى النفوس الصالحة والفلسفة وقد بسط القول عليهم في غير هذا الموضع وبين أن الملائكة التي أخبرت بها الرسل من ابعد الأشياء عما يدعونه من العقول والنفوس وان الجن والشياطين أحياء ناطقون موجودون ليسوا أعراضا قائمة بغيرها.

الكلام على جعلهم الأقيسة الثلاثة من القران:

والمقصود هنا كلامهم في المنطق فنقول قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ

ص: 444

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ليس المراد به ما يذكونه من القياس البرهاني والخطابي والجدلي فان الأقيسة التي هي عندهم برهانية قد تقدم بعض وصفها وأنها لا تفيد قط إلا أمرا كليا لا يدل على شيء معين وتلك الكليات غالبها إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان والذي جاء به الرسول أمران خبر وأمر.

فأما الخبر فانه اخبر عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وهذا أمر يعترفون هم أنه لا يعرف ببرهانهم وما اخبر به الرسول عن ربه عز وجل فهم من ابعد الناس عن معرفته وكفار اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أقرب إلى الرسول فيه منهم إليه وكذلك ما اخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والحنة والنار ليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وليس المراد بالعرش الفلك التاسع ولا بالكرسي الثامن كما قد بسط في موضع آخر ولو قدر أنه كذلك فليس هذا مما يعلم بالقياس المنطقي.

والرسول اخبر عن أمور معينة مثل نوح وخطابه لقومه وأحواله المعينة ومثل إبراهيم وأحواله المعينة ومثل موسى وعيسى وأحوالهما المعينة وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره فان أقيستهم لا تفيد إلا أمورا كلية وهذه أمور خاصة.

وكذلك اخبر عما كان وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة حتى اخبر عن التتر بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين ذلف الأنوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة" فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على ادمي معين أو امة معينة فضلا عن أن يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة

ص: 445

وكذلك قوله الثابت في الصحيح: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضيء بها أعناق الإبل ببصرى" وهذه النار قد خرجت قبل مجيء أكثر الكفار إلى بغداد سنة خمس وخمسين وستمائة وقد تواتر عن أهل بصرى أنهم رأوا ببصرى أعناق الإبل من ضوء تلك النار وخبر هذه النار مشهور متواتر بعد أن خرجت بجبال الحجاز وكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم وفزع لها الناس فزعا شديدا فهل يدل قياس برهاني أو غير برهاني على هذا الأمر المعين ويخبر به المخبر قبل حدوثه بأكثر من ستمائة وخمسين سنة فان هذا اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيام النبوة وأبو هريرة إنما اسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أقل من أربع سنين فأخباره كلها متأخرة.

وكذلك سائر ما اخبر به من الأمور الماضية والمستقبلة والأمور الحاضرة مما يعلمون هم أنه يمتنع أن يعرف ذلك بالقياس البرهاني وغيره فان ذاك إنما يدل على أمر مطلق كلي لا على شيء معين.

وأما العمليات التي أمر بها فهم وان ادعوا أن ما عندهم من الحكمة الخلفية والمنزلة والمدنية تشبه ما جاء به من الشريعة العملية فهذا من أعظم البهتان وذاك أن حكمتهم العملية إنما مبناها على أنهم عرفوا أن النفس لها قوة الشهوة والغضب الشهوة لجلب

ص: 446

الملائم والغضب لدفع المنافي فجعلوا الحكمة الخلقية مبناها على ذلك فقالوا ينبغي تهذيب الشهوة والغضب لكون كل منهما بين الإفراط والتفريط وهذا يسمى عفة وهذا يسمى شجاعة والتعديل بينهما عدلا وهذه الثلث تطلب لتكميل النفس بالحكمة النظرية العلمية فصار الكمال عندهم هذه الأمور العفة والشجاعة والعدل والعلم.

وقد تكلم في هذا طوائف من الداخلين في الإسلام واستشهدوا على ذلك بما وجدوه في القران والحديث وكلام السلف في مدح هذه الأمور والذين صنفوا في الأخلاق والأعمال على طريق هؤلاء مثل كتاب موازين الأعمال لأبي حامد ومثل أصحاب رسائل إخوان الصفا ومثل كتب محمد بن يوسف العامري وغيره يبنون كلامهم على هذا الأصل.

لكن غلطوا فان مراد الله ورسوله بالعلم الذي يمدحه ليس هو العلم النظري الذي هو عند فلاسفة اليونان بل الحكمة: "اسم يجمع العلم والعمل به في كل امة" قال ابن قتيبة وغيره: "الحكمة عند العرب العلم والعمل به" وسئل مالك عن الحكمة؟ فقال: "هو معرفة الدين والعمل به" وكل امة لها حكمة بحسب علمها ودينها فالهند لهم حكمة مع أنهم مشركون كفار والعرب قبل الإسلام كانت لهم حكمة وكان فيهم حكماء العرب مع كونهم مشركين يعبدون الأوثان فكذلك اليونان لهم حكمة كحكمتهم.

وحكماء كل طائفة هم أفضل تلك الطائفة علما وعملا لكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا ممدوحين عند الله وعند رسوله فان الممدوح عند الله وعند رسوله لا يكون قط إلا من المؤمنين المسلمين الذين امنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وعبدوا الله وحده لم يشركوا به شيئا ولم يكذبوا نبيا من أنبيائه ولا كتابا من كتبه

ص: 447

ولا يثنى الله قط إلا على هؤلاء كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .

وقد ذكر الله عن الأنبياء وأتباعهم أنهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح إلى الحواريين وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا عام في الأولين والآخرين وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي اخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات وهذا هو الإسلام وهو أن يكون عمله عملا صالحا ويعمله لله تعالى وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له وبهذا بعث الله الرسل جميعهم.

سبب نزول قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية:

وكذلك لما ذكر الملل الأربعة الذين فيهم من هو محمود سعيد قال تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وروى الناس كابن أبي حاتم وغيره بالأسانيد الثابتة عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان: "سألت النبي

ص: 448

صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً} وكذلك ذكر السدي عن أشياخه في تفسيره المعروف قال: "نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ويشهدون انك ستبعث نبيا فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فقال: "كان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وبسنة موسى حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة واخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا" قال ابن أبي حاتم: "وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا".

و {وَالَّذِينَ هَادُوا} أولا: المراد بهم أمة محمد.

وأما ما يذكره طائفة من المفسرين في قوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} أن فيهم أقوالا أحدها: أنهم هم الذين آمنوا بعيسى قبل أن يبعث محمد قاله ابن عباس والثاني: أنهم الذين آمنوا بموسى وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا

ص: 449

بشريعته لما أن جاء محمد وقالوا هذا قول السدي عن أشياخه والثالث: أنهم طلاب الدين كحبيب النجار وقس بن ساعدة وسلمان الفارسي وأبي ذر وبحيرا الراهب آمنو بالنبي قبل مبعثه فمنهم من أدركه وتابعه ومنهم من لم يدركه والخامس أنهم المنافقون والسادس أنهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة فلا يؤمنوا بك ولا بكتابك.

فهذه الأقوال ذكرها الثعلبي وأمثاله ولم يسموا قائلها وذكرها أبو الفرج ابن لجوزي إلا السادس وسمي قائل الأولين وذكر أنهم المنافقون عن الثوري وهذه الأقوال كلها مبتدعة لم يقل الصحابة والتابعون لهم بإحسان شيئا منها وما نقل عن السدي غلط عليه وقد ذكرنا لفظه الموجود في تفسيره المنقول بالإسناد الثابت في تفاسير الذين يذكرون الأسانيد كتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم وتفسير أبي بكر بن المنذر وتفسير محمد بن جرير الطبري وأمثال هذه التفاسير وما

ص: 450

نقل عن ابن عباس لا يثبت.

وهي أقوال باطلة فان من كان متمسكا بشريعة عيسى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم من غير تبديل فهم النصارى الذين أثنى الله عليهم وكذلك من تمسك بشريعة موسى قبل النسخ والتبديل فهم اليهود الذين أثنى الله عليهم وطلاب الدين كحبيب النجار كان على دين المسيح وكذلك بحيرا الراهب وغيره وكل من تقدم من الأنبياء وأمتهم يؤمنون بمحمد فليس هذا من خصائص هذا النفر القليل.

الكلام على أخذ الله ميثاق النبيين على الإيمان بمحمد:

قال تعالى: {وَإِذْ أخذ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وعن علي بن أبى طالب أنه قال: "لم يبعث الله نبيا ادم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد وأمره وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه" وكذلك عن ابن عباس أنه قال: "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته أن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه".

وقال بعض العلماء: "أخذ الميثاق على النبيين وأمتهم فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع وحقيقة الأمر أن الميثاق إذا أخذ على الأنبياء دخل فيه غيرهم لكونه تابعا لهم ولأنه إذا وجب على الأنبياء الإيمان به ونصره فوجوب ذلك على من اتبعهم أولى وأحرى ولهذا ذكر عن الأنبياء فقط"

ص: 451

وقد قيل أن المراد بأخذ الميثاق على الأنبياء هو أخذه على قومهم فإنهم هم الذين يدركون النبي الآتي وقالوا هي في قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وزعم بعضهم أن هذه القراءة هي الصواب والأولى غلط من الكتاب وهذا قول باطل ولولا أنه ذكر لما حكيته فإن ما بين لوحي المصحف متواتر والقرآن صريح في أن الله أخذ الميثاق على النبيين فلا يلتفت إلى من قال إنما أخذ على أممهم.

لكن الأنبياء أمروا أن يلتزموا هذا الميثاق مع علم الله وعلم من اعلمه منهم أنهم لا يدركونه كما نؤمن نحن بما تقدمنا من الأنبياء والكتب وإن لم ندركهم وأمر الجميع بتقدير إدراكه أن يؤمنوا به وينصروه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم اخبرنا بنزول عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق واخبر أنه يقتل المسيح الدجال فنحن مأمورون بالإيمان بالمسيح ابن مريم وطاعته أن أدركناه وإن كان لا يأمرنا إلا بشريعة محمد ومأمورون بتكذيب المسيح الدجال وأكثر المسلمين لا يدركون ذلك بل إنما يدركه بعضهم.

قال طاووس: "أخذ الله ميثاق النبيين بعضهم على بعض {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} فقال: "هذه الآية لأهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدقوه" يعني بذلك أن من أدرك نبوة محمد منهم يعنى هم الذين أدركهم العمل بالآية وإلا فذكر أن الميثاق أخذ على النبيين بعضهم على بعض لكن ذلك عهد وإقرار مع العلم بأنهم لا يدركونه وكذلك عن السدي "لم يبعث الله نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد ولينصرنه إن خرج وهو حي وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به وينصروه إن خرج وهم أحياء" وقال محمد بن اسحق: "ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى أنبيائهم الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم

ص: 452

وإقرارهم به على أنفسهم" فقال: {وَإِذْ أخذ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ} الاية.

وقوله: {رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} متناول لمحمد بالاتفاق فان رسالته كانت عامة وقد قال الله له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} فكتابه مهيمن على ما بين يديه من كتب السماء وقد أوجب الله على أهل الكتابين وسائر أهل الأرض الإيمان به وهذا مذكور في غير موضع من القران والحديث وهو مع أنه إجماع من المسلمين فهو معلوم بالاضطرار من دينه متواتر عنه كما تواتر عنه غزوه اليهود والنصارى.

وهل يدخل في ذلك غيره من الرسل؟ فيه قولان قيل: أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يصدق الثاني وينصره وأمره أن يأخذ الميثاق على قومه بذلك وقيل بل هذا الرسول هو محمد خاصة وهذا قول الجمهور وهو الصواب لأن الأنبياء قبله إنما كانت دعوتهم خاصة لم يكونوا مبعوثين إلى كل أحد فإذا لم يدخل في دعوته جميع أهل زمنهم ومن بعدهم كيف يدخل فيها من أدركهم من الأنبياء قبلهم والله تعالى قد بعث في كل قوم نبيا كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وكذلك قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} والنصرة مع الإيمان به هو الجهاد ونوح وهود ونحوهم من الرسل لم يؤمروا بجهاد ولكن موسى وبنوا إسرائيل أمروا بالجهاد.

وقوله: (لما) هذه اللام تسمى الموطئة للقسم فان الكلام إذا كان فيه شرط متقدم وقسم كان جواب القسم يسد مسد جواب الشرط والقسم جميعا وأدخلت اللام الموطئة على أداة الشرط وما هنا شرطية واللام في قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} هي جواب القسم ونظير اللام الموطئة في قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَك} ونظير هذه الآية قوله: {وَلَئِنْ

ص: 453

جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وقوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} .

ولهذا قال النحاة كالمبرد والزجاج: "هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء أي الشرطية كما تدخل على أن ومعناه لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به واللام في لتؤمنن به جواب الجزاء" وكذلك قال الفراء: "من فتح اللام جعلها لاما زائدة بمنزلة اليمين إذا وقعت على جزاء صرف بعد ذلك الجزاء على جهة فعل وحرف جوابه كجواب اليمين والمعنى أي كتاب أتيتكم ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وجواب الجزاء في قوله: (لتؤمن به) ومعنى قولهم جواب الجزاء في هذا أي جواب القسم تضمن أيضا جواب الجزاء فهو جواب لهما في المعنى".

والمقصود أن ما عليه جميع الأمم من حكمة علمية وعملية إذا لم يكونوا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا فان الله لا يمدحهم ولا يثني عليهم وهؤلاء الفلاسفة أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأوثان ويبنون الهياكل للكواكب فليست حكمتهم من الحكمة التي أثنى الله عليها وعلى أهلها ومن كان من الفلاسفة الصابئة المشركين فهو من جنسهم.

الصابئة وصواب التحقيق عنهم:

وأما الصابئون الحنفاء فهم في الصابئين بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والإنجيل

ص: 454

قبل النسخ والتبديل من اليهود والنصارى وهؤلاء ممن حمدهم الله وأثنى عليهم وبعض الناس يقول أن بقراط كان من هؤلاء.

ووهب بن منبه من اعلم الناس بأخبار الأمم المتقدمة وقد روى ابن أبي حاتم بالإسناد الثابت أنه قيل لوهب بن منبه ما الصابئون؟ قال: "الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا" وكذلك روى عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: "هم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين" قال: "وروى عن علماء نحو ذلك" أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يرد بذلك أنهم كفار فان الله قد أثنى على بعضهم فهم متمسكون بالإسلام المشترك وهو عبادة الله وحده وإيجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على إيجابه وتحريمه فان هذا دخل في الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره وكذلك قال عبد الرحمن بن زيد: "هم قد يقولون لا إله إلا الله فقط وليس لهم كتاب ولا نبي".

وهذا كما كانت العرب عليه قبل أن يبتدع عمرو بن لحي الشرك وعبادة الأوثان فإنهم كانوا حنفاء يعبدون الله وحده ويعظمون إبراهيم وإسماعيل ولم يكن لهم كتاب يقرؤونه ويتبعون شريعته وكان موسى قد بعث إلى بني إسرائيل بشريعة التوراة وحج البيت العتيق ولم يبعث إلى العرب لا عدنان ولد إسماعيل ولا قحطان والناس

ص: 455

متفقون على أن عدنان ولد اسماعيل وربيعة ومضر وأما قحطان فقال بعضهم: "هم أيضا من ولد إسماعيل" والصحيح أنهم كانوا موجودين قبل إبراهيم بأرض اليمن ومنهم جرهم الذين سكنوا مكة ومنهم تعلم إسماعيل العربية.

وأما من قال من السلف: "الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور" كما نقل ذلك عن أبي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع ابن انس فهؤلاء أرادوا من دخل في دين أهل الكتاب منهم وكذلك من قال: "هم صنف من النصارى" كما يروى عن ابن عباس أنه قال: "هم صنف من النصارى وهم السائحون المحلقة أوساط رؤؤسهم فهؤلاء عرفوا منهم من دخل في أهل الكتاب".

ومن قال: "أنهم يعبدون الملائكة" كما يروي عن الحسن قال: "هم قوم يعبدون الملائكة" وعن أبي جعفر الرازي قال: "بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون" فهذا أيضا صحيح وهم صنف منهم وهؤلاء كثير من الصابئين يعبدون الروحانيات العلوية لكن هؤلاء من المشركين منهم ليسوا من الحنفاء.

وكذلك اختلاف الفقهاء في الصابئين هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ ويذكر فيه عن احمد روايتان وكذلك قولان للشافعي والذي عليه محققوا الفقهاء أنهم صنفان فمن دان بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا.

وقال أبو الزناد: "الصابئون قوم مما يلي العراق وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات فهؤلاء الصابئة الذين أدركهم الإسلام وكانوا بأرض حران والذين خبروهم عرفوا أنهم ليسوا من أهل الكتاب بل مشركون يعبدون الكواكب ولا يحل أكل

ص: 456

ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وان اظهروا الإيمان بالنبيين فهو من جنس إيمان الفلاسفة بالنبيين والفلاسفة الصابئون من هؤلاء.

