الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: عرض لآراء المستغربين فيما يتعلق بتوثيق السنة عبر نقد المتن والسند والرد عليهم
…
القسم الثاني: عرض لآراء المستغربين والمستشرقين فيما يتعلق بتوثيق السنة عبر نقد المتن والسند والرد عليهم
1-
عرض لآراء المستغربين من المسلمين المعاصرين الذين يؤيدون وجهة نظر المستشرقين:
انتقد بعض المستغربين من المسلمين المعاصرين ما ذهب إليه المحدثون في طريقة معرفة صحة الحديث.
ويقول هؤلاء المستغربون إن صحة أي حديث يجب أن تبنى أولا على صحة متنه وليس على صحة إسناده (1)، وإن السؤال الذي يجب أن يطرح على كل حديث هو: هل يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا الكلام أو لا؟. والسبب في طرح هذا السؤال دائما هو زعمهم بأنه يوجد في كتب الحديث المعتمدة كالكتب الستة بعض الأحاديث المخالفة للعقل والعلم، ويستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قالها. وآراء هؤلاء المستغربين ليست جديدة، بل هي تكرار لما قاله المستشرقون بل لما قالته بعض الفرق الإسلامية أيام الإمام الشافعي، بل وقبله (2) .
(1) من الذين تبنوا هذه الدعوى في مؤلفاتهم: أحمد أمين، وأبو رية في مصر، وسيد أحمد خان (1897م) في الهند، والمدعو: المولوي شراغ علي، وزعيم فرقة (أهل القرآن) غلام أحمد برويز، وغيرهم. انظر مكي الشامي، السنة النبوية ومطاعن المبتدعة فيها، (عمان: دار عمار للنشر والتوزيع، 1420?/1999م) ، ص: 103-105.
(2)
انظر ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، (بيروت: 1972م) ، ص: 42، 204 – 205، 224، 228 – 229، 245، 326.
ويعد محمد عبده (1840 – 1905م) أول عالم مسلم معاصر توجه بنقده لبعض الأحاديث المقبولة والصحيحة عند العلماء المسلمين (1) ، وتابع محمد عبده تلامذته الذين وسعوا أفكاره وفصلوها (2)، ويمكن تلخيص آرائهم كما يلي:
1-
زعمهم أن الحديث النبوي كتب في وقت متأخر أي خلال النصف الأول من القرن الثاني الهجري. ولذلك فلا يمكننا الاعتماد على صحة الحديث لوجود احتمالات وقوع الخطأ من الرواة ومن مدوني الحديث.
2-
لقد وضعت أحاديث كثيرة واختلطت بالأحاديث الصحيحة مما يجعل عملية الفصل بينها صعبة جدا.
3-
لقد روى الصحابة والتابعون معاني الأحاديث وليس الأحاديث بعينها، ولهذا لم يحتج النحاة بالأحاديث المروية في النحو. والاختلاف في الروايات بين رواة الحديث دليل على أنهم كانوا ينقلون المعنى (3) .
4-
لا يمكننا الاعتماد على علم الجرح والتعديل لأنه علم متناقض، إذ يقدم علماء هذا العلم معلومات متناقضة عن الرواة (4) .
(1) Cf. G.H.A. Juynboll ، The Authenticity of the Tradition ، (Lieden،) ، p..
(2)
شرح Juynboll آراءهم في كتابه المذكور سابقا. انظر المرجع السابق نفسه، الفصل: 2 و 7.
(3)
م. أبو رية، أضواء على السنة النبوية، (مصر، لا ت.)، ص: 286، وانظر الرد على هذا الرأي في: محمد أبو زهو، الحديث والمحدثون، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1404?/1984م) ، ط1، ص:150-152.
(4)
المرجع السابق نفسه، ص: 286 – 335.
ـ بما أن معظم الأحاديث النبوية رويت عن طريق الآحاد فإن احتمال وقوع الخطأ منهم كبير، إذ إنهم بشر. وتنطبق هذه القاعدة أيضا على الأحاديث الآحاد المروية في كل من صحيحي البخاري ومسلم. والفقهاء والمحدثون لديهم الحرية في اختيار الأحاديث التي يرونها مناسبة لمذاهبهم (1) .
2-
عرض آراء بعض المستشرقين:
تعرض الحديث النبوي الشريف لحملة طعونات وتشكيكات من المستشرقين. وتختلف وجهة نظرهم عن نظرة المسلمين للحديث. فالمستشرقون يرون أن معظم الأحاديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي في الحقيقة ليست أقوالا له، ولكن بعض تلك الأحاديث تنقل لنا أفكاره وتقريراته.
وتعتمد حجج المستشرقين ونتائجهم حول نظرتهم إلى الحديث النبوي الشريف على النتائج التي وضعها المستشرق إجناتس جولدتسيهر (1850 – 1921) في كتابه: دراسات محمدية (2)، Muhammedanisch Studien عام 1889. وكل من أتى بعد جولدتسيهر اعتمد على آرائه التي ذكرها في هذا الكتاب. ويرى جولدتسيهر:«إنه من الصعوبة بمكان أن ننخل أو نميز وبثقة من كمية الحديث الكبيرة الواسعة، قسما صحيحا يمكننا نسبته إلى النبي أو إلى أصحابه» (3) . وتوصل جولدتسيهر إلى النتيجة التالية: «إن الحديث النبوي
(1) أثيرت هذه القضية من بعض معاصري الإمام الشافعي. انظر الشافعي، الرسالة، (القاهرة، 1940م)، ص: 369 – 401، 405.
(2)
…
Burton ، Hadith Studies، p. ii.
(3)
F. Rahman، Islam، (London،) ، p.، cf. Goldziher، Muhammedanische Studien، (Halle،) ، vol.، p. .
وجد نتيجة للتطور الديني والتاريخي والاجتماعي الإسلامي خلال القرنين الأولين للهجرة» (1) .وقد لخص جوزيف شاخت رأي جولدتسيهر بقوله: «إن الأحاديث المنسوبة للنبي وأصحابه التي يدعى بأنها ترجع إلى عصر النبي وأصحابه في الحقيقة لا تحتوي على معلومات موثوق بها [صحيحة] عن تلك الفترة الإسلامية الأولى، بيد أن تلك الأحاديث تعكس لنا الآراء التي كانت خلال القرنين الأولين من الهجرة والنصف الأول من القرن الثالث الهجري» (2) .ولكن جولدتسيهر قدم لنا وجهة نظر أخرى في مقالته: Vorlesungen Uber den Islam عام 1910م، وقد أعطانا البروفسور ج. روبسون ملخصا لها حيث يقول:«لا ينكر جولدتسيهر بالكلية وجود أحاديث صحيحة ترجع إلى القرن الأول بل حتى إلى فم النبي نفسه» (3) .
