الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: نسبة الكتاب إلى المؤلف
تعتبر نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية أمرا هاما، نظرا لما وقع في ذلك من اختلاف بين الباحثين والمفهرسين، وشمل الخلاف المؤيدين للشيخ والمعارضين له، ووصل الأمر إلى حد إنكار وجود هذا التأليف لشيخ الإسلام، والحكم بوهم من نسبه إليه، وإن كان الذي نسبه من ألصق الناس وأخبرهم به، وهو تلميذه ابن القيم وبيان ذلك:
أن النسخة التي وجدت من هذا الكتاب في دار الكتاب المصرية (1) لم يذكر فيها نسبتها إلى شيخ الإسلام، وبناء على ذلك تردد المفهرسون في نسبتها للمؤلف، فقالوا عند فهرستها: يظن أنها لشيخ الإسلام ابن تيمية (2) .
وتبعا لذلك ذكر الدكتور عوض الله حجازي في كتابه "ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي"(3) أن تلك الرسالة مجهولة المؤلف، لكنه اتبع ذلك بقوله:"ويظهر أنها من مؤلفات ابن تيمية".
أما الدكتور علي بن علي جابر الحربي، فتعدد إنكاره لوجود قول لشيخ الإسلام بفناء النار، أو وجود تأليفه له في هذا الموضوع، وذكر أن ابن القيم وابن الوزير قد وهما في نسبة ذلك إلى شيخ الإسلام، ثم راح يلمتس لهما عذرا بأن
(1) سيأتي التعريف بها "ص29".
(2)
كذا في بطاقة فهرسة النسخة بدار الكتب المصرية.
(3)
"ص310".
الكمال لله وحده وأن ذلك من الوهم اليسير الذي لا يخرج العالم عن حد الثقة (1) .
وفي بعض المرات ذكر أن ما صرح به ابن القيم من أن شيخه شيخ الإسلام صنف في هذه المسألة مصنفه المشهور لكنه لم يصل إلينا -حسب علمي - ولو نشر لأقام الدنيا وأقعدها خصومه (2) .
وفي موضع ثان قال: "ويغلب على ظني عدم وجوده"(3) .
وفي موضع آخر قال: "إن الرسالة المزعومة"(4) .
فلما رأى الدكتور الحربي أن الشيخ الألباني ذكر قطعة من نسخة خطية، وجدت لدى المكتب الإسلامي ومصرح فيها بنسبة الكتاب إلى شيخ الإسلام كما سيأتي توضيحه (5) لما رأى الدكتور ذلك وحاول دفع نسبتها لشيخ الإسلام فقال:"وأما الورقات الثلاث التي ذكر الألباني أنه وجدها في دشت ضمن مخطوطات المكتب الإسلامي، وصورها في مقدمته لكتاب "رفع الأستار" للصنعاني، وأنها لكاتب مجهول من خطوط القرن الحادي عشر الهجري من رسالة لابن تيمية في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، فلا تعتبر من مصنفات ابن تيمية، لانتفاء الشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق المعروفة عند أهل هذا الشأن، ومن ذلك جهالة الكاتب"(6) .
(1)"كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" للدكتور علي الحربي "16-17-28-30-31-34-41-58-59-69-70-71-77-82-83.
(2)
المرجع السابق "ص82".
(3)
المرجع السابق "ص45".
(4)
المرجع السابق "ص59".
(5)
المرجع السابق "ص82".
(6)
المرجع السابق "ص82".
وقال: "شهادته - يعني ابن القيم - بأن شيخه في هذه المسألة مصنفه المشهور الذي لم يظهر منه شيء سوى لصفحات الثلاث المشار إليها سابقا بأنها مجهولة الناسخ والتاريخ، مفتقرة للشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق، ومعلوم عند أهل هذا الشأن ما يترتب على ذلك من عدم الثبوت"(1) .
