المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر طرف من أخبار نبينا - الرقة والبكاء لابن قدامة

[ابن قدامة]

الفصل: ‌ذكر طرف من أخبار نبينا

‌الْفَصْلُ الثَّالِثُ

‌ذِكْرُ طَرَفٍ مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّنَا

140 أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنْ يُبَادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ وَأَنِ اسْتَتَرَ بِهِ إِلَى أَنْ أَظْهَرَهُ: ثَلاثُ سِنِينَ فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ مَبْعَثِهِ، فَقَالَ تَعَالَى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] .

وَقَالَ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214-215]، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] ، فَلَمَّا بَادَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمَهُ بِالإِسْلامِ، وَصَدَعَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ كُلَّ الرَّدِّ فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا، فَلَمَّا

ص: 99

فَعَلَ ذَلِكَ أَعْظَمُوا مَا قَالَ وَنَاكَرُوهُ! وَأَجْمَعُوا عَلَى خِلافِهِ وَعَدَاوَتِهِ، إِلا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالإِسْلامِ، وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ، وَحَدَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يُعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسْلِمْهُ، مَشِيَ رِجَالُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهُ ابْنَا الْحَجَّاجِ، أَوْ مَنْ مَشِيَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَنَكْفِيكَهُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلا لَيِّنًا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَدًّا جَمِيلا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ: يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِيَ الأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ وَتَضَاغَنُوا وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهَا وَتَذَامَرُوا فِيهِ، وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً، وَإِنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللَّهِ لا نَصْبِرُ

ص: 100

عَلَى هَذَا، مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا، أَوْ نُنَازِلُهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ، أَوْ كَمَا قَالُوا، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا خِذْلانِهِ "

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغَيرَةَ بْنِ الأَخْنَسِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي: كَذَا وَكَذَا، فَابْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلا تُحَمِّلْنِي مَا لا أُطِيقُ، فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بَدَاءٌ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسَلِّمُهُ، وَأَنَّهُ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ يَا عَمِّ، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ مَا تَرَكْتُهُ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَى، ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي فَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا "

قَالَ الأُمَوِيُّ: فَحَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ

ص: 101

يَحْيَى، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ بَلَغَ حَرْوَتَنَا، وَإِنَّا غَيْرُ مَارِّينَ لَكَ عَلَى ذَلِكَ وَلا مُجَامِعِيكَ عَلَيْهِ، فَلا يَكُنْ دُعَاؤُهُ هَذَا عِنْدَ كَعْبَتِنَا وَلا نَادِينَا، وَإِلا وَاللَّهِ أَخْرَجْنَاهُ.

قَالَ: افْعَلْ يَا عَقِيلُ، ادْعُ لِي مُحَمَّدًا، وَخَرَجُوا، فَأَتَيْتُهُ فِي دَارِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَخَرَجَ مَعِي عَلَيْهِ بُرْدَانِ دَنِسَانِ حَضْرَمِيِّانِ، مُتَقَنِّعًا حَافِيًا يَتْبَعُ الظِّلَّ، حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا طَالِبٍ فِي الشِّعْبِ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى سُدَّةِ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: هَهُنَا يَا ابْنَ أَخِي، فَقَالَ:«مَكَانِي» ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ أَنْصَفُوكَ، وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْكَ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَصْحَابِكَ، وَحَيْثُ تُجَالِسُونَ، وَلا يَكُونُ فِي كَعْبَتِهِمْ، وَلا فِي نَادِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُقَارِبِينَا.

قَالَ عَقِيلٌ: فَوَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ دَعَاهُ بِاسْمِهِ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: يَا عَمِّ.

فَقَالَ: «يَا أَبَا طَالِبٍ، هَلْ تَسْتَطِيعُ إِخْفَاءَ هَذِهِ الشَّمْسَ لَوْ أَرَدْتَ إِخْفَاءَهَا؟» ، فَقَالَ: اعْمَلْ عَلَى مَهْلِكَ، فَوَاللَّهِ لا خَذَلْنَاكَ وَلا تَرَكْنَاكَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي

ص: 102

ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ زِيَادٍ ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ قُرَيْشًا مَشَوْا بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَشْعَرُهُ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ، فَلَكَ عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ، وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا، فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ، هَذَا الَّذِي خَالَفَكَ فِي دِينِكَ وَدِينِ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، فَنَقْتُلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ كَرَجُلٍ.

قَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي إِلَيْهِ! تُعْطُونِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! لا يَكُونُ هَذَا أَبَدًا.

فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ وَلَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهِدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُ، فَمَا أَرَاكَ تَقْبَلُ شَيْئًا.

فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِمُطْعِمٍ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ عَلَى خِذْلانِي وَمُظَاهَرَةِ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ "

قَالَ زِيَادٌ: وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ سعَد بْنِ مَسْعُودٍ: " أَنَّ أَبَا طَالِبٍ فَقَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَيْنِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اغْتِيلَ، فَأَرْسَلَ، فَالْتَمَسَهُ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَعَا بَنِيهِ وَبَنِي أَخِيهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: حُدُّوا سِلَاحَكُمْ، وَكُونُوا عَلَى مَكَانِكُمْ، وَأَعْطَى بَنِيهِ وَبَنِي أَخِيهِ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ شَفْرَةً قَدْ شَحَذَهَا، وَقَالَ: لِيَجْلِسْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى جَنْبِ رَجُلٍ مِنْ

ص: 103

قُرَيْشٍ حَتَّى أَنْطَلِقَ إِلَى هَذَا الْجَبَلِ، فَإِنِّي قَدْ طَلَبْتُ مُحَمَّدًا فِي مَظَانِّهِ إِلا هَذَا الْمَكَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ الَّذِي يُطِلُّ عَلَى مَكَّةَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ أَنْعِي مُحَمَّدًا فَلْيَجَأْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ.

قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! حَتَّى بَلَغَ أَسْفَلَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَكَانَ الَّذِي أَرَادَ، فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا لَكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: ظَنَنْتُ وَاللَّهِ أَنَّكَ قَدِ اغْتِلْتَ، فَقَدْ كِدْتَ تَجْرِمُنِي الْيَوْمَ أَنْ أَقْتُلَ قَوْمِي فِيكَ! أَلا تُخْبِرْنِي إِذَا خَرَجْتَ مَكَانًا أَيْنَ مَكَانَكَ فَأَعْرِفُهُ؟ ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَمِّ، مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُسْعِدَهُ اللَّهُ بِمَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْكَ، أَفَلا أُرِيكَ آيَةً عَلَى أَنْ تُسْلِمَ؟ قَالَ: وَمَا الآيَةُ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُرِيكَ شَيْئًا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُرِيكَهُ! قَالَ: فَأَرِنِيهِ! قَالَ: تَرَى تِلْكَ الشَّجَرَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُو رَبِّي فَيَأْتِيكَ بِهَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيْهَا عِنْدَكَ.

قَالَ: فَافْعَلْ! قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَأَقْبَلَتِ الشَّجَرَةُ تَهْتَزُّ حَتَّى أَتَتْهُمَا، فَقَالَ: خُذْ مِنْ وَرِقِهَا وَمِنْ بَعْضِ غُصُونِهَا.

فَأَخَذَ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: ارْجِعِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَرَجَعَتْ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ عِنْدَكَ اتْبَعْنِي، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لِهَذَا يَقُولُ قَوْمُكَ إِنَّكَ سَاحِرٌ، فَانْطَلِقْ حَتَّى أُؤْنِسُهُمْ مِنْكَ،

ص: 104

فَأَقْبَلَ أَبُو طَالِبٍ آخِذًا بِيَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآهُ، قَالُوا: هَذَا أَبُو طَالِبٍ آخِذٌ بِيَدِ مُحَمَّدٍ، مَا تَرَوْنَهُ يُرِيدُ؟ أَتَرَوْنَهُ يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَهُ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَرَاهُ إِلا فَاعِلا، فَأَقْبَلَ أَبُو طَالِبٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا أَبَا طَالِبٍ؟ قَالَ: كُنْتُ أَرَاكُمْ قَدْ قَتَلْتُمُوهُ، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، لَوْ كُنْتُمْ فَعَلْتُمْ لَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ جَلِيسَهُ، أَخْرِجُوا شِفَارَكُمْ، فَأَخْرَجُوهَا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ، يَئِسُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ".

وَمِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الأُمَوِيِّ: فَلَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ لا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كِتَابًا أَنْ لا يُنْكِحَوهُمْ، وَلا يَخْطِبُوا إِلَيْهِمْ، وَلا يُبَايِعُوهُمْ، وَلا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ، كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ، وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ إِلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، وَقَالَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ: يَا ابْنَةَ عُتْبَةَ، هَلْ نَصَرْتُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَفَارَقْتُ مَنْ فَارَقَهُمَا وَظَاهَرَ عَلَيْهِمَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ،

ص: 105

ثُمَّ عَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، فَأَوْبَقُوهُمْ، وَآذُوهُمْ، وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَعَظُمَتِ الْفِتْنَةُ فِيهِمْ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا، وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، وَأَخْبَرُوهُمْ بِمَا قَالَ، اشْتَدَّ وَجْدُهُمْ، وَآذَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ أَذًى شَدِيدًا، وَضَرَبُوهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ، وَحَصَرُوهُمْ فِي شِعْبِهِمْ، وَقَطَعُوا عَنْهُمُ الْمَادَّةَ وَالأَسْوَاقَ، فَلَمْ يَدَعُوا أَحَدًا يُدْخِلُ عَلَيْهِمْ طَعَامًا، وَلا شَيْئًا مِمَّا يَرْتَفِقُونَ بِهِ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ مِنَ الشِّعْبِ إِلَى الأَسْوَاقِ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تِبَادِرُهُمْ إِلَى الأَسْوَاقِ، فَيَشْرُونَهَا وَيُغَلُّونَهَا عَلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ ثَلاثَ سِنِينَ، حَتَّى بَلَغَ الْقَوْمَ الْجَهْدُ الشَّدِيدُ، حَتَّى سَمِعُوا أَصْوَاتَ صِبْيَانِهِمْ يَتَضَاغون مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:

أَلا أَبْلِغَا عَنِّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا

لُؤَيًّا وَخُصَّا مِنْ لُؤَيِّ بَنِي كَعْبِ

أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا نَبِيًّا

كَمُوسَى خُطَّ فِي أَوَّلِ الْكُتْبِ

وَأَنَّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبَّةً وَلَا خَيْرَ

مِمَّنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِالْحُبِّ

وَأَنَّ الَّذِي أَلْصَقْتُمُ مِنْ كِتَابِكُمْ يَكُونُ

لَكُمْ يَوْمًا كَرَاغِيَةِ السَّقْبِ

فَلَسْنَا وَرَبِّ الْبَيْتِ نُسْلِمُ أَحْمَدًا لِعَزَّاءِ

مِنْ عَضِّ الزَّمَانِ وَلا كَرْبِ

وَلَمَّا تَبِنْ مِنَّا وَمِنْكُمْ سَوَالِفٌ

وَأَيْدٌ أُتِرَّتْ بِالْمُهَنَّدَةِ الشُّهْبِ

ص: 106

بِمُعْتَرَكٍ ضَنْكٍ تَرَى كِسَرَ الْقَنَا

بِهِ وَالنُّسُورَ الطُّخْمِ يَعْكُفْنَ كَالشَّرْبِ

كَأَنَّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ

وَمَعْمَعَةَ الأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ

ثُمَّ رَجْعُ الْحَدِيثِ إِلَى زِيَادٍ: " فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، حَتَّى جُهِدُوا، وَلا يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلا مُسْتَخْفًى بِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَ وَصْلَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فِيمَا يَذْكُرُونَ، لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مَعَهُ غُلامٌ لَهُ يَحْمِلُ مَعَهُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فِي الشِّعْبِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ، وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ؟ لا تَبْرَحُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ؟ فَقَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ، فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ، أَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا؟ خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ، حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآخَرِ، فَأَخَذَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَحْيَ بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ، فَشَجَّهُ، وَوَطِئَهُ وَطْأً شَدِيدًا، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى كُلَّ ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلا وَنَهَارًا، وَسِرًّا، وَجَهَارًا، مُبَادِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ، لا يَتَّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ،