وأما قبول الجزية منهم فهو على خلاف المشهور فمن قبلها من غير أهل الكتاب كما يقبل من المجوس قبلها من هؤلاء وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة واحمد في إحدى الروايتين ومن لم يقبلها إلا من أهل الكتاب لم يقبلها من هؤلاء كما إذا لم يدخلوا في دين أهل الكتاب كما هو قول الشافعي واحمد في الرواية الأخرى عنه وكان أبو سعيد الإصطخري أفتى بأن لا تقبل منهم الجزية ونازعه في ذلك جماعة من الفقهاء.

كون إيمان الفلاسفة كإيمان المنافقين:

وهذا كما أن كثيرا من الفلاسفة وغيرهم من الزنادقة يدخلون في دين المسلمين واليهود والنصارى من الشرائع الظاهرة وان لم يكونوا في الباطن مقرين بحقيقة ما جاءت به الأنبياء كالمنافقين في المسلمين يجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار.

فان قيل هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بالله واليوم الآخر فإنهم يقرون بواجب الوجود وبمعاد الأرواح قيل النصارى خير منهم ومن أسلافهم وهم مع هذا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين

ص: 457

الحق فلا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يعملون صالحا فكيف هؤلاء؟ قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} مع أن النصارى يقرون بمعاد الأبدان لكن لما أنكروا ما اخبر به الرسول من الأكل والشرب ونحو ذلك صاروا ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر وهؤلاء الفلاسفة لا يقرون بمعاد الأبدان.

ولهم في معاد النفوس ثلاثة أقوال والثلاثة تذكر عن الفارابي نفسه أنه كان يقول تارة هذا وتارة هذا وتارة هذا منهم من يقر بمعاد الأنفس مطلقا ومنهم من يقول إنما تعاد النفوس العالمة دون الجاهلة فان العالمة تبقى بالعلم فان النفس تبقى ببقاء معلومها والجاهلة التي ليس لها معلوم باق تفسد وهذا قول طائفة من أعيانهم ولهم فيه مصنفات ومنهم من ينكر معاد الأنفس كما ينكر معاد الأبدان وهو قول طوائف منهم وكثير منهم يقول بالتناسخ.

اليوم الآخر كما هو مذكور في القران:

وليس شيء من ذلك إيمانا باليوم الآخر فان اليوم الآخر هو الذي ذكره الله في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} إلى قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ

ص: 458

لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين يقوم احدهم في العرق إلى أنصاف أذنيه".

وقوله: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} وقوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} وقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ}

ص: 459

إلى قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} وقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ومثل هذا في القران كثير.

فهولاء لا يؤمنون باليوم الآخر فلم يدخلوا في من مدح من الصابئين.

بيان بعض ضلالات من معتقدات الفلاسفة:

وأيضا لأنبياء وأتباعهم بل وجماهير الأمم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض فهي محدثة بعد أن لم تكن وكذلك أساطين الفلاسفة والقول بقدمها هو عن أرسطو وشيعته ومن وافقهم فكيف يجوز أن يقال أن الحكمة التي أمر الله نبيه أن يدعو الخلق بها هو هذا.

وأيضا فحكمتهم غايتها تعديل أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي هو كمالها وهذا من أقل ما جاء به الرسل ومن توابعه والمقصود بالعبادات التي أمرت بها الرسل تكميل النفس بمحبة الله تعالى وتألهه فإن النفس لها قوتان علمية وعملية وهؤلاء جعلوا كمالها في العلم فقط ثم ظنوا ذلك هو العلم بالوجود المطلق حتى يصير الإنسان عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ومنهم من يقول النفس إنما تبقى ببقاء

ص: 460

معلومها وهم يعتقدون بقاء الأفلاك والعقول والنفوس فجعلوا كمالها في العلم بالموجودات التي اعتقدوا بقاءها ومن تقرب إلى الإسلام منهم يقول بل كمالها في العلم بواجب الوجود وهذا يشبه قول الجهم بن صفوان ومن وافقه في أن الإيمان مجرد العلم بالله.

وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع في جواب المسألة الصفدية وغير ذلك وبينا أنهم غلطوا من وجوه منها ظنهم أن كمال النفس في مجرد العلم ومنها ظنهم أن هذا الكمال يحصل بمعرفة أمور كلية لا موجودات معينة ومنها ظنهم أن ما عندهم في الإلهيات علم وأكثر جهل ولهذا كان الغاية عندهم التشبه بالفلك.

ولهذا يصنف من يصنف منهم في الصلاة فليس المقصود منها عبادة الله ولا دعاؤه فانه لا يعلم الجزئيات عندهم ولا يميز بين المصلي وغير المصلي بل مقصود الصلاة هو العلم بالوجود المطلق الذي يزعمون أنه كمال النفس والصلاة الظاهرة يطلب منها سياسة البدن ورياضته وإنما قالوا أن يسأل القمر ويستعيذه فانه يدبر هذا العالم بواسطة العقل الفعال فهو عندهم الرب الذي يسأل ويستعاذ به ومنه فاضت العلوم على الأنبياء وغيرهم.

وربما قالو المقصود بالصلاة تذكر الشرع الذي شرعه الشارع ليحفظ به القانون الذي شرعه لهم لمصلحة الدنيا كما يذكر ذلك ابن سينا وغيره وذلك أنهم لا يثبتون أن الله يسمع كلام العباد ولا يرى أفعالهم ولا يجيب دعاءهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم فيحصل لها بما تهتم به من تجردها عن البدن نوع تجريد حتى تتصرف في هيولي العالم وأما الرب تعالى فليس هو عندهم لا بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير ولا يعلم لا السر ولا النجوى ولا غير ذلك من

ص: 461

أحوال العباد ولا له ملائكة كثير ينزلون ويصعدون إليه عندهم ولا يصعد إليه لا الكلم الطيب ولا العمل الصالح وغاية الأنفس عندهم أن تكون متصلة بالعقل الفعال الذي هو ربها عندهم لا تصعد إلى الله.

وإذا قالوا: "سعادة النفس أن تشهد الله وتراه" فحقيقة ذلك عندهم هو العلم بما تصورته من الوجود المطلق أو من وجود واجب الوجود وصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها إذا تكلم في رؤية الحق ورؤية وجهه في كتابه الأحياء أو غيره قال: "هذا يعود مراده وهو معرفة النفس الناطقة بربها" هذه هي الرؤية عندهم كما قد بين ذلك في غير موضع لأن الأصول التي اعتقدوها من أقوال النفاة المعلطلة ألجأتهم إلى هذه العقائد الفاسدة كما قد بسط في موضعه فكيف تكون الحكمة العلمية التي أمر الله بها ورسوله موافقة لحكمة هؤلاء.

ضلالهم في نفي علم الله وغيره من الصفات ورده:

ونحن قد بسطنا الكلام على فساد قولهم في العلم وغيره من الصفات وبينا أصولهم التي أوجبت أن قالوا مثل هذه الأقوال التي هي من أعظم الفرية على الله

ص: 462

وبينا فسادها ولهذا لما تفطن أبو البركات لفساد قول أرسطو أفرد مقالة في العلم وتكلم على بعض ما قاله في المعتبر وانتصف منه بعض الانتصاف مع أن الأمر أعظم مما ذكره أبو البركات وأعظم عمدهم في نفيه أنه يستلزم التكثر والتغير.

فالتكثر يريدون به إثبات الصفات ثم ابن سينا وغيره اثبتوا علمه بنفسه وبلوازم نفسه معينا كالأفلاك كليا كغيرها فيلزمهم ما فروا منه من تعدد الصفات وهم يقولون أنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة وربما قالوا مبتهج وهي معان متعددة ثم يكابرون فيقولون العلم هو الحب وهو القدرة وهو اللذة فيجعلون كل صفة هي الصفة الأخرى ويزيدون مكابرة أخرى فيقولون العلم هو العالم والحب هو المحب واللذة هو الملتذ فيجعلون الصفات عين الموصوف ولما رأى الطوسي شارح الإشارات ما لزم صاحبها سلك طريقة أخرى جعل فيها العلم بالمعقولات هو نفس المعقولات مع أنهم ليس لهم قط حجة على نفي الصفات إلا ما تخيلوه من أن هذا تركيب وقد بينا فساده من وجوه كثيرة.

أما التغير فقالوا العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأن قد كان فيلزم أن يكون محلا للحوادث وهم ليس عندهم على نفي هذه اللوازم حجة أصلا لا بينة ولا شبهة وإنما نفوه لنفيهم الصفات لا لأمر يختص بذلك بخلاف من نفي ذلك من الكلابية ونحوهم فإنهم لما اعتقدوا أن القديم لا تقوم به الحوادث قالوا لأنها لو قامت به لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث وقد بين أتباعهم كالرازي والآمدي وغيرهم فساد المقدمة الأولى التي يخالفهم فيها جمهور العقلاء ويقولون بل القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده أما المقدمة الثانية فهي حجة المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من أهل الكلام على إثبات حدوث الأجسام باستلزامها للحوادث وقالوا ما لا يخلو عن

ص: 463

الحوادث أو ما لا يسبقها فهو حادث لبطلان حوادث لا أول لها وهو التسلسل في الآثار.

والفلاسفة لا يقولون بشيء من ذلك بل عندهم القديم تحله الحوادث ويجوزون الحوادث لا أول لها ولهذا كان كثير من أساطينهم ومتأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في إثبات الصفات وقيام الحوادث بالواجب وقالوا لا خوانهم الفلاسفة ليس معكم حجة على نفي ذلك بل هذه الحجة أثبتموها من جهة التنزيه والتعظيم بلا حجة والرب لا يكون مدبرا للعالم إلا بهذه القضية فكان من تنزيه الرب وإجلاله تنزيهه عن هذا التنزيه وإجلاله عن هذا الإجلال.

وللنظار في جوابهم عن هذا طريقان منهم من يمنع المقدمة الأولى ومنهم من يمنع الثانية فالأول جواب كثير من المعتزلة والأشعري وأصحابه وغيرهم ممن ينفي حلول الحوادث فادعى هؤلاء أن العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان وان المتجدد إنما هو نسبته بين المعلوم والعلم لا أمر ثبوتي والثاني جواب هشام وابن كرام وأبي الحسين البصري وأبي عبد الله بن الخطيب وطوائف غير هؤلاء قالوا لا محذور في هذا وإنما المحذور في أن لا يعلم الشيء حتى يكون فان هذا يستلزم أنه لم يكن عالما وانه أحدث بلا علم وهذا قول باطل.

أدلة القران والحديث على إثبات العلم لله تعالى:

وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى كقوله إلا لنعلم حتى

ص: 464

نعلم يتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون وهذا جهل فان القران قد اخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع بل ابلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها وكتب ذلك قبل أن يخلقها فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا وكتب ذلك واخبر بما اخبر به من ذلك قبل أن يكون وقد اخبر بعلمه المتقدم على وجوده ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون فهذا هو الكمال وبذلك جاء القران في غير موضع بل وبإثبات رؤية الرب له بعد وجوده كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} فأخبر أنه سيرى أعمالهم.

وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ودلائل العقل على أنه سميع بصير والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي تشتكي إليه وهو يسمع التحاور والتحاور تراجع الكلام بينها وبين الرسول قالت عائشة: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وانه ليخفي على بعض كلامها" فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} وكما قال تعالى لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} .

وقد ذكر الله علمه بما سيكون بعد أن يكون في بضعة عشر موضعا في القران مع إخباره في مواضع أكثر من ذلك أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون وقد اخبر في القران من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله بل اخبر بذلك نبيه وغير

ص: 465

نبيه {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} بل هو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لو كان كيف كان يكون كقوله {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} بل وقد يعلم بعض عباده بما شاء أن يعلمه من هذا وهذا ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.

قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} وقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وغير ذلك من المواضع.

روى عن ابن عباس في قوله: {إِلَاّ لِنَعْلَمَ} أي لنرى وروي لنميز وهكذا قال عامة المفسرين إلا لنرى ونميز وكذلك قال جماعة من أهل العلم قالوا لنعلمه موجودا واقعا بعد أن كان قد علم أنه سيكون ولفظ بعضهم قال العلم على منزلتين علم بالشيء قبل وجوده وعلم به بعد وجوده والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب قال فمعنى قوله لنعلم أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون لكن لم يكن المعلوم قد وجد وهذا كقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي

ص: 466

السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي بما لم يوجد فانه لو وجد لعلمه فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازمان يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال فرارا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه ولو قدر شبهة تعارض ثبوت العلم فأين هذا من هذا وأين الأدلة الدالة على ثبوت علمه والمحذور في نفي علمه مما يظن أنه يدل على نفي الصفات أو نفي بعضها دليلا ومحذورا.

بطلان قولهم الثلاثة المذكورة في النحل هي البرهان والخطابة والجدل:

والمقصود هنا أن ما يجعلونه من القران مطابقا لأصولهم ليس كما يقولون فان قيل لا ريب أن ما جاء به الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة والجدل يخالف أقوال هؤلاء الفلاسفة أعظم من مخالفته لأقوال اليهود والنصارى لكن المقصود أن الثلاثة المذكورة في القران هي البرهان الصحيح والخطابة الصحيحة والجدل الصحيح وان لم تكن هي عين ما ذكره اليونان إذ المنطق لا يتعرض لشيء من المواد وإنما الغرض أن هذه الثلاثة هي جنس هذه الثلاثة.

قيل وهذا أيضا باطل فان الخطابة عندهم ما كان مقدماته مشهورة سواء كانت علما مجردا أو علما يقينيا والوعظ في القران هو الأمر والنهي والترغيب والترهيب كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .

فقوله: {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي ما يؤمرون به وقال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ينهاكم عن ذلك.

وأيضا فالقرآن ليس فيه أنه قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ} وذلك

ص: 467

لأن الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به وأما أن يعرفه ولا يعمل به وأما أن يجحده فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخافه فلا توافقه على العمل به والثالث: من لا يعرفه بل يعارضه فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فأن الحكمة هي اللم بالحق والعمل به فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فأن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وان عرفته فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا.

وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال وجادلهم فجعله فعلا مأمورا به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن وقال في الجدال بالتي هي أحسن ولم يقل بالحسنة كما قال في الموعظة لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج إلى مجادلة فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن.

والمجادلة يعلم كما أن الحكمة بعلم وقد ذم الله من يجادل بغير علم فقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} والله لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم أن لم تكن علما فلو قدر أنه قال باطلا لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل لكن هذا قدر يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة إلى القول الحق والقرآن مقصوده بيان الحق ودعوة العباد إليه وليس المقصود ذكر ما تناقضوا فيه من أقوالهم ليبين

ص: 468

خطأ أحدهما: لا بعينه فالمقدمات الجدلية التي ليست علما هذا فائدتها وهذا يصلح لبيان خطأ الناس مجملا.

ثم أنهم تارة يجعلون النبوة إنما هي من باب الخطابة وتارة يجعلون الخطابة أحد أنواع كلامها فيتناقضون وسبب ذلك أن القرآن أمر عظيم باهر لم يعرفوا قدره ولا دروا ما فيه من العلم والحكمة وأرادوا أن يشبهوا به كلام قوم كفار اليهود والنصارى أقل ضلالا منهم في معرفة الله ومعرفة أنبيائه وكتبه وأمره ونهيه ووعده ووعيده ولو شبه مشبه القرآن بالتوراة والإنجيل لظهر خطأه غاية الظهور والجميع كلام الله تعالى فكيف بكلام هؤلاء الملاحدة.

الوجه الثاني عشر: كون نفيهم وجود الجن والملائكة والوحي قولا بلا علم:

الوجه الثاني عشر: أن يقال هم معترفون بالحسيات الظاهرة وبالحسيات الباطنة التي يحس بها الإنسان ما في نفسه كإحساسه بجوعه وعطشه ولذته وألمه وشهوته وغضبه وفرحه وغمه وكذلك ما يتخيله في نفسه من أمثلة الحسيات التي أحسها فانه يتخيل ذلك من نفسه.

وقد فرقوا بين قوة التخيل والوهم فالتخيل أن يتخيل الحسيات والوهم أن يتصور في الحسيات معنى غير محسوس كما يتصور الصداقة والعداوة فان الشاة تتصور في الذئب معنى هو العداوة وهو غير محسوس ولا تتخيل وتتصور في التيس معنى الصداقة فالموالات والمعادات يسمون الشعور بها توهما وهم لم يتكلموا في ذلك بلغة العرب فان الوهم في لغة العرب معنى آخر كما قد بين في موضعه.