ويمكن الجواب عن هذا بما يلي:
أولا: أنه طالما صرح في هذه القطعة بنسبة الكتاب لشيخ الإسلام، فلا يطعن في ذلك جهالة تاريخ النسخة، ولا جهالة ناسخها، محاولة الاستناد في دفع الثبوت إلى الشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق، بناء على جهالة الناسخ وتاريخ النسخ، فهذا غير مُسَلَّم، حيث لم يعرف في تلك المناهج والقواعد أن جهالة الناسخ، وجهالة التاريخ للنسخة مما يقدح أيُّ منهما في نسبتها لمؤلفها المصرح به في صدر النسخة (2) .
ثانيا: أننا لو جعلنا جهالة الناسخ وتاريخ النسخ يقدحان في النسبة المصرح بها للمؤلف لترتب على ذلك أن نقدح في نسبة كثير من المؤلفات المخطوطة مما لم يوجد عليها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، كما يعرف ذلك من مراجعة فهارس المخطوطات، على أنه قد توفرت نسخة ثانية كاملة للكتاب وأثبت في آخرها اسم الناسخ، ومقابلته لها بأصلها.
ثالثا: ومما يؤيد صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية ما تضمنه من نصوص وإحالات. تتطابق مع النقول والمؤلفات التي تثبت نسبتها لشيخ الإسلام كما يتضح ذلك من مراجعة النص المحقق وتوثيقه والتعليق عليه (3) .
(1) المرجع السابق "ص58".
(2)
"رفع الأستار" للصنعاني تحقيق الألباني "ص8-9-53"
(3)
انظر من أمثلة ذلك "ص44" هامش 5، "ص45" هامش 3، "ص49"، هامش 1"هامش 4.
رابعا: أنه قد صرح بنسبة هذا الكتاب للمؤلف من لا يشك في خبرته بالشيخ، وولائه له ولاعتقاده السلفي، ألا وهو العلامة ابن القيم.
فقد قرر أن لشيخه ابن تيمية تصنيفا مشهورا في مسألة فناء النار (1) وشهادته دليل قاطع.
بل إن ما ذكره في كتابه "حادي الأرواح" حول هذه المسألة قد اعتمد فيه على رسالة شيخه ابن تيمية التي هي بصدد التحقيق، فإنه أحيانا يصرح بالنقل وأحيانا ينقل بتصرف وقد أشرت إلى ذلك في الهامش أثناء التحقيق.
خامسا: هذه الرسالة قد نسبها إلى شيخ الإسلام من خصومه المعاصرين له الشيخ: علي بن عبد الكافي السبكي، حيث ألف رسالة بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" وفي أثنائها قال:"وبدأنا بالنار لأنا وقفنا على تصنيف لبعض أهل العصر في فنائها"(2) .
ثم قال: "وقد وقفت على التصنيف المذكور، وذكر فيه ثلاثة أقوال في فناء الجنة والنار"(3) :
أحدها: أنهما تفنيان وقال إنه لم يقل به أحد من السلف.
والثاني: أنهما لا تفنيان.
والثالث: أن الجنة تبقى والنار تفنى (4) .
وجميع النصوص التي ساقها السُبكي في رسالته موجودة في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية التي هي موضوع التحقيق.
وبكل حال، فإن الناظر في هذه الرسالة يلحظ سمة بارزة لمنهج شيخ
(1) شفاء العليل "ص435".
(2)
"ص66" من الرسالة المذكورة. ضمن مجموع.
(3)
المرجع السابق "ص67".
(4)
المرجع السابق نفسه.
الإسلام من حيث الأسلوب ومناقشة القضايا ولا يختلف أسلوب هذه الرسالة عن سائر مؤلفاته.
وهذا مما يؤيد صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -
المبحث الثالث:
ويتضمن الآتي:
1 -
من تناول مسألة فناء النار غير ابن تيمية.
2 -
موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار، وآراء العلماء في ذلك ومناقشتها.
