المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثالث: نظرية الإسناد عند شاخت والرد عليه - الرد على مزاعم المستشرقين جولد تسهير ويوسف شاخت ومن أيدهما من المستغربين

[عبد الله الخطيب]

الفصل: ‌القسم الثالث: نظرية الإسناد عند شاخت والرد عليه

‌القسم الثالث: نظرية الإسناد عند شاخت والرد عليه

1-

نظرية الإسناد عند يوسف شاخت:

كان المستشرقون وعلماء الغرب راضين بالنتائج التي توصل إليها المستشرق جولدتسيهر حول الحديث الشريف حتى أتى المستشرق يوسف شاخت (1902 – 1969) بنظريته حول نقل ورواية الحديث الشريف عامة وحول أحاديث الأحكام خصوصا. تكلم شاخت على هذا الموضوع في مقالة له (1) قبل أن يؤلف كتابه المشهور: (أصول الفقه المحمدي)

The Origins of Muhammadan Jurisprudence

) Oxford،)

خصص شاخت فصلاً خاصاً في كتابه هذا عن الإسناد، فدرس نشوء الإسناد وتطور استخدامه خصوصاً في أحاديث الأحكام. وخرج بنتيجة ونظرية يزعم فيها أن ما طبقه على أحاديث الأحكام يمكن أن ينطبق على كل الأحاديث.

2-

نظرية شاخت حول تطور استخدام الإسناد:

اعترف شاخت بأنه تبنى آراء سلفه جولدتسيهر ومارجوليوث حول مفهوم الحديث والسنة وتطورهما خلال القرن الأول الهجري والنصف الأول من القرن الثاني الهجري (2)، إلا أن شاخت زاد على ما ذكراه فزعم: بأنه كانت عادة الجيلين من العلماء الذين سبقوا الشافعي أن ينسبوا الأحاديث إلى

( [1] ) J. Schacht، “A Re-evaluation of Islamic Tradition”، JRAS، 1994، pp. [144-147] .

( [2] ) J. Schacht، The Origins of Muhammadan Jurisprudence ،

(Oxford، 1950) ، pp. [138-176] .

ص: 41

الصحابة والتابعين، ومن النادر أنهم كانوا ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ووصل إلى نتيجة مفادها أن الأحاديث المنسوبة للصحابة والتابعين سبقت في وجودها الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك يود أن يقلع جذور الشريعة الإسلامية، ويقضي على تاريخ التشريع الإسلامي قضاء تاما؛ ولهذا فقد وصف العلماء المسلمين خلال القرون الأولى بأنهم كانوا كذابين وملفقين وغير أمناء (1) . ويقول المستشرق البريطاني نورمان كولدر:«إن شاخت (1950) كسر لنا العلاقة التاريخية بين الحديث والفقه.. والذي بينه لنا هو أن الفقه كان في بداية ظهوره منفصلاً عن الحديث، وأصول الفقه الإسلامي الحقيقية عنده ترجع إلى العادات الحية السائدة للمدارس الفقهية المحلية» (2) والذي حدث -كما يزعم شاخت- هو أن الأحاديث نسبت للنبي صلى الله عليه وسلم تدريجياً، فهي قبل أن تنسب له كانت آراء للمذاهب الفقهية السائدة ومنسوبة للتابعين، وفي المرحلة الثانية نسبت للصحابة، ثم نسبت للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهو يطلق على الإسناد بأنه الجزء الأكثر اعتباطا من أجزاء الحديث، فهو يدَّعي بأنه: يمكننا أن نقول إنه كلما كان الإسناد متصلاً وتاماً فإنه يعني أنه اخترع في مرحلة متأخرة (3) ويصل بذلك إلى نتيجة مفادها: أن كل أحاديث النبي صلى الله

( [1] ) محمد مصطفى الأعظمي، شاخت والسنة النبوية، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1985م، ص:62.

( [2] ) N. Calder، Studies in Early Muslim Jurisprudence، (Edinburgh،946) ، p.vii.

