المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عند(2)النفخ في الصور، هل تبقى الأرواح حية كما هي، أو تموت ثم تحيا - الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

الفصل: ‌عند(2)النفخ في الصور، هل تبقى الأرواح حية كما هي، أو تموت ثم تحيا

عنها النعيمُ والعذاب. وقد قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 169 - 170]. هذا مع القطع بأنَّ أرواحَهم قد فارقتْ أجسادهم، وقد ذاقت الموت.

والصوابُ أن يقال: موتُ النفوس هو مفارقتُها لأجسادها وخروجُها منها. فإن أُريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت. وإن أريدَ أنها تُعدَم وتضمحلُّ وتصير عدمًا محضًا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار؛ بل هي باقيةٌ بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد هذا، وكما صرَّح به النصُّ أنّها كذلك حتى يردَّها الله في جسدها.

وقد نظم أحمدُ بن الحسين الكندي

(1)

هذا الاختلاف في قوله:

تنازَعَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم

إلَّا على شَجَبٍ والخُلْفُ في شَجَب

فقيل تخلُصُ نفسُ المرءِ سالمةً

وقيل تشرَكُ جسمَ المرء في العَطَب

فإن قيل: ف‌

‌عند

(2)

النفخ في الصور، هل تبقى الأرواحُ حيَّةً كما هي، أو تموت ثم تحيا

؟

قيل: قد قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]. فقد استثنى الله سبحانه بعضَ من في السموات ومن في الأرض من هذا الصَّعق. فقيل: هم الشهداء. هذا قول أبي

(1)

يعني أبا الطيب المتنبي. وانظر البيتين في شرح ديوانه للواحدي (612).

(2)

(أ، ب): «فبعد» .

ص: 98

هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جُبير.

وقيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموت. وهذا قول مقاتل وغيره.

وقيل: هم الذين في الجنةِ من الحور العين وغيرهم ومَن في النار من أهلِ العذاب وخَزَنتها. قاله أبو إسحاق بن شاقلا

(1)

من أصحابنا

(2)

.

وقد نصَّ الإمام أحمد على أنَّ الحورَ العين والوِلدان لا يمُتْنَ عند النفخ في الصور

(3)

.

وقد أخبر سبحانه أن أهلَ الجنة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]. وهذا نصٌّ على أنهم لا يموتون غيرَ تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرةً ثانية لكانت موتتان.

وأما قولُ أهل النار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ، فتفسيرُ هذه الآيةِ: الآيةُ

(4)

[22 أ] التي في البقرة، وهي قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ

(1)

ضبط في (ق) بسكون القاف. وكذا ضبطه السمعاني في الأنساب (3/ 382). ولكن صاحب التاج ضبطه في تكملته (6/ 154) بضم القاف.

(2)

نقل المؤلف الأقوال المذكورة من زاد المسير (6/ 195). وانظر: التذكرة للقرطبي (1/ 454)، وفتح الباري (11/ 370).

(3)

ذكره أبو العباس الإصطخري في مسائله. انظر: طبقات ابن أبي يعلى (1/ 60). ونقله المصنف عنه في حادي الأرواح (98). وانظر أيضًا: حادي الأرواح (484، 834).

(4)

(ط، ج): «الآية والآية» . أقحم الواو، فأفسد الكلام. وفي (ن):«هذه الآية والتي» ، أقحم وأسقط. وفي (غ):«هذه الآية التي» ، أسقط إذ ظن «الآية» الثانية مكررة.

ص: 99

بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. فكانوا أمواتًا وهم نُطَفٌ في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور. وليس في ذلك إماتةُ أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات.

وصعقُ الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتُها. ففي الحديث الصحيح: «أن الناسَ يَصْعَقون يومَ القيامة، فأكونُ أولَ من يُفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة العرش، فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة يوم الطور»

(1)

. فهذا صعقٌ في موقف القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء، وأشرقت الأرضُ بنوره

(2)

، فحينئذٍ تَصعقُ الخلائقُ كلُّهم. قال تعالى:{فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45]، ولو كان هذا الصَّعق موتًا لكانت

(3)

موتة أخرى.

وقد تنبَّه لهذا جماعةٌ من الفضلاء. فقال أبو عبد الله القرطبي: ظاهرُ هذا الحديث أن هذه صعقةُ غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عند نفخ الصور

(4)

.

قال: وقد قال شيخنا أحمدُ بن عمر

(5)

: وظاهرُ حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم يدلُّ

(1)

أخرجه البخاري (3398)، ومسلم (2374) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

(ب، ط، ن، ج): «بنور ربها» .

(3)

(ن): «لكان» .

(4)

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 457). وهو جزء من كلام للحليمي في المنهاج (1/ 431، 432) نقله القرطبي.

(5)

أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم (6/ 232).

ص: 100

على أنّ هذه الصَّعقةَ إنما هي بعد النفخة الثانية: نفخة البعث. ونصُّ القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناءَ إنما هو بعد

(1)

نفخة الصَّعق. ولما كان هذا قال بعضُ العلماء: يَحتمِلُ أن يكون موسى ممن لم يمتْ من الأنبياء. وهذا باطلٌ

(2)

.

وقال القاضي عياض

(3)

: يحتمل أن يكون المرادُ بهذه صعقة فزعٍ بعد النشور حين تنشقُّ السماء والأرض. قال: فتستقلُّ الأحاديثُ والآيات

(4)

.

وردَّ عليه أبو العباس القرطبي، فقال

(5)

: يردُّ هذا قولُه في الحديث الصحيح: أنه حين يخرجُ من قبره يلقى موسى آخذًا بقائمةِ العرش. قال: وهذا إنما هو عند نفخةِ البعث

(6)

.

قال أبو عبد الله: وقال شيخنا أحمدُ بن عمر

(7)

: والذي يُزيح هذا الإشكالَ ــ إن شاء الله تعالى ــ أنّ الموتَ ليس بعدمٍ محض، وإنما هو انتقالٌ من حال إلى حال. ويدلُّ [22 ب] على ذلك أن الشهداءَ بعد قتلهم وموتهم أحياءٌ عند ربهم، يُرزقون فرحين مستبشرين. وهذه صفةُ الأحياء في الدنيا. وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياءُ بذلك أحقَّ وأولى، مع أنه قد صحَّ عن

(1)

(ب، ج): «هو تفسير» . (ط): «هو بعد تفسير» .

(2)

التذكرة (1/ 459).

(3)

في إكمال المعلم (7/ 357)، والنقل من التذكرة.

(4)

(أ، ق، غ): «الآثار» ، تحريف.

(5)

في المفهم (6/ 233)، والنقل من التذكرة.

(6)

في جميع النسخ: «نفخة الفزع» . والصواب ما أثبتنا من المفهم، وكذا في التذكرة. وهو مقتضى السياق.

(7)

في المفهم (6/ 233 ــ 234). والنقل من التذكرة (1/ 459 ــ 461).

ص: 101

النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الأرضَ لا تأكلُ أجسادَ الأنبياء

(1)

، وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمعَ بالأنبياء ليلةَ الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصًا بموسى

(2)

. وقد أخبر بأنه ما من مسلم يُسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام

(3)

، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطعُ بأن موتَ الأنبياء إنما هو راجعٌ إلى أن غُيِّبوا عنّا بحيث لا نُدركهم، وإن كانوا موجودين أحياءً

(4)

. وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياءٌ موجودون، ولا نراهم.

وإذا تقرَّر أنهم أحياءٌ، فإذا نُفخ في الصور نفخة الصَّعق صعق كل من في

(1)

أخرجه أبو داود (1047، 1531)، والنسائي (1374)، وابن ماجه (1636)، والإمام أحمد (16162)، وابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1/ 278) من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي رضي الله عنه.

وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري» .