ص: 107

فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا بِعَمِّهِ وَقَوْمِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنَ الْبَطْشِ بِهِمْ وَبِهِ، يَهْمِزُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ، ثُمَّ أَنَّهُ قَامَ فِي نَقْضِ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ الَّتِي تَكَاتَبَتْ فِيهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُبْلِ فِيهَا أَحَدٌ بَلاءً أَحْسَنَ مِنْ بَلاءِ هَاشِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنُ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لأُمِّهِ، وَكَانَ نَضْلَةُ وَعَمْرٌو أَخَوَيْنِ لأُمٍّ، وَكَانَ هَاشِمٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصِلا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنِي يَأْتِي بِالْبَعِيرِ قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا لَيْلا، حَتَّى إِذَا أَقْبَلَهُ فَمَ الشِّعْبِ، خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبَيْهِ، فَيَدْخُلُ الشِّعْبَ عَلَيْهِمْ، وَيَأْتِي بِهِ، قَدْ أَوْقَرَهُ برا، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنَّهُ مَشِيَ إِلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: أَيْ زُهَيْرُ، قَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، لا يُبَايَعُونَ وَلا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلا يَنْكِحُونَ وَلا يُنْكَحُ إِلَيْهِمْ؟ ! أَمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ كَانَ أَخْوَالُ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ثُمَّ دَعَوْتَهُ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مَا أَجَابَكَ إِلَيْهِ أَبَدًا! قَالَ: وَيْحَكَ يَا هَاشِمُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا حَتَّى أَنْقُضَهَا.

قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلا.

قَالَ: مَنْ هُوَ؟

ص: 108

قَالَ: أَنَا، قَالَ: أَبْغِنِي ثَالِثًا.

فَذَهَبَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، فَقَالَ: يَا مُطْعِمُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَنْتَ شَاهِدٌ لِذَلِكَ، مُوَافِقٌ لِقُرَيْشٍ فِيهِ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا.

قَالَ: وَيْحَكَ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ ثَانِيًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: أَبْغِنِي ثَالِثًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.

قَالَ: أَبْغِنَا رَابِعًا.

قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَنَا، قَالَ: أَبْغِنَا خَامِسًا.

فَذَهَبَ إِلَى زَمْعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقَّهُمْ، قَالَ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ سَمَّى لَهُ الْقَوْمَ، فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ لَيْلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَتَعَاهَدُوا عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا.

وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَكُمْ يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، غَدَوْا عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، إِنَّا نَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى، لا يُبْايَعُونَ وَلا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ! وَاللَّهِ لا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.

قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ لا تُشَقُّ.

قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَتَهَا حِينَ كُتِبَتْ.

قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلا نُقِرُّ بِهِ.

ص: 109

قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا.

وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ عِنْدَ ذَلِكَ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، وَتُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ.

وَأَبُو طَالِبٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ.

فَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى الصَّحِيفَةِ فَشَقَّهَا، فَوَجَدَ الأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا، إِلا «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ» .

قَالَ: وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَشُلَّتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.

قَالَ غَيْرُ زِيَادٍ: فَلَمَّا أَفْسَدَ اللَّهُ صَحِيفَةَ مَكْرِهِمْ، خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَهْطُهُ، فَعَاشُوا فِي النَّاسٍ "

ص: 110

رَجْعُ الْحَدِيثِ إِلَى زِيَادٍ: عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُصَلِّي، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيِبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ جُلُوسٌ فِي الْحِجْرِ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَطَالَ السُّجُودَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَأْتِي بَنِي فُلانَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ نَحَرُوا وَأَجْزَرُوا، فَيَأْتِينَا بِسَلاهَا وَدَمِهَا وَفَرْثِهَا فَيُلْقِيهِ عَلَى مُحَمَّدٍ؟ فَانْطَلَقَ أَسْفَهُهُمْ وَأَشْقَاهُمْ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَتَاهُمْ بِهِ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا لَمْ يَتَجَلْجَلْ، وَأَنَا قَائِمٌ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَلا أَمْنَعُهُ، لَيْسَتْ لِي عَشِيرَةٌ تَمْنَعُنِي.

فَأَنَا أَتَكَاءَبُ، إِذْ سَمِعَتْ فَاطِمَةُ، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ قُرَيْشًا فَشَتَمَتْهُمْ، فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئًا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُهُ.

فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاتَهُ، قَالَ:«اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلاثًا، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُقْبَةِ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُتْبَةَ، وَشَيِبَةَ، وَأَبِي جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ، وَأُمَيَّةَ، وَالنَّضْرِ» ،

ص: 111

ثُمَّ خَرَجَ، فَلَقِيَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَوْطٌ يَتَخَصَّرُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَهُ! فَأَخَذَهُ، فَقَالَ: تَعَالَى، مَا لَكَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خَلِّ عَنِّي، قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ لا أُخَلِّي عَنْكَ، أَوْ تُخْبِرُنِي مَا شَأْنُكَ، فَلَقَدِ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ غَيْرُ تَارِكِهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ بِهِ فَطُرِحَ عَلَيْهِ فَرْثٌ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: هَلُمَّ ادْخُلِ الْمَسْجِدِ.

فَأَتَى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَدْخَلَهُ الْمَسْجِدَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَنْتَ أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ أَنْ يُطْرَحَ عَلَيْهِ الْفَرْثُ؟ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ السَّوْطَ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ، فَثَارَتِ الرِّجَالُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَصَاحَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكُمْ! هِيَ لَهُ، إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَيَنْجُو هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ جَمِيعًا، فَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ:«مَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ فَلا يَقْتُلْهُ» ، ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ هَلاكُهُمَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِنْ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَصَائِبُ بِهَلاكِ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الإِسْلامِ، يَسْكُنُ إِلَيْهَا ، وَهَلَكَ أَبُو طَالِبٍ عَمُّهُ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا، وَحِرْزًا، وَمَنْعَةً، وَنَاصِرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاثِ سِنِينَ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَذَى مَا لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِيهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتَّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ".