ولسي معهم ما ينفى وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس بالباطن كالملائكة والجن بل ولا معهم ما ينفى تمثل هذه الأرواح أجساما حتى ترى بالحس

ص: 469

الظاهر ولا معهم أن النفس قد ترى غيرهما ما هو من أحوالها مثل أن ترى عند الموت أمورا موجودة لم تكن تراها وهي متعلقة بالبدن وكذلك النائم وإن كان قد يتخيل فليس معهم علم بأن كل ما يراه يكون تخيلا مع إمكان أن يرى في منامه من جنس ما يراه الميت عند مفارقة روحه بدنه فان النفس الناطقة هي الرائية وإنما يمنعها من ذلك تعلقها بالبدن فإذا تم تجردها بالموت رأت ما لم تكن تراه كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} قال المفسرون: يعنى الملائكة وكذلك بالنوم قد يحصل لها نوع تجريد ولهذا من الناس من يرى في منامه شيئا فيأتي كما يراه من غير تغيير أصلا بل يكون المرئي في المنام هو الموجود في اليقظة.

وأما رؤية كثير من الناس للجن حال الصرع وغير الصرع فهذا أكثر وأشهر من أن يذكر وما يدعيه الأطباء من أن الصرع كله من الأخلاط فغلطه ظاهر فان دخول الجني بدن الإنسي وتكلمه على لسانه بأنواع من الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة وقد اتفق عليه أئمة الإسلام كما اتفقوا على وجود الجن وقد رآهم غير واحد من الناس وخاطبوهم فهذا باب واسع فما الظن بالملائكة الكرام التي يراهم الأنبياء صلوات الله عليهم يرونهم بباطنهم وظاهرهم.

وأيضا فقد تواتر في الكتب الإلهية والأحاديث النبوية أن الملائكة تتصور بصورة البشر وكذلك الجن ويرون في تلك الصورة كما أخبر الله عن ضيف إبراهيم في غير موضع من كتابه وكما اخبر عن مريم أنه أرسل إليها الروح وهو جبريل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} .

وجميع هذه الأمور ليس معهم على نفيها إلا ما هو من أضعف الشبه فنفيهم مثل هذه الحسيات الباطنة والظاهرة قول بلا علم ولهذا صاروا يحملون ما جاءت به

ص: 470

الأنبياء على أنه من باب التخيل في النفس ويجعلون الملائكة وكلام الله الذي بلغوه هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور والأصوات كما يتخيل للنائم وذلك من أعراضه القائمة به ليس هناك عندهم ملك منفصل ولا كلام نزل به الملك من الله عندهم.

وكل ما ينفونه من هذا ليس معهم فيه إلا الجهل المحض فهم يكذبون بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله مع أن عامه أساطين الفلاسفة كانوا يقرون بهذه الأشياء وكذلك أئمة الأطباء كأبقراط وغيره يقر بالجن ويجعل الصرع نوعين صرعا من الخلط وصرعا من الجن ويقول في بعض الأدوية هذا ينفع من الصرع الذي يعالجه الأطباء لا الصرع الذي يعالجه أرباب الهياكل ونقل عنه أنه قال طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا وهذه الأمور لبسطها موضع آخر.

وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفى ما لم يعلم نفيه أوجب لهم من الجهل والكفر ما صاروا به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى وادعى ابن سينا وموافقوه أن أسباب العجائب في العالم أما قوة فلكية وأما قوة نفسانية وأما قوة طبيعية وأهل السحر منهم والطلسمات يعلمون من وجود الجن ومعاونتهم لهم على الأمور العجيبة ما هو متواتر مشهور عندهم فضلا عما يعلمه المسلمون وسائر أهل الملل من ذلك فضلا عن العلم بالملائكة وما وكلهم الله من الأمور التي يدبرونها كما قال فيهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} وقال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} وهم الملائكة باتفاق السلف وغيرهم من علماء المسلمين لم يقل أحد من السلف أنها الكواكب.

الوجه الثالث عشر: طريقهم لا يفرق بين الحق والباطل بخلاف طريقة الأنبياء

الوجه الثالث عشر: أن يقال كون القضية برهانية معناه عندهم أنها معلومة

ص: 471

للمستدل بها وكونها جدلية معناه كونها مسلمة وكونها خطابية معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها فضلا عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها ومعلوم أن القضية قد تكون حقا والإنسان لا يشعر بها فضلا عن أن يظنها أو يعلمها وكذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهى حق في نفسها بل قد تكون برهانية أيضا كما قد سلموا ذلك.

وإذا كان كذلك فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها لا تكون كذبا باطلا قط وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق تلك القضايا ما هو مشترك ينتفع به جنس بني آدم وهذا هو العلم النافع للناس.

وأما هؤلاء المتفلسفة فلم يسلكوا هذا المسلك بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل وغير ذلك لم يجعلوه برهانيات وإن علمه مستدل آخر والجدليات ما سلمه المنازع وإن لم يسلمه غيره وعلى هذا فتكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة ما ليس من البرهانيات عند إنسان وطائفة أخرى فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع مانع بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها حتى أن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم.

وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين بخلاف طريقة الأنبياء فإنهم اخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل فلهذا جعل الله ما انزله من الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وانزل أيضا الميزان وهو ما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل ولكل حق ميزان

ص: 472

يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون فانه لا يمكن أن يكون هاديا للحق ولا مفرقا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف بها الحق من الباطل وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقا لما جاءت به الأنبياء فهو منه وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعا وعقلا.

فان قيل نحن نجعل البرهانيات إضافية فكل ما علمه الإنسان بمقدماته فهو برهاني عنده وان لم يكن برهانيا عند غيره قيل لم يفعلوا ذلك فان من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخر بغير تلك المواد المعينة التي عينوها وإذا قالوا نحن لا نعين المواد فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب.

الوجه الرابع عشر: فساد جعلهم علوم الأنبياء تحصل بواسطة القياس المنطقي

الوجه الرابع عشر: أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس أما بالحس وأما بالعقل وأما بالأخبار الصادقة علوما كثيرة لا تعلم بطرقهم التي ذكروها ومن ذلك ما علمته الأنبياء صلوات الله عليهم من المعلوم فأرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد فقالوا النبي له قوة أقوى من قوة غيره في العلم والعمل وربما سموها قوة قدسية وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم له فإذا تصور طرفي القضية أدراك بتلك القوة القدسية الحد الأوسط الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة فجعلوا ما تخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي وهذا في غاية الفساد.

فان القياس المنطقي إنما يعرف به أمور كلية كما تقدم وهم يسلمون ذلك والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة كما في القرآن من قصة نوح والخطاب والأحوال التي جرت بينه وبين قومه وكذلك هود وصالح

ص: 473

وشعيب وسائر الرسل وكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من المستقبلات فعلم بذلك أن ما علمه الرسول لم يكن بواسطة القياس المنطقي.

بل قد جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته من هذا الباب فانه يعلم نفسه والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فجعل علمه يحصل بهذه الواسطة وهذا يصلح أن يكون دليلا على علمه بمخلوقاته لا أن يكون علمه بمخلوقاته يفتقر إلى حد أوسط مع أنه لم يعط هذا البرهان موجبه بل أنكر علمه بالجزئيات التي في الموجودات الأخرى فان لم يعلم الجزئيات لم يعلم شيئا من المخلوقات مع أن العقول والنفوس والأفلاك كلها جزئية ونفسه أيضا معينة ولهذا أراد بعضهم جبر هذا التناقض فقال إنما نفى علمه بالجزئيات في الأمور المتغيرة فيقال التغير من لوازم الفلك فلا يكون الفلك إلا متغيرا وصدور المعلول المتغير عن علة غير متغيرة ممتنع بالضرورة كما قد بسط في موضعه.

جعلهم معرفة النبي بالغيب مستفادة من النفس الفلكية وبيان فساده من عشرة وجوه:

فان قيل هم يذكرون لمعرفة النبي بالغيب سببا آخر وهو أنهم يقولون أن الحوادث التي في الأرض تعلمها النفس الفلكية ويسميها من أراد الجمع بين الفلسفة والشريعة باللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبى حامد ونحوه وهذا فاسد فان اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعة "كتب الله فيه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم واللوح المحفوظ لا يطلع عليه غير الله والنفس الفلكية تحت

ص: 474

العقول ونفوس البشر عندهم تتصل بها وتنقش في نفوس البشر ما فيها.

ولهذا يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء أما عن معرفة بأن هذا قولهم وأما عن متابعة منهم لمن قال ذلك من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة كما يوجد في كلام أبن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم يقولون أن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ أو أنه يعلم كل ولى كان ويكون من اللوح المحفوظ ونحو هذه الدعاوى التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرهم من أتباع الرسل.

والمقصود هنا أنهم يقولون أن النفس إذا حصل لها تجرد عن البدن أما بالنوم وأما بالرياضة وأما بقوتها في نفسها اتصلت بالنفس الفلكية وانتقش فيها ما في النفس الفلكية من العلم بالحوادث الأرضية ثم ذلك العلم العقلي قد تخبر به النفس مجردا وقد تصوره القوة المخيلة في صور مناسبة له ثم تلك الصور تنتقش في الحس المشترك كما أنه إذا أحس أشياء بالظاهر ثم تخيلها فإنها تنتقش في الحس المشترك فالحس المشترك يرتسم فيه ما يوجد من الحواس الظاهرة وينتقش فيه ما تصوره القوة المتخيلة في الباطن وما يراه الإنسان في منامه والمحرور في حال مرضه من الصور الباطنة هو من هذا لكن نفس النبي عليه السلام لها قوة كاملة فيحصل لها تجرد في اليقظة فتعلم وتتخيل وترى ما يحصل لغيرها في النوم.

قيل هذا الكلام أولا ليس من كلام قدماء الفلاسفة كأرسطو وأصحابه ولا جمهورهم إنما هو معروف عن ابن سينا وأمثاله وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموه أن هذا كلام باطل لم يتبع فيه سلفه وثانيا

ص: 475

إنه مبنى على أصول فاسدة كثيرة:

الأول: أنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول.

الثاني: إثبات العقول والنفوس التي يثبتونها وهو باطل.

هل منبع الفيض هو النفس الفلكية أو العقل الفعال:

الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية فإنهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم فعندهم ما يفيض على النفوس إنما هو من العقل الفعال المدبر لكل ما تحت فلك القمر ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة بل إنما فيه أمر كلى لكنه بزعمهم دائم الفيض فإذا استعدت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض وذلك الفيض لا يكون بجزئي فانه لا جزئي فيه فكيف يقولون هنا أن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية.

فان قيل هم يقولون أن الجزئيات معلومة للعقول على وجه كلى وللنفوس الفلكية على وجه جزئي قيل العلم بالكلى وهو القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد العلم بشيء من الجزئيات البتة فان علم الإنسان بمسمى الوجود أو بمسمى الجسم أو بمسمى الحيوان أو الإنسان أو البياض أو السواد لا يفيده العلم قط بموجود معين ولا بجسم معين ولا حيوان معين ولا إنسان معين ولا بياض معين ولا سواد معين ولو كانت الجزئيات تعلم من الكليات لكان من علم مسمى شيء قد علم كل شيء فإنها كلها جزئيات هذا المسمى.

وهذا أيضا مما يدل على فساد قول ابن سينا ومن وافقه على أن الباري يعلم الجزئيات على وجه كلى بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذره في السموات ولا في الأرض فان هذا تناقض بين لمن تصور حقيقة الأمر فان من لم يتصور إلا كليا ويمتنع عنده أن يتصور جزئيا معينا أما مطلقا وأما إذا كان متغيرا كان قد عزب عن علمه كل شيء في الوجود أما مطلقا وأما إذا كان متغيرا وعلمه الكلى لا

ص: 476

يفيده شيئا من معرفة المعينات وهم دائما ما يشبعون أنفسهم بالمحال بمثل هذه الكليات.

ولهذا كان موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا هو الوجود الكلى المشترك بين الموجودات المنقسم إلى جوهر وعرض وعلة ومعلول وهذا الموضوع ليس له وجود في الخارج ولا يعلم بمعرفة الوجود المطلق شيء من الموجودات الثابتة في نفس الأمر أصلا فان كل موجود فانه موجود خاص متميز عما سواه وصفاته القائمة به أن كانت جوهرا فهي مختصة به وإن كان عرضا فهو عرض معين في محل معين فمن لم يعرف إلا الكلى المشترك لم يعرف شيئا من الموجودات التي هي في نفسها موجودات وإنما علم أمرا كليا لا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان.

إن نفس فلك القمر لا تعلم إلا جزءا من الحوادث:

الرابع: أن النفوس عندهم تسعة بعدد الأفلاك وحركات الأفلاك عندهم هي تسبب الحوادث ومعلوم أن كل نفس تعلم حركة فلكها فنفس فلك القمر لا تعلم ما في نفس الفلك الاطلس وفلك الثوابت وغيره والنفوس البشرية إنما تتصل أن اتصلت بنفس فلك القمر كما أنه إنما يفيض عليها ما يفيض من العقل الفعال وحينئذ فلا تعلم إلا جزءا يسيرا من أسباب الحوادث فمن أين تعلم الحوادث المنفصلة.

ليست حركة الأفلاك علة تامة للحوادث:

الخامس: أنه لو قدر أنها تعلم حركات الأفلاك كلها وانه لا سبب للحوادث إلا حركة الأفلاك فحركة الأفلاك ليست علة تامة للحوادث بل تختلف أفعالها باختلاف القوابل فتؤثر في كل شيء بحسبه فمن لم يعلم أحوال القوابل مع الفواعل لم يعلم الحوادث فلا يكون عالما بها والنفوس الفلكية غايتها أن تعلم حركات أفلاكها لا تعلم ما ليس داخلا فيها

ص: 477

وإذا قيل أن حركات العناصر والمتولدات إنما تختلف لاختلاف حركة الأفلاك فالعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قيل تختلف باختلاف القوابل كما تختلف باختلاف الفواعل والعناصر موجودة قبل حركات الأفلاك فلا يلزم من العلم بها العلم بنفس العناصر ومقاديرها ليعلم بحركات الأفلاك العلم بالحوادث الأرضية وقول القائل العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول إنما يستقيم في العلة التامة المستلزمة للمعلول وحركات الأفلاك غايتها أن تكون جزءا صغيرا من أسباب الحوادث.

لا يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الأمور:

السادس: أنه بتقدير أن تكون للفلك نفس فلكية متحركة كما تحرك نفس الإنسان لبدنه فإنها تتصور ما تريد فعله كما يتصور الإنسان ما يريد فعله وأما الأمور المتولدة الحاصلة بأسباب منفصلة مع فعله فلا يجب أن يكون شاعرا بها فمن أين يلزم علم النفس الفلكية بكل ما يحدث من الأمور الحاصلة لحركاتها وبأمور أخر فإنهم يقولون الفلك إذا تحرك حرك العناصر فامتزجت نوعا من الامتزاج وتحرك العناصر وامتزاجها ليس هو نفس حركة الفلك ولا حركة الفلك تامة له ثم إذا امتزجت فاض عليها من العقل الفعال ما يفيض فبتقدير أن تستعد نفس الإنسان لأن يفيض عليها من العقل الفعال ما يفيض لا يجب أن تعلم النفس الفلكية ذلك مع أن كلامهم في هذا الموضع قد عرف تناقضه وفساده فان العقل أن كان يفيض عنه ما ليس هو فيه كان في المعلول ما ليس في العلة وإن كان لا يفيض إلا ما فيه فليس فيه إلا الكليات ليس فيه صور جسمانية ولا علم بجزئيات ولا مزاج ولا غير ذلك مما يدعون فيضه عن العقل.

بيان أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية:

السابع: أن النفس الفلكية تحرك الفلك دائما فيلزم أن تعلم كل وقت الحركة التي تريدها وإذا سلم له أنها تعلم ما تولد عنها وعن غيرها قيل لهم لا ريب أن ما مضى قبل تلك الحركة المعينة من الجزئيات لا يكون معلوما للنفس على سبيل

ص: 478

التفصيل فانه لو كان معلوما للنفس على سبيل التفصيل للزم وجود ما لا نهاية له في أن واحد فان الحوادث الماضية لا نهاية لها فلو كان العلم بكل منها موجودا على سبيل التفصيل في النفس الفلكية للزم وجود أمور لا نهاية لها في أن واحد وهذا ممتنع.

