المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عيسى عليه السلام - الرقة والبكاء لابن قدامة

[ابن قدامة]

الفصل: ‌عيسى عليه السلام

‌عِيسَى عليه السلام

! 179 قُرِئَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَسَاكِرَ بْنِ الْمُرَحّبِ الْبَطَائِحِيِّ رحمه الله، أَخْبَرَكُمُ الأَمِينُ أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَالَ: أخبرنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاطُ الْمُقْرِئُ، قَالَ: أخبرنا الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ، قَالَ: أخبرنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَلَمٍ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ: أخبرنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْمَرْوَذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَصْرٌ الرَّفَّاءُ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ:" بَيْنَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِيَاحَتِهِ، إِذْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ، فَلَجَأَ إِلَى الْكَهْفِ، فَإِذَا فِيهِ رَاعٍ، فَتَنَحَّى عَنْهُ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى أَجَمَةٍ، فَإِذَا فِيهَا أَسَدٌ رَابِضٌ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: سَيِّدِي، جَعَلْتَ لِكُلِّ أَحَدٍ مَأْوى خَلَايَ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: مَأْوَاكَ عِنْدِي، وَفِي ظِلِّ عَرْشِي، وَفِي مُسْتَقَرٍّ مِنْ رَحْمَتِي، لأُزَوِّجَنَّكَ أَلْفَ حَوْرَاءَ، وَلأُطْعِمَنَّ فِي عُرْسِكَ أَلْفَ عَامٍ، وَلَيُنَادِيَنَّ مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: احْضُرُوا عُرْسَ وَلِيِّ اللَّهِ الزَّاهِدِ "

! 180 وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ظَبْيَانَ، قَالَ: قَالَ الْمَسِيحُ: «مَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ فَذَاكَ يُسَمَّى أَوْ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ»

! 181 وَعَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: قَالَ عِيسَى عليه السلام:

ص: 87

«إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُدْنِ عَلَيْهِ مِنْ سِتْرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُقَسِّمُ الثَّنَاءَ كَمَا يُقَسِّمُ الرِّزْقَ»

قَرَأْتُ عَلَى الْكَاتِبَةِ شُهْدَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ الإِبَرِيِّ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحِنَّائِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَّاكُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخُتُلِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّغْلِبِيُّ، حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " خَرَجَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام يَسْتَسْقِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لا يَسْتَسْقِي مَعَكَ خَطَّاءٌ، فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَطِيئَةِ فَلْيَعْتَزِلْ، فَاعْتَزَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلا رَجُلًا مُصَابًا بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى! فَقَالَ لَهُ عِيسَى: مَا لَكَ لا تَعْتَزِلُ؟ قَالَ: يَا رَوْحَ اللَّهِ، مَا عَصَيْتُ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَقَدِ الْتَفَتُّ فَنَظَرْتُ إِلَى قَدَمِ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ كُنْتُ أَرَدْتُ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَقَلَعْتُهَا! وَلَوْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْيُسْرَى لَقَلَعْتُهَا، قَالَ: فَبَكَى عِيسَى حَتَّى ابْتَلَّتْ لِحْيَتُهُ بِدُمُوعِهِ، ثُمَّ قَالَ: فَادْعُ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِالدُّعَاءِ مِنِّي فَإِنِّي مَعْصُومٌ بِالْوَحْيِ، فَلَمْ أَعْصِ، وَأَنْتَ لَمْ تَعْصِ، فَقَدَّمَ الرَّجُلَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا نَعْمَلُ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْلُقَنَا، فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذَلِكَ أَنْ تَخْلُقَنَا، وَتَكَفَّلْتَ بِأَرْزَاقِنَا، فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا.

فَوَالَّذِي نَفْسُ عِيسَى بِيَدِهِ مَا خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ فِيهِ حَتَّى أَرْخَتِ السَّمَاءُ غَزَالَتَهَا، وَسُقِيَ الْحَاضِرُ وَالْبَادِي

ص: 88

أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْعَالِمُ الأَوْحَدُ مُحْيِي الدِّينَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ الْجِيلِيُّ رضي الله عنه قِرَاءَةً مِنْهُ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ فِي أَوَّلِ مَا قِيلَ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ سَوْسَنَ التَّمَّارُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَخْلَفُوا خَلِيفَةً عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُوسَى، فَقَامَ يُصَلِّي فِي الْقَمَرِ فَوْقَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَكَرَ أُمُورًا كَانَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: فَخَرَجَ فَتَدَلَّى بِسَبَبٍ، فَأَصْبَحَ السَّبَبُ مُعَلَّقًا فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ ذَهَبَ.

قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قَوْمًا عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ، فَوَجَدَهُمْ يَصْنَعُونَ لَبِنًا، فَسَأَلَهُمْ كَيْفَ يَأْخُذُونَ هَذَا اللَّبِنَ؟ قَالَ: فَأَخْبَرُوهُ، فَلَبَّنَ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ الصَّلَاةِ تَطَهَّرَ فَصَلَّى، فَرَفَعَ ذَلِكَ الْعُمَّالُ إِلَى قَهْرَمَانِهِمْ أَنَّ فِينَا رَجُلا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، فَأْرَسَلَ إِلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيهِ، ثَلاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ جَاءَهُ بِنَفْسِهِ يَسِيرُ عَلَى دَابَّتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ فَرَّ فَتَبِعَهُ ، فَسَبَقَهُ، فَقَالَ: أَنْظِرْنِي أُكَلِّمْكَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا، وَأَنَّهُ فَرَّ مَنْ رَهْبَةِ رَبِّهِ عز وجل،

ص: 89

قَالَ: إِنِّي لأَظُنُّنِي لاحِقٌ بِكَ.

قَالَ: فَاتَّبَعَهُ، فَعَبَدَا اللَّهَ عز وجل حَتَّى مَاتَا بِرُمَيْلَةِ مِصْرَ.

قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ أَنِّي كُنْتُ ثَمَّ لاهْتَدَيْتُ إِلَى قَبْرَيْهِمَا، مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ الَّتِي وَصَفَ "

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ.

فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مَنِ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ!

ص: 90

فَتَذَكَّرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ بَغِيٍّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَقْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ! فَأَتَوْهُ، فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ.

فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّي، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي.

قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ.

قَالَ: لا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ.

فَفَعَلُوا.

وَبَيْنَا صَبِيُّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا.

فَتَرَكَ الثَّدْيَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ.

ص: 91

قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا.

قَالَ: وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا.

فَتَرَكَ الرَّضَاعَ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.

فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: حَلْقِي، مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا!! قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا "

!

ص: 92

182 قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ صَابِرٍ السُّلَمِيِّ، وَأَنَا أَسْمَعُ: أَخْبَرَكُمُ الشَّرِيفُ النَّسِيبُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الْحُسَيْنِيُّ، أخبرنا أَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابِهِ إِلَيْنَا مِنْ بَغْدَادَ، أخبرنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الأَزْرَقُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ زِيَادٍ مِنْ بَنِي أُسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ، عَنْ شَبِيبِ بْنَ شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ الأَهْتَمِ، قَالَ: " أَوْفَدَنِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي وَفْدِ الْعِرَاقِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ وَقَدْ خَرَجَ مُبْتَدِئًا بِقَرَابَتِهِ، وَأَهْلِهِ، وَحَشَمِهِ، وَغَاشِيَتِهِ مِنَ جُلَسَائِهِ، فَنَزَلَ فِي أَرْضٍ قَاعٍ صَحْصَحٍ مُتَنَائِفٍ أَفْيَحَ، فِي عَامٍ قَدْ بَكَّرَ وَسْمِيُّهُ، وَتَتَابَعَ وَلِيُّهُ، وَأَخَذْتُ الأَرْضُ فِيهِ زِينَتَهَا مِنِ اخْتِلَافِ أَنْوَارِ نَبْتِهَا، مَنْ نَوْرِ رَبِيعٍ مُونِقٍ، فَهُوَ أَحْسَنُ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُ مُسْتَنْظَرًا، وَأَحْسَنُ مُخْتَبَرًا، بِصَعِيدٍ كَأَنَّ تُرَابَهُ قِطَعُ الْكَافُورِ، لَوْ أَنَّ قِطْعَةً أُلْقِيَتْ فِيهِ لَمْ تُتْرَبْ.