وإليك تفصيل:
أولا: من تناول مسألة فناء النار غير ابن تيمية:
قبل الشروع في التعرف على موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار يجدر معرفة أمر مهم، ألا وهو: بيان من تكلم في هذه المسألة غير ابن تيمية، فإن المتتبع لها في مظانها يجد العلماء السابقين على ابن تيمية واللاحقين له، قد تكلموا فيها تارة بذكر الروايات الواردة عن السلف فيها، وأحيانا بالإشارة إلى هذا القول وذكر الخلاف فيه، وقد أشار إلى ذلك جمع من العلماء منهم:
عبد بن حميد فقد ذكر الروايات في "تفسيره"(1) وعبد الحق بن عطية الأندلسي في تفسيره (2) والفخر الرازي في تفسيره (3) ، والقرطبي في "التذكرة"(4) ، وابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية"(5) ، وابن القيم في "حادي الأرواح"(6) وهو أوسعهم كلاما، ومحمد الأمين الشنقيطي في كتابه: "دفع إيهام الاضطراب
(1) أورده ابن القيم في "شفاء العليل""ص435".
(2)
"المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" 7/402 ط. قطر.
(3)
"التفسير الكبير" للرازي 18/63.
(4)
"526".
(5)
"ص480-486".
(6)
"ص340-379".
عن آيات الكتاب" (1) ، وأبو حامد الغزالي في كتابه: "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (2) ، وابن الوزير في كتابه: "إيثار الحق على الخلق" (3) ، والإمام الذهبي له مصنف في "صفة النار" يقع في جزأين (4) ، والحافظ بن رجب في كتاب "التخويف من النار" (5) ، والشيخ مرعي بن يوسف له كتاب: "توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين" (6) . والشيخ الصنعاني في كتابه
…
رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار" (7) .
هذا وبناءً على ما تقدم تبيين لي أن الكلام في مسألة فناء النار معروف لدى العلماء قبل عصر ابن تيمية وفي عصره، وبعده كما في عصره، وبعد كما في المصادر السابقة، وعليه ما موقفه من هذه المسألة؟
ثانيا: موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار، وآراء العلماء في ذلك ومناقشتها:
لا يوجد لشيخ الإسلام - فيما أعلم - نص واضح جلي في هذه المسألة، ولكن له هذه الرسالة التي ألَّفها جوابا عن سؤال وجه إليه، فأجاب بذكر آراء غيره من العلماء في ذلك، وبين الفرق بين الدوام الجنة والنار، وفنائهما، ولم يعقب على ما ذكر من الآراء بقول خاص له هو، ومن هنا اختلفت الآراء والمفاهيم حول موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المسألة، وذلك على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تحاملوا على ابن تيمية وجعلوه حامل لواء هذه المسألة، وجعلوا منها غرضا للنيل منه وتضليله، وعلى رأس هذا القسم الشيخ علي بن عبد الكافي
(1)"ص122-128".
(2)
"ص62-63".
(3)
"ص219".
(4)
"رفع الأستار" للصنعاني "ص62".
(5)
وهو مطبوع مشهور
(6)
وهو مطبوع.
(7)
وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد الألباني.
السُبكي المتوفي سنة 756هـ، فإن له رسالة بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" ألفها ردا على رسالة شيخ الإسلام التي أقوم بتحقيقها، لكن بالمقارنة بين الرسالتين، رسالة ابن تيمية ورسالة السُبكي، نجد أن رسالة السبكي في رسالته تلك قد تحامل على ابن تيمية، سيأتي بيان أوجه ذلك.
القسم الثاني: من أنكر نسبة القول بفناء النار إلى شيخ لإسلام ابن تيمية، وقال إنه بريء منه براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب، ومن هؤلاء الدكتور علي بن علي الحربي اليماني، مؤلف كتاب "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار"، المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية" وسأعرض وجهة نظره في ذلك (1) .
القسم الثالث: تأملوا النصوص الواردة عن ابن تيمية في هذه المسألة وقالوا: إنه يميل فقط إلى القول بفناء النار انطلاقا من سعة رحمة الله وسيأتي ذكر هؤلاء.