ويُعد هذا الرأي من جولدتسيهر تراجعا عما ذكره سابقا في كتابه: (دراسات محمدية) حيث شكك هناك في أي حديث صحيح، ولكنه هنا قبل بعض الأحاديث الصحيحة.
ولهذا السبب يمكن للمرء أن يتساءل: لماذا غيّر جولدتسيهر موقفه من الحديث؟، فهل وجد أدلة جديدة تؤكد له صحة بعض الأحاديث؟ وإذا كان الحال كذلك فما تلك الأدلة؟ ولماذا لم يعد بقية الأحاديث صحيحة كتلك
(1) Goldziher، Muslim Studies، tr. Stern، (London،) ، vol.، p..
(2)
J. Schacht، "Re-evaluation of Islamic Tradition”، JRAS، ، p..
(3)
J. Robson، “Muslim Traditions”، p..
التي عدَّها صحيحة؟. كل هذه الأسئلة تبرز بسبب تغييره لموقفه، ونجد من الصعوبة أن نجد أجوبة عن كل هذه الأسئلة.
أما نقد المستشرقين للمحدثين فيما يتعلق باعتمادهم على الإسناد في تصحيح الحديث فهم يدعون بأن المسلمين لم يتجاوزوا أبداً نقد السند إلى نقد المتن، وأن نقد المتن ترك من دون عناية أبداً (1)، يقول كايتاني: كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز في واد جدب ممحل من سرد الأشخاص الذين نقلوا المروي، ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه.. والمحدثون والنقاد المسلمون لا يجسرون على الاندفاع في التحليل النقدي للسنة إلى ما وراء الإسناد بل يمتنعون عن كل نقد للنص إذ يرونه احتقارا لمشهوري الصحابة وثقيل الخطر على الكيان الإسلامي (2)، ويقول المستشرق شاخت مؤيدا كايتاني: إن العلماء المسلمين أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه. (3) ويعتمد رأيهم هذا على أسباب عديدة [بزعمهم] ونلاحظ أن آراءهم وآراء المستغربين من المسلمين متوافقة في هذا الموضوع.
لكن المستشرقين قد ذكروا شبهات أكثر مما ذكره مقلدوهم من المستغربين. ومن تلك الشبهات والمزاعم التي ساقها المستشرقون قولهم: كما أنه كان من السهل وضع حديث ما، فقد كان من الأسهل اختراع سند
(1) إجناتس جولدتسيهر، دراسات محمدية، ص: 500، 508-509.
(2)
محمد بهاء الدين، المستشرقون والحديث النبوي، (عمان: دار النفائس، 1420?/ 1999م) ، ص:129 -130.
(3)
يوسف شاخت، أصول الفقه، ترجمة إبراهيم خورشيد وآخرين (بيروت: دار الكتاب اللبناني 1981م) ، ص:64.
ولصقه بذلك الحديث الموضوع (1) ، ولهذا السبب فقد رأوا أنه يصعب قبول أي حديث كحديث صحيح، وأن نعتمد على إسناده فقط. والبديل عندهم هو الاعتماد على نقد المتن لمعرفة صحة الحديث، ومقارنة مضمونه مع القرآن، وقد أدت هذه الانتقادات والاعتبارات بالمستشرقين لرفض كثير من الأحاديث المقبولة بين المسلمين. فمثلا إن الأحاديث التي تتكلم على الخوارج والقدرية، وعن أسماء مدن لم تكن بعد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين الأربعة، وعن الخلافة الأموية والعباسية، وعن المعجزات النبوية، كل هذه الأحاديث رفضت من المستشرقين؛ لأن النبي بزعمهم لا يمكن أن يقول مثل تلك الأحاديث، والنبي لم يصدر عنه أية معجزات مادية. فالقرآن الذي يمثل صفات الرسول لا يذكر لنا أنه كان يعمل المعجزات. وقد زعم المستشرقون قائلين:«يوجد أحاديث عديدة تتكلم على الفتن قبل يوم القيامة وتتكلم على يوم القيامة، ويوجد أحاديث تصف الجنة والنار بالتفصيل. إن العقلية الغربية تجد من الصعوبة بمكان أن تقبل مثل تلك الأحاديث على أنها أحاديث صحيحة قالها النبي فعلا» . (2)
إضافة إلى ما سبق ذكره من انتقاد المستشرقين لاعتماد المسلمين على السند أكثر من المتن، فإنهم تحدوا عدالة الصحابة التي يقر بها المسلمون، وزعم المستشرقون بأن الصحابة يمكن أن يكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يخترعوا ويضعوا الأحاديث.. فهذا ألفرد جوليوم Alferd
(1) A.A. M Shereef، Studies، p..
(2)
J. Robson، art. “Hadith”، EI، vol.iii، p..
Guillaume في كتابه:The Traditions of Islam (الحديث في الإسلام) يدعي بأن أبا هريرة كان له عادة وضع الأحاديث. (1)
لقد أثارت روايات أبي هريرة رضي الله عنه حفيظة كثير من المتشككين والطاعنين في الحديث الشريف، وذلك لأنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ووصلت مروياته إلى (5374) حديثا. وهو يعد من أكثر الصحابة رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويعد علماء الحديث عدالة الصحابة جميعا أمراً مجمعاً عليه بينهم، وأن الصحابة يستحيل أن يصدر منهم كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد طعن المستشرقون في مرويات الصحابة الشباب لأنها أكثر عددا من مرويات الصحابة الذين لازموا النبي صلى الله عليه وسلم خلال أيامه الأولى. فمثلاً إن عدد الأحاديث التي رويت عن الخلفاء الأربعة هي أقل بكثير من الأحاديث التي رواها أبو هريرة وابن عباس. ولم يتوقف طعن هؤلاء المغرضين بالصحابة الكرام واتهامهم بوضع الأحاديث بل تجاوزه إلى العلماء المسلمين قاطبة من السلف الصالح ولهذا يقول جولدتسيهر: «ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول، أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى» (2) ، ولهذا فإن جولدتسيهر لم يتوان في نقده لمتن حديث ثبتت صحته بالافتراء على عَلَم من أعلام المسلمين -ألا وهو الإمام الزهري رحمه الله تعالى –
(1) A. Guillaume، The Tradition of Islam، (Oxford،) ، p..
(2)
إجناتس جولدتسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وعبد العزيز عبد الحق، وعلي حسين عبد القادر، (القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1959م) ، ط1، ص: 49-50.