( [3] ) J. Schacht، “A Re-evaluation of Islamic Tradition”، JRAS، 1949 ،p. 147.

ص: 42

عليه وسلم لم يكن لها وجود أصلاً، بل اخْتُرِعَتْ ووُضِعَتْ خلال منتصف القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، فالأسانيد التي نراها مع الأحاديث إنما هي كلها موضوعة. (1)

لاحظ شاخت بأن الحديث كان يرويه عدة رواة وأن هؤلاء الرواة في النهاية يلتقون عند راوٍ واحدٍ أخذوا عنه هذا الحديث في مرحلة من المراحل، إن هذا الراوي الذي يلتقي عنده هؤلاء الرواة هو المسؤول عن وضع الحديث أو أن اسمه استخدم في وضع الحديث.

ويمكننا تلخيص رأي شاخت في خمس نقاط:

أولاً: ابتدأ المسلمون باستخدام الإسناد في بداية القرن الثاني الهجري أو في نهاية القرن الأول الهجري على أبعد احتمال.

ثانيا: ألصقت الأسانيد بالأحاديث بطريقة غير منتظمة وبأسلوب تعسفي، وقام بإلصاقها أصحاب المذاهب الفقهية الذين أرادوا إعطاء آرائهم قيمة بنسبتها ووضعها على ألسنة علماء السلف.

ثالثاً: بدأت عملية تحسين الأسانيد تدريجياً وذلك بوضع أسانيد كاملة، ومُلِئت الفراغات في الأسانيد المنقطعة لتصير متصلة وذلك قبل أن تجمع الأحاديث في كتب الحديث المشهورة.

رابعاً: أضيف في عصر الشافعي مجموعة من الرواة للأسانيد الموضوعة بهدف دحض المعارضة لحجية أحاديث الآحاد أو التي ترجع لمصدرٍ واحدٍ.

خامساً: إن الأسانيد المتعددة التي تلتقي عند راوٍ واحدٍ هي أسانيد

( [1] ) F. Rahman، Islam، p.47.

ص: 43

موضوعة، وكذلك متونها (1) .

3-

ردة فعل العلماء والباحثين على هذه النظرية:

لاقت نظرية شاخت عن الإسناد قبولاً واسعاً بين المستشرقين الغربيين عندما ظهرت، ولكنها بعد ذلك تعرضت لانتقادات شديدة من العلماء المسلمين والغربيين.

وقد قبل هذه النظرية عديدون، قبلوها كما هي أو مع انتقادات قليلة، ومن هؤلاء مونتغمري وات (W. M Watt) الذي توقع لنظرية شاخت توقعات كانت صحيحة فقال: «إنها دراسة تمثل معلماً ونقطة تحول في مجالها

ويتوقع لها أن تقبل من العلماء الغربيين، وأن تكون منطلقاً لهم في كل دراساتهم حول الحديث» (2)، وبالرغم من انتقاد المستشرق الهولندي روبسون لجوانب في نظرية شاخت إلا أنه قال عنها مادحاً:«إن أحدنا ليعجب بالرؤية النقدية التي مكنت شاخت للوصول إلى نتائجه ودعمها بأسلوب مقنع» (3) ، وقال البروفسور جب عن نظرية شاخت بأنها ستصبح أساسا في المستقبل لكل دراسة عن حضارة الإسلام وشريعته على الأقل في العالم الغربي. (4) ومن المستشرقين المحدثين الذين تبنوا نظرية شاخت

( [1] ) M.M. Azami، On Schacht's Origins of Muhammadan Jurisprudence ، (Toronto، 1985) ، p.166.

( [2] ) W. M. Watt ، Journal of Royal Asiatic Society ، (1952) ، P.91.

( [3] ) J. Robson، "Tradition، the second foundation of Islam"، The Muslim World ، vol. ، (1952) ، pp.61-63 and Robson، art. “Hadith”، EI2، vol.iii، pp.26-27.

( [4] ) محمد مصطفى الأعظمي، المستشرق شاخت والسنة النبوية، ص:68.