فان قيل هم يجوزون هذا كما يجوزون وجود نفوس لا نهاية لها في أن واحد فان قاعدتهم في هذا أن ما هو مجتمع وله ترتيب طبيعي كالفلك أو وضعي كالأجسام يمتنع وجود ما لا نهاية فيه فإذا انتفى أحد القيدين جوزوا وجود ما لا نهاية له أما بأن لا يكون مجتمعا كالحوادث المتعاقبة وأما أن يكون مجتمعا غير مترتب كالنفوس الفلكية قيل الجواب من وجوه أحدها أن هذا قول طائفة منهم كابن سينا وغيره وقد أنكر عليه ذلك إخوانه الفلاسفة كابن رشد وغيره وزعموا أن هذا ليس هو قول أئمتهم الفلاسفة وبينهم في ذلك مشاجرات ليس هذا موضعها الثاني أن الحركات الفلكية مترتبة كل واحد على ما قبلها فإذا قدر اجتماع العلم المفصل بها كان قد اجتمع حوادث مترتبة والعلوم أيضا مجتمعة في النفس الفلكية والجزئيات عندهم لا تنطبع عندهم إلا في قوى جسمانية فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأعراض في صورة جسمانية وهذا هو أعظم ما ينكرونه فان القوة الجسمانية عندهم لا تقوى على أفعال لا تتناهى فضلا عن أن تقوى على أعراض لا نهاية لها الثالث أن يقال أن قالوا أن جميع ما يحدث لم تزل نفس الفلك عالمة به على التفصيل كان علمها قديما أزليا والحركات حادثة شيئا بعد شيء والحوادث الجزئية لا بد لها من تصورات جزئية حادثة معها وهم يسلمون ذلك وإن قالوا أنها لم تعلمها مفصلة إلا شيئا بعد شيء حصل المقصود أيضا وعلى التقديرين لا بد عندهم للنفس الفلكية من علوم متعاقبة كما يحصل لنفس الإنسان وحينئذ فان كانت علومها باقية لم تزل الأمور المرتبة تحدث شيئا بعد شيء وهى مجتمعه في محل واحد بل في قوة جسمانية فيلزم وجود أعراض مجتمعة لا نهاية لها في محل واحد بل في قوة جسمانية وهذا من أعظم الأمور إحالة عندهم في نفس الأمر

ص: 479

وإذا كان كذلك تبين أن الحوادث الماضية ليست منتقشة في النفس الفلكية.

والأنبياء بل وغير الأنبياء يخبرون بالحوادث المتقدمة كالأخبار بما جرى في زمن نوح وقبل نوح وبعد نوح فيمتنع أن يكون الخبر بذلك استفادة من النفس الفلكية التي يسميها الملاحدة الذين ينزلون الكتاب والسنة على أصول هؤلاء المشركين المعطلين يسمونها اللوح المحفوظ وهكذا العلم بالحوادث المستقبلة قبل أن تكون بمئين من السنين أو بألوف من السنين فان تلك لم تنتقش بعد عندهم في النفس الفلكية وقد يخبر بها الأنبياء كما بشر متقدموهم بممحد وكما أخبر محمد بما سيأتي بل ويعلم أيضا بالرؤيا وغير ذلك.

لا سبيل لنفي كون الأرواح تلقى الأخبار في نفوس البشر:

الوجه الثامن: أنه لو قدر أن النفوس الفلكية تعلم الجزئيات فالجزم بكون ما يحدث في نفوس البشر من العلم بالجزئيات هو منها أو من العقل الفعال لو قدر وجوده إنما يجوز إذا علم انتفاء سبب آخر وهذا لا سبيل لهم إلى العلم بنفيه فلم لا يجوز أن يكون ذلك مما يلقيه الملائكة بل ومما يلقيه الجن أيضا كما تواترت الأخبار عن الأنبياء صلوات الله عليهم بأنهم يذكرون أن الملائكة تخبرهم بما تخبرهم به وكما تواتر إخبار الجن لبنى آدم تارة بما يسترقونه من خبر السماء وتارة بغير ذلك والعلم بالمغيبات من هذا الوجه هو مما اتفق عليه الأنبياء وأتباعهم المسلمون واليهود والنصارى واتفق عليه جماهير بنى آدم من غير أهل الملل كالمشركين من العرب ومن الهند ومن الكلدانيين وغيرهم كلهم يذكرون ما تخبر به الأرواح أما مطلقا وأما أن تعين.

وقد ذكرنا أن الصابئة نوعان حنفاء ومشركون فالحنفاء هم من المسلمين المؤمنين وأما المشركون كالصابئة الذين بعث الله إليهم الخيل عليه السلام وغيرهم فهؤلاء يقرون بهذا والصابئة الحرانيون لهم نبي على أصلهم يقال له البابا وله مصحف يذكر فيه كثيرا من الأخبار المستقبلة ويذكرون أن سيدته يعنى روحانية الزهرة

ص: 480

أخبرته بذلك وكثير منها صحيح كإخبار بدخول المسلمين بلاد حران وغيرها وفتحهم البلاد وإهانتهم لطائفته وكان بحران بئر يقال لها بئر عزون يعظمونها تعظيما كثيرا وكان يذكر أن الأرواح تجتمع إليها ويذكر أنواعا من هذه الأمور في مصحف له وهو موجود قد قرأته أنا وغيري.

وهذه الأرواح منهم من يطلق عليها اسم الأرواح والروحانيات ولا يفصل ومنهم من يسميها جميعها الملائكة ولا يفرقون بين الجن والملائكة لا سيما وطائفة من أهل الكلام وغيرهم يجعلون الجن والملائكة جنسا واحدا وإنما يفرقون بالأعمال الصالحة والفاسدة كالآدميين ومن هذا تنازع العلماء في إبليس هل كان من الملائكة أم لا وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وأما من يعرف حقيقة الأمر من علماء المسلمين فيعلمون أن الأرواح التي تعين المشركين هي الشياطين ويفرقون بين الملائكة وبين الجن كما هو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

بيان كون الغلط في هذه الإخبارات أكثر من الصواب:

التاسع أنه بتقدير أن يكون سبب الإخبارات هو اتصال النفس بالقوة النفسانية الفلكية أو هو إخبار الأرواح كما تقدم فمعلوم أن الغلط في هذا أكثر من الصواب أما على أصلهم فلأن الخيال يصور للحس المشترك ما علمته النفس من الصور المناسبة والخيال يكذب أكثر مما يصدق وأما على قول المسلمين وغيرهم فلأن الجن يكذبون كثيرا في إخبارهم وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر إخبار الكهان قال أنهم يسمعون الكلمة فيكذبون مائة كذبة وهذا أمر معلوم بالتجربة والتواتر فان الذين يخبرون بما يخبرون به عن الجن يكثر الكذب في إخبارهم

ص: 481

وأما الرؤيا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام ورؤيا من الشيطان" فقد بين الصادق المصدوق أن من الرؤيا ما هو من حديث النفس ومنها ما هو من وسوسة الشيطان وقد أمرنا سبحانه أن نستعيذ من هذين الواسواسين في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .

ولا بد من التمييز بين الصدق والكذب وليس فيما ذكروه ولا فيما يذكره غيرهم ما يميز بين هذا وهذا ولا يميز بين هذا وهذا مطلقا إلا الأنبياء ولهذا أمرنا الله أن نؤمن بكل ما جاؤوا به الأنبياء فإنهم معصومون لا يقرون على الخطأ فيما يبلغونهه عن الله باتفاق المسلمين قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} .

ولهذا كان أهل الرياضة والزهد والعبادة من الصوفية وغيرهم يرون أشياء في الباطن يظنونها حقا ويكون باطلا ولهذا يقول من يقول من أهل العلم كأبي القاسم السهيلى وغيره نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي وهذا مما كان يقوله شيخه أبو بكر بن العربي وكان مع تعظيمه لشيخه أبى حامد الغزالي يقول:

ص: 482

"شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر" وكان يذكر عنه أنه كان يقول: "أنا مزجى البضاعة في الحديث".

وهؤلاء المتفلسفة يقولون أن غاية ما عند النبي قياس من جنس القياس الفلسفي أو خيال من جنس الخيال الصوفي فان ما ذكروه للنبي يتصف به آحاد الناس فان اتصال النفوس بالنفس الفلكية وانعقاد الأقيسة العقلية في النفس هو قدر مشترك بين الناس إنما هو بحسب استعداد النفوس ثم هم أعنى ابن سينا وأمثاله يقولون أن النفوس الناطقة متماثلة بحسب الحقيقة وإنما اختلفت باعتبار أبدانها فهي كماء واحد وضعته في آنية مختلفة فاختلف لاختلاف الأوعية وأسباب صفات النفس عندهم أما المزاج وأما العادة وأما ما يتبع ذلك ويا ليت شعري كم مقدار ما يوجب التفاوت بين النفوس أن لم يكن التفاوت إلا بهذا السبب فيلزم من هذا أن تكون نفس أخس الناس مشاركة في الحقيقة لنفس إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإنما امتازت عنها بأمور عارضة وأن تكون نفس كثير من الناس قريبة من نفوسهم أو أفضل وتكون مستعدة لأن يحصل لها ما حصل لنفوسهم.

ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب أن يؤتى مثل ما أوتي رسل الله وأن يؤتى صحفا منشرة كما طلب ذلك غير واحد في زماننا وكما طلبه السهروردي المقتول وابن سبعين وغيرهما وسبب ذلك أن هذه النبوة التي أثبتوها أمرها من جنس منامات الناس.

ولهذا كان عمدتهم في إثبات النبوة هو المنامات ولما أراد ابن سينا وأمثاله أن

ص: 483

يقرروا ذلك قالوا التجربة والقياس مطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلا ما وقرروا ذلك بأن معرفة المغيبات في النوم ممكنة فوجب أن يكون أيضا في اليقظة ممكنا والمقدمة الأولى معلومة بالتجربة والتواتر وأما الثانية فهو أنه لما صح ذلك في النوم لم يمكن القطع باستحالته في اليقظة بل لو قدرنا أن الناس ما جربوا وقوع ذلك في النوم لكان استبعادهم بحصول هذا حال النوم اشد من استبعادهم لحصوله حال اليقظة فانه لو قيل لواحد أن جمعا من الأذكياء مع كمال عقولهم وسلامة حواسهم وذكاء قرائحهم وقوة أفكارهم وأنظارهم احتالوا بكل حيلة لتحصيل معرفة بعض المغيبات فعجزوا ثم أن واحدا منهم لما صار كالميت وبطلت حركته وإدراكه عرف ذلك المغيب لقيل بأن ذلك محال ولا حتجوا عليه بأنه لما عجز عنه القوى الكامل فالضعيف الناقص أولى بالعجز عنه ولكن وقوع هذا المعنى مرارا كثيرة حال النوم مما أزال الاستبعاد والعناد فثبت أن حصول معرفة المغيبات لما كان ممكنا حال النوم فبأن يكون ممكنا حال اليقظة أولى قالوا ونحن لا نستدل بصحة إحدى الحالين على القطع بالحال الأخرى ولكن على دفع استبعاد المنكر وحصول الرأي الأخلق الأولى.

قلت فهذه المقدمة التي بنوا عليها معرفة الغيب للأنبياء وغيرهم ومعلوم أن النائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فان النوم أخو الموت وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه: "اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها أن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ويقول أيضا باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك ارفعه أن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"

ص: 484

وكان ذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أمتنا واليه النشور " وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فأخبر سبحانه أنه يتوفى الأنفس حين النوم وحين الموت وأن ما يتوفاه حين النوم منه ما يقضى عليه الموت في نومه ومنه ما يرسله وبسبب تجردها عن البدن يحصل لها من العلم ما يلقيه الله إليها أما بواسطة الملك الذي يريها ويحدثها من الرؤيا وأما بغير ذلك.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال عبادة ابن الصامت: "رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام" وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يبق بعدى من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له" وقال: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " وفي الصحيحن عن عائشة

ص: 485

قالت: "أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد" وقد قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فلا ريب أن ما يجعله الله في النفوس وغيرها يجعله بعد إعدادها لذلك وتسويتها لما يلقى فيها فهذا ونحوه حق يقول به السلف وجمهور المسلمين وإنما ينكر ذلك من ينكر الحكم والأسباب من أهل الكلام.

والنبي صلى الله عليه وسلم بدئ أولا بالرؤيا الصادقة فانه رؤيا الأنبياء وحي معصوم كما قال ابن عباس وعبيد بن عمير وغيرهما: "رؤيا الأنبياء وحي" وقرأ قول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل من درجة إلى درجة ثم بعد هذا جاءه الملك فخاطبه بالكلام فأحيانا يأتيه في الباطن فيكلمه وأحيانا يتمثل له في صورة رجل فيكلمه ثم عرج به إلى ربه ليلة الإسراء.

فما ادعوه من أن الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات حق وهذا يحتج به على من ينكر هذا الجنس مطلقا ولكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فمن الباطل ما ادعوه في النبوة وفي كيفيتها حيث زعموا أنه ليس هناك ملك حي يأتي بالوحي من الله ولا لله كلام يتكلم به يسمعه الملك فينزل به ولا يعرف الله جزئيات الأمور حتى يكتبها عنده أو حتى يخبر بها الملك والملك يخبر بها النبي أو يخبر بها النبي ابتداء.

وزعموا أنه ليس لله ما يدبر به أمر السموات والأرض إلا مجرد حركة الفلك وأثبتوا نبوة حال كثير من أحوال أوساط المسلمين خير منها فان كثيرا من أوساط المسلمين له من العلم والعمل أعظم مما أثبته هؤلاء للأنبياء فإنهم جعلوا خواص النبوة نوعين القوة العلمية التي ينال بها العلم أما بواسطة القياس المنطقي وأما بواسطة

ص: 486

التجرد الذي هو كتجرد النائم حتى تتصل بالنفس الفلكية والثاني القوة العملية وهو أن تكون نفسه قوية على التصرف في هيولى العالم بحيث تحدث عنه عجائب والنوع الأول يتضمن أمرين: أحدهما: معرفة العلوم الكلية بالقياس المنطقي والثاني: معرفة الجزئيات بهذا الاتصال ثم الخيال يصور المعقولات في الصور المناسبة لها وينقشها في الحس المشترك فيرى الإنسان في باطنه صورا ويسمع أصواتا وتلك الصور عندهم ملائكة الله وتلك الأصوات كلام الله.

ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم كابن عربي وابن سبعين وغيرهما قد سلكوا مسلك ملاحد الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك فصار بعضهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه فيقول كما كان ابن سبعين يقول: "لقد زرّب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدى" أو يرى لكونه اشد تعظيما للشريعة أن باب النبوة قد أغلق فيدعى أن الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الأولياء اعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكوة خاتم الأولياء ويقول أنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول.

ص: 487

وهذا بناء على أصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم اكفر من اليهود والنصارى الذين سلك هؤلاء سبيلهم ولكن غيروا عباراتهم فأخذوا عبارات المسلمين الموجودة في كلام الله ورسوله وسلف الأمة وعلمائها وعبادها ومن دخل في هؤلاء من الصوفية المتبعين للكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخى والسري السقطي والجنيد وسهل بن عبد الله وغيرهم أخذوا معاني أولئك الملاحدة فعبروا عنها بالعبارات الموجودة في كلام من هو معظم عند المسلمين فيظن من سمع ذلك أن أولئك المعظمين إنما عنوا بهذه العبارات الموجودة في كلامهم ما أراده هؤلاء الملحدون كما فعلت ملاحدة الشيعة الإسماعيلية ونحوهم.

فحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه وذلك الخيال يأخذ عن العقل فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وهذا الخيال هو جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية فزعم ابن عربي أنه يأخذ من العقل وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فان ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف

ص: 488

والمشاهدة والرياضة والعبادة ويذمون طريق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة عامته خيالات في أنفسهم ويسمونها حقيقة ولهذا يقول باب ارض الحقيقة وهى ارض الخيال وقد ادعى أن الفتوحات الملكية ألقاها إليه روح بمكة وإذا كان صادقا فقد ألقاها إليه شيطان من الشياطين كما كان مسيلمة الكذاب يلقى إليه شيطان وكذلك الأسود العنسى وكذلك غيرهما من المتنبئين الكذابين.

وكذلك الذين يدعون الولاية بدون متابعة الرسول تنزل عليهم الشياطين وتخبرهم بأشياء وتأمرهم بأشياء وربما أحضرت لهم طعاما ونفقة وغير ذلك وربما حملت أحدهم في الهواء إلى مكان ونحو ذلك فهم في الأولياء من جنس مسيلمة الكذاب وأمثاله في الأنبياء ولهم أحوال شيطانية يظنونها من كرامات أولياء الله وإنما هي من أحوال اعداء الله وهؤلاء من جنس كهان العرب الذين كان يكون لأحدهم رئي من الجن من جنس شيوخ العباد الذين للمشركين من الهند والترك والحبشة وغيرهم الكفار أو من جنس شيوخ النصارى فان هؤلاء شيوخ المشركين وأهل الكتاب لهم شياطين تقترن بهم وكذلك للداخل في المشيخة والدين والزهد والعبادة مع الخروج عن الكتاب والسنة ممن يدعى الإسلام ثم أن كانوا كفارا منافقين فجنهم من جنسهم وإن كانوا فساقا فجنهم من جنسهم وإن كانوا أهل جهل وبدعة بلا علم كان جهنم من جنسهم.

كون الملائكة أحياء ناطقين لا صورا خالية:

الوجه العاشر: أنه من المتواتر عن الأنبياء صلوات الله عليهم أن الملائكة

ص: 489

أحياء ناطقون يأتونهم عن الله بما يخبر به ويأمر به تارة وينصرونهم ويقاتلون معهم تارة وكانت الملائكة احيانا تأتيهم في صورة البشر والحاضرون يرونهم وقد اخبر الله عن الملائكة في كتاب بأخبار متنوعة وذلك يناقض ما يزعمونه من أن الملك إنما هو الصورة الخيالية التي ترتسم في الحس المشترك أو أنها العقول والنفوس.

الأخبار المتواترة بمجيء الملائكة في صورة البشر:

قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .

وفي الصحيحين عن مسروق قال: "كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها فقالت: يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت: ما هن. قالت: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ومن زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ومن أعظم أنه كتم شيئا مما أوحى إليه فقد أعظم على الله الفرية" قال: "وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين انظري ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فقالت: "أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" وفي لفظ: "فقلت: فأين قوله عزوجل {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}

ص: 490

قالت: "إنما ذاك جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء".

وفي الصحيحين أيضا عن الشيباني قال سألت زر بن حبيش عن قول الله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قال: "أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح" وعن ابن مسعود أيضا قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى} قال: "رأى جبريل له ستمائة جناح" وعنه أيضا {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: "رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح" وقال البخاري في بعض طرقه: "رأى رفرفا اخضر قد سد الأفق" وعن عبد الله قال: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: "رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قال: "رأى جبريل".

وقد قال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فبين أن الرسول الذي جاء به إلى محمد رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وهذه صفة لا تنطبق على ما في النفس من الخيال ولا على العقل الفعال فانه اخبر أنه مطاع والمطاع فوق السموات ليس هذا ولا هذا وكذلك قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} وقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 491

بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} .

وفي الصحيحين عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة: "ولقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا".

وفي الصحيحين عن عائشة قالت: "كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارىء قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وذكر الحديث بطوله وذكر فترة الوحي قال جابر في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فترة الوحي قال: "بينا أنا امشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني

ص: 492

زملوني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فحمى الوحي وتتابع ".

وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وهو في الصحيحين ومن حديث عمر وهو في مسلم ومن حديث غيرهما "أنه جاءه أعرابي شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا أحد فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه؟ قال: وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت" وقال في الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك" وسأله عن الساعة؟ فقال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" وسأله عن أشراطها؟ فقال ما ذكروه فلما أدبر قال: على بالرجل فطلب فلم يوجد فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم".

وقد استفاض أنه كان يأتيه في صورة دحية الكلبي وكان من أجمل الناس صورة وقد اخبر الله في القران أن الملائكة أتوا إلى إبراهيم ثم لوطا في صورة رجال فقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ

ص: 493

قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} فأخبر أنهم دخلوا على إبراهيم وسلموا عليه فرد عليهم وأنكرهم لما رأى من صورهم العجيبة واتاهم بالعجل السمين ضيافة لهم فلما رآهم لا يأكلون أو جس منهم خيفة فقالوا له لا تخف واخبروه أنهم رسل الله وبشروه بالغلام العليم إسحاق بعد كبره وكبر امرأته وذلك من خوارق العادات وقالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين والملائكة أرسلوا الحجارة من السماء على قرى قوم لوط وقد ذكر الله قصتهم في مواضع من القران في سورة هود والحجر والعنكبوت وفي كل موضع يذكر نوعا مما جرى.

واخبر الله تعالى أنه أرسل إلى مريم العذراء البتول ملكا في صورة بشر فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ

ص: 494

الْيَوْمَ إِنْسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} وقد ذكر الله النفخ في فرجها من هذا الروح في موضعين آخرين من القران.

فهذه الأخبار المتواترة من مجيء الملائكة في صورة البشر.

أخبار نزول الملائكة لنصر الأنبياء وتأييدهم:

وأما نزولهم لنصر الأنبياء وتأييدهم فقد ذكره الله في غير موضع من كتابه في قصة بدر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إلى قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .

وقوله تعالى في يوم أحد: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}

ص: 495

وقال تعالى في يوم الخندق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} .

وقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} .

وقال عند خروجه للهجرة: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

أنواع أخر من أخبار الملائكة:

وقد اخبر سبحانه عن الملائكة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .

وأخبر عنهم سبحانه بقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} فأين هذا النعت من قول هؤلاء المتفلسفة الذين يدعون أن العقل الأول رب جميع العالمين العلوي والسفلي

ص: 496

وكذلك كل عقل حتى ينتهي إلى الفعال فيزعمون أنه رب لما تحت فلك القمر وقد قال سبحانه: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .

وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف " وهذا موافق لقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} ولقوله عنهم: {وَمَا مِنَّا إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} .

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال

ص: 497

تعالى في صفة أهل النار: {سأصلية سقر ومآ ادراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} وقال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال غير واحد من الصحابة والتابعين كأبي هريرة وعبد الله بن الحارث وعطاء: "هم الملائكة" وقال قتادة: "الزبانية في كلام العرب الشرط" وقال مقاتل: "هم خزنة جهنم" قال أهل اللغة كابن قتيبة وغيره: "هو مأخوذ من الزبن وهو الدفع كأنهم يدفعون أهل النار إليها" قال ابن دريد: "الزبن الدفع يقال ناقة زبون إذا زبنت حالبها دفعته برجلها وتزابن القوم تداراوا واشتقاق الزبانية من الزبن".

وأيضا في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اخبر ليلة المعراج بما رآه من الملائكة والجنة والنار واخبر عن البيت المعمور أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون آخر ما عليهم.

وما في القران والأحاديث وكلام السلف من ذكر الملائكة وأحوالهم يفوق الإحصاء وكذلك عند أهل التوراة والإنجيل ونبوات سائر الأنبياء

ص: 498

بيان كذبهم على الأنبياء وان النبوة ليست كما يدعونه:

وما اخبر به الأنبياء يناقض قول من قال عن الأنبياء "إن الذي رأوه من الملائكة إنما هو ما يخيل في أنفسهم وان الذي سمعوه إنما هو ما سمعوه في نفوسهم" فان كان مقصوده أنهم أرادوا بما اخبروا به هذا فهذا كذب صريح عليهم لا حيلة فيه وان كان مكذبا لهم يقول أنهم لم يروا شيئا أو أنهم غلطوا فيما اخبروا به من ذلك فهذا ليس مقام من يفسر كلامهم ويبين مرادهم كما يزعمه هؤلاء المتفلسفة الذين يتكلمون على النبوة بما يدعون أنه تفسير لها والمقصود هنا بيان كذبهم على الأنبياء وان النبوة ليست كما يدعونه.

وأما الكذب للأنبياء فلخطابه مقام آخر مع أن هذا من اجهل أهل الأرض وأكفرهم وذلك أن الأنبياء عدد كثيرون وهم بإجماع العقلاء العلم والعدل في غاية صفات الكمال من العقل والعلم والعدل والصدق والأخلاق الحسنة وكل منهم لم ير الآخر ولم يستمع منه لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم فانه لم يكن بمكة على عهده أحد يعرف شيئا من كتب الأنبياء البتة وكل منهم يخبر عما رأى وسمع أخبارا يصدق بعضها بعضا فلو لم تثبت عصمة الأنبياء وصدقهم بل كان المخبر بمثل هذا مجهولا لوجب تواتر جنس ما رأوه كما أن العدد الكثير إذا اخبر كل منهم أنه رأى اسود تواتر وجود السودان عند من لم يرهم ولهذا لما اخبر كثير من المصروعين عن وجود الصرع ثبت بهذا وجوده في الجملة ولم يكن تكذيب المصروعين فيما يخبرون به مما يعاينونه بل عامة العقلاء يعلم أنهم رأوا الجن الأحياء الناطقين وهذا معلوم عند جمهور العقلاء علما ضروريا لا يمكنهم النزاع فيه.

تدبير الله أمر السماء والأرض بواسطة الملائكة:

وأيضا فالأدلة العقلية تدل على أن الملائكة بهم يدبر الله أمر السماء والأرض كما قد بسط الكلام على هذا في غير موضعه وبين فيه أن الحركات ثلاثة: طبيعية

ص: 499

وقسرية وإرادية لأن المتحرك إنما يتحرك بقوة فيه أو خارجة عنه والثاني هو المقسور المتحرك قسرا والأول أن لم يكن له شعور فهي الحركة الطبيعية وان كان له شعور فهي الإرادية والقسرية تابعة للقاسر فلولا هو لم يتحرك المقسور والطبيعية إنما يكون إذا خرج الجسم الطبيعي عن محله فيطلب بطبعه العود إلى محله فإذا عاد سكن كالتراب إذا سقط على الأرض والماء إذا وصل إلى مقره ونحو ذلك فلم يبق هنا متحرك ابتداء إلا المتحرك بالحركة الإرادية فعلم أن جميع الحركات مبدأها حركة إرادية ومعلوم أن الآدميين لا يحركون الهواء والسحاب وغير ذلك من الأجسام فالمحرك لها أحياء يحركون لها بالإرادة وهؤلاء هم الملائكة.

والملك معناه الرسول واصله ملاك على وزن مفعل ولكن ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت وهذه المادة معناها الرسالة سواء تقدمت اللام على الهمزة كما في صيغة الملك أو تقدمت الهمزة على اللام وهذه الأمور لبسطها موضع آخر.

وإنما المقصود أن نعرف أن ما يفسرون به الملائكة والوحي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه مناقض لما جاء به فعلم أن ما يثبتونه من النبوة لا حقيقة له وان ادعاءهم أن علم الأنبياء إنما يحصل بالقياس المنطقي وأما باتصال نفسه بالنفس الفلكية من أبطل الكلام وذلك مما يبين فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طرق العلم مادة وصورة وهو المطلوب في هذا الموضع ويبين أنهم اخرجوا من العلوم الصادقة اجل وأعظم واكبر مما أثبتوه وان ما ذكروه من الطرق إنما يفيد علوما قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة وهذه مرتبة القوم فإنهم من أخس الناس علما وعملا وكفار اليهود والنصارى اشرف منهم علما وعملا من وجوه كثيرة

ص: 500

كون حصول العلم في قلوب الأنبياء من الملائكة:

ومما يبين ذلك أن يقال ما يحصل في قلوب الأنبياء وغيرهم من العلم بأمور معينة أما أن يكون له سبب يقتضى حصول ذلك العلم أو يحصل بلا سبب كما يقول ذلك من أهل الكلام من ينكر الأسباب في الوجود فان لم يكن له سبب بطل قولهم أن ذلك من العقل والنفس وان كان له سبب أمكن أن يكون ذلك هو ملائكة تعلمهم بذلك أو جن تعلم بعض الناس وهم ليس لهم حجة أصلا على نفي ذلك بتقدير ما يقولونه من قدم الأفلاك وصدورها عن علة مستلزمة لها كما يقوله ابن سينا أو أن العلة تحركها تحريك القدوة للمقتدى به على قول أرسطو واتباعه فعلى قول أرسطو واتباعه وعلى كل قول ليس في العقل حجة تنفي ذلك وإذا أمكن كون ذلك من الملائكة بطل قولهم بل نقول يجب أن يكون ذلك من الملائكة إذا كان له سبب فان كون ذلك من النفس الفلكية قد ظهر بطلانه فوجب أن يكون ذلك من الملائكة وهو المطلوب.

وقد اثبت طائفة من نظار المسلمين والفلاسفة وجود الملائكة والجن بهذه الطريق وقالوا نحن نجد أمورا تحدث في نفوسنا بغير قصد منا من العلوم والإرادات وما هو من جنس العلوم والإرادات من الخواطر خواطر الشبهات والشهوات فلا بد لتلك من فاعل يحدثها في قلوبنا والله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء لكن لم يخلق شيئا إلا لسبب كما دل على ذلك استقراء خلقه للموجودات ولا يحدث حادثا إلا بسبب حادث والإنسان يكون قلبه خاليا من اعتقاد الضدين ومن أرادة الضدين فيحدث أحدهما في قلبه فلا بد لذلك من سبب حادث أوجب ذلك ولا يجوز إضافة ذلك إلى مجرد حركات الفلكية فان نسبة الحركة الفلكية في اليوم المعين إلى الأشخاص نسبة واحدة والناس مختلفون في هذه الخواطر اختلافا لا مزيد عليه والشخص الواحد يختلف حاله فتارة يكون مؤمنا وتارة يكون كافرا وتارة برا

ص: 501

وتارة فاجرا وتارة عالما وتارة جاهلا وتارة ناسيا وتارة ذاكرا بدون حدوث سبب فلكي يرجح أحد هذين الحالين على الآخر وأهل الأرض الواحدة والبلد الواحد والإقليم الواحد تختلف أحوالهم في ذلك مع أن طالع البلد لم يختلف ومع أن المتجدد من الأشكال الفلكية قد يكون متشابه الأحوال وأحوالهم مع هذا تختلف وهذا لبسطه موضع آخر.

فان ظن هؤلاء أن الحوادث التي تحت الفلك ليس سببها إلا تغير أشكال الفلك واتصالات الكواكب من افسد الأقوال ولهذا كان أصحاب هذا القول من أكثر الناس جهلا وكذبا وتناقضا وحيرة.

حيرة الفلكيين في أمر الكعبة وما لها من التعظيم والمهابة:

ولهذا حاروا في مكة شرفها الله وأي شيء هو الطالع الذي بنيت عليه على زعمهم حتى رزقت هذه السعادة العظيمة وهذا البناء العظيم مع طول الأزمان مع أنه لم يقصدها أحد بسوء إلا انتقم الله منه كما فعل بأصحاب الفيل ولم يعل عليها عدو قط والحجاج بن يوسف لم يكن عدوا لها ولا أراد هدمها ولا أذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق أصلا ولكن كان محاصرا لابن الزبير وكان ابن الزبير وأصحابه في المسجد وكانوا يرمون بالمنجنيق له ولأصحابه لا لقصد الكعبة وإن يهدموا الكعبة ولا وقع فيها شرعي من حجارة الحجاج

ص: 502

بل كان ابن الزبير قد بناها على قواعد إبراهيم والصقها بالأرض وجعل لها بابين كما أخبرته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وألصقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه" ووصف لعائشة من الحجر ما هو من البيت قريبا من سبعة ازرع موضع انحناء الحجر وكانت القريش قد بنتها فقصرت بها النفقة فتركوا ما تركوه من الحجر ورفعوها.

فلما ولي الزبير شاور الناس في ذلك فمنهم من رأى ذلك مصلحة ومنهم من أشار عليه بأن لا يفعل وقال: "هذه الكعبة هي التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعليها اسلم الناس" وهذا كان رأي ابن عباس وطائفة.

والفقهاء متنازعون في هذه المسألة منهم من يرى إقرارها كقول ابن عباس وهو قول مالك وغيره ويقال أن الرشيد شاوره أن يفعل كما فعل ابن الزبير فأشار عليه أن لا يفعل ورأى أن هذا يفضي إلى انتقاض حرمة الكعبة باختلاف الملوك في ذلك هذا يهدمها ليبنيها كما فعل ابن الزبير وهذا يرى أن يعيدها

ص: 503

كما كانت ومنهم من يرى تصويب ما فعله ابن الزبير ويقال أن الشافعي يميل إلى هذا.

فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما فعل ابن الزبير فيخبره بأنهم وجدوا قواعد إبراهيم وانه أرى ذلك لأهل مكة فكتب إليه عبد الملك أن يعيدها كما كانت إلا ما زاده من الطول فلا يغيره ويذكر أن ما فعله ابن الزبير لا يعلم أصله.

ثم أن عبد الملك حدثه بعض الناس بحديث عائشة فقال: "وددت اني وليت ابن الزبير من ذلك ما تولى".

والمقصود أنه ولله الحمد لم يردها أحد من المسلمين بسوء لا الحجاج ولا غيره ولكن قرامطة البحرين بعد ذلك بمدة أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم مدة فانتقم الله منهم وجرت فيهم المثلات.

فصار هؤلاء الفلكيون حائرين في أمرها لما جعل الله لها من العز والمهابة والتعظيم مع المحبة ومع كون الناس من مشارق الأرض ومغاربها يأتونها بمحبة ورغبة وذل مع المشاق العظيمة التي تزيد على مشقة عامة الأسفار من الجوع والعطش والخوف والتعب وانه ليس بمكة بساتين ولا أنهار ولا غير ذلك مما تطلبه النفوس حتى الجأ بعضهم الحيرة إلى أن زعم أن تحتها مغارة فيها طلاسم موجهة إلى جميع الجهات

ص: 504

وأنها تبخر في شهر رجب أو غيره لتصرف وجوه الناس إليها ونحو هذه الأقوال المكذوبة التي يعلم كل من له علم بمكة أنها كذب مختلق وانه لا ينزل أحد قط إلى أسفل الكعبة ولا مغارة تحتها.

ونفس التبخير لا يفعله المسلمون عبادة وقربانا كما كان يفعل ذلك من قبلهم بل هو عندهم من جنس الطيب فتقصد رائحته ومن كان قبل المسلمين من أهل الكتاب كانوا يقربون القرابين فتنزل النار تأكله وقد يدخنون بدخن وأما المشركون من عباد الكواكب والأصنام فالتدخين عندهم من أصول العبادات.

بل وجود مكة مما يدل على القادر المختار وانه يخلق بمشيئته وقدرته وعلمه كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد قال ابن عباس: "لو ترك الناس الحج سنة واحدة لما نوظروا" ولهذا كان حج البيت كل عام فرضا على الكفاية كما ذكر ذلك الفقهاء من أصحاب الشافعي كالقاضي أبي بكر وغيره.