وهذا أوان عرض تلك الآراء ومناقشتها:
أولا: ما كتبه السبكي في رسالته "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" فبعد استعراض ما ذكره السبكي في هذه الرسالة التي هي رد على رسالة ابن تيمية، لاحظت أمورا سأشير إلى بعضها بإيجاز:
أولا: عنوان الرسالة "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" فهو يشعر بأن ابن تيمية يقول بفناء كل من الجنة والنار كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة، وليس الأمر كذلك بدليل أنه يرد على هؤلاء القائلين بفناء الجنة والنار، وإنما الذي نسب إليه مسألة فناء النار فقط.
ثانيا: في هذه الرسالة تطاول السبكي على أن ابن تيمية، وصفه بأوصاف
(1)"ص22".
بشعة. حيث إن من يطلع على رسالة السبكي يفهم أن ابن تيمية هو أول من تكلم في هذه المسألة، والحال أنه مسبوق إلى ذلك، والواجب على السبكي وغيره الإنصاف والعدل وهذا اللائق بمقام العلماء، لكن السبكي أغفل كلام العلماء السابقين على الشيخ وجعل ابن تيمية مبتدعا لها.
وقد ذكر الفخر الرازي المتوفى سنة 606هـ القائلين بذلك وساق في "تفسيره" أدلة القائلين بفناء النار من القرآن والمعقول" (1) .
ثالثا: عزى السبكي لابن تيمية أنه يختار القول بفناء النار، وأنه ينسبه للسلف (2) . بالرجوع إلى رسالة ابن تيمية، نجد أن ما ذكره السبكي ليس مسلما له، وذلك من وجهين:
أ - زعمه أن القول بفناء النار اختيار ابن تيمية، فإن هذا الاختيار لا يوجد في هذه الرسالة ولا غيرها من كتبه - فيما أعلم -.
ب - قوله: "إنه قول السلف"، ليس بصحيح فإن عبارة الشيخ هكذا "وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف"(3) .
رابعا: عرض السبكي في رسالته أكبر قدر من أدلة الكتاب والسنة الدالة على بقاء النار، وابن تيمية لم يكن يجهل هذه الآيات والأحاديث وحاشاه رحمه الله أن ينكر ثبوتها ودلالتها على البقاء، وبالتالي فإن اهتمام السبكي باستقصاء ذكر الأدلة لا يضيف شيئا جديدا غاب عن ابن تيمية بل هو تجاهل منه لمعرفة شيخ الإسلام بها ملاحظته والتسليم بها.
وعليه فالإشارة أو التلميح من السبكي بنسبة شيخ الإسلام للتضليل.
(1)"التفسير الكبير" للفخر الرازي 18/63-66.
(2)
الاعتبار ببقاء لجنة والنار" "67".
(3)
انظر "ص52".
والتبديع مردود عليه وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن القيم "فقولكم إنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبرة له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم.."(1) .
ويقول: الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "
…
وغاية ما يقال إنه قول خطأ، أو رأي غير صواب، ولا يقال بدعة، وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي ببيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق عليه ضابط البدعة وهو أنه من المسائل القديمة" (2) التي وقع الخلاف فيها قبل ابن تيمية.
خامسا: ابن تيمية رحمه الله نظرا في أدلة بقاء الجنة ودوامها، وأدلة النار ودوامها، فلاحظ أن بعض أدلة النار لا تصرح ببقاء ولكن تكل الأمر إلى مشيئة الله وما يريده بعباده وبعضها تقيده بحد كما في قوله تعالى:{النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (3) .
وكما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (4)، وقوله تعالى:{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (5) .
وعند ذلك رأى أن هذه الأدلة تصلح أن تكون مقيدة لما أطلق من أدلة البقاء الدائم، وأن في تقييد المطلق جمعا بين الأدلة وهو أولى.
وكون تلك الأدلة أقل عددا من أدلة البقاء لا يؤثر، لأن العبرة بالثبوت، ولم
(1)"حادي الأرواح""ص356".