ص: 44

ومدحوها: جون بورتون (1991) ، ونورمان كولدر (1993) .

قال جون بورتون: لا يمكن في المستقبل المنظور أن يظهر عمل يماثل عمل شاخت، ومن المرجح أنه لا يمكن التفوق على دراسته. (1) أما نورمان كولدر فقال: يبدو أن النتائج التي توصل إليها كل من اجناتس جولدتسيهر (1889–1990م) ويوسف شاخت (1950م) وجون وانسبرا (1970م)(2) عن الحديث النبوي، يبدو أنها على الأرجح في مبادئها العامة وتطبيقاتها مقبولة بشكل عام. (3)

أما الباحثون الذين وقفوا موقفا متوسطا بين القبول المطلق أو الرفض المطلق فهم نورمان كولدر وكولسون وفضل الرحمن وعبد القادر شريف، وهؤلاء قبلوا المبادئ العامة لنظرية شاخت، ولكنهم انتقدوا أموراً عديدة فيها. فقد قال كولسون:«إن معظم الأقوال المأثورة التشريعية (dicta) المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم هي موضوعة ونتيجة لعملية إسقاط ونسبة خاطئة أو قذف خلفي للإسن، اد back projection قامت به المذاهب الفقهية» . (4) وقال عن نظرية شاخت: «إن شاخت صاغ نظرية عن أصول

.

( [1] ) J. Borton، Hadith Studies، p.xxv.

( [2] ) See his works: Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptual Interpretation، (Oxford، 1977) ، (and The Secterian Milieu Content and Composition of Islamic Salvation History، (Oxford، 1979) .

( [3] ) Norman Calder، Studies، p.viii.

( [4] ) N. J. Coulson، AHistory of Islamic Law ، (Edinburgh، 1946) ،

p.64.

ص: 45

الشريعة الإسلامية غير قابلة للدحض في إطارها الواسع» . (1)

إلا أن كولسون تبنى بعد ذلك رأياً متوسطا بين المشككين بالحديث والمؤيدين لصحة الحديث فقال: «إن حكماً شرعياً منسوباً للنبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يقبل على نحو مؤقت وغير نهائي إلا إذا وجد سبب يجعلنا نعده زائفا» . (2) لذلك فكولسون ومن شابهه يرون أنه يجب قبول الحديث إلا إذا ثبت لنا عكس ذلك فلا يقبل حينئذ.

أضف إلى ما سبق فإن س. فيسي _ فيتسجرالد يرى أنه كان هناك حركة وضع كبيرة في الحديث إلا أنه يعتقد أن تلك القصص الباطلة تعكس آراء محمد صلى الله عليه وسلم. (3)

ويرى عبد القادر شريف في رسالته للدكتوراه التي قدمها في جامعة لندن والتي ألقى فيها الضوء على نظرية شاخت، يرى شريف بأن أسلوب البحث عند شاخت علمي، إلا أنه انتقده ورفض نتيجته التي عمم فيها رفض كل الأحاديث النبوية الشريفة وعدَّها كلها موضوعة. وقد أثار شريف نقاطاً جديرة بالاعتبار في هذا المجال فقال:«الوقت الوحيد الذي يمكن لنا فيه قبول نتيجة شاخت هو عندما نطبق أسلوب بحثه على نصف الأحاديث النبوية الفقهية على الأقل، وليس هذا بمقدور عالم واحد أبداً أن يقوم بمثل هذه المهمة المستحيلة» . (4)

( [1] ) محمد مصطفى الأعظمي، المستشرق شاخت والسنة النبوية، ص: 68

. ( [2] ) N. J. Coulson، A History of Islamic Law p.64

( [3] ) S. Vesey-Fitzgerald، “Nature and Sources of The Sharia”، The Law Quarterly Review، (1951) ، pp.93-94.

( [4] ) A.A.M. Shereef، Studies، p.3.

