المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الذبيح عليه السلام - الرقة والبكاء لابن قدامة

[ابن قدامة]

الفصل: ‌الذبيح عليه السلام

‌الذَّبِيحُ عليه السلام

! 178 أخبرنا الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْمرقعَاتِيِّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَخْبَرَنِي جَدِّي لأُمِّي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أخبرنا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دُومَا النِّعَالِيُّ، أخبرنا أَبُو عَلِيٍّ مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَاقَرْحِيُّ، أخبرنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ الْقَطَّانُ، أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، أخبرنا أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُبَيْصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " رَأَى إِبْرَاهِيمُ عليه السلام فِي الْمَنَامِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمَ قُمْ فَقَرِّبِ ابْنَكَ لِي قُرْبَانًا وَكَانَتِ الرُّؤْيَا بِمَكَّةَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَخْزَ اللَّهُ إِبْلِيسَ يُرِيدُ أَنْ يَعِيبَنِي.

فَقَامَ يُصَلِّي حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْقَابِلَةُ رَأَى مِثْلَهَا، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، حَتَّى كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَتَاهُ نِدَاءٌ وَهُوَ قَائِمٌ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ إِبْلِيسُ لِيَأْمُرَكَ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّكَ، قُمْ فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ ".

وَعَنْ إِسْحَاقَ رَفَعَهُ إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ: فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ لأُمِّهِ: " اغْسِلِي رَأْسَهُ.

فَغَسَلَتْ أُمُّهُ رَأْسَهُ، وَأَلْبَسَتْهُ ثَوْبَهُ، ثُمَّ دَهَنَتْهُ، وَقَالَ: يَا بَنِي، خُذِ الْمُدْيَةَ وَالْحَبْلَ ثُمَّ انْطَلِقْ بِنَا ".

ص: 83

قَالَ سَعِيدٌ: " وَمِنْ غَيْرِ حَدِيثِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ إِبْلِيسُ: لأَنْتَهِزَنَّ فُرْصَتِي مِنْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لِي حَاجَةٌ فِي هَذَا الشِّعْبِ.

قَالَ: إِنِّي أَرَى الشَّيْطَانَ قَدْ جَاءَكَ فِي مَنَامِكَ فَأَمَرَكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا، فَعَرَفَهُ إِبْرَاهِيم، فَقَالَ: اغْرُبْ عَنِّي وَيْلَكَ، وَاللَّهِ لأَمْضِيَنَّ لأَمْرِ رَبِّي.

فَلَمَّا أَيِسَ عَدُوُّ اللَّهِ جَاءَ إِلَى إِسْحَاقَ، فَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ مَعَ أَبِيكَ فِي هَذَا الشِّعْبِ؟ قَالَ: أَذْهَبُ مَعَهُ فِي حَاجَةٍ.

قَالَ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ! هَلْ رَأَيْتَ وَالِدًا يَذْبَحُ ابْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ.

قَالَ: فَلْيَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، فَسَمْعًا وَطَاعَةً، فَلَمَّا امْتَنَعَ مِنْهُ الْغُلَامُ ذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ، قَالَ: هَلْ تَعْلَمِينَ أَيْنَ يَذْهَبُ ابْنُكِ مَعَ أَبِيهِ؟ قَالَتْ: إِلَى هَذَا الشِّعْبِ لِحَاجَةٍ.

قَالَ: وَمَا ذَهَبَ بِهِ إِلا لِيَذْبَحَهُ، فَقَالَتْ: كَلا، هُوَ أَرْحَمُ بِهِ وَأَشَدُّ حُبًّا لَهُ مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ: فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ.

قَالَتْ: فَإِنْ كَانَ رَبُّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَنُسَلِّمُ لأَمْرِ اللَّهِ.

فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ بِغَيْظِهِ ".

قَالَ إِسْحَاقُ: عَنْ أَبِي إِلْيَاسَ، عَنْ وَهْبٍ: فَانْطَلَقَا، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الشِّعْبِ مِنْ مِنًى، فَانْتَهَيَا إِلَى أَصْلِ بثير، فَقَالَ: " انْزِلْ يَا بُنَيَّ.

فَنَزَلَ، فَقَالَ:{يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] .

قَالَ: فَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ، وَاضْطَرَبَتْ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَابْتَدَرَ أَبَاهُ، فَقَالَ:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .

قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَاكَ قَدْ تَهَلَّلَ وَجْهُكَ وَاضْطَرَبَتْ مَفَاصِلُكَ وَلَمْ تَتَكَسَّرْ، وَلَمْ يَدْخُلْكَ شَيْءٌ؟ ! قَالَ: يَا أَبَتِ رَبِّي لِي

ص: 84

عِوَضٌ مِنْكَ، وَالْجَنَّةُ عِوَضٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا أَمَرَكَ رَبِّي بِهَذَا إِلا لِمَا رَضِيَ لِي، إنَّ مَا عِنْدَهُ خَيْرٌ لِي فَامْضِ لأَمْرِ رَبِّكَ، وَلَكِنْ يَا أَبَتِ شُدَّ يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ لا أَجْتَذِبْ مِنْ حَزِّ الْمُدْيَةِ فَتَنْتَضِحُ بِدَمِي، يَا أَبَتِ كَفِّنِّي فِي ثَوْبَيْكَ، وَرُدَّ ثَوْبِي إِلَى أُمِّي تَسْتَنْشِقُ مِنْ رِيحِي يَكُونُ إِسْلَالُهَا.

قَالَ: فَشَدَّ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، ثُمَّ شَحَذَ مُدْيَتَهُ، وَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ فِي الدَّهْرِ الْبَاقِي، رَزَقْتَنِي الْوَلَدَ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ، وَوَعَدْتَنِي، وَأَنْتَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَابْتَلَيْتَنِي بِهَذَا الْبَلَاءِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا رِضًا لَكَ فَأُسَلِّمُ لأَمْرِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَضَبٍ مِنْكَ عَلِيَّ فَأَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.

قَالَ: فَبَكَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَقَالَتْ: نَبِيًّا مُنْكَبًّا لِوَجْهِهِ وَالآخَرُ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهُ! قَالَ: فَدَنَا مِنِ ابْنِهِ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَيْ لِلْوَجْهِ لِئَلا يَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهِ فَيَجْزَعُ.

قَالَ: ثُمَّ أَدْخَلَ شَفْرَتَهُ مِنْ تَحْتِ حَنَكِهِ، ثُمَّ أَمَرَّهَا، فَنَبَتِ السِّكِّينُ، وَانْثَنَتِ السِّكِّينُ، وَشَحَذَهُ، وَاتَّقَى النَّظَرَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ الشَّفْرَةَ لِحَلْقِهِ، فنَبَتِ الشَّفْرَةُ، وَكَلَّتْ، وَقَلَبَهَا اللَّهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ اجْتَذَبَهَا لِيَفْرُغَ مِنْهُ.

وَنُودِيَ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، عَلَيْكَ بِالَّذِي خَلْفَكَ فَاذْبَحْهُ دُونَهُ.

قَالَ: فَالْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ أَمْلَحَ.

فَتَرَكَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ فِي وَثَاقِهِ، وَاتَّبَعَ الْكَبْشَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ كَمَا هُوَ فِي الْوَثَاقِ

ص: 85

وَاتَّبَعَ الْكَبْشَ، فَأَخْرَجَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ الأُولَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ أَفْلَتَهُ فَجَاءَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَأَخْرَجَهُ إِلَيْهَا، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ أَفْلَتَهُ، فَأَدْرَكَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ أَخَذَهُ، فَأَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى فَذَبَحَهُ.

قَالَ وَهْبٌ: فَجَاءَ جِبْرِيلُ إِسْحَاقَ، فَأَطْلَقَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، يَقُولُ: لَكَ عِنْدِي دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ بِصَبْرِكَ.

قَالَ: يَا رَبُّ أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْفُوَ لِكُلِّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا، فَلَمَّا جَاءَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: يَا بُنَيَّ مَنْ أَطْلَقَكَ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ، فَوَصَفَهُ لَهُ وَمَا قَالَ لَهُ، وَسَأَلَهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَمُوَفَّقٌ.

قَالَ: فَأَتَاهُمَا نِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ: يَا إِبْرَاهِيمُ يَا أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ، وَيَا إِسْحَاقُ يَا أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ، كُنْتُمَا بِعَيْني، اخْتَبَرْتُكُمَا فَوَفَّقْتُكُمَا، وَابْتَلَيْتُكُمَا فَصَبَرْتُمَا، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ بِكُمَا لأَبْلُغَ بِكُمَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي لا بَعْدَهَا، وَالدَّرَجَاتَ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي الدُّنْيَا لِسَانُ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ "

ص: 86