ص: 112

قَال زِيَادٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:" لَمَّا نَثَرَ ذَلِكَ السَّفِيهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ، فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ وَهِيَ تَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ لَهَا: لا تَبْكِ يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ، فَقَالَ: وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ: مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ "

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَضِيُّ، قَالَ: فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَذَى، وَجَدَ فَقْدَ عَمِّهِ لَمَّا كَانَ يَكُفُّ عَنْهُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِ، فَخَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى قَدَمَيْهِ يُرِيدُ ثَقِيفًا لِيَمْنَعُوهُ وَلِيَنْصُرُوهُ وَلِيُعِينُوهُ، وَلِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى مَسْعُودٍ، وَحَبِيبٍ، وَعَبْدِ يَالِيلَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى نُصْرَتِهِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ، وَظَلَّمَ عِنْدَهُمْ قَوْمَهُ، فَلَمْ يُؤْوا، وَلَمْ يَمْنَعُوا، وَلَمْ يَرْحَمُوا، وَلَمْ يَكْتُمُوا.

فَقَالَ أَحَدُهُمْ: إِنَّا قَدْ عَلِمْنَا عَامَّةَ أَمْرِكَ، وَالَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ قَوْمِكَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ تُرِيدُ مَا لا يَكُونُ، أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ؟ وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَسْرِقُ حِجَابَ كَعْبَةٍ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ بِشَيْءٍ قَطُّ! وَقَالَ الآخَرُ: لَسْتُ بِقَائِلٍ لَكَ شَيْئًا، وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، لأَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ نُكَلِّمَكَ بِشَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ وَعَلَى نَفْسِكَ، لأَنْتَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ.

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُمُوا عَلَيَّ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمِي أَنِّي أَتَيْتُكُمْ فَلَمْ تُصَدِّقُونِي، فَيَزْدَادُوا عَلَيَّ جَرْأَةً» .

ص: 113

فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَأَفْشُوا عَلَيْهِ، وَصَيَّحُوا بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ جَمَعَ لَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ صَفَّيْنِ: عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ وَمَرَّ بِهِمْ صَيَّحُوا بِهِ: تُرِيدُ أَنْ تُفْسِدَنَا كَمَا أَفْسَدْتَ قَوْمَكَ؟ فَلَمَّا خَلَصَ مِنْهُمْ وَتَوَارَى عَنْهُمْ، أَتَى كَرْمًا لِعُتْبَةَ وَشَيِبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ حَبَلَةٍ مِنْهُ مَكْرُوبًا، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُكَ لِي أَوْسَعُ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلِيَّ غَضَبُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ» .

وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: أَنَّهُ قَالَهَا حِينَ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

قَالَ: وَوَجَدَ فِي الْكَرْمِ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيِبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَلَمَّا رَآهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْفَى مِنْهُمَا، وَكَرِهَ أَنْ يُجَالِسَهُمَا، فَيَرَيَانِ الَّذِي بِهِ، فَبَصُرَا بِهِ، فَأَرْسَلا إِلَيْهِ غُلامًا يُدْعَى عَدَّاسًا، نَصْرَانِيًّا، فَقَالا: خُذْ هَذَا الْعِنَبَ فَاجْعَلْهُ فِي هَذَا الإِنَاءِ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ.

قَالَ: وَعَدَّاسٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، فَلَمَّا جَاءَهُ عَدَّاسٌ بِالْعِنَبِ، وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَسَمَّى اللَّهَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا تَقُولُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ! قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ أَنْتَ؟» ، قَالَ: أَنَا رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ.

قَالَ: «وَمِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ؟» ، قَالَ: مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَرْيَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى الْعَبْدِ الصَّالِحِ» ، فَلَمَّا سَمِعَ عَدَّاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يُونُسَ بْنَ مَتَّى، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ مَنْ يُونُسُ؟ ، قَالَ

ص: 114

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ أَخِي وَخَلِيلِي وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ، ذَاكَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَا نَبِيٌّ مِثْلُهُ ، بَعَثَنِي لِلَّهِ بِالْحَقِّ» .

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يَحْقِرُ أَحَدًا يَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَدَّاسٌ خَرَّ سَاجِدًا، وَجَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ عُتْبَةُ وَشَيِبَةُ، ضَحِكَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، وَقَالا: غُلامُنَا قَدْ فَسَدَ، وَنَادَيَاهُ، فَجَاءَهُمَا، فَقَالا: لِمَ صَنَعْتَ بِهَذَا الرَّجُلِ مَا لَمْ تَصْنَعْ بِأَحَدٍ مِنَّا قَطُّ؟ قَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ، وَسَجَدْتَ لَهُ؟ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، هَذَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، أَخْبَرَنِي عَنْ قَوْمِي أَهْلِ نِينَوَى، وَعَنْ نَبِيِّهِمْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لِيُخْبِرَنِي بِهِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ إِلا نَبِيٌّ.

فَضَحِكَا، وَقَالا: لا يَخْدَعَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالسُّفَهَاءِ، وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرِيدُ قَتْلَهُ.

قَالَ لَهُمَا: لا تَسْتَطِيعَانِ قَتْلَ الَّذِي رَأَيْتُ، فَأَطِيعَانِي، وَأَجِيبَاهُ إِلَى مَا دَعَاكُمَا إِلَيْهِ، فَزَجَرَاهُ زَجْرًا شَدِيدًا "

قَالَ الأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ ، مَا أَرَى عِنْدَكَ وَلا عِنْدَ بَنِي أَبِيكَ مَنَعَةً، فَهَلْ أَنْتَ خَارِجٌ بِي إِلَى الْمَوْسِمِ فَتُعَرِّفُنِي قَبَائِلَ الْعَرَبِ؟» ، قَالَ: فَرَكِبْتُ بِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ الْمَوْسِمَ، قَالَ: فَبَدَأَ بِهَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَعُونَةَ.

قَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ؟» ، قَالُوا: كِنْدَةَ، قَالَ:«فَهَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ؟» ، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «تَشْهَدُونَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» ، فَقَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» ، قَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا بِمَا جِئْتَنَا بِهِ، بَدَأْتَ بِنَا لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا وَنُنَابِذُ النَّاسَ عَلَى سَوَاءٍ وَتَرْمِينَا الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ؟ فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِمَا جِئْتَنَا بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَلَحِقَ بِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، فَيَأْتِي بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ:«كَيْفَ الْعَدَدُ؟» ، قَالُوا: مِثْلُ الْحَصَى، قَالَ:«كَيْفَ الْمَنَعَةُ؟» ، قَالُوا: لا نَمْنَعُ بَطْنَ

ص: 115

تَلْعَةٍ، جَاوَرْنَا قَوْمًا مِنَ الْفُرْسِ، لا نُجِيرُ عَلَيْهِمْ، وَلا نَمْنَعُ مِنْهُمْ.

قَالَ: «فَلِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ أَبْقَاكُمُ اللَّهُ حَتَّى تَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ، وَتَنْكِحُوا نِسَاءَهُمْ، وَتَسْتَعْبِدُوا أَبْنَاءَهُمْ، أَنْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَتُحَمِّدُوهُ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَتُكَبِّرُوهُ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ» .

قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» .

قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ، مَرَّ بِهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْحَكَمِ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الْمَوْلَى الَّذِي قَامَ مِنْ عِنْدِنَا آنِفًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَّا، فَعَنْ أَيِّ شَأْنِهِ تَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: قَالَ لَنَا كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: لا تَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، يَهْذِي مِنْ أُمِّ رَأْسِهِ.

قَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا وَاللَّهِ ذَلِكَ حِينَ ذَكَرَ لَنَا مِنْ أَمْرِ فَارِسٍ مَا ذَكَرَ.

قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتِي بَنِي عَامِرَ، فَقَالَ:«مَنِ الْقَوْمُ؟» ، قَالُوا: بَنُو قُشَيْرٍ.

قَالَ: «كَيْفَ الْمَنَعَةُ؟» ، قَالُوا: لا يُرَامُ مَا قَبْلَنَا وَلا يُصْطَلَى بِنَارِنَا.

قَالَ: «فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُمْ لِتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي، وَلا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ» .

قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ» .

قَالُوا: فَأَيْنَ قَوْمُكَ عَنْكَ؟ قَالَ: «هُمْ أَوَّلُ مَنْ طَرَدَنِي وَكَذَّبَنِي» .

قَالُوا: لَكِنَّا لا نُؤْمِنُ بِكَ وَلا نَطْرُدُكَ ، وَسَنَمْنَعُكَ حَتَّى تُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّكَ.

فَجَلَسَ، فَأَتَاهُمْ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي أُنْكِرُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ، زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.

قَالَ: وَمَا لَكُمْ وَلَهُ؟ ، قَالُوا: أَتَانَا لِنَمْنَعَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّهِ.

قَالَ: فَرَدَدْتُمْ عَلَيْهِ مَاذَا؟ ، قَالُوا: قُلْنَا فِي الرُّحْبِ وَالسَّعَةِ، تَحَوَّلْ إِلَى بَلَدِنَا وَنَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا.

قَالَ: فَمَا قَفَلَ أَحَدٌ مِمَّنْ هَهُنَا بِشَرٍّ مِمَّا قَفَلْتُمْ بِهِ، تُرِيدُونَ أَنْ تُنَابِذُوا النَّاسَ عَلَى سَوَاءٍ وَتَرْمِيكُمْ عَنْ

ص: 116

قَوْسٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ، لَوْ أَنِسُوا مِنْهُ خَيْرًا كَانُوا أَسْعَدَ بِهِ، فَأَلْحِقُوهُ بِقَوْمِهِ، تَعْمِدُونَ إِلَى دَحِيقِ قَوْمٍ قَدْ نَفَاهُ قَوْمُهُ وَطَرَدُوهُ، فَتُئْونَهُ وَتَنْصُرُونَهُ؟ فَبِئْسَ الرَّأْيَ رَأَيْتُمْ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُمْ فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَرْكَبُ نَاقَتَهُ، فَيَغْمِزُهَا بَيْحَرَةُ فِي خَاصِرَتِهَا بِعَنَزَةٍ مَعَهُ، فَقَمَصَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ قُرْطِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ هُنَاكَ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: يَا لَعَامِرٍ! أَلا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفَرُ بِهِ وَلا أَسْتَطِيعُ لَهُ مَنَعَةً؟ قَالَ: فَوَثَبَ ثَلاثَةٌ مِنْ بَنِي عَمِّهَا إِلَى ثَلاثَةٍ مِمَّنْ نُفِّرَ بِهِ، فَصَرَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلا، ثُمَّ عَلِقُوا وُجُوهَهُمْ لَطْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى هَؤُلاءِ، وَالْعَنْ هَؤُلاءِ» ، فَالْمَلْعُونُونَ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ، وَحِرْزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَأَبُو حَرْبِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَحَدُ بَنِي عَقِيلٍ: مَاتُوا كُلُّهُمْ لَعْنًا، وَأَمَّا الَّذِينَ نَصَرُوهُ: فَغُطَيْفٍ، وَغَطْفَانُ ابْنَا سُهَيْلٍ، وَعُرْوَةُ، أَوْ عَزْرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ: مَاتُوا كُلُّهُمْ شُهَدَاءَ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: وَفَشَا الإِسْلامُ، وَاتَّبَعَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى خَوْفٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، يَسْمَعُونَ الأَذَى، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِمْ فِي كُلِّ نَادٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَرَّضُ لِلْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْتَنْصِرُهُمْ لِيَمْنَعُوا لَهُ ظَهْرَهُ، حَتَّى يُنَفِّذَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ.