ص: 46

4-

الرد على مزاعم شاخت:

أولا: أما العلماء والباحثون المحدثون الذين رفضوا آراء شاخت كليا فهم: نابية أبّوط، وفؤاد سزكين، ومحمد الأعظمي (1) وغيرهم، فهؤلاء ناقشوا قضية صحة الأحاديث ووصلوا إلى النتائج التالية:

1-

نقلت الأحاديث النبوية الشريفة إلينا حفظاً وكتابة من بداية العهد النبوي الذي هو بداية للتاريخ الإسلامي. (2)

2-

تعرضت الأحاديث النبوية الشريفة التي نقلت إلينا للنقد الشديد في كل مراحل نقل الحديث. (3)

3-

إن سبب كثرة الأحاديث خلال القرن الثاني والثالث الهجريين راجع إلى كثرة رواة الأحاديث وكثرة الأسانيد للأحاديث، وليس سببه هو عملية الوضع. (4)

4-

الأمثلة التي ذكرها شاخت ترد على نظريته بخصوص ظاهرة الإسناد لأن وجود الأعداد الكبيرة من الرواة مع انتمائهم لعشرات المدن المترامية

( [1] ) لمزيد من المعلومات عن كتابات في نقد نظرية شاخت وجولدتيسهر انظر المقالات التالية: عبد العظيم الديب، المستشرقون والتراث، ص: 28-30، ومحمد حمدي زقزوق، الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ص:101.

( [2] ) فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، ج: 1، ص: 87-118.

( [3] ) محمد الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، (بيروت: المكتب الإسلامي 1400هـ/ 1980) ، ج: 2،.ص:437. ( [4] ) N. Abbott، Studies in Arabic Literary Papyri. II. Quranic Commentary and Tradition، (Chicago، 1976) ، vol.2، p.2; see also Wansbrough in his article “zann not burhan”، in Bulletin of the School of Oriental and African Studies، no31، 3، 1968،pp. 16-613.

ص: 47

الأطراف تجعل كلا من نظرية القذف الخلفي للأسانيد

back projecting والاختراع الاصطناعي للأسانيد غير قابلة للالتفات وعملية نادرة الوقوع. (1)

وقد تحدى أ. د. محمد الأعظمي أدلة شاخت التي اعتمد عليها ليصل إلى نتيجته الخاطئة عن الأحاديث النبوية الشريفة، وقد أكد الأعظمي أن أدلة شاخت في معظمها تعتمد على مغالطات فكرية، أو فهم خاطئ لغوي، أو الاعتماد على حالات شاذة تم تعميمها على كل الأحاديث، أو إصدار أحكام عامة على كل الأحاديث بناء على بعض الأحاديث، وليس بناء على استقرائها كلها، وقد رأى الأعظمي أنَّ هذه الأمور واضحة في نظرية شاخت. وقد أثار الأعظمي نقاطاً وتساؤلات عندما نقض الأمثلة التي اعتمد عليها شاخت في نظريته.

ومن هذه التساؤلات: لماذا كان رواة الأحاديث ينسبون أحاديثهم كذبا – حسب رأي شاخت – إلى رواة ومصادر ضعيفة بدلا عن رواة ثقات؟.. وإذا كانت كل الأحاديث موضوعة بهدف دعم المذاهب الفقهية والعقدية فلماذا نجد أحاديث مشتركة عند أصحاب المذاهب العقدية كالسنة والشيعة والخوارج والزيدية وغيرهم؟. (2)

وقد أظهرت آراء الأعظمي أنَّ شاخت كان يحاول أن يعطي إيحاء كاذبا باستخدامه لبعض الأمثلة الاستثنائية والتي انتقدها علماء الحديث ليدعم

( [1] ) محمد الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، ج: 2، ص:436-437.

( [2] ) M.M. Azami، Studies، pp. 3،242-252.