وقال ابن كثير في تفسيره (6/ 473): «قد صحّح هذا الحديث ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والنووي في الأذكار» .

وقد أعلَّه بعض الأئمة بما لا يقدح، كما شرحه المؤلف في جلاء الأفهام (78، 83). (قالمي).

(2)

انظر حديث أنس في صحيح البخاري (3887) وصحيح مسلم (164).

(3)

سبق تخريجه في المسألة الأولى (ص 27).

(4)

هنا في (ط) تعليق بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البابطين رحمه الله، لم يظهر كاملاً وفي آخره:«وقوله: إن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيِّبوا عنَّا إلخ. مقتضى هذا الكلام أنهم لم يذوقوا الموت، وإنما هو مجرد تغييب كتغييب الملائكة عنَّا. وهذا باطل، ونصوص الكتاب والسنة صريحة في أنهم ماتوا. وابن القيم رحمه الله ردّ هذا القول في الكافية أحسن ردّ، وإنما لم يتكلم على ذلك هنا لأنه ليس بصدد هذه المسألة» . وانظر الأبيات التي أشار إليها المحشي في الكافية الشافية (2840 ــ 2955).

ص: 102

السموات والأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صَعقُ الأنبياء فالأظهرُ أنه غَشيْةٌ. فإذا نُفِخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حَيِي، ومن غُشي عليه أفاقَ.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أولَ من يُفيق» . فنبيُّنا

(1)

أولُ من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى، فإنه حصل فيه تردُّدٌ: هل بُعِث قبلَه من غَشْيته، أو بقي على الحالةِ التي كان عليها قبل نفخةِ الصَّعق مفيقًا؛ لأنه حُوسب بصعقةِ

(2)

يوم الطُّور. وهذه فضيلةٌ عظيمة لموسى عليه السلام

(3)

. ولا يلزم من فضيلةٍ واحدة أفضليَّةُ موسى على نبينا مطلقًا، لأن الشيء الجزئيَّ

(4)

لا يوجب أمرًا كليًّا. انتهى

(5)

.

قال أبو عبد الله القرطبي

(6)

: إنْ حُمِل الحديث على صعقةِ الخلق يوم القيامة فلا إشكالَ. وإنْ حُمِل على

(7)

صعقة الموت عند النَّفخ في الصور، فيكون ذكرُ يوم القيامة مرادًا به أوائله. فالمعنى: إذا نُفخ في الصور نفخةُ

(1)

(ن): «فتبين» ، تحريف.

(2)

(ب، ط، ج): «بصعقته» .

(3)

هنا انتهى كلام أبي العباس القرطبي.

(4)

رسمها في (أ، ب، ق): «الجزوي» بالواو.

(5)

قوله: «انتهى» يوهم أن ما سبق كله كلام أبي العباس، والحق أن «ولا يلزم

» إلخ تعليق أبي عبد الله على كلام شيخه.

(6)

الكلام الآتي ليس لأبي عبد الله، وإنما هو جزء من كلام طويل للحليمي، نقله أبو عبد الله من كتابه المنهاج. وهذا الجزء متصل بما نقله ابن القيم من قبل في أول نقله عن القرطبي.

(7)

«صعقة الخلق

على» سقط من (ن) لانتقال النظر.

ص: 103

البعث كنتُ أولَ من يرفع رأسَه، فإذا موسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري أفاقَ قبلي، أم جُوزي بصعقةِ الطور

(1)

.

قلت: وحملُ الحديث على هذا لا [23 أ] يصحُّ: لأنه عليه السلام تردَّدَ هل أفاق موسى قبلَه أم لم يَصْعَق، بل جُوزي بصعقة الطور. فالمعنى: لا أدري أصَعِق أم لم يَصْعَق. وقد قال في الحديث: «فأكون أولَ من يُفيق» ، وهذا يدلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم يَصعق فيمن يَصعق، وأن التردَّدَ حصل في موسى: هل صَعِق وأفاق قبله من صعقته، أم لم يَصعق؟ ولو كان المرادُ به الصعقةَ الأولى ــ وهي صعقةُ موت ــ لكان صلى الله عليه وسلم قد جزم بموته، وتردّد: هل مات موسى، أو

(2)

لم يمتْ. وهذا باطلٌ لوجوه كثيرة. فعُلم أنها صعقةُ فزَع، لا صعقة موت. وحينئذٍ فلا تدلُّ الآية على أنّ الأرواحَ كلَّها تموت عند النفخةِ الأولى. نعم، تدلُّ على موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكلُّ من لم يذق الموتَ قبلها فإنه يذوقه حينئذ. وأما من ذاقَ الموتَ أو من لم يُكتب عليه الموتُ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتةً ثانية. والله أعلم

(3)

.

فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من تنشقُّ عنه الأرضُ، فأجدُ موسى باطشًا بقائمة العرش» ؟

(4)

.

قيل: لا ريب أن هذا اللفظَ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكالُ، ولكنه

(1)

التذكرة (1/ 457 ــ 458).

(2)

(ب، ط، ن): «أم» .

(3)

لم يرد «والله أعلم» في (ن).

(4)

البخاري (2412).

ص: 104

دخل فيه على الراوي حديثٌ من حديث، فركَّب بين اللفظين، فجاء هذا. والحديثان هكذا:

أحدهما: «أن الناسَ يَصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من يُفيق»

(1)

.

والثاني هكذا: «أنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة» . ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيدُ ولد آدمَ يوم القيامة، ولا فخر. وبيدي لواءُ الحمد، ولا فخر. وما من نبيٍّ يومئذ آدمُ فمَن سواه إلا تحت لوائي. وأنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ، ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح

(2)

.

فدخل على الراوي هذا الحديثُ في الحديث الآخر. كان

(3)

شيخنا أبو الحجَّاج

(4)

يقول ذلك

(5)

.

فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاقَ قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل» ؟

(6)

. والذين استثناهم الله إنما هم مُستثنَون من صعقة النَّفخة،

(1)

البخاري (3398).

(2)

أخرجه في التفسير (3148) وأبواب المناقب (3615). وأخرجه ابن ماجه (4308) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، لكن له شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم (2278). (قالمي).

(3)

(ب، ط): «فان» ، تصحيفًا.

(4)

كذا في (أ، غ). وفي (ن): «الحافظ أبو الحجاج» ، وفي (ج، ز): «أبو الحجاج الحافظ» . وفي (ق): «أبو الحجاج الحافظ المزّي» ، وفي (ب، ط): «أبو الحجاج المزّي الحافظ» .

(5)

وانظر كلامًا للحافظ ابن حجر في الجمع بين الحديثين في فتح الباري (6/ 444).

(6)

أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (2373).

ص: 105

لا من صعقة يوم القيامة، [23 ب] كما قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة.

قيل: هذا ــ والله أعلم ــ غير محفوظ، وهو وَهَمٌ من بعض الرواة. والمحفوظ ما تواطأتْ عليه الرواياتُ الصحيحة من قوله:«فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة الطور» ، فظن بعضُ الرواة أنَّ هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأنَّ موسى داخلٌ فيمن استُثني منها. وهذا لا يلتئم على مَساق الحديث قطعًا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: لا أدري أَبُعِثَ قبلي؟ أم جُوزي بصعقة الطور؟ فتأمَّله.

وهذا بخلاف الصعقة التي يَصْعَقُها الخلائق

(1)

يوم القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء بين العباد، وتجلَّى لهم، فإنهم يَصعقون جميعًا. وأما موسى صلى الله عليه وسلم فإن كان لم يَصعق معهم فيكون قد حُوسِبَ

(2)

بصعقته يوم تجلَّى ربُّه للجبل فجعله دكًّا، فجُعلت صعقةُ هذا التجلِّي عوضًا من صعقة الخلائق لتجلِّي الربّ يوم القيامة. فتأمل هذا المعنى العظيم.