والمقصود هنا أنه إذا علم ما يحدث في النفوس ليس سببه مجرد حركة الفلك مع أنه لا بدل منه من سبب دل ذلك على وجود الملائكة والجن وهذا سلف الأمة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين فإنهم يقولون أن الشياطين توسوس في نفوس بني ادم كالعقائد الفاسدة والأمر باتباع الهوى وان الملائكة بالعكس إنما تقذف في القلوب الصدق والعدل قال ابن مسعود: "إن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد

ص: 505

بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق" وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا: وإياك يا رسول الله قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم" وفي لفظ "فلا يأمرني إلا بخير ".

قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} والقول الصحيح الذي عليه أكثر السلف أن المعنى من شر الموسوس من الجنة ومن الناس من شياطين الإنس والجن.

وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن" قال: يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال: "نعم شر من شياطين الجن " قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وهم شياطينهم من الإنس كما قال ذلك عامة السلف وكما يدل

ص: 506

عليه سباق القران فان شياطين الجن لم يكونوا يحتاجون إلى أن يخلوا بهم ولا هم يقولون لهم {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .

كون الصواب من الهام الملك والخطأ من إلقاء الشيطان:

وقد تنازع الناس في العلم الحاصل في القلب عقيب النظر والاستدلال على أقوال فهؤلاء المتفلسفة يقولون أن ذلك من فيض العقل الفعال عند استعداد النفس والمعتزلة يقولون هو حاصل على سبيل التولد والأشعري وغيره يقولون هو حاصل بفعل الله تعالى كما تحصل سائر الحوادث عندهم لا يجعلون لشيء من الحوادث سببا ولا حكمة.

والذي عليه السلف والأئمة أن الله جعل للحوادث أسبابا وحكمة وهذه الحوادث قد تحدث بأسباب من الملائكة أو من الجن وان ما يحصل في القلب من العلم والقوة ونحو ذلك قد يجعله الله بواسطة فعل الملائكة كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سأل القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه انزل الله إليه ملكا يسدده" والتسديد هو إلقاء القول السداد في قلبه وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا} وهؤلاء لم يكونوا أنبياء بل ذلك الهام وقد يكون بتوسط الملك كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ

ص: 507

رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} .

والآراء والخطأ في الرأي من إلقاء الشيطان ولو كان صاحبها مجتهدا معذورا كما قال غير واحد من الصحابة كأبي بكر وابن مسعود في بعض المسائل: "أقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله وان يكن خطا فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه".

وما يكون من الشيطان إذا لم يقدر الإنسان على دفعه لا يأثم به كما يراه النائم من أضغاث الشيطان وكاحتلامه في المنام فانه وان كان من الشيطان فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ.

وكذلك ما يحدث به الإنسان نفسه من الشر قد تجاوز الله له عنه حتى يتكلم به أو يعمل به وإن كان من الشيطان ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به " وفي الصحيحين من غير وجه عن أبي هريرة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه "إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة فان عملها كتبت له عشر حسنات وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فان عملها فاكتبوها سيئة وان تركها فاكتبوها له حسنة فانه إنما تركها من جرائي".

وفي الصحيح أن الصحابة سألوا النبي عن الوسوسة التي يكرهها

ص: 508

المؤمن وهي ما يلقي في قلبه من خواطر الكفر فقالوا: يا رسول الله أن احدنا ليجد في نفسه ما لأن يحرق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال: "ذلك صريح الإيمان " وفي حديث آخر: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين اقبل فإذا أقيمت الصلاة أدبر فإذا قضيت اقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين" فقد اخبر أن الشيطان يوسوس في الصلاة ولم يأمر بإعادة الصلاة.

فالاعتقادات والإرادات الفاسدة تحصل بسبب شياطين الإنس والجن والاعتقادات الصحيحة والإرادات المحمودة قد تحصل بسبب الملائكة وصالحي الإنس فان سماع الكلم قد يؤثر في قلب المستمع فالمتكلم فاعل فان كان السامع قابلا انتقش كلامه في قلبه وان لم يكن قابلا لم ينتقش فيه.

إبطال القول بمعرفة الغيب بدون توسط الأنبياء:

وما يذكره طوائف من الباطنية باطنية الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا وباطنية الصوفية كابن سبعين وابن عربي وغيرهما وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أهل الرياضة وتصفية القلب وتزكية النفس بالأخلاق المحمودة قد يعلمون

ص: 509

حقائق ما أخبرت به الأنبياء من أمر الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر ومعرفة الجن والشياطين بدون توسط خبر الأنبياء هو بناء على هذا الأصل الفاسد وهو أنهم إذا صفوا نفوسهم نزل على قلوبهم ذلك أما من جهة العقل الفعال أو غيره

كلام في الغزالي قادح فيه:

وأبو حامد يكثر ذكر هذا وهو مما أنكره عليه المسلمون وقالوا فيه أقوالا غليظة بهذا السبب الذي اسقط فيه توسط الأنبياء في الأمور الخبرية وجعل ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة لا يفيد معرفة شيء من الغيب ولا يعرف معنى كلامه وما يتأول منه وما لا يتأول لكن إذا ارتاض الإنسان انكشفت له الحقائق فما وافق كشفه اقره وما لم يوافقه تأوله ولهذا قالوا: "كلامه يقدح في الإيمان بالأنبياء" وذلك أن هذا مأخوذ من أصول هؤلاء الفلاسفة ولهذا كانوا يقولون: "أبو حامد أمرضه (الشفاء) " وانشد فيه ابن العربي الأبيات المعروفة عنه حيث قال:

برئنا إلى الله من معشر

هم مرض من كتاب الشفا

ص: 510

وكم قلت:

يا قوم انتم على

شفا جرف من كتاب الشفا

فلما استهانوا بتنبيهنا

رجعنا إلى الله حتى كفى

فماتوا على دين رسطالس

وعشنا على ملة المصطفى

وكلامه في مشكوة الأنوار وفي كيمياء السعادة هو قول هؤلاء ولهذا يذكر أن صاحب الرياضة قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران عليه السلام وأمثال هذه الأقاويل التي أنكرها علماء المسلمين العارفين بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة من الطوائف كلها من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة واحمد بن حنبل والصوفية المحققين المتبعين للرسول وأهل الحديث ونظار أهل السنة.

وقد أنكر عليه طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم واخطأوا أيضا في هذا النفي بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم.

لكن لا بد من الاعتصام بالكتاب والسنة في العلم والعمل ولا يمكن أن أحدا بعد الرسول يعلم ما اخبر به الرسول من الغيب بنفسه بلا واسطة الرسول ولا يستغني أحد في معرفة الغيب عما جاء به الرسول وكلام الرسول مبين للحق بنفسه ليس كشف أحد ولا قياسه عيارا عليه فما وافق كشف الإنسان وقياسه وافقه وما لم يكن كذلك خالفه بل ما يسمى كشفا وقياسا هو مخالف للرسول فهذا قياس فاسد وخيال فاسد وهو الذي يقال فيه نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي.

والإنسان قد يصفي نفسه ويلقى الشيطان في نفسه أشياء فان لم يعتصم بالذكر المنزل وإلا اقترن به الشيطان كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} .

الفرق بين طرق متكلمي الإسلام وطرق المناطقة الفلاسفة:

فإن قيل ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم يوجد نحو منه في كلام متكلمي

ص: 511

المسلمين بل منهم من يذكره بعينه أما بعباراتهم وأما بتغيير العبارة قيل الجواب من وجهين:

أحدهما: أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقا بل كل ما جاء به الرسول فهو حق وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يخالف ذلك فهو باطل وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث المشتمل على الباطل المخالف للكتاب والسنة وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ومر أن الكلام المذموم الذي ذمه السلف الطيب اتباع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هو الكلام الباطل وهو المخالف لما جاء به الرسول.

وهذان وصفان ملازمان فكل ما خالف ما جاء به الرسول فهو باطل وكل كلام في الدين باطل فهو مخالف لما جاء به الرسول وبطلان ذلك قد يعلم بالأدلة العقلية مع دلالة الشرع على بطلانه ودلالة الشرع تكون تارة بالأخبار عن الحق والباطل وتارة بالإرشاد والهداية إلى الأدلة التي بها يعرف الحق وينظر العاقل في تلك الأدلة التي ارشد الرسول إليها ودل عليها.

الثاني: أن يقال متكلموا الإسلام لم يسلكوا طريق هؤلاء الفلاسفة فانه ليس فيهم أحد يحصر طرق العلم حصرا يدخل فيه الأنبياء كما فعل هؤلاء حيث جعلوا ما علمه الأنبياء داخلا في طريقهم فجعلوا النبوة من جنس ما يكون لبعض الناس إذا كان فيه ذكاء وزهد بل المتكلمون متفقون على أن النبي يعلمه الله بما لا يعلم به غيره بمشيئة الرب وقدرته فإنهم متفقون على أن الله يفعل بمشيئته وقدرته وانه يرسل ملكا إلى النبي وهو يعلم الملك ويعلم ما يقول وما يقوله للنبي ليس فيهم من يقول أن الله لا يعلم الجزئيات ولا أن الله ليس بقادر مختار ولا أن الأفلاك قديمة أزليه ولا من ينكر معاد الأبدان ولا من يقول أن ملائكة الله مجرد ما يتخيل في النفوس كما يتخيل للنائم ولا كلام الله مجرد ما يتخيل في النفوس من الأصوات ولا من يقول أن ما يعلمه الأنبياء من الغيب إنما يفيض على نفوسهم من النفس الفلكية

ص: 512

ولا يجعل احدهم اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية.

ولا يقول أحد منهم أن شيئا غير الله أبدع ما سواه كما يقوله هؤلاء أن العقل الأول أبدع كل ما سواه من الممكنات ويسميه من ينتسب إلى الإسلام منهم القلم ويظنون أن الحديث المروي: "إن أول ما خلق الله العقل قال له: اقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر" هو هذا العقل والحديث لفظه حجة عليهم لا لهم ومع هذا فلو كان حجة لهم لم يجز التمسك به لأنه موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك الدارقطني وابن حبان وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم.

بطلان جعلهم النبوة جزءا من الفلسفة:

والمتكلمون إذا حصروا طرق العلم حصروا طرق مثلهم وأمثالهم فيذكرون الحسيات والعقليات الضرورية والنظرية سواء كان ذلك الحصر مطابقا أو ليس بمطابق لم يقصدوا أن يذكروا الطريق التي بها يعلم النبي ما يوحي إليه بل هذه الطريق خارجة عما يقدرون عليه هم وأمثالهم من الطرق وليست من جنسها عندهم بخلاف المتفلسفة فان النبي عندهم من جنس غيره من الأذكياء الزهاد لكنه قد يكون أفضل والنبوة عندهم جزء من الفلسفة وهذا هو الضلال العظيم فان الفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل فضلا عن درجتهم قبل ذلك فضلا عن درجة المؤمنين أهل القران كالصحابة والتابعين فضلا عن درجة واحد من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم منهم بل عامة أذكياء الناس وازهد الناس أن يكون مشبها للتابعين بإحسان للسابقين الأولين.

فأما درجة السابقين الأولين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها أحد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان

ص: 513

يكن في أمتي فعمر " وفي حديث آخر: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه " وقال على: "كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر" وفي الترمذي وغيره "لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر".

ومع هذا فالصديق أكمل منه فان الصديق كمل في تصديقه للنبي فلا يتلقى إلا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ أحيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به لكن قلبه ليس معصوما فعليه أن يعرض ما القي عليه على ما جاء به الرسول فان وافقه قبله وان خالفه رده ولهذا قد رجع عمر عن أشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه والصديق إنما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو أكمل من المحدث وليس بعد أبي بكر صديق أفضل منه ولا بعد عمر محدث أفضل منه.

كون معيار الولايات عند العارفين هو لزوم الكتاب والسنة:

ولهذا كان الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون أهل

ص: 514

القلوب أرباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة بلزوم الكتاب والسنة قال الجنيد بن محمد: "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم بعلمنا" وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: "إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة" وقال أيضا: "ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر" وقال أبو عثمان النيسابوري: "من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فان الله يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال آخر: "من لم يتهم خواطره في كل حال فلا تعده في ديوان الرجال".

وقيل لأبي يزيد البسطامي: قد قدم شيخ من أصحابك فذهب ليزوره فرآه قد بصق في القبلة فقال: "ارجعوا بنا هذا رجل لم يأتمنه الله على أدب من آداب الشريعة فكيف يأتمنه على سره" وهذا الذي فعله أبو يزيد يستدل عليه بما في السنن سنن أبي داود وغيره "أن رجلا كان إماما في مسجد من مساجد الأنصار فان كل قبيلة كان لها مسجد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرأى بصاقا في القبلة فقال من فعل هذا فذكرا الإمام فنهاهم أن يصلوا خلفه فلما جاء ليؤمهم منعوه وقالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نصلي خلفك فجاء إليه فذكر ذلك له فقال: صدقوا إنك آذيت الله ورسوله".

وقال غير واحد من الشيوخ والعلماء: "لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي

ص: 515

على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي" ومثل هذا كثير في كلام المشائخ والعارفين وأئمة الهدى وأفضل أولياء الله عندهم أكملهم متابعة للأنبياء ولهذا كان الصديق أفضل الأولياء بعد النبيين فما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر لكمال متابعته وهم كلهم متفقون على أنه لا طريق للعباد إلى الله إلا باتباع الواسطة الذي بينهم وبين الله وهو الرسول.

ولكن دخل في طريقهم أقوام ببدع وفسوق والحاد وهؤلاء مذمومون عند الله وعند رسوله وعند أوليا الله المتقين وهم صالحوا عباده مثل من يظن أن لبعض الأولياء طريقا إلى الله بدون اتباع الرسول أو يظن أن من الأولياء من يكون مثل النبي أو أفضل منه أو أنه يكون من هو خاتم الأولياء أفضل من السابقين الأولين أو اعلم بالله من خاتم الأنبياء وأمثال هذه المقالات التي تقولها من دخل فيهم من الملاحدة الضالين ومن هذا الوجه صار قوم متصوفون يتفلسفون.

وتكلم ابن سينا في إشاراته على مقامات العارفين وقال الرازي في شرحه: "هذا الباب اجل ما في الكتاب فانه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا يلحقه من بعده" وهذا الذي قاله الرازي قاله بحسب معرفته فانه لم يكن عارفا بطريق الصوفية العارفين المتبعين للكتاب والسنة ولعله قد رأى من صوفية وقته وفيه من الجهالات والضلالات ما رأى أن هذا الكلام أحسن ما يرتب عليه طريقهم وقد ذكر في مقامات العارفين أمر النبوة التي يثبتونها.

الفناء المذموم والفناء المحمود:

وآخر ما انتهى إليه العارفون في تسليكه هو الفناء عما سوى الحق الذي أثبته والبقاء

ص: 516

به وهذا لو كان سالكه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويفعل ما أمر الله به وينتهي عما نهى الله عنه فيسلك سلوك اتباع الرسل لكانت هذه الغاية سلوكا ناقصا عند أئمة العارفين فان الفناء الذي أثبته إنما هو الفناء عن شهود السوي وكذلك من اتبعه مثل ابن الطفيل المغربي صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وحظوره بالقلب وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين ليس هو الغاية ولا شرطا في الغاية.

بل الغاية الفناء عن عبادة السوي وهو حال إبراهيم ومحمد الخليلين صلى الله عليه وسلم فانه قد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".

وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية وهو إخلاص الدين لله وهو أن يغني يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى ولهذا أمر إبراهيم الخليل بذبح ابنه فانه كان قد سأل الله أن يهبه إياه ولم يكن له ابن غيره.

فان الذبيح هو إسماعيل على اصح القولين للعلماء وقول أكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة فقال الخليل: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} قال

ص: 517

الله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} والغلام الحليم إسماعيل وأما إسحاق فقال فيه {نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وإسحاق بشرت به سارة أيضا لما غارت من هاجر والله ذكر قصته بعد قصة الذببح فانه لما ذكر قصة الذببح قال بعدها وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين والمقصود هنا أن الله أمر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال.

وأما مجرد شهوده الحق من غير فعل ما يحبه ويرضاه فهذا ليس بإيمان ينجي من عذاب الله فضلا عن أن يكون هذا غاية العارفين.

ثم الذي لا يشهد السوي مطلقا أن شهده عين السوي فهذا قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وان كان ذلك لغيبته وأعراضه عن شهود السوي فمن شهد ما سواه مخلوقا له آية له وشهد ما فيه من آياته كان أكمل ممن لم يشهد هذا وهؤلاء قد يبلغ بهم الأمر إلى أن يروا أن شهود الذات مجردة عين الصفات هو أعلى مقامات الشهود وهذا من جهلهم فان الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج وليس ذاك رب العالمين ولكن هم في أنفسهم جردوها عن الصفات وشهدوا مجرد الذات كما يشهد الإنسان تارة علم الرب وتارة قدرته فهؤلاء شهدوا مجرد ذات مجردة فهذا في غاية النقص في معرفة الله والإيمان به فكيف يكون هذا غاية ومنهم من ينظر هذا شرطا في السلوك وليس كذلك بل السابقون الأولون أكمل الناس ولم يكن مثل هذا يخطر بقلوبهم ولو ذكره أحد عندهم لذموه وعابوه.