ص: 117

وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادِ الدُّؤَلِيِّ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَذْكُرُهُ يَطُوفُ عَلَى الْمَنَازِلِ بِمِنًى، وَأَنَا مَعَ أَبِي غُلامٌ شَابٌّ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، أَحْوَلُ، ذُو غَدِيرَتَيْنِ، كُلَّمَا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ، فَقَالَ: " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، قَالَ: فَيَقُولُ الَّذِي خَلْفَهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تُفَارِقُوا دِينَكُمْ، وَأَنْ تَسْلُخُوا مِنْ أَعْنَاقِكُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ.

فَقُلْتُ لأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ "

قَالَ الأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْرُوفُ بْنُ خَرَّبُوذَ، أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، رَهِقَتْهُ قُرَيْشٌ بِالأَذَى وَالتَّطْرِيدِ، فَخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى أَعْلَى الْوَادِي، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَمْسَى مِنَ الْغَدِ، فَلَقِيَ ابْنَ أُرَيْقِدٍ، أَحَدَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ دَلِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ أَنْتَ مُعِينِي إِلَى الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:" ائْتِهِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا، يَقُولُ: أَجِرْنِي مِنْ قَوْمِكَ "، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتُجِيرَهِ مِنْ قَوْمِكَ.

قَالَ: إِنَّ حَلِيفَ قُرَيْشٍ لا يُجِيرُ عَلَى حَمِيمِهَا، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ ذَلِكَ،

ص: 118

فَقَالَ: " أَعِنِّي إِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، فَقُلْ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَكَ: أَجِرْنِي مِنْ قَوْمِكَ "، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا، يَقُولُ لَكَ: أَجِرْنِي مِنْ قَوْمِكَ.

فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ لا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:" هَلْ أَنْتَ مُعِينِي إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ؟ فَقُلْ لَهُ إِنَّ مُحَمَّدًا، يَقُولُ لَكَ: أَجِرْنِي مِنْ قَوْمِكَ "، فَقَالَ: نَعَمْ أَفْعَلُ، أَنَا لَهُ جَارٌ، أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: بِأَعْلَى الْوَادِي.

قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُ: فَلْيَأْتِ، فَأَتَاهُ، فَأَخْبَرَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَاتَ عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَصْبَحَ.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ الْمُطْعِمُ: قُمْ فَالْبَسْ ثِيَابَكَ.

قَالَ: فَلَبِسَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، وَمَعَهُ بَنُونَ لَهُ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، أَمْثَالُ الرِّمَاحِ، مُتَقَلِّدِينَ السُّيُوفَ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَاسْتَلَمُوا الرُّكْنَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: طُفْ، وَاحْتَبُوا بِحَمَائِلِ سُيُوفِهِمْ فِي الْمَطَافِ، فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، فَقَالَ: يَا مُطْعِمُ، أَمُجِيرٌ أَنْتَ أَمْ تَابِعٌ؟ قَالَ: بَلْ مُجِيرٌ.

قَالَ: إِذًا لا يُخْفَرُ جَارُكَ، فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَوَافَهُ، فَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَبَنُوهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَمَكَثَ أَيَّامًا، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، لَمْ يَلْبَثُ إِلا يَسِيرًا، حَتَّى وَمِيَ فِي جِنَازَتِهِ الْمُطْعِمُ، فَقَالَ حَسَّانُ: وَاللَّهِ لأَرْثِيَنَّهُ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ تَرْثِي رَجُلا كَافِرًا؟ فَقَالَ: أَشْكُرُ لَهُ مَا صَنَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:

أَعَيْنِي أَلا ابْكِي سَيِّدَ النَّاسِ وَاسْفَحِي

بِدَمْعٍ فَإِنَّ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدَّمَا

وَبَكِّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا

عَلَى النَّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ مَا تَكَلَّمَا

فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الْيَوْمَ وَاحِدًا

مِنَ النَّاسِ نَجَّى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا

ص: 119

أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا

عَبِيدُكَ مَا لَبَّى مُحِلٌّ وَأَحْرَمَا

وَذَكَرَ سَائِرَهَا.

وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ:«لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنَى لأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ» ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْمَوْسِمِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَجَابُوهُ، وَأَسْلَمُوا، وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا ذَخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَخَصَّهُمْ بِهِ "

قَالَ الأُمَوِيُّ: فَحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ لا يُتَّهَمُ: أَنَّهُ بَيْنَا رَهْطٌ مِنْهُمْ قَدِمُوا الْعَقَبَةَ ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَاعْتَرَضَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ سِتَّةُ رَهْطٍ: مُعَاذٌ وَعَوْفٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، كِلاهُمَا مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مِمَّنْ هُمْ؟» فَقَالُوا: مِنَ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ:«أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟» ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَكَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي

ص: 120

بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَكْرَمَهُ بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّهُ لَلرَّجُلُ الَّذِي كَانَتْ يَهُودُ تُوعِدُكُمْ بِهِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ كَائِنٌ، فَلا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا مِنْ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِشَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ إِنَّهُمْ كَانُوا جِيرَانَ يَهُودَ فِي بِلادِهِمْ، فَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ يَهُودُ تَسْتَفْتِحُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ كَانُوا أَصْحَابَ وَثَنٍ، وَكَانَتْ يَهُودُ أَصْحَابَ كِتَابٍ، وَكَانُوا قَدْ غَزَوْهُمْ، فَكَانَتْ يَهُودُ تَقُولُ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، فَنَتْبَعُهُ، فَيَقْتُلُكُمْ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعُوا، أَجَابُوهُ بِالإِيمِانِ بِهِ، وَبِالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ فَارَقْنَا قَوْمَنَا، وَلا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ مَا بَيْنَهُمْ، وَسَنَرْجِعُ بِالَّذِي سَمِعْنَا مِنْكَ إِلَيْهِمْ، لَعَّلَ اللَّهَ يَقْبَلُ بِقُلُوبِهِمْ، وَيُصْلِحُ بِكَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، فَإِنْ يُجْمَعُوا لَكَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، فَلا رَجُلٌ أَعَزَّ مِنْكَ.