ولو لم يكن في الجواب إلا كشفُ هذا الحديثِ وشأنه لكان حقيقًا أن يُعَضَّ عليه بالنواجذ. ولله الحمد والمنة. وبه

(3)

التوفيق

(4)

.

(1)

(ب، ط، ن، ج): «الناس» .

(2)

(ب، ط، ن، ج): «جُوزي» .

(3)

(ب، ط، ز، ج): «وبيده» .

(4)

لم يرد ما بعد «بالنواجذ» في (ن).

ص: 106

فصل

وأما

(1)

المسألة الخامسة

وهي أنّ الأرواحَ، بعد مفارقة الأبدان إذا تجرَّدت، بأيِّ شيء يتميَّز بعضُها من بعض، حتى تتعارفَ وتتلاقى؟ وهل تَشَكَّلُ

(2)

إذا تجردتْ بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلبس صورتَه، أم كيف يكون حالُها؟

فهذه

(3)

مسألةٌ لا تكاد تجد من تكلَّم فيها، ولا تظفرُ فيها من كتب الناس بطائلٍ ولا غير طائل، ولا سيّما على

(4)

أصول من يقول بأنها مجرّدةٌ عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها

(5)

شكلٌ ولا قدرٌ ولا شخصٌ؛ فهذا السؤال على أصولهم مما لا جوابَ لهم عنه

(6)

.

وكذلك من يقول: هي عَرضٌ من أعراض البدن، فتميُّزها عن غيرها مشروطٌ بقيامها

(7)

ببدنها. فلا تميُّزَ

(8)

لها بعد الموت، بل لا وجودَ لها على أصولهم، بل تعدمُ وتبطل باضمحلال [24 أ] البدن كما تبطل سائر صفات

(1)

«فصل وأما» لم ترد في (ن). وفي (ز) لم ترد «وأما» .

(2)

ما عدا (أ، ق): «تتشكل» .

(3)

(ن): «وهذه» .

(4)

«فيها

على» ساقط من (ب).

(5)

«لها» ساقط من الأصل.

(6)

ستأتي الأقوال في حقيقة الروح في المسألة التاسعة عشرة.

(7)

(ط): «ببقائها» .

(8)

كذا في (أ، غ). وفي (ق): «تمييز» ، وفي غيرها:«ولا تميز» .

ص: 107

الحي

(1)

.

ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة التي تظاهرتْ عليها أدلةُ القرآن والسنة والآثار والاعتبار والعقل

(2)

، والقولِ

(3)

: إنّها ذاتٌ قائمةٌ بنفسها تصعَدُ وتنزل، وتتصلُ وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن. وعلى هذا أكثر من مئة دليلٍ قد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس

(4)

، وبينَّا بطلانَ ما خالف هذا القول من وجوهٍ كثيرة، وأنَّ من قال غيرَه لم يعرف نفسَه.

وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفي والرجوع وصعودها إلى السماء وفتحِ أبوابها لها وغَلْقها عنها، فقال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]. وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30] وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد.

وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8]،

(1)

في الأصل: «صفات سائر الحي» ، سبق قلم.

(2)

«والعقل» ساقط من (ب).

(3)

«والقول» معطوف على «أصول» . وقد ضبط في (ق، غ) بالكسر. وضبط في (ط) بالضم، وهو خطأ. وفي (ن): «فالقول

تسكن وغير هذا عليه» وهو سياق فاسد.

(4)

ذكر المؤلف كتابه هذا في جلاء الأفهام (298، 371) ومفتاح دار السعادة (3/ 105) أيضًا. وفي (ن): «الأرواح والأنفس» ، وفي (ب):«الأرواح والنفس» .

ص: 108

فأخبر أنه سوَّى النفس، كما أخبر أنه سوَّى البدن

(1)

في قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، فهو سبحانه سوَّى نفسَ الإنسان كما سوَّى بدنَه، بل سوَّى بدنه كالقالَب لنفسه

(2)

. فتسويةُ البدن تابعٌ لتسوية النفس، والبدن موضوعٌ لها كالقالَب لما هو موضوعٌ له

(3)

.

ومن هاهنا يُعلم أنها تأخذ من بدنها صورةً تتميَّز بها عن غيرها، فإنها تتأثَّر وتنتقل عن البدن، كما يتأثَّر البدنُ وينتقل عنها. فيكتسبُ البدنُ الطيّبَ والخبيثَ من طيِّب النفس وخبيثها، وتكتسب النفسُ الطيِّب والخَبيثَ من طيِّب البدن وخبيثه

(4)

. فأشدُّ الأشياء ارتباطًا وتناسبًا وتفاعلًا وتأثُّرًا من أحدهما بالآخر الروحُ والبدنُ. ولهذا يقال لها عند المفارقة: اخرُجي أيتها الروح

(5)

الطيبة كانت في الجسدِ الطيِّبِ، واخرُجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسدِ الخبيث

(6)

.

وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فوصفَها بالتوفِّي والإمساك والإرسال، كما وصفَها بالدخولِ والخروجِ

(1)

(أ، غ): «النفس كما سوى البدن» .

(2)

ساقط من (ب).

(3)

(ن): موضوع لما هو له.

(4)

كذا في جميع النسخ إلا (ن)، ففيها سقط واضطراب، فأثبتت مرة «الخبيث» وأخرى «الخبث» .

(5)

(ق): «النفس» .

(6)

سيأتي الحديث بتمامه في المسألة القادمة.

ص: 109

والرجوع والتسوية.

وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن بصرَ الميت يتبع نفسَه إذا قُبضت

(1)

.

وأخبر أن الملك يَقبِضُها، فتأخذها الملائكةُ من يده، فيوجد لها كأطيبِ نفحةِ مسك وُجدت على وجه الأرض، أو كأنتن

(2)

ريحِ جِيفةٍ وُجدت على وجه الأرض

(3)

. والأعراض لا ريحَ لها، ولا تُمسَك

(4)

، ولا تُؤخذ من يدٍ إلى يد.

وأخبر أنها تصعَدُ إلى السماء، ويصلِّي عليها كلُّ ملك لله بين السماء والأرض، وأنها تُفتح لها أبوابُ السماء، فتصعد من سماءٍ إلى سماء، حتى يُنتهَى بها إلى السماء التي فيها

(5)

الله عز وجل، فتوقفُ بين يديه، ويأمر بكتابةِ اسمه

(6)

في ديوان أهل عِلِّيِّين أو ديوان أهل سِجِّين، ثم تردُّ إلى الأرض. وأنّ روح الكافر تُطرح طرحًا، وأنها تدخل مع البدن في قَبرها للسؤال

(7)

.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نَسَمةَ المؤمن ــ وهي روحه ــ طائرٌ يعلُقُ في شجر

(1)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (920) وسيأتي نصه في المسألة التاسعة عشرة.

(2)

(ن): «كأشرّ» ، تصحيف.

(3)

يشير إلى حديث البراء بن عازب، وهو حديث طويل سيأتي في أول المسألة القادمة.

(4)

(ق): «مسك» ، غلط.

(5)

في (ق) طمس بعض القراء: «السماء التي فيها» وكتب مكانها: «بين يدي» .

(6)

ما عدا (أ، غ): «اسمها» .

(7)

كما في حديث البراء الطويل، وسيأتي بتمامه.

ص: 110

الجنة حتى يردَّها الله إلى جسدها

(1)

.

وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر ترِد أنهارَ الجنة وتأكلُ من ثمارها

(2)

.

وأخبر أن الروحَ تُنَعَّم وتُعذَّب في البرزخ إلى يوم القيامة

(3)

.

وقد أخبر سبحانه عن أرواح قومِ فرعونَ أنها تُعرض على النار غُدوًّا وعَشيًّا قبل يوم القيامة

(4)

.

وقد أخبر سبحانه عن الشهداءِ بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وهذه حياةُ أرواحهم، ورزقُها دارًّا

(5)

، وإلا فالأبدان قد تمزَّقتْ.