فاتهمه بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لصالح الأمويين، في رواية قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى". (1)
فهذا الحديث الذي روي في أصح كتب الحديث النبوي الشريف وورد من ستة وخمسين طريقا لا شك في صحة نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم لدى المسلمين، ومع ذلك فإن المستشرقين قد شككوا في صحته وعلى رأسهم المستشرق إجناتس جولدتسيهر الذي زعم بأن ابن شهاب الزهري (ت124 ?/742م) قد وضع هذا الحديث لأسباب سياسية عندما أراد الخليفة عبد الملك بن مروان (ت86?/705م) أن يشجع الناس لزيارة المسجد الأقصى بدلا من الذهاب إلى مكة المكرمة أثناء فتنة ابن الزبير (ت73?/692م) ، فقد استخدم عبد الملك بن مروان ابنَ شهاب الزهري لتحقيق أهدافه السياسية. وقد اعتمد جولدتسيهر في آرائه على ما أورده المؤرخ اليعقوبي (ت292?/905م) المعروف بعدائه الشديد للأمويين فقد زعم اليعقوبي بأن عبد الملك أراد أن يحول حج الناس إلى بيت المقدس بدلا عن الحج إلى مكة المكرمة. (2)
(1) روي هذا الحديث بألفاظ عديدة من ستة وخمسين طريقا في كل من الكتب الستة، وسنن الدارمي، ومسند الإمام أحمد، والسنن الكبرى للبيهقي، ومسند أبي يعلى، والمعجم الكبير للطبراني، ومسند أبي داود الطيالسي، ومسند الحميدي، ومسند الشاميين وغيرها. انظر الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه، الإصدار الأول، (عمان:، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، 1418?/1997م) .
(2)
M. Lecker، “Biographical Notes on Ibn Shihab Al – Zuhri”، Journal of Semitic Studies، No () ، p.
إن العلماء المسلمين المعاصرين وبعض المستشرقين ردوا ادعاء جولدتسيهر ضد الزهري لأنه زعم غير منطقي، وليس مبنيا على حجج علمية؛ لأنه لم يكن بمقدور الزهري أن ينسب هذا الحديث كذبا على لسان أستاذه سعيد ابن المسيب (94 ?/713م) الذي كان ما زال حيا أثناء رواية الزهري لهذا الحديث، ولاسيما إذا علمنا أن سعيد بن المسيب كان ذا عداء شديد لبني أمية وبخاصة للخليفة عبد الملك بن مروان، فلو فرضنا أن الزهري وضع هذا الحديث لصالح الأمويين فإنه كان سيعرض ثقته للاهتزاز أمام الرواة الذين كانوا يعتبرونه راوية ثقة. (1) ولو وضع الزهري الحديث السابق فإن أستاذه كان سيعارض هذه الرواية، ولن يسمح له بأن ينقل شيئا كذبا على لسانه، وبالإضافة إلى ما سبق فإن هذا الحديث لم يروه الزهري فقط فقد ورد الحديث من خمسة عشر طريقا آخر من غير طريق الزهري، مما يعني أن هذا الحديث كان معروفا قبل أن يرويه الزهري (2) ، وقد بلغ مجموع طرق رواية هذا الحديث ستة وخمسين طريقا كما سبق وذكرنا. فانظر كيف يكون الافتراء بلا دليل ولا حجة قاطعة؟ ثم انظر كيف أن هذا الافتراء يطال علما من أعلام المسلمين ويتهمه بالكذب ليس على الناس بل على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وحاش للزهري أن يقوم بمثل هذا العمل، وإنما القصد من هذا الافتراء التشكيك برواة الأحاديث ونسف ثقة المسلمين ويقينهم بصحة السنة النبوية الشريفة.
(1) محمد عجاج الخطيب، السنة قبل التدوين، (بيروت: دار الفكر، 1981م) ، ص:513.
(2)
محمد شراب، بيت المقدس والمسجد الأقصى: دراسة تاريخية موثقة، (دمشق: دار القلم، 1994م) ، ص: 317 – 320. وانظر:
Lecker،“ Biographical Notes”، p.، footnote no..
3-
أولا: الرد على ما ادعاه المستشرقون من أنه كان سهلا اختراع سند ولصقه بأي حديث، وأن الأحاديث لا تحتوي على معلومات موثوقة عن الفترة الأولى من الإسلام، وأن الحديث الشريف وجد نتيجة للتطور الديني والتاريخي والاجتماعي:
أ- إن الناظر في هذه الادعاءات من أهل الاختصاص يتعجب من سخفها لأنها تنم عن جهل عميق بعلم الحديث ورجاله وبتاريخ نقل السنة النبوية الشريفة وتوثيقها وتفاني الأمة الإسلامية في ذلك. ولتقريب سخف هذا الادعاء أضرب مثالا: إذا ادعى شخص ما في زماننا أن هناك معركة كبيرة حدثت بين دولتي الأرجنتين والبرازيل وراح ضحيتها آلاف البشر بتاريخ 1/2003، فحتى لو كان صاحب هذه الكذبة يملك ألف قناة فضائية ليمرر كذبته على الناس، فهل يمكن أن يصدقها حتى السذج من أبناء هذا الزمان؟ الجواب لا؛ لأن كذبه سرعان ما سيظهر للناس. وإن تصديق القول بأن الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاشوا في العصور الإسلامية الأولى كانوا يمرحون ويشيعون كذبهم ويفترون على الرسول صلى الله عليه وسلم حسبما يحلو لهم وساعة ما يريدون من غير معارض لهم، إن تصديق هذا القول لهو قريب ومشابه لمن يصدق بالمعركة الكاذبة بين الأرجنتين والبرازيل. وإن الحقيقة تثبت عكس ما يقوله المستشرقون، لأن علماء الأمة وعلى رأسهم المحدثون كانوا متيقظين ليل نهار لرصد أي حديث يروى ورصد تاريخ حياة كل من تصدى للرواية، ولهذا فقد قاموا بدراسة حياة ما يزيد على عشرات الألوف من الرواة لمعرفة درجة صدقهم أو كذبهم ولمعرفة درجة حفظهم، فكانوا أدق الناس وأعلمهم في نقل الأخبار ومعرفة
درجات الرجال ومعرفة الأسانيد، ولهذا لم يجد الكذابون سوقا لكذبهم إلا وكان العلماء المحدثون الصيارفة لهم بالمرصاد، يبينون زيف عملة الكذابين، فكيف يقال بعد ذلك: إنه كان من السهل اختراع سند ولصقه بأي حديث؟.