الفرق بين شهود الخلق وشهود الشرع:

ومن جعل من الصوفية هذا الفناء غاية وقال أنه يفني عن شهود فعل الرب حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا غلط عند أئمة القوم وأصحاب هذا الفناء

ص: 518

يسمون هذا اصطلاما ومحوا وجمعا وكان الجنيد رضي الله عنه لما رأى طائفة من أصحابه وصلوا إلى هذا أمرهم بالفرق الثاني وهو أن يفرقوا بين المأمور والمحظور وما يحبه الله وما يسخطه حتى يحبوا ما أحب ويبغضوا ما ابغض وإلا فإذا شهدوا خلقه لكل شيء ولم يشهدوا إلا هذا الجمع استوت الأشياء كلها في شهودهم لشمول الخلق والمشيئة والقدرة لكل شيء وهذا شهود لقدره لا لشرعه ودينه فلم يبق في قلوبهم حب لما يحبه وبغض لما يبغضه وموالاة لما يواليه ومعاداة لما يعاديه وكانوا ممن انكر عليهم سبحانه بقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال فيهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .

ونفس ولاية الله مخالفة لعداوته واصل الولاية والعداوة الحب والبغض فأولياء الله هم الذين يحبون ما أحب ويبغضون ما ابغض وأعداؤه الذين ما يحب ويحبون ما يبغض وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .

فمن لم يشهد بقلبه إلا خلقه الشامل ومشيئته العامة وربوبيته الشاملة لكل شيء لم يفرق بين وليه وعدوه ولم تتميز عنده الفرائض والنوافل وغيرها وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه

ص: 519

ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه".

فالناظر إلى القدر لا يفرق بين مأمور ومحذور سواء كان فرضا أو نفلا وهو مع هذا لا بد لنفسه أن تميل إلى شيء وتنفر عن شيء فان خلو الحي عن الإرادة مطلقا محال فان لم يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه أحب ما تحبه نفسه وابغض ما تبغضه نفسه فيخرج عن الفرق الإلهي النبوي الذي هو حقيقة قول لا اله إلا الله وحقيقة دين الإسلام إلى الفرق النفساني الشيطاني.

ثم هؤلاء صاروا فرقا أما ابن سينا وأمثاله من الملاحدة فإنهم يأمرون بهذا مع سائر إلحادهم من نفي الصفات وقدم الأفلاك وإنكار معاد الأبدان وجعل النبوة تنال بالكسب كالذكاء والزهد وإنما يفيض عليها فيض من العقل الفعال فيخرج من دين المسلمين واليهود والنصارى.

بل الفناء المحمود عند العارفين هو تحقيق شهادة أن لا اله إلا الله فلا يشهد لمخلوق شيئا من الإلهية فيشهد أنه لا خالق غيره ويشهد أنه لا يستحق العبادة غيره ويتحقق بحقيقة قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ

ص: 520

عَلَيْهِ} وإلا فإذا شهدت أنه المستحق للعبادة مع رؤيتك نفسك لم تشهد حقيقة إياك نستعين وإذا شهدت حقيقة أنه الفاعل لكل شيء ولم تشهد أنه المستحق للعبادة دون ما سواه وان عبادته إنما تكون بطاعة رسوله لم تشهد حقيقة إياك نعبد وإذا تحققت بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحققت بالفناء في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} .

وقال تعال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} .

ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطريق الفاسدة أورثهم ذلك الفناء عن وجود السوي فجعلوا الموجود واحدا ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق وحقيقة الفناء عندهم أن لا يرى إلا الحق وهو الرائي والمرئي والعابد والمعبود والذاكر والمذكور والناكح والمنكوح والأمر الخالق هو الأمر المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم وعباد الأصنام ما عبدوا غيره وما ثم موجود مغاير له البتة عندهم وهذا منتهي سلوك هؤلاء الملحدين.

فحقيقته قول فرعون لأن فرعون كان في الباطن عالما بأن ما يقوله باطل وكان جاحدا مريدا للعلو والفساد ولهذا جحد وجود الصانع بالكلية وأما هؤلاء فجهال ضلال يحسبون أن ما يقولونه هو حقيقة إثبات الرب وتعظيمه وهو في الحقيقة قول فرعون فان فرعون ما كان ينكر وجود هذا العالم ولا ينكر أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود وإنما كان ينكر أن لهذا الوجود خالقا مباينا له ولهذا أمر ببناء ليكذب موسى بزعمه أن للعالم آلها فوقه قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ

ص: 521

يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَاّ فِي تَبَابٍ} وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} .

وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون أن فرعون أكمل من موسى وان فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} لأن الوجود فاضل ومفضول والفاضل يستحق أن يكون رب المفضول ومنهم من يقول مات مؤمنا وان تغريقه كان ليغتسل غسل الإسلام فإنهم مع قولهم بأن الوجود واحد قد يقولون أما بقول بعضهم أن الثبوت غير الوجود وان ماهيات الممكنات ثابتة وان وجود الحق قاض عليها كما يقول ذلك ابن عربي وغيره وأما أن يفرق بين المطلق والمعين كما يقوله صاحبه القونوي وابن سبعين قوله قريب من هذا وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وإنما ذكروا هنا لأن هؤلاء هم آخر مراتب فلاسفة الصوفية الذين يقولون أنهم أهل التحقيق والعرفان وكل من سواهم عندهم ناقص بالنسبة إليهم وقد رأيت من هؤلاء غير واحد.

وهم يرتبون الناس طبقات أدناها عندهم الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي أي صوفي الفلاسفة ثم المحقق ويجعلون ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في الثانية وأبا حامد وأمثاله من الصوفية من العشرة ويجعلون المحقق هو الواحد

ص: 522

ولهذا ذكر ابن عرابي في الفتوحات له أربع عقائد الأول: عقيدة أبي المعالي وأمثاله مجردة عن الحجة ثم هذه العقيدة بحجتها ثم عقيدة الفلاسفة ثم عقيدة المحققين وذلك أن الفيلسوف يفرق بين الوجود والممكن والواجب وهؤلاء يقولون الوجود واحد والصوفي الذي يعظمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظمه ابن سينا وبعده المحقق.

وهؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى بل كثير من المشركين أحسن حالا منهم وهؤلاء أئمة النظار المتفلسفة وصوفيتهم وشيعتهم كان من أسباب تسلطهم وظهورهم هو بدع أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة ومن نحا نحوهم في بعض الأصول الفاسدة فان هؤلاء اشتركوا هم وأولئك الملاحدة في أصول فاسدة يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل.

مقالات للفلاسفة لم يذهب إليها أحد من طوائف المسلمين:

ثم أراد هؤلاء المتكلمون الرد عليهم في إلحادهم الظاهر الذي يظهر فيه فخالفتهم للمسلمين مثل القول بقدم العالم وإنكار علم الله بالجزئيات والقول بإنكار المعاد وهذه الثلاثة هي التي يكفرهم بها أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وطائفة يقولون أن سائر أقوالهم الباطلة هي البدع التي ذهب إليها بعض أهل الكلام كإنكار الصفات وليس الأمر كما قاله هؤلاء بل مقالاتهم التي لم يذهب إليها أحد من طوائف المسلمين لا أهل البدعة ولا أهل السنة كثيرة مثل قولهم في النبوات والملائكة وكلام الله وقولهم في الشفاعة وإنكار مشيئة الله وقدرته وليس هذا من لوازم القول بقدم العالم بل في القائلين بذلك من يقول أن الله يفعل بمشيئته وقدرته كأحد القولين الذين ذكرهما أبو البركات واختاره وكذلك ما يقولونه في الملائكة أنها مجرد ما يتخيل في النفوس أو أنها العقول وان الواحد منها أبدع كل ما سواه وان العقل الفعال هو المدبر لكل ما تحت الفلك وان الوحي على

ص: 523

الأنبياء إنما يجيء منه وانه منتهى معاد الأنفس.

فإنكارهم لقدرة الله ومشيئته أعظم من إنكارهم لعلمه بالجزئيات فان كثير من الناس كان لا يعرف ذلك ولكن يعلم أن الله قادر خلق الأشياء بمشيئته كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال: أحدهم أترون الله يسمع ما نقول فقال الثاني: يسمع أن جهرنا ولا يسمع أن أخفينا فقال الثالث: أن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا فأنزل الله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض بمشيئته وقدرته وكذلك كان بعض أحداث من المسلمين قد يجهل هذه المسألة فيقول يا رسول الله مهما يكتم الناس يعلمه الله فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم نعم ولم يكن هؤلاء يجهلون أن الله خلق كل شيء بمشيئته وقدرته بل كان هذا من أظهر الأمور وأعرفها عند عامة المسلمين بل وعامة المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام وهم كفار وهم مشركون وهم الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم أول من يتناوله ذم القرآن للمشركين ومع هذا فكانوا مقرين بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق كل شيء بقدرته ومشيئته فكانوا أحسن حالا من هؤلاء الفلاسفة في الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وانه خلق الأشياء بمشيئة وقدرته.

فان هؤلاء حقيقة قولهم أنه لم يخلق شيئا ومتقدموهم كأرسطو وأتباعه على أنه علة يتحرك الفلك للتشبه بها فليس هو عندهم لا موجبا بالذات ولا فاعلا بالمشيئة وأما ابن سينا وأمثاله ممن يقول أنه موجب بذاته فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء

ص: 524

أنه مخالف لضرورة العقل إذ يثبتون مفعولا ممكنا يمكن وجوده ويمكن عدمه وهو مع هذا قديم أزلي لم يزل ولا يزال وهو مفعول معلول لعلة فاعلة لم يزل مقارنا لها في الزمان فكل من هذين القولين مما خالفوا فيه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى سلفهم كأرسطو ونحوه فإنهم لم يقولوا بهذا ولا بهذا بل أولئك يقولون أن الفلك قديم أزلى بنفسه ليس له مبدع ولكن يتحرك للتشبه بالعلة الأولى فهو مفتقر إليها من هذه الجهة لا من جهة أنها مبدعة له وحقيقة قوله أنها شرط في وجود العالم مع وجوبه بنفسه فيجعلون الواجب بنفسه مفتقرا إلى غيره وهذا مما ينكره متأخروهم كابن سينا وأمثاله.

وكذلك القائلون بالعلة الموجبة كابن سينا وابن رشد والسهروردى وغيرهم حقيقة قولهم أنه شرط في وجود الممكنات لا مبدع لها ولا فاعل فإنهم لا يثبتون للحوادث محدثا أصلا في نفس الأمر إذ الفلك عندهم ممكن له مبدع وهو متحرك باختياره كما يتحرك الإنسان باختياره وله نفس فلكية كما للإنسان نفس وليس عندهم فوقه شيء يحدث عنه شيء.

وإن قالوا أنه معلول فقولهم في الفلك أقبح من قول القدرية في أفعال الحيوان فان القدرية يقولون أن الله خلق الحيوان بقدرته ومشيئته فجعل له قدرة تصلح للضدين فهو يحدث أرادته وأفعاله بقدرته ومشيئته وهؤلاء لا يجعلون الفلك مخلوقا في الحقيقة وإن قالوا هو معلول ولو جعلوه مخلوقا فعندهم هو متحرك حركة اختيارية نفسانية بمشيئة وقوة فيه وليس فوقه شيء يحدث هذه الحركة ولا يفعلها وإنما الفلك متحرك للتشبه بالأول لاستخراج أيونه وأوضاعه إذ هي غاية كماله.

وإن قالوا أن حركته تصدر عن الأول فكلام لا حقيقة له فإنهم وكل عاقل يعلم أن الشيء البسيط الذي هو على حال واحدة أزلا وأبدا لا يحدث عنه شيء فضلا عن حوادث مختلفة ويعلمون أن المتغيرات لا تصدر عن بسيط البتة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع

ص: 525

والمقصود هنا التنبيه على أن الكفر الذي يوجد فيهم قولا وفعلا أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين هم أول من بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن بكفره واستحقاقه النار.

الشفاعة الشركية المنفية والشفاعة الشرعية الثابتة:

ومن ذلك أن أولئك المشركين كانوا يجعلون ما يشركون به شفعاء يشفعون لهم إلى الله والله يقبل شفاعتهم وهو سؤالهم ودعاؤهم بقدرته ومشيئته كما ذكر الله ذلك في مواضع من كتابه فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} .

ولهذا نفى الله شفاعة أحد إلا باذنه في غير موضع من القرآن بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} وقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ

ص: 526

مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .

فهذه الشفاعة التي نفاها القرآن تتضمن نفى ما كان يقوله مشركوا العرب وأمثالهم من المشركين وهى من جنس شرك النصارى ونحوهم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام حيث يعتقدون في الملائكة أو الأنبياء أو الشيوخ أنهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء إلى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون من أراد أن يتقرب إلى ملك عظيم فلا ينبغي له أن يأتي إليه أولا بل يتقرب إلى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه إليه قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ذكر سبحانه هذا بعد قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} .

وقال في هذه السورة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقال فيها: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ

ص: 527

وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وقال فيها: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .

تفسير قوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون} الاية:

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .

روى ابن أبي حاتم وغيره بأسانيد ثابتة عن شعبة عن السدي سمع أبا صالح عن ابن عباس في قول الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عيسى وأمه وعزير والملائكة وكذلك في تفسير عطية عن ابن عباس قال: "كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا" وعن إسرائيل عن السدي عن أبي صالح: "عيسى وعزير والملائكة" وكذلك في تفسير أسباط عن السدي قال: "ذكروا أنهم اتخذوا الآلهة وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح وعزيرا قال الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} .

وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك الآخرون بعبادتهم فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} إلى أخر الآية وكذلك

ص: 528

روى ابن أبي حاتم وغيره أن ابن شوذب عن مطر الوراق قال: "أنزلها الله في حي من العرب كانوا يعبدون حيا من الجن" وفي تفسير مقاتل: "أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هي تشفع لنا عند الله فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين قيل لهم: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} .

والآية تتناول كل من دعى غير الله وذلك المدعو يبتغى إلى الله الوسيلة أي القربى والزلفى ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه وهذا يدخل فيه الملائكة والأنبياء والصالحون الإنس والجن وقد قرأ طائفة (أولئك الذين تدعون) فبين أن الذين يدعونهم المشركون هم يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم وهذا كقوله: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} .

حصر أقسام المدعوين من دون الله ونفى كل واحد منهم:

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فذكر سبحانه الأقسام الممكنة فان المشرك الذي يدعو غير الله ويرجوه ويخافه أما أن يجعله مالكا أو شريكا أو ظهيرا أو شفيعا وهكذا كل من طلب منه أمر من الأمور أما أن يكون مالكا مستقلا به وأما أن يكون شريكا فيه وأما أن يكون عونا وظهيرا لرب الأمر وأما أن يكون سائلا محضا وشافعا إلى رب الأمر فإذا انتفت هذه الوجوه امتنعت الاستغاثة به.

ولهذا كان الناس بعضهم مع بعض من الملوك وغيرهم فيما يتساءلونه لا يخرجون عن هذه الأقسام أما أن يكون لكل منهما ملك متميز عن الآخر فيطلب من هذا ما في ملكه ومن هذا ما في ملكه وأما أن يكون أحدهما شريكا للآخر فيطلب منه ما يطلب من الشريك وأما أن يكون أحدهما من أعوان الآخر وأنصاره وظهرانه

ص: 529

كأعوان الملوك فهو محتاج إليهم فيطلب منهم ما يحتاج إليه وإذا انتفت هذه الوجوده لم يبق إلا مجرد طلب محض وسؤال من غير حاجة بالمسئول إلى السائل الشافع.

والمشركون بالله كل منهم في نوع من هذه الأنواع منهم من اثبت فاعلا مستقلا غير الله لكن لم يثبتوه مماثلا له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وهذا كالمجوس الذين أثبتوا قديما شريرا يستقل بفعل الشر وكذلك القائلون منهم أنه خلق الشر والقدرية من جميع الأمم أثبتوا غير الله يحدث أشياء ينفرد بأحداثها دون الله وإن كان الله خالقا له ولهذا قال السلف القدرية مجوس هذه الأمة.

والقائلون بقدم العالم كلهم لا بد لهم من إثبات غير الله فاعلا أما أرسطو وأتباعه فان الفلك عندهم بحركته هو المحدث للحركات وما يتولد عنها ثم من أثبت له شريكا من العقول والنفوس جعله مستقلا بإحداث شيء وذاك مستقلا بإحداث شيء ومن قال منهم بالعلة المشبهة بها ومن قال بالموجب بالذات فان الطائفتين لا يثبتون في الحقيقة أن الله أحدث شيئا ولا خلقه.