ص: 48

نظريته. وقد أوضح الأعظمي بعض الأسباب التي أوقعت المستشرقين عامة وشاخت على وجه الخصوص في أخطاء عندما أصدروا أحكامهم على الحديث النبوي الشريف والأسانيد. والسبب الرئيس في أخطائهم برأي الأعظمي هو أن المستشرقين لم يختاروا أمثلتهم الحديثية من مصادر الحديث الأساسية بل اختاروها من كتب السيرة أو كتب الفقه. إن الفقهاء لم يكونوا مهتمين بذكر كل السند، بل كانوا مهتمين بالمتن، وما يمكن أن يستنبطوا منه من أحكام، لذا فقد قال الأعظمي:«لقد قام البروفسور شاخت بدراسة كتاب الموطأ لمالك، والموطأ لمحمد بن الحسن الشيباني، وكتاب الأم للشافعي، وغني عن القول أن هذه الكتب أقرب ما تكون إلى الفقه من كتب الحديث، وعلى الرغم من ذلك فقد عمم نتيجته التي وصل إليها في دراسته لتلك الكتب، وفرضها على كافة كتب الحديث، وكأنه ليست هناك كتب خاصة بالأحاديث النبوية، وكأنه ليس هناك فرق بين طبيعة كتب الفقه وكتب الحديث، ويبدو أنه لم يتنبه لأسلوب الكتب الفقهية لأنه من المعلوم أن المفتي أو المحامي أو القاضي عندما يحكم في قضية أو يفتي في مسألة لا يكون مضطرا لأن يعطي للسائل كافة حيثيات الحكم أو الفتوى مع ذكر كافة الوثائق التي تعضده» . (1)

ثم شرح الأعظمي طريقة الفقهاء في نقل الأحاديث المنقطعة التي رويت متصلة من طرق أخرى في كتبهم أو كتب الأحاديث المعتمدة.

( [1] ) محمد الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، ج: 2، ص: 389، وقارن بالشافعي، الأم، (القاهرة، 1322هـ)، ج: 7، ص: 311، وظفر إسحاق الأنصاري، نقد منهج شاخت، ص: 57-70.

ص: 49

كان الأعظمي مصيباً في هذه النقطة؛ لأن الإمام الشافعي وأبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني قد استخدموا الأسلوب نفسه في كتبهم عند ذكرهم للأحاديث النبوية الشريفة. وتوصل الأعظمي لنتيجة مهمة جداً وهي أنه من الخطأ دراسة الأحاديث من الكتب الفقهية كما فعل شاخت، فقال الأعظمي:«إن كتب السيرة وكتب الفقه ليستا مكانا ومصدرا مناسبا لدراسة ظاهرة الأسانيد ونشأتها» . (1)

وليؤيد شاخت نظريته بأن الأسانيد كانت كثيرا ما تلصق بصفة اعتباطية أتى بمثال عدَّه مهما جدا فقال: «الحديث الوحيد الذي كان يعرفه مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين هو بإسناد ذي أخطاء حتى إن الزرقاني يتهم مالكا بارتكاب خطأين. ويتهم يحيى بن يحيى بخطأ آخر، لكن هذا هو الشكل الأصيل الصحيح للإسناد. أما التطور الذي حصل وغير الجزء العلوي من الإسناد حتى إنه لا يمكن التعرف عليه فقد حدث مؤخرا» (2) ، فشاخت يختار من بين آلاف الأحاديث التي يذكرها الإمام مالك وغيره من الفقهاء يختار الأحاديث التي وقع فيها أخطاء ويعممها ليكون منها نظريته. وهذه الظاهرة تميز نظريته، مع العلم بأن المصادر التي رجع إليها تبطل نظريته التي توصل إليها لأنه عندما يتكلم على خطأ الإمام مالك الذي أشار إليه الإمام الزرقاني، فإنه لا ينقل لنا النص كاملا.

وقد ذكر الإمام الزرقاني أن الإمام الشافعي قد أشار إلى خطأ مالك، وقد اكتشف العلماء خطأ مالك بمقارنة روايته مع سبعة رواة من معاصريه، ووجد

( [1] ) محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، ج: 2، ص:404.

( [2] ) قارن بمحمد مصطفى الأعظمي، المستشرق شاخت والسنة النبوية، ص:106-107.