(1)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 240) ومن طريقه النسائي (2072)، وابن ماجه (4271) والإمام أحمد (15778) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (4657). (قالمي).

وسيأتي الحديث مع كلام مفصل عليه للمصنف في المسألة الخامسة عشرة.

(2)

كما ورد في بعض روايات الأحاديث الآتية عن ابن مسعود وابن عباس.

(3)

ستأتي الأحاديث الدالّة عليه في المسألة القادمة.

(4)

يشير إلى قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].

(5)

كذا «دارًّا» في (أ، ب، ق، ج)؛ غير أن بعضهم ضرب على الألف في الأصل، وطمسها في (ب) ليكون مرفوعًا خبرًا للرزق. وفي (ز):«درًّا» . ثم في (ب، ج): «دارًّا والأبدان» بحذف «وإلا» . وفي (ن، غ): «رزقها وإلا فالأبدان» بحذف «دارًّا» . ولعل هذا أقرب. ولا أستبعد أن تكون «وإلا» تحرفت إلى «دارا» ، ثم أضيفت «وإلا» من نسخة أخرى. وفي (ط):«رزقها والأبدان» بحذف الاثنين.

ص: 111

وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحياةَ بأنّ «أرواحَهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقة بالعرش، تسرحُ في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطَّلع عليهم ربهم اطّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا، ففعل

(1)

بهم ذلك ثلاثَ مرات، فلما رَأَوا أنهم لن

(2)

يُترَكوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن تُرَدَّ أرواحُنا في أجسادنا، حتى نُقتَلَ في سبيلك مرةً أخرى»

(3)

.

وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: «أنّ أرواح الشهداء [25 أ] في طيرٍ خُضْر تَعْلُقُ من ثمر الجنة»

(4)

. وتعلُق بضم اللام: أي تأكل العُلْقة

(5)

.

وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أُصيب إخوانُكم بأُحد جعل الله أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضْر ترِدُ أنهارَ الجنة، وتأكلُ من ثمارها، وتأوي إلى قناديل

(6)

من ذهب في ظلِّ العرش. فلما وجدوا طيبَ مَشربهم ومأكلهم وحسنَ مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهَدوا في الجهاد، ولا ينكُلوا

(7)

عن الحرب. فقال الله عز وجل: أنا أُبلِّغهم

(1)

(ب، ط، ن): «يفعل» .

(2)

(ب، ط، ن): «لم» .

(3)

أخرجه مسلم (1887) من حديث عبد الله بن مسعود.

(4)

أخرجه الترمذي من حديث مالك بن أبي كعب (1641) وقال: حديث حسن صحيح.

(5)

في هامش (ط): «العلقة: الشيء اليسير» .

(6)

(ن): «قناديل معلقة» .

(7)

(ن): «يتكلفوا» ، تحريف.

ص: 112

عنكم. فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] الآيات». رواه الإمام أحمد

(1)

.

وهذا صريحٌ في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامِها. وسيأتي مزيدٌ لتقرير ذلك عن قرب

(2)

إن شاء الله تعالى.

وإذا كان هذا شأنَ الأرواح، فتميُّزُها بعد المفارقة يكون أظهرَ من تميُّز

(3)

الأبدان. والاشتباهُ بينها أبعد من اشتباهِ الأبدان، فإن الأبدانَ تشتبه كثيرًا، وأما الأرواح فقلَّما تَشتبه.

يوضِّح هذا أنَّا لم نشاهد أبدانَ الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميِّزون في علمنا أظهرَ تميُّز، وليس ذلك التميُّز راجعًا إلى مجرَّد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختصُّ به أحدُهم عن الآخر. بل التميُّز

(1)

في المسند (2388) من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس.

ورواه أبو داود (2520)، وعبد الله بن أحمد في زيادته على المسند (2389)، وأبو يعلى (2331)، والحاكم (2/ 88، 297 ــ 298) من طريق عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره.

قال ابن كثير في تفسيره (2/ 163): «وهذا أثبت» يعني بذكر سعيد بن جبير.

وقال الحاكم في الموضعين: «صحيح على شرط مسلم» .

وحسنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 338)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1379). (قالمي).

(2)

(ب، ط، ن، ج): «عن قريب» .

(3)

(أ، غ): «تمييز» .

ص: 113

الذي عندنا بما عَلِمناه وعَرَفناه من صفات أرواحهم وما قام بها. وتميُّزُ الروح عن الروح بصفاتها أعظمُ من تميُّز البدن عن البدن بصفاته. ألا ترى أن بدنَ المؤمن والكافر قد يشتبهانِ كثيرًا، وبين روحَيْهما أعظمُ التباين والتميُّز. وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في الخِلْقة

(1)

غاية الاشتباه، وبين روحَيْهما غايةُ التباين. فإذا تجردتْ هاتان الروحان كان تميُّزهما في غاية الظهور.

وأُخبركَ بأمرٍ إذا تأمَّلتَ أحوال الأنفس والأبدان شاهدتَه عِيانًا: قَلَّ أن ترى بدنًا قبيحًا وشكلاً شنيعًا إلا وجدتَه مُرَكَّبًا على نفسٍ تُشاكله وتناسبه، وقَلَّ أن ترى آفةً في بدن إلا وفي روح صاحبه آفةٌ تناسبها

(2)

. ولهذا [25 ب] تأخذ أصحاب الفراسة أحوالَ النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها، فقلَّ أن تخطئ

(3)

ذلك. ويُحكَى

(4)

عن الشافعي رحمه الله في ذلك عجائب

(5)

.

وقلَّ أن ترى شكلاً حسنًا وصورةً جميلة وتركيبًا لطيفًا إلا وجدتَ الروح المتعلِّقةَ به مناسبةً له. هذا ما لم يُعارض ذلك ما يُوجِب خلافَه من تعلُّم وتدرُّب واعتياد.

وإذا كانت الأرواح العلوية ــ وهم الملائكة ــ متميزًا بعضهم عن بعض من غير أجسامٍ تحملهم، وكذلك الجن، فتميُّز الأرواح البشرية أولى.

(1)

(ط): «الخلقة والصورة» .

(2)

«وقل أن ترى آفة

تناسبها» ساقط من (ق).

(3)

(ب، ط): «يخطئ» .

(4)

(ب، ط، ن): «حكي» .

(5)

وقد حكى المصنف طائفة منها في مفتاح دار السعادة (3/ 251 ــ 253).

ص: 114

فصل

وأما

(1)

المسألة السادسة

وهي أنَّ الروح هل تُعاد إلى الميتِ في قبره وقتَ السؤال، أم لا تُعاد؟

فقد كفانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمرَ هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرَّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب:

كنا في جنازة في بقيع الغَرْقد، فأتانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقعد، وقعدنا حوله، كأنّ على رؤوسنا الطير، وهو يُلحَدُ له، فقال:«أعوذ بالله من عذاب القبر» ثلاث مرات. ثم قال: «إن العبدَ المؤمن

(2)

إذا كان في إقبالٍ من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة

(3)

كأنَّ وجوهَهم

(4)

الشمس، فجلسوا

(5)

منه مدَّ البصر. ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلِسَ عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الطيِّبة، اخرُجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان».

قال: «فتخرُج تَسيل، كما تسيل القطرةُ من فِي السِّقاء، فيأخذُها. فإذا أخذَها لم يَدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحَنُوط، ويخرج منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدَتْ على وجه الأرض» .

(1)

«فصل وأما» لم يرد في (ن). ولم يرد «وأما» في (ز).

(2)

«المؤمن» من (أ، غ).

(3)

(ن): «ملائكة» .

(4)

(ب، ط، ن): «على وجوههم» .

(5)

(أ، ز، غ): «يجلسوا» . (ق): «يجلسون» .