والله سبحانه نفى أن يكون لغير ملك أو شرك في الملك أو يكون له ظهير فانه سبحانه هو وحده خالق كل شيء وربه ومليكه وهذا هو مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأن الله خالق كل شيء بمشيئته وقدرته لكن السلف والأئمة وأتباعهم يثبتون قدره العبد وفعله ويثبتون الحكمة والأسباب وجهم ومن اتبعه من أهل الكلام ينفون ذلك كله كما قد بسط في موضعه.

تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية:

ولم يثبت سبحانه إلا الشفاعة لكن اثبت شفاعة مفيدة ليست هي الشفاعة

ص: 530

التي يظنها المشركون فقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وقد جاءت الأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تخبر بما يوافق تفسير هذه الآية من حال الملائكة مع الله كما وصفهم تعالى في الآية الأخرى فقال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ففي الحديث الصحيح الذي رواه احمد والبخاري وغيرهما عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا قضى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلى الكبير فيسمعها مسترقو السمع وهم هكذا " -ووصف سفيان بيده فأقامها منحرفة- "فربما أدرك الشهاب المسترق قبل أن يرمى بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه فيرمى بها إلى الذي يليه ثم يرمى بها إلى الذي يليه إلى الذي يليه ثم يلقيها إلى الأرض فتلقى على لسان الساحراو لسان الكاهن فيكذب عليها مائة كذبة فيقولون قد اخبر يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدنا حقا للكلمة التي سمعت من السماء".

وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن الزهري عن علي بن الحسين عن عبد الله بن عباس حدثني رجل من الانصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 531

"ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول ولد عظيم أو مات عظيم قال: فانه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبحه حمله العرش ثم سبحه أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيقولون كذا وكذا فيخبر أهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم فيلقون إلى أوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون".

وكذلك في الحديث الآخر المعروف من رواية نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله أن يوحى بأمره تكلم بالوحي فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول قال الحق وهو العلى الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله من السماء والأرض" وقد رواه ابن أبي حاتم والطبري وغيرهما.

وقوله: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي أزال عنها الفزع وكذلك قال غير واحد من

ص: 532

السلف: "جلى عن قلوبهم" وهذا كما يقال قرد البعير إذا أزال عنه القراد ويقال تحرج وتحوب وتأثم وتحنث إذا أزال عنه الحرج والحوب والإثم والحنث.

وروى ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمد الواسطي ثنا يزيد بن هارون عن شريك عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: "كان إذا نزل الوحي كان صوته كوقع الحديد على الصفوان قال: فيصعق أهل السماء حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم قالت الرسل: الحق وهو العلى الكبير" وقال عن الحادث الدمشقي ثنا أبى عن عن جعفر بن أبي المغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قال: "تنزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السموات فيقولون ماذا قال ربكم ثم يرجعون إلى أنفسهم فيقولون الحق وهو العلى الكبير".

ويروى من تفسير عطية عن ابن عباس {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية قال: "لما أوحى الله إلى محمد دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا وانه منجزة" قال ابن عباس: "وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خروا سجدا فلما رفعوا رؤسهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير".

وبإسناده من تفسير قتادة رواية عبد الرزاق عن معمر عنه {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: "لما كانت الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي مثل صوت الحديد فأفزع الملائكة ذلك فقال الله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ

ص: 533

عن قلوبهم} يقول: حتى إذا جلي عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير. ويروى بإسناده من تفسير الوالبي عن ابن عباس فزع عن قلوبهم قال: جلي عن قلوبهم. قال: وروى عن ابن عمر وأبي عبد الرحمن السلمي وللشعبي والضحاك والحسن وإبراهيم النخعي وقتادة مثل ذلك.

وقد روى أحمد وغيره عن أبي معاوية أو عبد الرحمن عن الأعمش عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صوته كحر السلسلة على الصفا فيعصون لذلك ويخرون سجدا فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم قال: فيرد إليهم فينادي أهل السموات بعضهم بعضا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير" ، وقد رواه أبو داود في سننه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الذي جاء به الكتاب والسنة والآثار مما يصيب الملائكة عند سماع الوحي إذا قضى الله الأمر يتناول ما يقضيه بخلقه وبقدره وما يقضيه بشرعه وبأمره. فإنهم ذكروا ذلك عند تكلمه بالقرآن وعندما يقضيه من الحوادث التي يسمع بعضها مسترق السمع ويخبر بها الكهان ومسترق السمع وهذا الصنف هو الغالب فإن إرسال رسول من البشر قليل بالنسبة إلى هذه الحوادث.

قول الفلاسفة في الشفاعة أعظم شركا من قول غيرهم:

وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فبين سبحانه أن من اتخذ

ص: 534

الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر مع أن المشركين إنما كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بهم إلى الله زلفى فإذا كان هؤلاء الذين دعوا مخلوقا ليشفع لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيسأله ويرغب إليه بلا إذنه وقد جعلهم الله مشركين كفارا مأواهم جهنم فكيف بشرك هؤلاء الفلاسفة وما يثبتونه من الشفاعة فإنهم يجوزون دعاء الجواهر العلوية الشمس والقمر والكواكب وكذلك الأرواح التي يسمونها العقول والنفوس ويسميها من انتسب إلى أهل الملل الملائكة وهؤلاء المشركون قد تنزل عليهم أرواح تقضى بعض مطالبهم وتخبرهم ببعض الأمور وهم لا يميزون بين الملائكة والجن بل قد يسمون الجميع ملائكة وأرواحا ويقولون روحانية الشمس روحانية عطارد روحانية الزهرة وهى الشيطان والشيطانة التي تضل من أشرك بها كما أن لنفس الأصنام وهي التماثيل المصنوعة على اسم الوثن من الأنبياء والصالحين أو على اسم كوكب من الكواكب أو روح من الأرواح والأصنام أيضا لها شياطين تدخل فيها وتكلم أحيانا بعض المشركين وقد تترايا أحيانا فيراها بعض الناس من السدنة وغيرهم.

فالمشركون من الفلاسفة القائلين بقدم العالم هم أعظم شركا وما يدعونه من الشفاعة لألهتم أعظم كفرا من مشركي العرب فإنهم لا يقولون أن الشفيع يسأل الله والله يجيب دعوته كما يقوله المشركون الذين يقولون أن الله خالق بقدرته ومشيئته فان هؤلاء عندهم أنه لا يعلم الجزئيات ولا يحدث شيئا بمشيئته وقدرته وإنما العالم فاض عنه.

فيقولون إذا توجه الداعي إلى من يدعوه كتوجه إلى الموتى عند قبورهم وغير قبورهم وتوجهه إلى الأرواح العالية فانه يفيض عليهم ما يفيض من ذلك المعظم الذي دعاه واستغاث به وخضع له من غير فعل من ذلك الشفيع ولا سؤال منه لله تعالى كما يفيض شعاع الشمس على ما يقابلها من الأجسام الصقيلة كالمرآة وغيرها ثم ينعكس الشعاع من ذلك الجسم الصقيل إلى حائط أو ماء وهذا قد ذكره غير

ص: 535

واحد من هؤلاء كابن سينا ومن اتبعه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره.

وهؤلاء يزورون القبور الزيارة المنهي عنه بهذا القصد فان الزيارة الشرعية مقصودها مثل مقصود الصلاة على الجنازة يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بالمغفرة والرحمة وأما الزيارة المبتدعة التي هي من جنس زيادة المشركين فمقصودهم بها طلب الحوائج من الميت أو الغائب أما أن يطلب الحاجة منه أو يطلب منه أن يطلبها من الله وأما أن يقسم على الله به ثم كثير من هؤلاء يقول أن ذلك المدعو يطلب تلك الحاجة من الله أو أن الله يقضيها بمشيئته واختياره للإقسام على الله بهذا المخلوق وأما أولئك الفلاسفة فيقولون بل نفس التوجه إلى هذه الروح يوجب أن يفيض منها على المتوجه ما يفيض كما يفيض الشعاع من الشمس من غير أن تقصد هي قضاء حاجة أحد ومن غير أن يكون الله يعلم بشيء من ذلك على أصلهم الفاسد.

فتبين أن شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم من دون الله أعظم كفرا من اتخاذ أولئك.

ليس توسط البشر عند الحنفاء كتوسط العلويات عند الفلاسفة:

ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وانزل به كتبه وما ذمه من الشرك ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهر ستاتي في كتاب الملل والنحل لما ذكر فصلا في المناظرة بين الحنفاء وبين الصابئة المشركين فان الحنفاء يقولون بتوسط البشر وأولئك يقولون بتوسط العلويات فأخذ يبين أن القول بتوسط البشر

ص: 536

أولى من القول بتوسط العلويات ومعلوم أنه إذا أخذ التوسط على ما يعتقدونه في العلويات كان قولهم اظهر فكان رده عليهم ضعيفا لضعف العلم بحقيقة دين الإسلام.

فان الحنفاء ليس فيهم من يقول بإثبات البشر وسائط في الخلق والتدبير والرزق والأحياء والإماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي بل الرسل كلهم وأتباع الرسل متفقون على أنه لا يعبد إلا الله وحده فهو الذي يسأل ويعبد وله يصلى ويسجد وهو الذي يجيب دعاء المضطرين ويكشف الضر عن المضرورين ويغيث عباده المستغيثين {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} .

وليس عند الحنفاء أن أحدا غير الله يستقل بفعل شيء بل غايته أن يكون سببا والأثر لا يحصل إلا به وبغيره من الأسباب وبصرف الموانع والله تعالى هو الذي يخلق بتأثير الأسباب وبدفع الموانع مع خلقه سبحانه أيضا لهذا السبب لكن المقصود أنه ليس في الوجود ما يستقل بإحداث شيء ولا ثم شيء يوجب كل اثر إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

والرسل هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} فاخبر أنه أرسله شاهدا كما قال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ولما دفن النبي صلى الله عليه وسلم شهداء أحد قال: "أما أنا فشهيد

ص: 537

على هؤلاء" وقوله: {مُبَشِّراً وَنَذِيراً} بالوعد والوعيد وداعيا إلى الله بإذنه بالأمر والنهى.

وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقد اخبر الله عن أول الرسل نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال نوح: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وكذلك قال لخاتم الرسل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِللَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} .

فتوسط البشر بالرسالة مثل توسط الملك بالرسالة كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} فهذا جبريل ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} كقوله في الآية الأخرى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}

ص: 538

الحكمة في إرسال الرسول البشري إلى البشر دون الملكي:

فقوله صاحبكم تنبيه على نعمته على البشر وإحسانه إليهم إذ بعث إليهم من يصحبهم ويصحبونه بشرا مثلهم فإنهم لا يطيقون الأخذ عن الملك كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} .

وروى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة عن منجاب بن الحرث عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} لأهلكناهم {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} لا يؤخرون {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} يقول: "لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة" وكذلك قال غيره من المفسرين {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} قالوا لخلطنا ولشبهنا عليهم ما يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا املك هو أو أدمى.

فبين سبحانه أنه لو أنزل ملكا لم يمكنهم أن يروه إلا في صورة بشر كما كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبى أو في صورة أعرابي لما أتاه وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وكذلك لما أتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال وكذلك لما أتى جبريل مريم عليه السلام لينفخ فيها أتاها في صورة رجل قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} وإذا كانوا لا يستطيعون أن يروا الملك إلا في صورة رجل فلو جاءهم لقالوا هذا بشر ليس بملك واشتبه الأمر واختلط والتبس الأمر عليهم فلم تكن هذه شبهة تنقطع بانزال ملك

ص: 539

وهذا كما قال في السورة الأخرى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلَاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إَِّلا كُفُوراً} إلى قوله: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} .

وأيضا في قوله صاحبكم بيان أنه عربي بعث بلسانهم كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وقد قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

قيل المراد من أنفس العرب فالخطاب لهم.

وقيل من أنفس بني ادم فهو بشر لا ملك ولا جني لأن الخطاب لجميع الخلق الذين أرسل إليهم لا سيما وهذه في سورة براءة وهي من آخر القران نزولا وقيل أن هذه الآية آخر ما نزل وقد نزلت بعد دعوة الروم والفرس والقبط وهو بالمؤمنين من هؤلاء كلهم رؤوف رحيم ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم من الإنس ومن العرب أفضل الإنس ومن قريش أفضل العرب ومن بني هاشم أفضل قريش والأنفس يراد بهم جنس الإنسان كما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فقوله: {صَاحِبُكُمْ} مثل قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ومثل قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} .

وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً} لم يقصد بهذا اللفظ تفضيل الملك عليه كما توهمه بعض الناس كما أن قوله: {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ

ص: 540

مِنْهُمْ} وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً} لم يقصد به أن غيره أفضل منه.

كون الرسول مبلغا للقرآن عن الله لا محدثا له:

وقال سبحانه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فالرسول هنا هو الرسول الملكي جبريل وقال في السورة الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وأضافه إلى هذا الرسول تارة والى هذا تارة لأن كلا من الرسولين بلغه وأداه ولفظ الرسول يتضمن مرسلا أرسله فكان في اللفظ ما يبين أن الرسول مبلغ له عن غيره لا أن الرسول أحدث شيئا منه كما توهمه بعض الناس وظن أن إضافته إلى رسول يقتضى أنه هو الذي أحدث القران العربي فانه قد أضافه إلى هذا تارة والى هذا تارة فلو كان المراد الإحداث لتناقض الخبران.

ولأنه أضافه إليه باسم رسول لم يقل أنه لقول ملك ولا قول بشر بل قد كفر من قال أنه قول البشر في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً} إلى قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} والكلام

ص: 541

الذي توعد بسقر من قال أنه قول البشر هو الكلام الذي أضافه إلى رسول من البشر تارة والى رسول من الملائكة تارة لأن المراد هناك أنه بلغه والذي كفره قال أنه أنشأه وانه كلام نفسه سواء كان المراد المعنى أو اللفظ أو كلاهما فان الذي لعنه الله هو الذي قال أن هذا إلا قول البشر.

فمن قال أن هذا القران قول البشر فهو من جنس قوله من بعض الوجوه ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} فأخبر أن ما يسمعه المستجير هو كلام الله والمستجير يسمعه بصوت القارىء والصوت صوت القارى والكلام كلام الباري كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زينوا القران بأصواتكم " وقال: "لله اشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته".

وكذلك ذكر في غير موضع أن الصوت المسموع من العبد هو صوت العبد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} وقال لقمن لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .

وفي سنن أبي داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الموسم: "ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فان قريشا قد منعوني أن ابلغ كلام ربي".

ص: 542

فرسل الله وسائط في تبليغ رسالاته كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وقال تعالى: {إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} وقال تعالى عن نوح: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} .

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وفي السنن عن زيد بن ثابت وابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله أمرا سمع منا حديثا فبلغه إلى من يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "ليبلغ الشاهد الغائب فرب من مبلغ أوعى من سامع".

والمقصود هنا أن الحنفاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له وهم مسلمون وجميع الأنبياء وأممهم كانوا مسلمين مؤمنين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ

ص: 543

مِنْه} لأن {الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} في كل زمان ومكان وقد اخبر الله عن نوح وإبراهيم وإسرائيل وغيرهم إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين ونوح أول رسول بعث إلى أهل الأرض كما ثبت ذلك في الحديث المتفق على صحته حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن جعل ما يثبته الحنفاء من توسط البشر أو توسط الملائكة من جنس ما يثبته المشركون واخذ يفاضل بين البشر والملائكة لم يكن عارفا بدين الإسلام.

بل قول الحنفاء هو ما قاله الله تعالى في كتابه حيث قال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فمن اتخذ هؤلاء أو هؤلاء أربابا كما يقول من يجعلهم وسائط في العبادة والدعاء ونحو ذلك فهو كافر.

وصاحب الكتب المضنون بها قد جعل الملائكة والنبيين وسائط وجعل هذه شفاعتهم موافقة للفلاسفة كما تقدم من أن هذا القول شر من قول مشركي العرب.

وجاء بعده صاحب كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فذكر فيه الشرك الصريح من عبادة الكواكب والجن والشياطين ودعواتها وبخورها وخواتيمها وأصنامها التي تجعل لها على مذهب المشركين الكلدانيين والكشدانيين الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل وبنى على ذلك القول بقدم العالم وان لا سبب

ص: 544

لحدوث الحوادث إلا مجرد حركة الفلك كما يقوله هؤلاء القائلون بقدم العالم الذين هم شر من مشركي العرب.

وكذلك ذكر في تفسير حديث المعراج ما هو مبني على أصول هؤلاء الذين هم اكفر الكفار كقوله أن الأنبياء الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الكواكب فآدم القمر ويوسف الزهرة ونحو هذا الهذيان وان المعراج إنما هو رؤية قلبه الوجود كما يذكر ابن عربي وغيره مثل هذا المعراج ويثبتون لأنفسهم إسراء ومعراجا.

وهذه خيالات تلقيها الشياطين مناسبة لما يعتقدونه من الإلحاد على عادة الشياطين في إضلال بني آدم فإنما يضلونهم بما يقبلونه منهم وما يوافق أهواءهم.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 545