(2)
"نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية من الهفوات" لمحمد سعيد رمضان "ص50" بقلم فضيلة الشيخ صالح الفوزان، حفظه الله.
(3)
سورة الأنعام، الآية رقم:128.
(4)
سورة هود، الآية رقم:107.
(5)
سورة النبأ، الآية رقم:23.
يكن ابن تيمية هو الوحيد في هذا الفهم فقد أورده بعض المفسرين عند الآيات السابقة.
سادسا: لاحظ السبكي على ابن تيمية استدلاله ببعض الآثار الدالة على فناء النار وكونها متكلما فيها، ويمكن الجواب عنه:
بأنه ربما لم يكن ابن تيمية وقف على علتها حينذاك، ولهذا اعتذر عنه العلامة الألباني بقوله:"ولعل ذلك كان منه إبان طلبه للعلم، وقبل توسعه في دراسة الكتاب والسنة، وتضلعه معرفة الأدلة الشرعية"(1) وأيضا فلم تكن هذه الآثار هي دليله الوحيد بل استدل كما تقدم بالآيات المقيدة (2) .
سابعا: علل ابن تيمية ما ذكره في رسالته بأمر مقرر بأصل الشرع وهو سعة رحمة الله تعالى قال الله عنها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) . وعلق على ذلك الشيخ الألباني بقوله: "إلا أن الحامل له على ذلك إنما كان ثقته البالغة في رحمة ربه وعفوه، وأنها وسعت كل شيء دون ما استثناء، ووافق ذلك منه خلقا كريما وطبعا رحيما جبله الله عليه، عرف به بين أصحابه"(4) .
وكما سبق شيخ الإسلام إلى ذلك من بعض السلف فقد وافقه في ذلك بعض العلماء كالإمام ابن القيم وابن الوزير وغيرهما، بل ذكر مؤلف "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" بأنه نوقشت رسالة ماجستير مقدمة من الباحث: فيصل عبد الله لجامعة أم القرى بمكة بعنوان "الجنة والنار والآراء فيهما" رجح صاحبها القول بفناء النار، وعلل ذلك بأنه يتفق مع رحمة الله الواسعة وكرمه الشامل وعفوه
(1) مقدمة "رفع الأستار""ص25".
(2)
انظر "ص21"..
(3)
سورة الأعراف، الآية 156.
(4)
مقدمة رفع الأستار للعلامة الألباني "ص22".
الفياض، وحكمته ولكنه لم يتعرض لما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لا نفيا ولا إثباتا" (1) .
القسم الثاني: من أنكر نسبة القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، من هؤلاء الدكتور علي الحربي اليماني مؤلف كتاب "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" حيث ادعى فيه أولية السبق في الذب عن شيخ الإسلام في هذه المسألة العظيمة" (2) .
وقرر في خاتمة البحث "براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بفناء النار براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام"(3) .
هذا، وباستعراض كتابه نجد أن حجته فيما توصل إليه من نتيجة تتلخص في الآتي:
أولا: قام باستقراء وتتبع كتب ابن تيمية فأخرج منها نصوصا من ردود الشيخ على مذهب الجهمية والمعتزلة القائلين بفناء الجنة والنار، علق على تلك النصوص بقوله:"فهل يصح القول بعد هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بفناء النار"(4) .
والجواب: أنه ينبغي أن يعلم أن هذه النصوص منصبَّة في الرد على مذهب الجهمية والمعتزلة القائلين بفناء الجنة والنار وهذا لا خلاف فيه ومحل النزاع في المذهب القائل ببقاء الجنة وفناء النار وحدها.
(1) كشف الأستار "ص22".
(2)
"ص10-840".
(3)
"ص84".
(4)
"ص71".
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هذه الأقوال (1) .
وعليه فتكون النصوص المذكورة في غير محل النزاع، وبالتالي لا يدفع بها نسبة تلك الرسالة إلى شيخ الإسلام كما سيأتي بيان ذلك.