ثُمَّ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَفْشُوا فِيهِمُ الإِسْلَامَ، وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى فَشَا ذَلِكَ فِي قُرَى الأَنْصَارِ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَتَبَتِ الأَنْصَارُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلا يُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، فَبَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَكَانَ يَأْتِي بِهِ دُورَ الأَنْصَارِ، فَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهُ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِي الإِسْلامِ.

قَالَ: فَخَرَجَ بِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرَ، فَجَلَسَ بِهِ فِيهِ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ سَمِعَ بِالإِسْلامِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ: مِنْ بَنِي ظَفَرَ، وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، قَالَ: فَسَمِعَ بِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: ائْتِ هَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ لَوْلا أَنَّهُ مَعَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَهُوَ ابْنُ

ص: 121

خَالَتِي كُنْتُ أَنَا أَكْفِيكَهُ.

قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ الْحَرْبَةَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا.

قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ حِينَ رَأَى أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ: هَذَا سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ قَوْمِي، لَهُ شَرَفٌ وَخَطَرٌ، فَابْلُ اللَّهَ فِيهِ خَيْرًا.

فَقَالَ: إِنْ يَسْمَعْ مِنِّي أُكَلِّمْهُ.

قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمَا كَلَّمَهُمَا كَلامًا فِيهِ غِلْظَةٌ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ؟ فَإِنْ سَمِعْتَ خَيْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ سَمِعْتَ شَيْئًا تَكْرَهُهُ أَوْ خَالَفَكَ أَعْفَيْنَاكَ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَقَالَ: مَا بِهَذَا بَأْسٌ، ثُمَّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ، وَجَلَسَ، فَتَلا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَكَلَّمَهُمْ بِالإِسْلامِ.

قَالَ: فَوَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِيهِ الإِسْلامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، بِإِشْرَاقِ وَجْهِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ، فَدَخَلَ فِيهِ، فَأَمَرُوهُ، فَتَشَهَّدَ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوهُ؟ قَالا لَهُ: تَقُومُ فَتَغْتَسِلُ، ثُمَّ تُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، وَتَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ، وَتَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ.

قَالَ: فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ رَاجِعًا، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلا، قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ وَلَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، وَقُلْتُ لَهُمَا نَحْوًا مِمَّا قُلْتَ لِي فَكَلَّمَانِي بِكَلامٍ رَقِيقٍ، وَزَعَمَا أَنَّهُمَا سَيَتْرُكَانِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ سَمِعُوا بِمَكَانِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَأَجْمَعُوا لِقَتْلِهِ، وَهُوَ ابْنُ خَالَتِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِخْفَارِكَ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكْهُ، قَالَ: فَوَثَبَ، وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْ يَدْ أُسَيْدٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَاءَهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، فَقَالَ لأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: أَجِئْتَنَا بِهَذَا الرَّجُلِ الْغَرِيبِ تُسَفِّهُ بِهِ سُفَهَاءَنَا وَضُعَفَاءَنَا؟ وَاللَّهِ لَوْلا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الرَّحِمِ مَا تَرَكْتُكَ وَهَذَا، وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ لِمُصْعَبٍ حِينَ رَأَى سَعْدًا

ص: 122

طَالِعًا: هَذَا وَاللَّهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءِهِ، إِنْ تَابَعَكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ اثْنَانُ مِنْ قَوْمِهِ، فَابْلُ اللَّهَ فِيهِ بَلاءً حَسَنًا، قَالَ: إِنْ يَقْعُدْ نُسْمِعْهُ مَا أَسْمَعْنَا صَاحِبَهُ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ سَعْدٌ مِنْ مَقَالَتِهِ لأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ لَهُ مُصْعَبُ: أَوَ تَجْلِسُ؟ فَإِنْ سَمِعْتَ شَيْئًا تُحِبُّهُ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ خَالَفَكَ شَيْءٌ أَوْ كَرِهْتَهُ أَعْفَيْنَاكَ.

قَالَ: أَنْصَفْتَ، مَا بِهَذَا بَأْسٌ، قَالَ: فَرَكَزَ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ جَلَسَ، فَكَلَّمَهُ الإِسْلامَ، وَتَلا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.

قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمَ حَتَّى عَرَفْنَا الإِسْلامَ فِي وَجْهِهِ، بِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، فَأَسْلَمَ، وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ، نَقْبَلُهُ وَنُعِينُكَ عَلَيْهِ، كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا دَخَلْتُمْ فِي هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: تَغْتَسِلُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَكَ، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَتَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، قَالَ: فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، حَتَّى أَتَى دَارَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ رَأْيِي فِيكُمْ وَمَكَانِي مِنْكُمْ؟ قَالُوا: نَعْلَمُكَ وَاللَّهِ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَيْمَنُنَا وَأَرْشَدُنَا أَمْرًا.

قَالَ: فَإِنَّ كَلامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلِيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا "

قَالَ الأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ مَهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ الْحَاجَّ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ بِمَجَنَّةَ وَعُكَاظَ، وَمَنَازِلِهِمْ بِمِنًى: مَنْ يُؤْوِينِي وَيَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ فَلا يَجِدُ أَحَدًا يُؤْوِيهِ وَلا يَنْصُرُهُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَدْخُلُ مِنْ مِصْرَ وَالْيَمَنِ

ص: 123

، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ أَوْ ذُوُو رَحِمَهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ فَتَى قُرَيْشٍ لا يَفْتِنْكَ، وَهُوَ يَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِهِمْ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا، فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ يَثْرِبَ إِلا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الإِسْلامَ، ثُمَّ بَعَثَنَا اللَّهُ، فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا سَبْعِينَ رَجُلا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدَنَا شِعْبَ الْعَقَبَةَ، فَاجْتَمَعْنَا فِيهِ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، حَتَّى تَوَافَيْنَا فِيهِ عِنْدَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ:«تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ، لا تَأْخُذُكُمْ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ» ، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ رَجُلا، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُعَادَاةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى عَضِّ السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَمُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ يَا أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، فَوَاللَّهِ لا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلا نَسْتَقْيِلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلا رَجُلا، فَيَأْخُذُ عَلَيْنَا شَرْطَهُ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ

ص: 124

الْجَنَّةَ

قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، وَغَيْرِهِ، إِنَّهُمْ وَاعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ بِمَكَّةَ بِمَنِ اتَّبَعَهُمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ سَبْعِينَ رَجُلا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ مِنْ قَوْمِهِمْ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى مِنًى، فَقَضَيْنَا الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا وَسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَبْعَدْنَا نَحْنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ نَتَسَلَّلُ مِنْ رِحَالِنَا، وَنُخْفِي ذَلِكَ مِمَّنْ مَعَنَا مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: فَتَلا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَأَجَبْنَاهُ، بِأَنْ صَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَرَضِينَا مَا قَالَ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَكَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَإِنَّا قَدْ مَنَعْنَاهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ مَمْنُوعٌ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بَايِعْنَا، فَقَالَ:«أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَنِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ» .

قَالُوا: نَعَمْ وَاللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، وَمِمَّا نَمْنَعُ مِنْ أُزُرَنَا، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحَرْبِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.

قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْحَدِيثُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَلَمْ يُسَمِّهِ لِي قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ

ص: 125

ذَكَرَهُ لِي مَنْ لا أَتَّهِمُ أَنَّهُ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ بَايَعْنَاكَ وَخَرَجْنَا مَعَكَ، ثُمَّ نَصَرَكَ اللَّهُ وَأَظْهَرَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«الدَّمُ الدَّمُ، وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ، وَأَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ، وَأُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ» .

قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ لَيْلَتَئِذٍ مَعَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُوَاحَةَ ، وَأَنَّ عَبَّاسَ بْنَ عُبَادَةَ بْنَ نَضْلَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ أَحْبَبْتَ لَنَصْبَحَنَّ أَهْلَ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ» ، فَلَمَّا ضَرَبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ صَرَخَ أَزَبُّ الْعَقَبَةِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، بِأَصْلَبِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُحَمَّدٍ وَالصُّبَاةِ مَعَهُ، قَدْ بَايَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبٍ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ بَأْسٌ، قَدْ عَلِمَ مَكَانَكُمْ، فَانْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ» ، قَالَ: ثُمَّ نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ أَزْيَبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لأَفْرُغَنَّ لَكَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ» ،

ص: 126

قَالَ: ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى رِحَالِنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا أَجِلَّهُ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا عَنْكُمْ، وَلا نَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ؟ إِنَّكُمْ لا قَوْمَ أَبْغَضُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَنْشُبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ.

قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ كَانَ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا عَلِمُوا وَلا فَعَلُوا، قَالَ: وَقَدْ صَدَقُوا، ثُمَّ أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَبِهِ بَدَأُوا، وَكَانَ سَيِّدَ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ هَذَا بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ فِي قَوْمِي مِثْلَ هَذَا مَا غَيَّبُوهُ عَنِّي، قَالَ: ثُمَّ تَنَطَّسُوا الْخَبَرَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ قَدْ كَانَ، بَعْدَ أَنْ خَرَجَ الْقَوْمُ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِمْ، فَأَدْرَكُوا الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ، وَأَخَذُوا سَعْدًا، وَأُفْلِتَ الْمُنْذِرُ، حَتَّى خَلَّصَهُ الْحَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ لِجِوَارٍ مَتَّ بِهِ إِلَيْهِمَا.

وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ: " يَلْحَقُوا بِإِخْوَانِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، فَتَسَلَّلُوا إِلَيْهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ بْنِ هِلالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، خَرَجَ مُرْتَحِلا مَعَهُ ابْنُهُ سَلَمَةُ وَامْرَأَتُهُ أُمَّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ، فَلَمَّا جَازَ بِبَنِي الْمُغِيرَةِ قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذَا غلبتنا عَلَى نَفْسِكَ، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَنَا، عَلامَ نُخَلِّي بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا تَسِيرُ بِهَا فِي

ص: 127

الْبِلَادِ؟ ثُمَّ انْتَزَعُوا خِطَامَ بَعِيرِهَا مِنْ يَدِهِ، وَغَضِبَتْ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، فَقَامُوا إِلَى سَلَمَةَ وَهُوَ فِي حِجْرِهَا، فَأَخَذُوا بِيَدِهِ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَتْرُكُ صَبِيَّنَا مَعَهَا إِذْ أَخَذْتُمُوهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَتَجَاذَبُوا الْغُلَامَ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، فَانْطَلَقَ أَبُو سَلَمَةَ، وَأَمْسَكَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَأَخَذَ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ مِنِّي ابْنِي، فَمَا لَقِيَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحُزْنِ إِلا دُونَ مَا لَقِيتُ، فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي، فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْبَطْحَاءِ ، فَأَبْكِي حَتَّى اللَّيْلِ، فَمَا أَزَالُ كَذَلِكَ، حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةَ، فَقَالَ: أَلا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ؟ حَبَسْتُمُوهَا عَنْ زَوْجِهَا، وَحَبَسْتُمْ عَنْهَا ابْنَهَا؟ قَالَتْ: فَرُدُّوا عَلَيَّ ابْنِي، وَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْخُرُوجِ إِلَى زَوْجِي، فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهِ ".

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَدَبَّرَتْ أَمْرَهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَافُوهُ وَرَأَوْا مَنِ اتَّبَعَهُ، وَعَرَفُوا أَنْ قَدْ عَاقَدَهُ الْقَوْمُ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُزَايِلَهُمْ، فَاجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِلْمَشُورَةِ فِيهِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ، مِنْ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُجْتَمَعَ رَأْيِهِمْ فِيهِ، مُتَظَاهِرِينَ عَلَيْهِ، يُغْرُونَ بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ، وَافْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقِتَالَ عَلَى دِينِهِ»

ص: 128