أضف إلى ذلك فقد كان للعلماء طرق كثيرة في معرفة رواية كل محدث وتلامذته الذين رووا عنه، فكيف كان يستطيع راو غير معروف بصحبته لمحدث ما أو بسماعه منه أن يدعي بأنه سمع من ذلك المحدث مع أن تلامذة ذلك المحدث معروفون؟ وكذلك فإن علماء الأمة الذين عاشوا في خير القرون قد بذلوا قصارى جهدهم في الذب عن الحديث النبوي الشريف، وقد رصد علماء الحديث في علوم الحديث ما يسمى بالحديث المقلوب، وعرفوا جيدا قلب الأسانيد مع الأحاديث وكانوا يمتحنون بعضهم بقلب أسانيد الأحاديث وذلك لمعرفة مدى حفظ الحافظ للحديث كما فعل علماء بغداد مع الإمام البخاري عندما امتحنوه. وإن قلب الأسانيد عن سهو وبغير قصد مع الأحاديث يعد عيبا كبيرا يطعن بضبط الراوي، لذا كان العلماء يعرفون الرواة الذين يقلبون الأسانيد في أحاديثهم ويحذرون الناس منهم. قال الخطيب البغدادي:«اتفق أهل العلم على أن السماع ممن ثبت فسقه لا يجوز، ويثبت الفسق بأمور كثيرة لا تختص بالحديث، فأما ما يختص منها فمثل أن يضع متون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أسانيد المتون، ويقال: إن الأصل في التفتيش عن حال الرواة كان لهذا السبب» (1) .
(1) أحمد بن علي الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق محمود الطحان، (الرياض: مكتبة المعارف، 1403?/1983م) ، ط1، ج: 1، ص:130.
ب- إن عناية علماء الحديث الشريف الجبارة بتوثيق السنة، والقواعد التي وضعوها لذلك في الراوي والمروي تثبت أن ما نقل إلينا لم يأت نتيجة للتطور التاريخي والديني والاجتماعي، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أمناء هذه الأمة نقلوا لنا بصدق ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل التابعون وتابعوهم إلى أن دون الحديث الشريف، فأنَّى لمفتر بعد ذلك أن يهدم هذا البناء العظيم من السنة النبوية الشريفة بكلمة باطلة مفتراة؟ وانظر معي إلى أمانة الصحابي في نقله للسنة، يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا. (1)
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يصح القول بأن الأمة الإسلامية كلها شاركت في الكذب على رسولها صلى الله عليه وسلم؟ ومعلوم أن الكذب في الإسلام من الكبائر، وأما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أكبر الكبائر؟ والكذب على نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم لم يمارسه إلا الزنادقة أو الجهلة من الناس الذين فضحهم الله تعالى بين الأمة على أيدي جهابذة علماء الحديث، إذن إن كل ما نقل إلينا عنه صلى الله عليه وسلم وصححه العلماء موثوق به، وليس نتيجة للتطور التاريخي أو الديني أو الاجتماعي للأمة الذي يتحدث عنه هؤلاء المستشرقون. وأشير إلى مثال في
(1) أخرجه محمد بن عبد الله الحاكم، المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1411?) ، ط1، ج:3، ص: 665، ح:6458. وسليمان بن أحمد الطبراني، في المعجم الكبير، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، (مكتبة العلوم والحكم) ، ط2، ج:1، ص: 246، ح: 699.
دقة أهل الحديث وهو قول المدلس: (عن) ، موهما أنه سمع الحديث، لأنه إذا قال:(حدثني أو أخبرني) عُدَّ كاذبا، ولسقط من الرواية، ولذلك فهو لا يحاول أن يقول:(حدثني أو أخبرني)، ولكن يقول:(عن)، ولذلك نرى أن الإمام شعبة بن الحجاج يقول: كنت أتتبع قول قتادة، فإذا قال:(سمعت أو حدثني) أخذت عنه الحديث، وإذا قال:(عن) تركته.
وتبين مما سبق بأدلة قطعية أن كل الادعاءات السابقة ما هي إلا افتراء على السنة، ولا أصل لها من الصحة إذ لا دليل عليها، ولا يصدق بها إلا الجهلاء من الناس.
ثانيا: الرد على زعمهم بأن الصحابة كذبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم: نرد على هذا الزعم بأمور عديدة:
1-
إن إمكان وقوع الكذب من أحد من الرواة شيء، ووقوعه حقيقة شيء آخر، فإنه لم يثبت لدينا بالدليل القاطع وقوع تعمد الكذب من صحابي معروف بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لديه دليل فليأتنا به، وأنى له ذلك؟
أضف إلى ما سبق فقد ثبتت عدالة الصحابة الكرام بالإجماع عند أهل السنة والجماعة، وثبتت عدالتهم في القرآن والسنة، وكي لا نطيل نترك ذكر الأدلة الكثيرة على ذلك من القرآن ومن السنة؛ لأن الأمر واضح وجلي، فبعد أن عدلهم الله وعدلهم رسوله صلى الله عليه وسلم فهم ليسوا بحاجة من أحد لتعديل، ومن هنا أجمعت الأمة على عدالتهم، يقول أبو زرعة الرازي:
«إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق،
وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى» (1) ، وما يقصده المستشرقون وغيرهم من نقض عدالة الصحابة هو نفس ما ذكره أبوزرعة.
3ـ لو لم يرد للصحابة الكرام تعديل لا في كتاب ولا سنة فأعمالهم وتضحياتهم شاهدة على عدالتهم وصدقهم؛ فقد بذلوا الغالي والرخيص في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ونشرها، وهاجروا وتركوا أموالهم وأهليهم في سبيل الله تعالى، فكيف يتصور منهم الكذب بعد ذلك؟ والكذب على مَنْ؟ على حبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن الذي يقول هذا القول لجاهل حقيقة بمدى حب أولئك الأصحاب لنبيهم، وتفانيهم في اتباعه، وإن تفصيل ذلك يحتاج إلى مجلدات.
ثالثا: الرد على الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه معجزة مادية، والادعاء بأن إخباره عن مدن وفرق لم تكن في عصره، أمر لا يقبله العقل:
اعتمد المستشرقون على القرآن الكريم في زعمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تقع منه معجزة مادية إذ لم ترد فيه آية تنسب له معجزة مادية، فنقول:
1-
متى كان المستشرقون أصلا يؤمنون بالقرآن ويعتمدونه مصدرا يستشهدون به كدليل لما يقولونه؟
2-
ثبت في القرآن الكريم نسبة معجزات مادية للنبي صلى الله عليه
(1) محمد أبو زهو، الحديث والمحدثون، ص: 130-132.
وسلم، كحادثة الإسراء والمعراج، وشق القمر، وحفظه من القتل، وغيرها من الأمور.
3-
إن نسبة المشركين السحر للنبي صلى الله عليه وسلم، لدليل قاطع على وقوع المعجزات المادية منه، وبما أن الكافرين لا يؤمنون به فقد عبروا عن تلك الأمور الخارقة للعادة بأنها سحر كفرا منهم بالحق الذي عاينوه.