وَقَدْ ضُرِبَ لَهُ سُرَادِقٌ مِنْ حِبَرَةٍ كَانَ صَنَعَهُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِالْيَمَنِ فِيهِ فُسْطَاطٌ، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَفْرِشَةٍ مِنْ خَزٍّ أَحْمَرَ، مِثْلَهَا مَرَافِقُهَا، وَعَلَيْهِ دُرَّاعَةٌ مِنْ خَزٍّ أَحْمَرَ، مِثْلُهَا عِمَامَتُهَا.

قَالَ: وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ مَجَالِسَهُمْ، فَأَخْرَجْتُ رَأْسِي مِنْ نَاحِيَةِ السِّمَاطِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ شِبْهُ الْمُسْتَنْطِق لِي، فَقُلْتُ: تَمَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نِعَمَهُ، وَسَوَّغَكَهَا بِشُكْرِهِ، وَجَعَلَ مَا قَلَّدَكَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ رَشَدًا، وَعَاقِبَةَ مَا تَئُولُ إِلَيْهِ حَمْدًا، أَخْلَصَهُ لَكَ بِالتُّقَى، وَكَثَّرَهُ لَكَ بِالنَّمَاءِ، لا كَدَرَ

ص: 93

عَلَيْكَ مِنْهُ مَا صَفَا، وَلا خَالَطَ مَسْرُوُرَهُ الرَّدِيُّ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ لِلْمُسْلِمِينَ ثِقَةً وَمُسْتَرَاحًا، إِلَيْكَ يَقْصِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ، وَإِلَيْكَ يَفْزَعُونَ فِي مَظَالِمِهِمْ، وَمَا أَجِدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، شَيْئًا هُوَ أَبْلَغُ فِي قَضَاءِ حَقِّكَ وَتَوْقِيرِ مَجْلِسِكَ مِمَّا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ مِنْ مُجَالَسَتِكَ وَالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، مِنْ أَنْ أُذَكِّرَكَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَأُنَبِّهَكَ لِشُكْرِهَا، وَمَا أَجِدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ سَلَفَ مِنَ الْمُلُوكِ، فَإِنْ أَذِنَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرْتُهُ عَنْهُ.

قَالَ: فَاسْتَوَى جَالِسًا وَكَانَ مُتَّكِئًا، ثُمَّ قَالَ: هَاتِ يَا ابْنَ الأَهْتَمِ.

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ قَبْلَكَ خَرَجَ فِي عَامٍ مِثْلِ عَامِنَا هَذَا إِلَى الْخَوَرْنَقَ وَالسَّدِيرِ، فِي عَامٍ قَدْ بَكَّرَ

ص: 94

وَسْمِيُّهُ، وَتَتَابَعَ وَلِيُّهُ، وَأَخَذَتِ الأَرْضُ زِينَتَهَا مِنْ نَوْرِ رَبِيعٍ مُونِقٍ، فَهُوَ فِي أَحْسَنِ مَنْظَرٍ، وَأَحْسَنِ مُسْتَنْظَرٍ، وَأَحْسَنِ مُخْتَبَرٍ، بِصَعِيدٍ كَأَنَّ تُرَابَهُ قِطَعُ الْكَافُورِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ قِطْعَةً أَلْقَيْتَ فِيهِ لَمْ تُتْرِبْ، قَالَ: وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ فَتَاءَ السِّنِّ، مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ.

قَالَ: فَنَظَرَ، فَأَبْعَدَ النَّظَرَ، فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: لِمَنْ هَذَا؟ هَلْ رَأَيْتُمْ مِثْلَ مَا أَنَا فِيهِ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ؟ قَالَ: وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَقَايَا حَمَلَةِ الْحُجَّةِ، وَالْمُضِيِّ عَلَى أَدَبِ الْحَقِّ وَمِنْهَاجِهِ.

قَالَ: وَلَنْ تَخْلُوَ الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّتِهِ فِي عِبَادِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ! إِنَّكَ قَدْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ أَفَتَأْذَنُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ مَا أَنْتَ فِيهِ، أَشَيْءٌ لَمْ تَزَلْ فِيهِ أَمْ شَيْءٌ صَارَ إِلَيْكَ مِيرَاثًا مِنْ غَيْرِكَ وَهُوَ زَائِلٌ عَنْكَ وَصَائِرٌ إِلَى غَيْرِكَ كَمَا صَارَ إِلَيْكَ