ثانيا: قال الدكتور الحربي ولو صح إسناده يعني رسالة القول بفناء النار إلى ابن تيمية لأقام الدنيا وأقعدها خصومه واقتطفوا منها الكلام الذي يحتجون به على شيخ الإسلام، ولصاحوا وما سكتوا عن إلزامه من كلامه مع كثرة الخصوم قديما وحديثا (2) .
والجواب: أن ما نفاه الدكتور الحربي هو ما وقع فعلا فإن خصوم الشيخ أقاموا الدنيا وأقعدوها وذلك في عصر الشيخ وبعده، فالسبكي وهو ممن عاصر الشيخ ونسب إليه تلك الرسالة وتتبع الشيخ - كما سيأتي - وتعقبه فيما جاء بها وراح من خلال ما جاء فيها يلزمه بإلزامات هو منها براء، ورسالة السبكي بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" كذلك جاء بعده من خصوم الشيخ ممن نسج على منواله وقد ساق الدكتور الحربي في رسالته أمثلة على ذلك" (3) .
ثالثا: أن الدكتور الحربي تردد موقفه فمرة يقول أن ما ذكره ابن القيم في كتابه: "حادي الأرواح" عن شيخه وهم منه أو أنه رجع عنه (4) .
وفي موضع آخر قال عن شيخ الإسلام "أنه كان في أول الأمر يميل إلى
(1) وسيأتي ما ذكره شيخ الإسلام "ص42" ضمن الرسالة من هذا البحث، أما ما ذكره ابن القيم فهو في حادي الأرواح "ص340" الباب 67.
(2)
المرجع السابق نفسه "ص58".
(3)
المرجع السابق نفسه "ص15 16"
(4)
المرجع السابق نفسه "ص70".
القول بفناء النار فعليه تحمل شهادة تلميذه العلامة ابن القيم فيما حكاه عنه (1) ، فهذا هو المناسب لثبوت نسبة الرسالة للشيخ ولتبرئة الشيخ ابن القيم وغيره من الوهم، كما سأوضحه فيما يلي:
وفي موضع آخر قال: "وأما شيخ الإسلام ابن تيمية وإن شهد أخص تلاميذه بأنه صنف مصنفه المشهور في هذه المسألة العظيمة، الذي لم يبين فيه ابن القيم نفيا ولا إثباتا - فلم يصل إلينا شيء من مؤلفات ابن تيمية في هذه المسألة العظيمة الخطيرة (2) وكذا ما ذكره ابن الوزير (3) والصنعاني (4) ، قال إن مخطوطة المكتب الإسلامي التي ذكرها الألباني في مقدمة كتاب "رفع الأستار" لا تصح نسبتها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية"(5) .
وتقدم الجواب عن هذا أثناء الكلام عن نسبة الكتاب للمؤلف (6) .
القسم الثالث: ذهبت طائفة من العلماء إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى القول بفناء النار، ومن هؤلاء السفاريني في "لوامع الأنوار"(7) والشيخ صديق حسن خان في كتابه "يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار"(8) .
والشيخ الألوسي في "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين"(9) .
(1) كشف الأستار "ص45".
(2)
المرجع السابق نفسه "ص 82"
(3)
المرجع السابق نفسه "ص28"
(4)
المرجع السابق نفسه "ص30"
(5)
المرجع السابق نفسه "ص32-33"
(6)
المرجع السابق نفسه "ص7"
(7)
2/235.
(8)
"ص42".
(9)
"488".
مع أن هذا قول وسط بين القولين السابقين، إلا أن هنا حقائق يمكن ذكرها وهي على النحو التالي:
أولا: أن ميل الشخص إلى قول من الأقوال لا يدل على أنه يجزم به ويقطع به، بل ظن لديه فمال إليه.
ثانيا: الميل نوعان:
1 -
ميل ناشئ عن اجتهاد ونظر وموازنة بين الأدلة الشرعية، فهذا صاحبه مأجور، لكونه مجتهدا وإن أخطأ.
2 -
ميل ناشئ عن الهوى وتعصب وشهوة النفس ونفي للدليل فهذا ميل مذموم قد ذم الله فاعله، قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (1) .