4-
أفرد علماء الأمة كتبا كثيرة للكلام على المعجزات المادية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصل تعداد هذه الكتب إلى ما يقرب من تسع وأربعين كتابا. ومن هذه الكتب أعلام النبوة للمأمون العباسي 218هـ، وكتاب: دلائل النبوة للحميدي عبد الله بن الزبير المكي 219هـ، ودلائل النبوة لأبي بكر البيهقي أحمد بن الحسين 458هـ، وقد ملئت كتب الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية بالكلام على هذه المعجزات (1) ، فلماذا أغمض المستشرقون وَمَنْ لَفَّ لفهم أعينهم عن هذا القدر الهائل من الأحاديث والكتب التي ذكرت تلك المعجزات؟
5-
إذا كانت قضية المعجزة مرتبطة مباشرة بالإيمان بالرسالة المحمدية أولا وآخرا، فالذي لا يؤمن بالرسالة المحمدية لا يمكن أن نتصور منه الإيمان بالجزئيات التي تصدر عن ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، أما المؤمن فإنه لا يستبعد وقوع كل المعجزات الغيبية التي أخبر عنها ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، سواء كانت إخبارا ً عن بلدة أو فرقة أو حادثة ستقع،
(1) إبراهيم بن عايش الحمد، حق اليقين في معجزات خاتم الأنبياء والمرسلين، (المدينة المنورة: وقف البركة الخيري، 1422?/2002م) ، ط1، ص: 6-9.
بل إن المؤمن يزداد إيمانا عند علمه بتحقق وقوع ما أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم مثل تحقق إخباره صلى الله عليه وسلم عن فتح القسطنطينية ومدحه للجيش الذي سيفتح القسطنطينية، ولقائد ذلك الجيش، وكإخباره عن نهر الأردن بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه نهيك بن صريم السكوني: لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه، قال نهيك: ولا أدري أين الأردن يومئذ؟ (1) .
رابعًا-الرد على مزاعم المستشرقين ومن أيدهم فيما يتعلق بإهمال نقد المتن عند المحدثين:
إن أوهى شبهة تمسك بها المستشرقون ولاكوها في مؤلفاتهم هي زعمهم بأن المحدثين المسلمين لم يعنوا بنقد المتن، ويدرك من لديه أدنى اطلاع على كتب علوم الحديث ومصطلحه أن هذا الادعاء ما هو إلا محض كذب وافتراء، وإن أحسنا الظن بمن قال بهذا الرأي فنقول: إنه ينم عن جهله العميق بعلم مصطلح الحديث. ومن الأدلة على اهتمام علمائنا السابقين بنقد السند والمتن على حد سواء هي النقاط الاثنتا عشرة التالية:
1-
إن نقد المتن سبق نقد السند، وقد نمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الملكة، ودعا إلى ترسيخها بقوله وفعله وإقراره، وقد قام الصحابة الكرام بالنظر في النصوص ونقدها ولم ينكر عليهم، وإنما كان يبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم الوجهة الصحيحة للنقد فلذلك نستطيع أن نقول إن
(1) علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، (بيروت: مؤسسة الرسالة، لا تاريخ) ، رقم الحديث: 38767، ورقم 38827.
نقد النصوص سنة نبوية شريفة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فلا يجوز إنكارها وإن أمته تبعته في ذلك عبر العصور المتطاولة خلال أربعة عشر قرنا (1) . ومن أمثلة ذلك تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم لمفاهيم خاطئة علقت في أذهان الصحابة من أيام الجاهلية، فكان بتصحيحه لها نقد وتمحيص للمعلومات التي يحملها أصحابه وتوجيه لها الوجهة الصحيحة، ومن أمثلة ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". (2)
وجه الدلالة: أن الصحابة رضوان الله عليهم – يقرون أن المفلس هو من لا درهم له ولا متاع، وهو ما استقر في النفوس لغة وعرفا، فانتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وبين خطأه وخطله، وأوضح
(1) صالح أحمد رضا، النظر في متن الحديث في عصر النبوة، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، العدد الثاني والعشرون، شوال 1422هـ/ديسمبر 2001م، ص: 334- 378.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ج2:، ص865، ح2317، ج5، ص2394، ح6169، ومسلم4/1997 ح2581، وابن حبان في صحيحه ج16، ص362، ح7361، ج16، ص363، ح7362، والترمذي في سننه ج4، ص614ن ح2419، وابن ماجه في سننه ج2، ص807، ح2414.، وابن حنبل في مسنده ج2، ص435، ح9613، ج2، ص506، ح10580.
لهم أن هذا ليس هو حقيقة المفلس، لأن هذا الأمر يزول وينقطع بموته، كما ينقطع أيضا بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، فيستطيع أن يتدارك ما وقع فيه من الإفلاس، وبين لهم أن حقيقة المفلس هو المذكور في الحديث، فهو الهالك الهلاك التام....فالرسول صلى الله عليه وسلم نقلهم من تصور الإفلاس الدنيوي الآني إلى تصور الإفلاس الأخروي الباقي الذي يجب أن يكون عليه في فكر المؤمن. (1)
2-
كان الصحابة رضوان الله عليهم ينتقد بعضهم مضمون روايات بعض. فمثلا انتقدت السيدة عائشة مضمون روايات بعض الصحابة وكذلك تعرضت بعض رواياتها للنقد من بعض الصحابة الآخرين. وقد ألف الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (794 هـ) كتابا جمع فيه الروايات التي انتقدت فيها السيدة عائشة مرويات بعض الصحابة (2) .
3-
يرجع أحد الأسباب الرئيسة للاختلاف بين المذاهب الفقهية إلى نقد المتن. (3) فقد قبلت المذاهب الفقهية كثيرا من الأحاديث الصحيحة، إلا
(1) لمزيد من الأمثلة انظر صالح أحمد رضا، النظر في متن الحديث في عصر النبوة، ص:353.
(2)
اسم هذا الكتاب هو: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة وانظر الزركلي، الأعلام ج:6، ص: 60 وانظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن ج: 1، ص:7.
(3)
لمزيد من المعلومات عن هذا الموضوع انظر: محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، (مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1356هـ/1939م) ، ط1، ص: 279، وفخر الدين عمر بن الحسين الرازي، المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر العلواني، (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1400هـ/1980م) ، المجلد: 2، ج: 2، ص: 579، وانظر كذلك: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، (بيروت: دار مكتبة الحياة، 1984م) ، وعبد المجيد السوسوة، التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث، ص: 458-485.
أنهم اختلفوا في تأويلها وفهمها. ومثال ذلك الأحاديث التي تمنع المرأة البكر من الزواج بغير إذن وليها (1) ، هذه الأحاديث قد قبلت في المذهب الحنفي إلا أن الأحناف أولوها بأنها مصروفة إلى المرأة التي لم تبلغ، أما المذهب الشافعي فقد قبل هذه الأحاديث وعمم مضمونها ليشمل المرأة البكر البالغ وغير البالغ.
4-
اعتمد نشوء المذاهب العقدية في القرون الثلاثة الأولى للإسلام على تفسيرات عديدة لنصوص القرآن والسنة.