ص: 50

العلماء بأن هؤلاء الرواة السبعة كانت رواياتهم متفقة ومخالفة لما رواه مالك، فخطأ مالك إذن قد اكتشفه العلماء، ولو كان من عادات الرواة الشائعة ربط الأسانيد بالأحاديث المختلقة لما أمكن معرفة ذلك الخطأ الذي وقع فيه مالك وإزالته، وهذا يثبت لنا أنه كان من المتعذر وجود أسانيد وهمية وخيالية، وإن كان هناك شيء ما منها فكان من المستحيل تقريبا أن تمر تلك الأحاديث دون أن ينتبه الباحثون لما فيها من خطأ في أسانيدها. (1)

والحقيقة أن اكتشاف الأخطاء كان ممكنا مما يؤكد لنا أن عملية اختراع الأسانيد المزيفة الملصقة بأحاديث كانت عملية نادرة بل ومن المستحيل أن لا تكتشف من العلماء، ولا يمكننا أن ننكر أن كل عالم يمكن أن يخطئ أحيانا عند نقل الحديث، ولكن حالات الخطأ هذه لا يمكن أن نجعلها المادة العلمية الوحيدة في البحث العلمي. (2)

كان هدف شاخت كما سبق أن ذكرنا تأكيد أنه لا يوجد حديث فقهي واحد صحيح فهو يقول: إن أكبر جزء من أسانيد الأحاديث اعتباطي ومعلوم لدى الجميع أن الأسانيد بدأت بشكل بدائي ووصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.. وكانت الأسانيد لا تجد غالباً أقل اعتناء، وأي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين كان يختار تلك الشخصيات ويضعها في الإسناد (3)

حيث الاعتبارات الأخرى تستبعد أن يروى الموضوع عن طريق رجلين أو أكثر، ويذكر شاخت بهذا الصدد ستة أمثلة،

( [1] ) المرجع السابق نفسه.

( [2] ) المرجع السابق نفسه، ص:107.

( [3] ) المرجع السابق نفسه، ص:104.

ص: 51

ويذكر في بعض الأمثلة الأسماء فقط دون تحديد القضية، بينما يذكر في البعض الآخر القضايا، فمثلا يقول: انظر نافع وعبد الله بن دينار في الموطأ

(4: 204)، واختلاف الحديث (149) ..أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال:"لست بآكله ولا محرمه". (1) ويروي هذا الحديث عن ابن عمر كل من نافع وعبد الله بن دينار، وقد روى مالك الحديث نفسه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. ويريد شاخت أن يستنتج من ذلك أنَّ مالكا لم يكن دقيقا في تسمية مشايخه، بل كما ادَّعى شاخت أن المحدثين كانوا يلتقطون الأسماء حسبما يحلو لهم، كما هو واضح هنا _ في نظر شاخت _ من صنيع مالك.

والذي يدحض زعم شاخت هذا هو دليل بسيط جدا وهو: أنه لو سلمنا بأن مالكا أخطأ في تسمية مشايخه فهناك العالم سفيان بن عيينة الذي روى الحديث نفسه عن عبد الله بن دينار فوافق مالكا في أحد الرواة. والسؤال هنا إذا كان مالك قد سمى عبد الله بن دينار هكذا، فكيف اختار ابن عيينة نفسه مصدراً ثم اتفق هؤلاء أي مالك وابن عيينة بمحض المصادفة حيث اختار كل واحد منهما الاسم نفسه؟ إذن الحل الوحيد والصحيح للقضية هو أن مالكا سمع الحديث من نافع وعبد الله بن دينار اللذين تتلمذا على ابن عمر، فمرة ذكر هذا التلميذ ومرة أخرى ذكر الآخر ولا يمكن أن يكون غير ذلك. (2)

ما زالت نظرية شاخت وللأسف تلقى قبولا واسعا في الغرب، بالرغم

( [1] ) المرجع السابق نفسه، ص:105.

( [2] ) المرجع السابق نفسه، ص:106.