ثالثا: أن شيخ الإسلام وإن مال إلى هذا القول فهو مسبوق إليه، بقول الشيخ الألوسي أثناء كلامه عن شيخ الإسلام في هذه المسألة "ولئن سلم أنه - أي شيخ الإسلام - مال إلى ذلك فقد ذهب إليه بعض السلف وأفراد من الخلف
…
" (2) .
وبالتالي لا يكون مبتدعا في ذلك كما تقدمت الإشارة إلى هذا (3) .
رابعا: أن ابن تيمية كتب هذه الرسالة بناء على سؤال وجه إليه من تلميذه ابن القيم، وذكر له في السؤال أن هذه المسألة تشكل عليه كما في نص السؤال.
إذن فلا عجب أن الشيخ يستقصيها من جميع جوانبها ويوازن بين أدلتها، وعند ذلك ظن من ظن بأنه يقول بفناء النار أو يميل إلى القول به.
(1) سورة النساء، الآية:27.
(2)
جلاء العينين للألوسي "ص488".
(3)
راجع "ص21".
يقول العلامة ابن القيم: "كنت سألت شيخ الإسلام - قدس الله روحه - فقال لي هذه المسألة عظيمة كبيرة، ولم يجب فيها بشيء، فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في "تفسير عبد الحميد الكشي" بعض تلك الآثار - الدالة على فناء النار - فأرسلت إليه كتاب وهو في مجلسه الأخير، وعلَّمت على ذلك الموضع، وقلت للرسول: قل له: هذا الموضع يشكل عليه، ولا يدري ما هو. فيكتب فيه مصنفه المشهور - رحمة الله عليه"(1) .
خامسا: أن هذا الميل الذي فهم من تلك المسألة غير مشهور في كتب الشيخ المتداولة، بل المشهور عنه فيها تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة عموما والذب عنها، ومن ذلك الرد على الجهمية والمعتزلة القائلين بفناء الجنة والنار.
وقد تتبع الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني ما جاء عنه في ذلك فذكرها في مقدمة تحقيق الكتاب "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار"(2) .
سادساً: يحتمل عدم ذكر الشيخ رحمه الله رأيا خاصا له في هذه المسألة سببه بقاؤه على الأصل وهو القول بما عليه أهل السنة والجماعة من دوام النار وعدم فنائها.
وعليه فلا ضير من نسبة هذه الرسالة إلى الشيخ ونشرها لإظهار موقفه من المسألة في حجمه الطبيعي دون إفراط في الإنكار، ولا تفريط في الثبوت.
(1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل"ص435".
(2)
انظر "ص20-22-46".
استشكال وجوابه:
إن قال قائل على فرض أن شيخ الإسلام يميل إلى القول بفناء النار، فهل لأحد - بناء على ذلك الميل - أن يقول بهذا القول وينتصر له؟
فالجواب: أن الواجب على المسلم أن ينتصر للقول الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان عليه جمهور سلف الأمة، وهو: أن النار لا تفنى ولا تبيد أبدا، والقول بفنائها بعد بقائها مددا متطاولة قول مرجوح، وإذا كان بعض العلماء المشهورين بإمامتهم في الدين له اجتهاد في مسألة - كهذه - وهذا الاجتهاد ناشئ عن حسن نية وسلامة قصد، ونظر في الأدلة الشرعية وتجرد من الهوى والتعصب، فأخطأ فيها فهو مأجور على اجتهاده.
لكن هذا لا يجيز لأحد متابعة ذلك، وللإمام الحافظ ابن رجب كلام بناسب هذا المقام، قال رحمه الله.
"وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو: أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه مأجورا على اجتهاده فيه، موضوعا عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله، ولا انتصر له ولا إلى من يوافقه، ولا عادى من خلفه، ولا هو مع هذا يظن انه إنما انتصر للحق وإن أخطأ في اجتهاد وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"(1) .
(1) جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب الحنبلي حديث رقم 35ص 289.