5-
إن علم مختلف الحديث خير شاهد على اعتناء العلماء بنقد المتون، فهذا العلم يعنى بالأحاديث النبوية الشريفة التي ظاهرها التعارض (2) . وقد اهتم العلماء مبكرا بهذا العلم بدءا من مؤلَّف الإمام محمد بن إدريس الشافعي: اختلاف الحديث (3) ، وغيره من المؤلفات ككتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وكتاب مشكل الآثار للطحاوي. أضف إلى ذلك فقد ذكر العلماء وجوها عديدة للترجيح بين مختلف الحديث بعضها راجعة للسند وأخرى راجعة للمتن، ذكر منها الحافظ العراقي والسيوطي والآمدي مائة وجه وعشرة أوجه (4) . كل هذا يدل على عناية فائقة من علمائنا بنقد المتن حتى قال ابن خزيمة (311 ?) :«ليس ثم حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتني لأؤلف له بينهما» (5) .
(1) انظر هذه الأحاديث ومعانيها في الشوكاني، نيل الأوطار، ج: 5، ص: 120 – 123
(2)
عبد المجيد السوسوة، منهج التوفيق والترجيح، (عمان: دار النفائس، 1998م) ، ص:54.
(3)
انظر الزركلي، الأعلام، ج:6، ص:26.
(4)
عبد المجيد السوسوة، منهج التوفيق والترجيح، ص: 331، 429 – 457.
(5)
المرجع السابق نفسه، ص: 71 – 72.
6-
لقد أولي نقد المتن عناية كبيرة في علم علل الحديث الذي هو رأس علم الدراية وهو علم متابعة الثقات في رواياتهم، يقول ابن الصلاح في تعريفه بأنه عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة، فالعلة سبب غامض يدل على وهم الراوي سواء أكان ثقة أم ضعيفا وسواء أكان الوهم في السند أم المتن (1) . وموضوع هذا العلم الحديث والذي ظاهر إسناده الصحة، إلا أن العلماء يضعفون متنه لأن فيه نكارة أو شذوذا أو اضطرابا أو غرابة (2) لذا فقد أطلق علماء المصطلح على العلل الموجودة في المتن مصطلحات عدة مثل: هذا حديث منكر المتن، حديث غريب، حديث شاذ، حديث مضطرب (3) ، وإن قول العلماء عن حديث إنه صحيح الإسناد أو حسن الإسناد، لا يعني أبداً أن المتن صحيح أو حسن، وذلك لشذوذ أو علة فيه. وقد يصح المتن ولا يصح السند لورود دلائل على صحة المتن من طرق أخرى، فمعرفة صحة الحديث كما يرى الحاكم النيسابوري لا تعتمد فقط على إسناده بل تعتمد على معرفة كبيرة بالحديث ومتونه (4) ، وهذا يدلنا على المنهج الموضوعي الشامل لدى المحدثين في النقد (5) ، فعلم العلل إذن يدخل في النقد الموضوعي العميق
(1) أبو بكر كافي، منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها، ص: 216، انظر أمثلة لما تكون فيه الرواية بالمعنى سببا للتعليل في ص: 320-321.
(2)
همام سعيد، الفكر المنهجي عند المحدثين، ص:107.
(3)
لمعرفة معاني هذه المصطلحات انظر: نور الدين العتر، منهج النقد، ص: 430، 396، 428، 433.
(4)
الحاكم النيسابوري، معرفة علوم الحديث، ص: 59، وقارن بـ صلاح الدين إدلبي، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي، ص:191.
(5)
نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، ص:69.
للحديث سنداً ومتناً ويحتاج إلى علم غزير (1) .
7-
عندما قسم علماء الحديث علم مصطلح الحديث قسموه إلى قسمين: علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية، وعرفوا الثاني بأنه: علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد (2) ، وهذا يعني أن هذا العلم وضع قوانين ليضبط بها السند والمتن معا.
8-
ذكر العلماء في تعريف الصحيح والحسن شروطا عائدة للسند، وشروطا عائدة للمتن والسند معا، وهناك شرطان أساسيان لقبول الحديث ويرجعان للسند والمتن معا وهما: أ_ سلامته من الشذوذ، ب- وسلامته من العلة القادحة. ونجدهم عندما يشرحون التعريف يقولون: إن الشذوذ قسمان: شذوذ في السند، وشذوذ في المتن، وأكثر ما يكون الشذوذ في المتن. وكذلك العلة قسمان: علة في السند، وعلة في المتن (3) ، فهل بعد هذا من شك في أن المحدثين لم يعنوا بنقد المتن؟
9-
بين العلماء في بحث الشاذ والمنكر والمعل والمضطرب والمدرج والمقلوب وقوع الشذوذ والنكارة والعلة والاضطراب والإدراج والقلب والغرابة في السند والمتن، ومتى تكون هذه الصفات قادحة في صحة الحديث وثبوته، ومتى تكون موجبة لرده (4) . وقد أطلق العلماء على صنيع من
(1) همام سعيد، الفكر المنهجي عند المحدثين، ص:105.
(2)
السيوطي، تدريب الراوي، ج: 1، ص:41.
(3)
نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، ص: 68، وقارن بـ محمود الطحان، عناية المحدثين بنقد الحديث كعنايتهم بإسناده، ص:9، وصلاح الدين إدلبي، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي، ص:191.
(4)
صلاح الدين إدلبي، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي، ص:192.
يقلب الحديث سندا ومتنا بأنه يسرق الحديث إذا قصد إليه (1) .
10-
إن القدح في الراوي يكون بعشرة أشياء: خمسة تتعلق بالعدالة وخمسة تتعلق بالضبط، اختصرها الحافظ ابن حجر في خمسة أشياء فقال:«أسباب الجرح مختلفة ومدارها على خمسة أشياء: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند (2) فالحكم على ضبط الراوي مبني على مدى حفظه للسند والمتن معا، ولهذا فقد فحص العلماء مرويات كل راو وقارنوها بمرويات الرواة الثقات ليحكموا على ضبط ذلك الراوي، يقول أبو حاتم الرازي: لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه (3) ، ويقول الإمام مسلم: وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله (4) . وقد ملئت كتب الجرح والتعديل بألفاظ الجرح للراوي بسبب الخطأ في مروياته مثل قولهم: «فلان منكر الحديث» ، «يروي عن المناكير» ، «يروي
(1) ابن كثير، الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، شرح أحمد شاكر وناصر الدين الألباني، (الرياض: دار العاصمة للنشر والتوزيع، 1415هـ) ، ط1، ج: 1، ص:270.
(2)
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، هدي الساري مقدمة فتح الباري، تحقيق. عبد العزيز بن باز وآخرين، (بيروت: دار الفكر.) ، ج: 1، ص:384.
(3)
مسلم بن الحجاج النيسابوري، كتاب التمييز، تحقيق. محمد مصطفى الأعظمي، (الرياض: جامعة الرياض، 1395) ، ص:35.