ص: 52

من كل ما تعرضت له من نقد علمي محكم. والوضع الراهن في الغرب بالنسبة لآراء شاخت هو كما وصف د. فورتي: «إن معظم علماء الغرب الدارسين للإسلام يرون أن أدلة شاخت ضد صحة الحديث هي أدلة لا يمكن مهاجمتها ونقضها في الواقع» . (1)

وإنني أرى أنه لا يمكن أن نقبل نظرية شاخت التي تعتمد على تعميمات خاطئة مبنية على أمثلة خاطئة، أو على فهم خاطئ للنص العربي.

ثانيا:

أما الرد على شاخت فيما يتعلق بالشبه التي تقول بأنه كانت عادة الجيلين من العلماء الذين سبقوا الشافعي أن ينسبوا الأحاديث إلى الصحابة والتابعين.. وأن الأحاديث المنسوبة للصحابة والتابعين سبقت في وجودها تلك الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأحاديث نسبت للنبي صلى الله عليه وسلم تدريجيا، فنقول وبالله التوفيق:

إن وجه بطلان هذا القول من وجهين:

الوجه الأول: أنه ينسب الكذب ليس لفرد واحد بل لعلماء الأمة كلها ولا يستثني حتى الصحابة الكرام، وما ذلك إلا افتراء عظيم على علماء الأمة الذين كانوا يتورعون عن سماع الغيبة فضلا عن ارتكاب أكبر الكبائر ألا وهو الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الكذب في زمانهم كان عارا عظيما، وعيبا كبيرا لو ثبت على عالم منهم لوصم به كل حياته ولحرمه ذلك من أن يأخذ عنه الرواة الحديث أبدا. أضف إلى ذلك فكثيرا ما كان بعض

( [1] ) D. Forte، “Islamic Law: The Impact of Joseph Schacht"، p. 5

ص: 53

الصحابة يمتنع عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم خوفا من الوقوع في الكذب عليه. (1)

الوجه الثاني: لننظر في الأدلة التي اعتمدها شاخت ليستدل بها على أن الحديث كان يخترع في مرحلة من المراحل المتأخرة من عصر تابعي التابعين، ثم كان ذلك المخترع يلصق بالحديث سندا مخترعا متصلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نظر شاخت في بعض الأسانيد فوجد فيها راويا –أطلق عليه هو ن ن، وهو حلقة الوصل التي أخذت الحديث عن رواة عدة، وقد أخذ عن هذه الحلقة نفسها رواة عدة آخرون، فادَّعى شاخت بأن هذا الراوي هو المسؤول عن وضع الحديث، أو أن اسمه استخدم للوضع.

الرد:

1-

إذا أخذ اليوم أشخاص عديدون خبرا عن مصدر واحد موثوق به فما الغضاضة في ذلك؟ وهل يدلنا هذا أن الخبر كاذب لمجرد أن عدة رواة رووا عن الشخص نفسه؟

2-

إن المثال الذي اعتمده شاخت ليبني عليه نظريته السابقة فهمه فهما خاطئا فأصبح دليله دليلا عليه وانقلب السحر على الساحر، كما بين الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي.

3-

على فرض صحة دليل شاخت، فإن حادثة واحدة لا تكفي لجعلها

( [1] ) لمزيد من المعلومات عن هذا الموضوع انظر هذا البحث: صالح أحمد رضا، أسباب اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في الرواية قلة وكثرة، بحث قبل للنشر في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود عام 2003م، ص: 8-9.

ص: 54

ظاهرة عامة في علم الحديث ولا في غيره من العلوم، ومن هنا يتبين لنا مدى الجنوح للهوى لدى شاخت في استصداره لأحكام عامة مبنية على حادثة واحدة فقط، حيث نجد في كلامه مثل هذه العبارة: الظاهرة العامة COMMON OCUURRENCES عندما كان يكتب استنتاجاته المعتمدة علىحالة واحدة- هذا إن صح الدليل الذي قدمه.