ص: 115

قال: «فيصعَدون بها فلا يمرُّون بها ــ يعني: على ملأ من الملائكة ــ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطيِّب؟

(1)

فيقولون: فلانُ بن فلان ــ بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه به

(2)

في الدنيا ــ حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتَحُ له. فيُشيِّعه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل

(3)

، فيقول الله عز وجل: اكتُبوا [26 أ]

(1)

(ب، ط، ن، ج): «هذه الروح الطيبة» .

(2)

«به» ساقط من (ب، ط، م، ن).

(3)

في (ن) بعد «فيها» فوق السطر: «أمر» . يعني أن تأويل «فيها الله» : فيها أمر الله. وقد طغى بعض القراء فطمس في (م): «السماء التي فيها» ، وكتب مكانها:«بين يدي» !

وفي (ط) طمس «فيها الله عز وجل» وكتب مكانها: «يسمع فيها الخطاب» . وهذه جراءة غريبة على تغيير لفظ الحديث. وفي الحاشية العليا من (ق 29/ب) من هذه النسخة تعليق منقول من كتاب التذكرة للقرطبي يفيد أن معنى «فيها الله» : فيها أمر الله وحكمه. وفيها تعليق طويل استغرق الحاشيتين اليمنى والسفلى من الصفحة المذكورة، والسفلى واليسرى من (ق 30/أ). وهو بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله. أوله:«يا عجبا لمحرّف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغيِّر ألفاظه! كيف يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأنه في السماء كما في حديث البراء المذكور، وكذلك حديث أبي هريرة الموافق لحديث البراء في إثبات الله سبحانه بأنه في السماء، وكذلك حديث الرقية المرفوع، وكذلك قوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء= فهذا أعلم الأمة بربه وأخشاهم يصف ربه بأنه في السماء ويشهد لمن وصفه بذلك بالإيمان، ونقل الصحابة ألفاظه للتابعين، ونقلها التابعون وبلّغوها لمن بعدهم كما سمعوها، وتداولها أهل الحديث وأئمة الإسلام، وأثبتوها في كتبهم وأقرُّوها على ظاهرها، وقالوا: أمِرّوها كما جاءت، وقالوا: تفسيرها قراءتها. فلمّا لم يتسع عطن هذا المعطِّل لذلك حمله تعطيله وجهله على أن غيَّر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرَّفه. ولم يكتف بتغيير معناه مع إقرار لفظه كما يفعله الكثير كقول القرطبي في تأويل هذا الحديث. فلهذا المحرّف أوفر نصيب من مشابهة اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. ففيه تصديق قوله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» .

ثم ردّ على تأويل القرطبي وغيره بأنه «باطل قطعًا فإن أمرَه وحكمه لا يختص بسماء دون سماء ولا بالسماء دون الأرض

ومن توهم من قوله: إنه سبحانه في السماء أنه سبحانه داخل السماوات فهو جاهل ضال. وليس هذا بمراد من اللفظ ولا ظاهر فيه، إذ السماء يراد بها العلو، فكلُّ ما علا فهو سماء سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها

إلخ.

ص: 116

كتابَ عبدي في علِّيِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أخرجهم

(1)

تارة أخرى»

(2)

.

قال: «فتُعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيُجلسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلامُ. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به، وصدَّقت. فينادي منادٍ من السماء أن: صدَق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة» .

قال: «فيأتيه من ريحها

(3)

وطِيبها، ويُفسَح له في قبره مدَّ بصره».

قال: «ويأتيه رجل حسنُ الوجه حسنُ الثياب طَيِّبُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسُرُّك، هذا يومُك الذي كنت تُوعَد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجهُ يجيء بالخير! فيقول له: أنا عملُك الصالح. فيقول: ربِّ أقم الساعة، حتى أَرجع إلى أهلي ومالي» .

(1)

(ن): «خلقته، أعيده، أخرجه» بضمير الإفراد.

(2)

(ب، ط): «قال قال» .

(3)

(ب، ط، ن، ج): «روحها» .

ص: 117

قال: «وإنَّ العبدَ الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكةٌ سُودُ الوجوه، معهم المُسُوح

(1)

، فيجلسون منه مدَّ البصر. ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الخبيثة اخرُجي إلى سَخَطٍ من الله وغَضَب».

قال: «فتَفرَّق في جسده، فينتزعها، كما يُنتزَع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذَها لم يدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتنِ ريح جيفةٍ وُجدت على وجه الأرض. فيصعَدون بها فلا يمرُّون بها

(2)

على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيث؟ فيقولون: فلانُ بن فلان ــ بأقبحِ أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا ــ حتى يُنتهى بها

(3)

إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له

(4)

فلا يُفتَح له».

ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتُبوا كتابَه في سِجِّين في الأرض السُّفلى، فتُطرح روحُه طرحًا». ثم قرأ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

فتعاد روحُه في جسده، ويأتيه ملكان، فَيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِث فيكم؟

(1)

جمع المِسْح، وهو الكساء من الشعر.

(2)

(ن): «فلا تمرّ» .

(3)

(ق، ج): «به» .

(4)

(ط): «لها» .

ص: 118

فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أن: كَذَب، فأفرِشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حرِّها وسَمُومها، ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلِفَ فيه أضلاعُه. ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه قبيح الثياب مُنتِنُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يَسوءك! هذا يومك الذي كنت تُوعَد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجهُ يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيثُ. فيقول: ربِّ

(1)

لا تُقِم الساعة».

رواه الإمام أحمد، وأبو داود. وروى النسائي وابن ماجه أوله. ورواه أبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه»

(2)

.

(1)

(ب، ط): «ربّي» .

(2)

أخرجه أبو داود (4753)، وأبو داود الطيالسي (789)، وعبد الرزاق (6737)، والإمام أحمد (18534)، وأبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة (2/ 459)، والحاكم (1/ 37 ــ 39)، والبيهقي في شعب الإيمان (395) بطوله، بعضهم يزيد على بعض.

وأخرج بعضه النسائي (2001)، وابن ماجه (1549)، وابن خزيمة في التوحيد (175، 176)، كلهم من طريق المِنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب.

وصحَّح إسناده البيهقي، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (2/ 438).

وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة» .

كذا قال رحمه الله، وإنما زاذان من رجال مسلم وحده، والمنهال من رجال البخاري وحده.

وصحَّحه المؤلف. كما سيأتي، وردّ على من طعن فيه، وكذا فعل في تهذيب مختصر سنن أبي داود (4586) ونقل فيه تصحيح أبي نعيم أيضًا وتحسين أبي موسى المديني له. (قالمي).

ص: 119

وذهب إلى القول بموجب هذا الحديثِ جميعُ أهل السنَّة والحديث من سائر الطوائف.

وقال أبو محمد بن حزم في كتاب «الملل والنحل» له

(1)

: وأما من ظنَّ أن الميتَ يحيا في قبره قبل يوم القيامة، فخطأ؛ لأنّ

(2)

الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك. يعني قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، وقوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28].

قال: ولو كان الميتُ يَحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا. وهذا باطلٌ، وخلافُ القرآن، إلا من أحياه اللهُ تعالى آيةً لنبيٍّ من الأنبياء و

(3)

{الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، والذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، ومن خصَّه نصٌّ.

وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فصحَّ بنصِّ القرآن أن أرواحَ سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده

(1)

الفصل في الملل والنحل (4/ 56 ــ 57). وهنا زيادات لم ترد في المطبوع منه.

(2)

(م): «إذ» . (أ، غ): «إن).

(3)

كذا بواو العطف في جميع النسخ والملل والنحل (طبعة الخانجي) معطوفًا على «من أحياه» . وقد حذفوها في بعض طبعات الملل. وفي المحلى (1/ 22): «كمن أحياه عيسى عليه السلام وكل من جاء فيه بذلك نصّ» .