(4)
مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1374 / 1955) ج: 1، ص:7.
ووضع بعض أهل السنة أحاديث تمدح الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومنها الحديث الموضوع: «كتب على كل ورقة في الجنة لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر، عمر، عثمان» . ويلاحظ عدم ذكر سيدنا علي، وهذا شيء يدعو للتساؤل. واخترع بعض أهل السنة أحاديث تصرح بأحقية أبي بكر بالخلافة ثم عمر ثم عثمان. ومعلوم لدينا أن كل هذه الأحاديث موضوعة؛ إذ كيف تختلف الأمة على قضية الخلافة مع وجود نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فالحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يحدد من يكون خليفة بعده.
12-
إن الذي ينظر في الكتب الستة يتيقن من أن علماءنا قد نقدوا المتن (1) ، فالبخاري قد اختار صحيحه من بين مئات الآلاف من الروايات، فقد جمع في صحيحه 7563 حديثا وفيه بحذف المكرر 2607 حديثا انتقاها من 600 ألف حديث (2) ، وقد ثبت بعد جمع الروايات أن اختياراته كانت مدروسة وقائمة على البحث والتتبع، وكانت ظاهرة نقد المتن موجودة كذلك عند الإمام مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه وغيرهم (3) .
(1) لمزيد من المعلومات انظر: محمد بن طاهر المقدسي، شروط الأئمة الستة، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، (حلب: مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1417?/1997م) ، ط1، ص: 85-105، وانظر محمد بن موسى الحازمي، شروط الأئمة الخمسة، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص: 109-189.
(2)
همام سعيد، الفكر المنهجي الإسلامي عند المحدثين، ص:122.
(3)
المرجع السابق نفسه، ص: 108-109.
ونكتفي هنا بضرب مثال من صحيح الإمام البخاري. إن للعلماء مواقف عديدة في زيادات الثقات في المتن أو في السند فمن العلماء من قبل زيادة الثقة مطلقا، ومنهم من رفضها مطلقا، ومنهم من فصل كالإمام البخاري فلم يقبلها مطلقا ولم يردها مطلقا وإنما الأمر في ذلك يدور مع القرائن والمرجحات. ومن أمثلة الزيادة المردودة عند الإمام البخاري زيادة كلمة «فليرقه» في حديث ولوغ الكلب، قال البخاري حدثني عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا"(1) أما في صحيح مسلم وسنن النسائي فقد ورد نص الحديث من طريق علي بن حجر السعدي عن علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي رزين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات"، قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أحدا تابع علي بن مسهر على قوله: "فليرقه"، ويترتب على هذه الزيادة نجاسة سؤر الكلب ولعابه، وهذه الزيادة قد صححها بعض الأئمة كالدارقطني وابن حبان وغيرهما. أما من لم يقبلها فمنهم الإمام النسائي وحمزة الكيلاني؛ لأن مشروعية الإراقة قد وردت موقوفة على أبي هريرة، وقد خلط الراوي ابن مسهر بين الموقوف والمرفوع ولهذا السبب ترك الإمام البخاري هذه
(1) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان وسؤر الكلاب وممرهما في المسجد، حديث رقم 172، ج 1 ص 330.
الزيادة لأنها غير ثابتة عنده، وترجمته تدل على ذلك، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان وسؤر الكلاب وممرهما في المسجد. ومن خلال ما أورده في هذا الباب من أحاديث وآثار يتبين أنه يذهب إلى طهارة سؤر الكلب. إن صحيح الإمام البخاري مملوء بالأمثلة التي تدل على نقده للمتن ودقة الصناعة الحديثية عنده، ولكن المقام لا يسمح لنا بضرب أمثلة أخرى. (1)
وقد أنشأ الإمام الترمذي مصطلحات لها علاقة بنقد السند والمتن معا، وذلك مثل قوله: حديث حسن غريب، أو صحيح غريب (2) . وكما سبق أن ذكرنا فإن المحدثين كانوا يروون الحديث الواحد من أكثر من ستين طريقا أحيانا وذلك تحريا للدقة في نقل الحديث. ولم تسلم الكتب الستة وعلى رأسها صحيح الإمام البخاري من النقد الدقيق والفحص العميق، فقد أعل بعض الحفاظ جملة من الأحاديث في صحيح البخاري، ويرجع بعض أنواع الإعلال إلى علل في المتن، ومن هؤلاء: أبو علي الغساني في جزء العلل في كتابه: تقييد المهمل، والحافظ الدارقطني في كتابه: التتبع لما في الصحيحين، وقد رد على الدارقطني علماء عديدون منهم الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم، والحافظ ابن حجر في هدي الساري، وتوسع الإمام ابن حجر في رده وقسم الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري إلى ستة أقسام، وذكر الرد الإجمالي على كل قسم منها، ثم ذكر الأحاديث المنتقدة حديثا
(1) أبو بكر كافي، منهج الإمام البخاري، ص: 359 – 362، وانظر صلاح الدين الإدلبي، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي، ص: 105 – 144، 174.
(2)
لمزيد من المعلومات انظر نور الدين العتر، منهج النقد، ص: 271 – 272.
حديثا وأجاب عنها، وجعل ابن حجر من هذه الأقسام ما له علاقة بالمتن كالقسم الثالث والقسم السادس الذي عنون له فقال: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن. (1)
وما أروع ما عمله الإمام مسلم في كتابه التمييز حيث ذكر لنا أمثلة عديدة عن خطأ الرواة في السند والمتن أو في أحدهما، فهو يقول: «وكنحو ما وصفت من هذه الجهة من خطأ الأسانيد فموجود في متون الأحاديث مما يعرف خطأه السامع الفهم حين يرد على سمعه، وكذلك نحو رواية بعضهم حيث صحف فقال:
…
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ الروح عرضا، أراد غرضا.."(2)، وهو يردد هذه العبارات في كتابه: «ذكر الأحاديث التي نقلت على الغلط في متونها
…
ومن الأخبار المنقولة على الوهم في المتن دون الإسناد
…
ومن الأخبار المنقولة على الوهم في الإسناد والمتن جميعا» (3) . إن ما سبق يؤكد أن المحدثين قد نقدوا المتن كما نقدوا السند، فما يدعيه بعض الناس أن علماء الأمة اعتنوا بنقد الشكل دون المضمون، قول من لم يسبر السنة ولم يعرف حقيقتها، ولا غاص في بحارها ليعلم الحق من الباطل والصحيح من المزيف (4) .
(1) أبو بكر كافي، منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها، ص: 217-220. ولمزيد من المعلومات عن انتقاد المحدثين لحديث بسبب علة في متنه سببها الرواية بالمعنى انظر ص: 320-321.