4-

استدل شاخت بمثال واحد على دعواه وفهمه فهما خاطئا، فقد استشهد بالمثال من كتاب اختلاف الحديث للشافعي فقال:

هذا الحديث له الإسناد التالي:

فبرأي شاخت أن عَمْراً هو الراوي المشترك في كافة الأسانيد، ومن الصعوبة بمكان أن يكون قد تردد بين مولاه وبين رجل مجهول ليكون سنده المباشر. [1] وبالتالي فعمرو هو المسؤول عن وضع الحديث أو أن اسمه استخدم

[1] محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي، ج: 2، ص: 171-172.

ص: 55

في وضع هذا الحديث.

تبين للدكتور محمد مصطفى الأعظمي بعد أن درس هذا السند دراسة مفصلة أن السند الصحيح الذي يجب أن يكون لهذا الحديث هو ليس الشكل الذي وضعه شاخت وإنما الشكل التالي:

وبذلك يهوي دليل شاخت، وتهوي معه كل الاستنتاجات التي قدمها، ويهوي كل كلام ومدح من المستشرقين اعتمد على استنتاجات شاخت، لأننا لو سلَّمنا جدلا أن عَمْراً ادَّعى رواية الحديث عن عدة أشخاص فهذه حادثة جزئية لا يمكن تعميمها كما سبق أن أشرنا، وحتى يخرج شاخت بنظرية صحيحة فلابد له من دراسة كل الحديث النبوي الشريف متونا وأسانيد، وأنى له وحده هذا؟ إذن لا قيمة لهذه النظرية بعد أن بان عورها وهوى صاحبها في ميزان البحث العلمي إلى أسفل سافلين.

ص: 56

5-

تنبه علماء الحديث لتفرد الرواة في رواياتهم ووضعوا لذلك قواعد دقيقة يقول الإمام الذهبي: «فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار والصغار، ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسنة، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه. وكذلك التابعون، كل واحد عنده ما ليس عند غيره من العلم، وما أتعرض لهذا فإن هذا مقرر على ما ينبغي في علم الحديث. وإن تفرد الثقة المتقن يعد صحيحا غريبا، وإن تفرد الصدوق ومَنْ دونه يعد منكرا، وإن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظا أو إسنادا يصيره متروك الحديث» . (1) بعد هذه القواعد الصارمة التي وضعها العلماء عن تفرد الرواة في رواياتهم لم الاستغراب بعدئذ من تفرد الراوي؟. وإن أخذ كثير من الناس عن راو واحد لهو علامة على قبول الناس لروايته وليس العكس، فالزهري مثلا إمام ثقة ثقة في الحديث، وقد أخذ عنه مئات من الناس فلو أردنا أن نثبت أنه لم يكن عدلا لابد أن نأتي بالأدلة القاطعة على ذلك، وأنى لنا ذلك؟ وكل التراث الإسلامي شاهد على عدالته وإمامته. وقد سجل لنا المحدثون في كتبهم ظاهرة تعدد الرواة عن راو واحد. يقول الإمام ابن حجر العسقلاني عند الكلام على أحد رواة حديث: إنما الأعمال بالنيات، وهو يحيى بن سعيد، إن هذا الحديث ليس بمتواتر لفظا ولكنه متواتر معنى لأنه «تواتر عن يحيى بن سعيد، فحكى محمد بن علي بن

( [1] ) محمد مصطفى الأعظمي، دراسات في الحديث النبوي، ج: 2، ص:420، نقلا عن ميزان الاعتدال للذهبي، وقارن بمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، معرفة علوم الحديث، (بيروت: دار إحياء العلوم، 1406هـ/1986م) ، ط1، 96-102.

ص: 57

سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة،

وقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى» . (1) فعلماؤنا الكرام لم يكونوا بانتظار شاخت ليكتشف لهم اكتشافه العظيم عن تعدد أخذ الرواة عن راو واحد. فالحمد لله أنه حفظ كتابه وسنته من عبث العابثين وافتراء المضلين، وتأويلات المبطلين، حفظهما بالعلماء الراسخين.

( [1] ) أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة: دار الريان للتراث، 1407هـ/1986م) ، ط1، ج:1، ص:18.

ص: 58