ص: 95

مِيرَاثًا مِنْ لَدُنْ غَيْرِكَ؟ ! قَالَ: فَكَذَلِكَ هُوَ ، قَالَ: أَفَلا أَرَاكَ إِنَّمَا أُعْجِبْتَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ تَكُونُ فِيهِ قَلِيلًا وَتَغِيبُ عَنْهُ طَوِيلًا وَتَكُونُ غَدًا بِحِسَابِهِ مُرْتَهَنًا؟ قَالَ: وَيْحَكَ! فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ؟ وَأَيْنَ الْمَطْلَبُ؟ قَالَ: إِمَّا أَنْ تُقِيمَ فِي مُلْكِكَ تَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَبَّكَ عَلَى مَا سَاءَكَ وَسَرَّك وَمَضَّكَ وَأَرْمَضَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَضَعَ تَاجَكَ وَتَلْبَسَ أَطْمَارَكَ وَأَمْسَاحَكَ وَتَعْبُدَ رَبَّكَ فِي هَذَا الْجَبَلِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَجَلُكَ! قَالَ: فَإِذَا كَانَ بِالسَّحَرِ فَاقْرَعْ عَلَى بَابِي فَإِنِّي مُخْتَارٌ أَحَدَ الرَّأْيَيْنِ، فَإِنِ اخْتَرْتُ مَا أَنَا فِيهِ كُنْتَ وَزِيرًا لا تُعْصَى، وَإِنِ اخْتَرْتُ فَلَوَاتِ الأَرْضِ وَقَفْرَ الْبِلَادِ كُنْتَ رَفِيقًا لا تُخَالَفُ.

قَالَ: فَقَرَعَ عَلَيْهِ بَابَهُ عِنْدَ السَّحَرِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ وَضَعَ تَاجَهُ، وَوَضَعَ أَطْمَارَهُ، وَلَبِسَ أَمْسَاحَهُ، وَتَهَيَّأَ لِلسِّيَاحَةِ.

قَالَ: فَلَزِمَا وَاللَّهِ الْجَبَلَ، حَتَّى أَتَتْهُمَا آجَالُهُمَا.

وَهُوَ حَيْثُ يَقُولُ أَخُو بَنِي تَمِيمٍ عَدِيُّ بْنُ سَالِمٍ الْمَرَاي الْعَدَوِيُّ:

ص: 96

أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ

أَنْتَ الْمُبَرَّأُ الْمَوْفُورُ

أَمْ لَدَيْكَ الْعَهْدُ الْوَثِيقُ مِنْ أَيَّامٍ

أَمْ أَنْتَ جَاهِلٌ مَغْرُورُ

مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ مَنْ

ذَا لَدَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ خَفِيرُ

أَيْنَ كِسْرَى؟ كِسْرَى الْمُلُوكِ أَبُو

سَاسَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ؟

وَبَنُو الأَصْفَرِ الْكِرَامُ مُلُوكُ الرُّومِ

لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَذْكُورُ

وَأَخُو الْحَضْرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ

دِجْلَةُ تُجْبَى إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ

شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْسًا

فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ

لَمْ يَهِبْهُ رَيْبُ الْمَنُونَ فَبَادَ

المُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ

وتذكر رَبّ الْخَوَرْنَقِ إذْ

أَشْرَفَ يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ

سَرَّهُ مَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْلِكُ

وَالْبَحْرُ مُعْرِضٌ وَالسَّدِيرُ

فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ: وَمَا

غِبْطَةُ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ

ثُمَّ أَضْحَوْا كَأَنَّهُمْ وَرِقٌ جَفَّ

فَأَلْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ

ص: 97

ثُمَّ بَعْدَ الْفَلاحِ وَالْمُلْكِ وَالإِمَّةِ

وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ

قَالَ: فَبَكَى وَاللَّهِ هِشَامٌ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَلَّ عِمَامَتَهُ، وَأَمَرَ بِنَزْعِ أَبْنِيَتِهِ، وَبَنُقْلانِ قَرَابَتِهِ وَأَهْلِهِ وَحَشَمِهِ وَغَاشِيَتِهِ مِنْ جُلَسَائِهِ، وَلَزِمَ قَصْرَهُ.

قَالَ: فَأَقْبَلَتِ الْحَشَمُ عَلَى خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ الأَهْتَمِ فَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ لَذَّتَهُ، وَنَغَّصْتَ عَلَيْهِ بَادِيَتَهُ.

قَالَ: إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَإِنِّي عَاهَدْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَهْدًا أَنْ لا أَخْلُو بِمَلِكٍ إِلا ذَكَّرْتُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

ص: 98