(2)
مسلم بن الحجاج النيسابوري، كتاب التمييز، ص: 125، ولمعرفة أمثلة أخرى وقع فيها الرواة في الخطأ في السند والمتن انظر قوله: " ومن فاحش الوهم لابن لهيعة (أي في السند والمتن معا)
…
"، ص:139.
(3)
مسلم بن الحجاج النيسابوري، كتاب التمييز، ص: 134-135، 141.
(4)
صالح أحمد رضا، النظر في متن الحديث في عصر النبوة، ص:378.
4-
الأسباب التي دعت إلى إعطاء نقد السند والرجال اهتماما أكبر من نقد المتن:
إن هناك أسبابا عديدة دعت العلماء للاهتمام بالسند أولا قبل المتن، ولكي يكونوا حذرين فلا يستعجلوا في نقدهم المتن، ومن هذه الأسباب:
1-
إن رجال الحديث هم الأساس، فإذا ضعف الأساس ضعف البنيان كله، ولأجل ذلك كان علماء الحديث يصرفون كبير اهتمامهم إلى دراسة الرجال الحاملين للروايات ينتقدونهم ويسألون أهل الخبرة عنهم، وقد وصلوا إلى درجة من اليقين بأن الأحاديث لا يستطيع أحد أن يعبث بها عابث فيعمى أمرها على المسلمين، فقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: يعيش لها الجهابذة، وقال نعيم بن حماد: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: كيف يعرف الكذاب؟ قل: كما يَعْرِفُ الطبيبُ المجنونَ. (1)
2-
إن نقد السند يسمح بنقد موضوعي مبني على معيار دقيق بسبب الرجوع إلى تراجم الرواة التي تعطينا فكرة عنهم، وبذلك تعرف درجة صحة الحديث، والمحدثون يقولون: إنهم كانوا قادرين بمعرفة ترجمة الراوي على تكوين فكرة واضحة عن درجة وثوق روايته وعن علمه. وقد علل الإمام الدارقطني سبب الاعتماد على السند في معرفة درجة الحديث أكثر من الاعتماد على المتن: بأن إيجاد خلل في السند هو
(1) سلمان الحسيني الندوي، لمحة عن علم الجرح والتعديل، (لكناؤ: دار السنة للنشر والتوزيع، 1413?/1992م) ، ص: 26-27.
أصعب من إيجاد خلل في المتن (1) والسبب في ذلك راجع إلى أن نقد السند يحتاج لعلم بالتراجم والرجال. والسبب الآخر في الاعتماد على السند هو أنه بمجرد إثبات عدالة الرواة وضبطهم فإنه يجب دينيا قبول روايتهم، واحتمال وقوع الراوي في الخطأ لا يؤثر في الحديث، ما لم يثبت لدينا دليل على كذب الراوي أو وقوعه في الخطأ، ومن هنا وجب قبول روايته. وإذا جرّح الراوي؛ فإن كل رواياته ترفض، ولا تقبل رواية من رواياته حتى تكون معضدة بروايات أخرى مقبولة. فالعلة القادحة في السند، والنقد الذي يثبت في السند يعطى أهمية كبرى ويؤخذ بجدية أكبر من النقد الموجه للمتن وذلك كإجراء احتياطي.
أما الخلل في المتن فإنه ليس دائما يؤثر في صحة ورود الحديث، فقد يكون الحديث صحيحا إلا أن الراوي قام بإدراج بعض الكلمات فيه أو بإدراج بعض الجمل التي تؤثر في فهم الحديث بشكل خاطئ، وفي بعض أنواع الإدراج يكون من الصعب التفريق بين الحديث الأصلي وبين كلام الراوي المدرج. (2)
والأمر الثاني هو أن الراوي قد يقوم بخطأ في نص الحديث يغير المعنى إلا أنه لا يؤثر في صحة الحديث وذلك كبعض أنواع التصحيف
(1) م. أبو رية، أضواء، ص:291.
(2)
لمزيد من المعلومات والأمثلة انظر نور الدين العتر، منهج النقد، ص: 439 – 444؛ وانظر كذلك سعيد النورسي، أصول في فهم الأحاديث النبوية دفعا للأوهام عنها، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، (بغداد: مطبعة الحوادث، 1409?/1989م) ، ص: 7، 11 – 12. وانظر كذلك
Th. W. Juynboll، art. HADITH ، EI، vol. iii ، p. 0 and J. Robson، art. HADITH ، EIvol. iii ، p..
والتحريف (1) .
3-
إن فتح الباب على مصراعيه في نقد المتن قد يفتح المجال أمام إصدار أحكام غير موضوعية (متحيزة) وذلك لأن النص قد يؤول بوجوه عديدة، وهذا يفتح الباب أمام اعتبار صحة الحديث مبنية على التأويل الذي نقدمه، وفي ذلك من الخطورة ما لا يخفى على أحد. وقد أوصد العلماء المسلمون باب الاجتهاد المطلق خوفا من تلك التأويلات غير الموضوعية التي قد يقوم بها غير المختصين.
وقد يكون الحديث داخلا في باب الأحاديث المتشابهة التي تحتاج للراسخين في العلم كي يؤولوها، أو لا يمكن تأويلها وتؤخذ كما وردت (2) . أضف إلى ذلك فالحديث قد يكون فيه مجاز أو استعارة فيسيء بعضهم الفهمَ، ولهذا فمن الخطأ تماما الحكم عليه من ناحية ظاهرية. وقد يكون مضمون الحديث يتحدث عن أمور أخروية لا تخضع لموازين دنيوية، بل تخالفها: ولهذا لا يمكننا رفضها لمجرد عدم معرفتنا بتأويلها.
إن كل الأسباب السابقة تجعل رفض الحديث ذي الإسناد الصحيح بناء على عدم فهمنا لمتنه أمراً غير علمي، فعدم فهمنا للحديث قد يكون راجعا لأحد الأسباب السابقة التي يكون فيها الحديث صحيحا، إلا أنه لسبب ما لم نجد من يعطينا تفسيره الدقيق. وإذا قمنا برفض الحديث لسبب من الأسباب
(1) انظر نور الدين العتر، منهج النقد، ص: 444 – 446. وانظر كذلك
J. Robson، art. HADITH، EIvol. iii، p.
(2)
انظر سعيد النورسي، أصول في فهم الأحاديث النبوية دفعا للأوهام عنها، ص: 23، وقارن بمحمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، (القاهرة: مكتبة السنة، 1409?/1989م) ، ط1.
السابقة فسنقع في خطأ كبير، وهو رفض حديث صحيح؛ لأننا لم نجد عالما راسخا يفسره لنا تفسيرا صحيحا، وكان المفروض عرض الحديث على أهل الذكر فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب مبلَّغ أوعى من سامع. هذه باختصار أهم آراء المسلمين حول ضرورة الاعتماد على السند أكثر من الاعتماد على المتن لمعرفة صحة الحديث.