ص: 120

إلا إلى الأجل المسمَّى، وهو يوم القيامة.

وكذلك أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأرواحَ ليلةَ أُسري به عند سماء الدنيا: من عن يمين [27 أ] آدمَ أرواحُ أهل السعادة، وعن شماله أرواحُ أهل الشقاء

(1)

.

وأخبر يومَ بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قولَه قبل أن تكون لهم قبورٌ، ولم يُنكِر على الصحابة قولَهم:«قد جَيَّفوا» ، وأعلَمَ أنهم سامعون قولَه مع ذلك

(2)

. فصحَّ أن الخطاب والسَّماع لأرواحهم فقط بلا شكّ، وأما الجسد فلا حِسَّ له.

وقد قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فنفى السمعَ عمن في القبور، وهي الأجساد بلا شك، ولا يشكُّ

(3)

مسلمٌ أنّ الذي نفى الله عز وجل عنه السمعَ هو غيرُ الذي أثبت له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السمع

(4)

.

قال: ولم يأتِ قطُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبرٍ صحيح أن أرواحَ الموتى تُرَدُّ إلى أجسادهم عند المسألة

(5)

، ولو صحَّ ذلك عنه لقلنا به.

(1)

(ط، ز): «الشقاوة» . وانظر حديث الإسراء عن أنس في صحيح البخاري (349) وصحيح مسلم (163).

(2)

تقدم تخريجه في أول الكتاب (ص 7).

(3)

(م): «فلا يشك» .

(4)

هذه الفقرة «وقد قال تعالى

السمع» لم ترد في النسخ المطبوعة من الملل.

(5)

هذا في (أ، غ) والملل والنحل (طبعة الخانجي). وفي النسخ الأخرى: «المسايلة» ، وكذا في بعض طبعات الملل والنحل أيضًا، وكلاهما صحيح.

ص: 121

قال: وإنما تفرَّد بهذه الزيادة من رَدِّ الأرواحِ في القبور إلى الأجساد المِنهالُ بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة

(1)

وغيره. وقال فيه المغيرة بن مِقْسَم

(2)

الضبِّي ــ وهو أحد الأئمة ــ: ما جازتْ للمِنهال بن عمرو قطُّ شهادةٌ في الإسلام على باقة بَقْل!

(3)

.

وسائرُ الأخبار الثابتة على خلاف ذلك.

قال: وهذا

(4)

الذي قلنا

(5)

هو الذي صحَّ أيضًا عن الصحابة.

(1)

(أ، غ، ز): «سعيد» ، تحريف.

(2)

ضبط في (ط، ق) بضم الميم، وفي (ق، ن) بتثقيل السين، ولعل الناسخ ظن علامة الإهمال شدّة. والصواب بكسر الميم وفتح السين كما أثبتنا.

(3)

في جمع النسخ الخطية والمطبوعة: «على ما قد نقل» . و «ما قد نقل» تحريف ما أثبتنا. ونقله الآلوسي في الآيات البينات (83) على الصواب.

ولم أجد قول المغيرة هذا. والذي نُقل عنه في تهذيب التهذيب (10/ 320) وغيره أنه قال ليزيد بن أبي زياد: نشدتك بالله تعالى هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين؟ قال: اللهم، لا.

نعم، نقل ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 134) أن ابن حزم كان يقول: لا يُقبل في باقة بقل. وانظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 362).

و «باقة بقل» مثل للشيء الحقير. في ترجمة واصل بن عطاء المعتزلي أنه كان يتوقف في عدالة أصحاب الجمل ويقول: «إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهد عندي علي وعائشة وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم» . لسان الميزان (6/ 215).

هذا، والعبارة «وقال فيه المغيرة

بقل» لم يرد في النسخ المطبوعة من كتاب الملل والنحل.

(4)

(ب، ط، ج): «وهذا الحديث» . والظاهر أنّ كلمة «الحديث» مقحمة.

(5)

(ن): «قلناه» .

ص: 122

ثم ذكرَ من طريق ابن عُيينة، عن منصور بن صفيةَ، عن أُمِّه صفيةَ بنت شيبة قالت: دخل ابن عمرَ المسجدَ فأبصر ابنَ الزبير مطروحًا قبل أن يُصلبَ

(1)

، فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق. فمال ابن عمر إليها، فعزَّاها، وقال: إنّ هذه الجُثثَ ليست بشيء، وإنّ الأرواحَ عند الله. فقالت أمه: وما يمنعني، وقد أُهدي رأسُ يحيى بن زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل

(2)

!

قلت: وما ذكره أبو محمد فيه حقٌّ وباطلٌ. أما قوله: من ظنَّ أنّ الميت يحيا في قبره فخطأ؛ فهذا فيه إجمالٌ إن أراد به الحياةَ المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروحُ بالبدن، وتدبِّره وتصرِّفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب [27 ب] واللِّباس، فهذا خطأ كما قال، والحِسُّ والعقل يُكذِّبه كما يُكذِّبه النصُّ.

وإن أراد به حياةً أخرى غيرَ هذه الحياة، بل تُعاد الروحُ إليه إعادةً غير الإعادة المألوفة في الدنيا، ليُسأل ويُمتحن في قبره= فهذا حقٌّ، ونَفيُه خطأ. وقد دلَّ عليه النصُّ الصحيح الصريح، وهو قوله:«فَتُعاد روحُه في جسده» .

وسنذكر الجوابَ عن تضعيفه للحديث

(3)

إن شاء الله.

وأما استدلاله بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}

(1)

(ط، م): «يغلب» ، تحريف. وزاد في (ب) قبله:«يدفن» .

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف (31317، 32567، 38483). وعزاه السيوطي في شرح الصدور (270) إلى المصنف وإلى كتاب العزاء لابن أبي الدنيا. وانظر: المحلى (1/ 22).

(3)

انظر (ص 137).

ص: 123

[غافر: 11] فلا ينفي ثبوتَ هذه الإعادةِ العارضة للروح في الجسد للمساءلة

(1)

. كما أنَّ قتيلَ بني إسرائيل الذي أحياه الله بعد قتله ثم أماتَه، لم تكن تلك الحياةُ العارضة له مُعتدًّا بها، فإنه حَيِيَ لحظةً بحيث قال: فلانٌ قتلني، ثمَّ خرَّ ميتًا. على أن قوله:«ثم تُعاد روحُه في جسده» لا يدلُّ على حياة مستقرة، وإنما يدلُّ على إعادةٍ لها إلى البدن وتعلُّقٍ به. والرّوحُ لم تزل متعلقةً ببدنها، وإن بَلِي، وتمزَّق. وسِرُّ ذلك أنَّ الروح لها بالبدن خمسةُ أنواع من التعلُّق متغايرةُ الأحكام

(2)

:

أحدها: تعلُّقها به في بطن الأمِّ جنينًا

(3)

.

الثاني: تعلُّقها به

(4)

بعد خروجه إلى وجهِ الأرض.

الثالث: تعلُّقها به في حال النوم، فلها به تعلُّقٌ من وجه، ومفارقةٌ من وجه.

الرابع: تعلُّقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردَتْ عنه فإنها لم تُفارقْه فراقًا كليًّا بحيث لا يبقى لها التفات

(5)

إليه البتة. وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدلُّ على ردِّها إليه وقتَ سلام المسلِّم، وهذا الردُّ إعادةٌ خاصة لا تُوجِب حياةَ البدن قبل يوم القيامة.

(1)

رسمها في النسخ: «للمسايلة» . وفي (م): «للمسألة» .

(2)

هذه الأنواع الخمسة وكلام المصنف عليها نقلها بنصها ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (395) دون الإشارة إلى ابن القيم.

(3)

«جنينًا» ساقط من (ب، ط، ج).

(4)

«به» ساقط من (ن).

(5)

(ن): «النقل» ، تحريف.

ص: 124

الخامس: تعلُّقها به يومَ بعث الأجساد. وهو أكملُ أنواع تعلُّقها بالبدن، ولا نسبة

(1)

لما قبله من أنواع التعلُّق إليه؛ إذ هو تعلُّقٌ لا يقبل البدنُ معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا.

وأما قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فإمساكُه سبحانه [28 أ] التي قضى عليها الموتَ لا يُنافي ردَّها إلى جسد الميت في وقتٍ ما ردًّا عارضًا لا يوجب له الحياةَ المعهودة في الدنيا. وإذا كان النائم روحُه في جسده، وهو حيٌّ، وحياتُه غير حياة المستيقظ، فإنَّ النوم شقيقُ الموت؛ فهكذا الميتُ إذا أعيدت روحُه إلى جسده كانت له حالٌ متوسطةٌ بين الحيِّ وبين الميِّت الذي لم تُرَدَّ روحُه إلى بدنه، كحال النائمِ المتوسطة بين الحيِّ والميت. فتأمَّلْ هذا يُزيح

(2)

عنك إشكالاتٍ كثيرة.

وأمَّا إخبارُ النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية الأنبياء ليلةَ أُسرِي به، فقد زعم بعضُ أهل الحديث

(3)

أنَّ الذي رآه أشباحهم وأرواحهم. قال: فإنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون. وقد رأى إبراهيمَ مُسنِدًا ظهرَه إلى البيت المعمور

(4)

، ورأى موسى قائمًا في قبره يُصلِّي

(5)

. وقد نعتَ الأنبياءَ لما رآهم بنعت الأشباح، فرأى

(1)

في (ط): «ولا يشبه» ، تصحيف. ولما أشكل «إليه» الآتية غيَّره الناسخ أو غيرُه:«البتة» .

(2)

كذا في جميع النسخ. وسيأتي نحوه في (ص 186) وفي شرح الطحاوية: «يُزِحْ» ، مجزوم لأنه جواب الطلب.

(3)

(أ، غ): «الخبرة» ، تحريف.

(4)

كما في حديث أنس، أخرجه مسلم في الإيمان (162).

(5)

كما في حديث أنس، أخرجه مسلم في فضائل موسى (2375).

ص: 125

موسى آدمَ ضَرْبًا طُوالاً كأنه من رجال شَنوءةَ

(1)

، ورأى عيسى يقطُر رأسُه كأنما خرج من دِيماس

(2)

، ورأى إبراهيمَ فشبَّهه بنفسه

(3)

.

ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجسادُ في الأرض قطعًا، إنما تُبعَث يوم تُبعَث

(4)

الأجساد. ولم تُبعثْ قبل ذلك، إذ لو بُعثت قبل ذلك لكانت قد انشقَّتْ عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوقُ الموتَ عند نفخة الصور. وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعًا.

ولو كانت قد بُعثت الأجسادُ من القبور لم يُعِدْهم الله إليها، بل كانت في الجنة. وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله حرَّم الجنَّةَ على الأنبياء حتى يدخُلَها هو

(5)

. وهو أولُ من يستفتح بابَ الجنة

(6)

، وأولُ من تنشقُّ عنه الأرض، لم تنشقَّ عن أحد قبله

(7)

.

ومعلومٌ بالضرورة أن جسدَه صلى الله عليه وسلم في الأرض طريٌّ مُطَرًّى. وقد سأله

(1)

انظر حديث ابن عباس في البخاري (3239) ومسلم (165)، وحديث أبي هريرة في البخاري (3394) وحديث جابر في مسلم (167). والضَّرْب: الخفيف اللحم.

(2)

يعني: الحمام. وجاء وصف عيسى بهذا في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (3394) وصحيح مسلم (168).

(3)

انظر الحديث السابق.

(4)

(ق): «بعث» .

(5)

انظر حديث أنس في صحيح مسلم (197).

(6)

انظر حديث أنس في صحيح مسلم (196).

(7)

انظر حديث أبي سعيد في صحيح البخاري (2412).

ص: 126

الصحابةُ: كيف تُعرَض صلاتنا عليك، وقد أَرِمتَ؟ فقال

(1)

: «إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء»

(2)

. ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب. وقد صحَّ عنه أنَّ الله وكَّلَ بقبره ملائكةً يُبلِّغونه عن أمته السلام

(3)

. وصحَّ عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمرَ، وقال:«هكذا [28 ب] نُبعَث»

(4)

. هذا مع القطع بأنَّ روحَه الكريمةَ في الرفيق الأعلى في أعلى عِلِّيِّين مع أرواح الأنبياء.

وقد صحَّ عنه أنه رأى موسى قائمًا يُصلِّي في قبره ليلةَ الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة

(5)

. فالروح كانت هناك، ولها اتصالٌ بالبدن في

(1)

(ب، ط، ن): «قال» .

(2)

سبق تخريجه في المسألة الرابعة (ص 102).

(3)

أخرجه النسائي (1282)، والإمام أحمد (4210، 4320)، وأبو يعلى (5213) وعنه ابن حبان (914)، والحاكم (2/ 421) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الحاكم:«صحيح الإسناد» وهو كما قال. وصححه المصنف في جلاء الأفهام (55)، وانظر أيضًا (532). (قالمي).

(4)

أخرجه الترمذي (3669) وابن ماجه (99)، وابن أبي عاصم في السنة (1418)، والبزار (5852)، والحاكم (3/ 68) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي سنده سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، متفق على ضعفه. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 83).

وبه أعله الترمذي فقال عقب الحديث: «حديث غريب، وسعيد بن مسلمة ليس عندهم بالقوى» . وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله:«سعيد ضعيف» . (قالمي).

(5)

مرَّ آنفًا.

ص: 127

القبر، وإشرافٌ

(1)

عليه، وتعلُّقٌ به؛ بحيث يُصلِّي في قبره، ويردُّ سلامَ من سلَّم عليه، وهي

(2)

في الرفيق الأعلى.

ولا تنافي بين الأمرين، فإن شأنَ الأرواح غير شأن الأبدان. وأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب، وإن كان بين بدنيهما بُعْدُ المشرقين. وتجد الروحين المتنافرتين

(3)

المتباغضتين بينهما غاية البُعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.

«وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعَد إلى فوق السموات، ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضعِ الميت في قبره. وهو زمن يسير لا يصعَد البدن وينزل في مثله. وكذلك صعودها وعَوْدها إلى البدن في النوم واليقظة. وقد مثَّلها بعضهم بالشمس وشعاعها؛ فإنها في السماء، وشعاعُها

(4)

في الأرض»

(5)

.

قال شيخنا: «وليس هذا مثالاً مطابقًا، فإنَّ نفسَ الشمس لا تنزِل من السماء، والشُّعاع الذي على الأرض ليس هو الشمسَ ولا صفتَها، بل هُو عرضٌ حصل بسبب الشمس والجِرم المقابل لها. والروح نفسها تصعَد وتنزِل»

(6)

.

(1)

(ن): «إشراق» ، تصحيف.

(2)

(ط): «وهو» .

(3)

(أ، غ): «المتفارقتين» .

(4)

«فإنما

شعاعها» ساقط من (ن).

(5)

هذه الفقرة منقولة من شرح حديث النزول لشيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 437 ــ 438).

(6)

المصدر السابق.

ص: 128

وأما قولُ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في قتلى بدر: «كيف تخاطب أمواتًا قد جَيَّفوا؟»

(1)

مع إخباره بسماعهم

(2)

كلامَه، فلا ينفي ذلك ردَّ أرواحهم إلى أجسادِهم ذلك الوقتَ ردًّا يسمعون به خطابه، والأجساد قد جَيَّفت، فالخطاب للأرواح المتعلّقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.

وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فسياقُ الآية يدلُّ على أنَّ المرادَ منها: أنَّ الكافرَ مَيِّتُ القلب، لا يقدرُ على إسماعه سماعًا ينتفع به، كما أنَّ مَن في القبور لا يقدر

(3)

على إسماعهم سماعًا ينتفعون به. ولم يُرِدْ [29 أ] سبحانه أنَّ أصحابَ القبور لا يسمعون شيئًا البتة. كيف وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنهم يسمعون خفقَ نِعال المشيِّعين، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامَه وخطابَه، وشرعَ السلامَ عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنَّ من سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه السلام

(4)

؟ وهذه الآية نظيرُ قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].

وقد يقال: نفيُ إسماعِ الصُّمِّ مع نفي إسماعِ الموتى يدلُّ على أنَّ المرادَ عدمُ أهليّة كلٍّ منهما للسماع. وأنَّ قلوبَ هؤلاء لما كانت ميتةً صُمًّا

(5)

كان إسماعها ممتنعًا بمنزلة خطاب الميِّت والأصمِّ. وهذا حقٌّ، ولكن لا ينفي

(1)

تقدم في أول الكتاب (ص 7).

(2)

(ب، ج): «إنكاره لسماعهم» .

(3)

(ط): «يقدرون» .

(4)

الأحاديث المذكورة قد سبق تخريجها في أول الكتاب.

(5)

في معظم النسخ ضبط بتنوين الميم.

ص: 129

إسماعَ الأرواح بعد الموت إسماعَ توبيخٍ وتقريع، بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي

(1)

. والله أعلم.

وحقيقةُ المعنى: إنك لا تستطيع أن تُسمِعَ من لم يشأ

(2)

الله أن يُسمعَه. إن أنت إلا نذير، أي: إنما جعل الله لك الاستطاعةَ على الإنذار الذي كلَّفك إياه، لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعَه.

وأما قوله: إن الحديث لا يصحُّ لتفرُّدِ المِنهال بن عمرو وحده به

(3)

، وليس بالقوي؛ فهذا من مجازفته رحمه الله

(4)

. فالحديث صحيحٌ، لا شكَّ فيه. وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم: عَدي بن ثابت، ومحمدُ بن عقبة، ومجاهد.

قال الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب «الروح والنفس»

(5)

: أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني

(6)

، أنا أبو النضر هاشمُ بن القاسم، ثنا عيسى بن المسيب، عن عَدِي بن ثابت، عن

(1)

وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 364).

(2)

(أ، غ): «لو يشاء» .

(3)

«به» من (ط).

(4)

سيأتي الردّ على تضعيف المنهال.

(5)

وقد نقله منه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 442 ــ 444).

(6)

في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «الصفار» . وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من الفتاوى. وقد ولد محمد بن إسحاق الصفار سنة 289، وتوفي سنة 371. (تاريخ بغداد 1/ 260، سير أعلام النبلاء 16/ 299). وقد توفي محمد بن يعقوب بن يوسف وهو أبو العباس الأصم سنة 277، فكيف يحدث عن الصفار؟

ص: 130

البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جِنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحَدْ. فجلس، وجلسنا حوله

(1)

كأنَّ على أكتافنا فِلَقَ الصخر، وعلى رؤوسنا الطير. فأرَمَّ

(2)

قليلاً ــ والإرمام: السكوت ــ فلما رفع رأسه قال:

«إن المؤمنَ إذا كان في قُبُل [29 ب] من الآخرة، ودُبُر من الدنيا، وحضره ملكُ الموت؛ نزلت

(3)

عليه ملائكةٌ معهم كفن من الجنة، وحَنوط من الجنة، فجلسوا منه مدَّ البصر. وجاء ملَك الموت، فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرُجي إلى رحمة الله ورضوانه. فتسيل نفسُه كما تقطُر القطرة من السِّقاء. فإذا خرجتْ نفسه صلَّى عليه كلُّ من بين السماء والأرض

(4)

إلا الثقلين. ثم يصعَد به إلى السماء، فتُفتح له السماء

(5)

. ويُشيِّعه مقرَّبوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة

(1)

«حوله» من (ن). وفي (ق): «فجلسنا وجلس» .

(2)

«أرمَّ» و «الإرمام» في جميع النسخ الخطية والمطبوعة بالزاي، وهو تصحيف من النسَّاخ. ولعلهم ظنّوا علامة الإهمال في أصولهم نقطة. وفي (ط) حاشية نصّها:«قال في المجمل: الأزم: الإمساك، في الزاي مع الميم» . وذهب على المحشي أنّ التصريح بمصدره في الحديث قاطع بأنه من (ر م م)، لا من (أزم). نعم، يروى في حديث آخر:«فأرمَّ القومُ» ، و «فأَزَم

» النهاية (2/ 267). ولكن راوي حديثنا نصّ بذكر المصدر على أن الفعل هنا بالراء.

(3)

(ب، ط، ز): «نزل» . وفي (ز) بعد «عليه» زيادة: «من السماء» .

(4)

(ن): «كل شيء بين

». وفي مجموع الفتاوى: «كل ملك» . وفي (ز): «كل شيء في

». وفي (ب، ط، ج): «كل شيء بين الأرض والسماء» .

(5)

«السماء» لم يرد في (ن).

ص: 131

والسادسة والسابعة إلى العرش: مقرَّبو كلِّ سماء

(1)

.

فإذا انتهى إلى العرش كُتِبَ كتابُه في عِلِّيين، ويقول الربُّ عز وجل: رُدُّوا عبدي إلى مَضْجَعه، فإني وعدتُهم أنِّي منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى. فيُرَدُّ إلى مضجعه، فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يُثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرضَ بأشعارهما، فيجلسانه، ثم يقال له: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان: صدقتَ. ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: صدقتَ. ثم يقال له

(2)

: من نبيُّك؟ فيقول: محمدٌ رسول الله. فيقولان: صدقتَ.

ثم يُفسَح له في قبره مدَّ بصرِه، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، طيِّبُ الريح، حسن الثياب، فيقول: جزاكَ الله خيرًا، فوالله ــ ما علمتُ ــ إن كنتَ لسريعًا في طاعةِ الله، بطيئًا عن معصية الله. فيقول: وأنت جزاك الله خيرًا، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح

(3)

. ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فينظر إلى مقعدِه ومنزله منها حتى تقومَ الساعة.

وإنّ الكافر إذا كان في دُبُرٍ من الدنيا وقُبُلٍ من الآخرة، وحضره الموت؛ نزلتْ عليه من السماء ملائكةٌ معهم كفن من نار، وحَنُوطٍ من نار. قال: فيجلسون منه مدَّ بصرِه، وجاء ملكُ الموت، فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرُجي أيتها النفسُ الخبيثة، اخرُجي إلى غضب الله وسَخَطه. فتتفرَّق

(4)

(1)

«مقربو كل سماء» لم يرد في (ن).

(2)

«له» ساقط من (ط، ج، ن).

(3)

«الصالح» ساقط من (ن).

(4)

(ب، ط): «فتفرّق» . وفي (ق): «تفترق» ، تصحيف.

ص: 132

روحه في جسده كراهية أن [30 أ] تخرج لما تَرى وتُعاين. فيستخرجها، كما يُستخرج السَّفُّود من الصوف المبلول. فإذا خرجت نفسُه لَعنه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين.

ثم يُصعَد به إلى السماء، فتُغلَق دونه. فيقول الربُّ: رُدُّوا عبدي إلى مضجعه، فإنّي وعدتُهم أنّي منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى؛ فتُرَدُّ روحه إلى مضجعه. فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يبتدرانِ

(1)

الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتُهما كالرعد القاصف، وأبصارُهما كالبرق الخاطف. فيُجلسانه، ثم يقولان: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ فيقول: لا أدري، فينادَى من جانب القبر: لا دريتَ! فيضرِبانه بمِرزَبَّةٍ

(2)

من حديد لو اجتمع عليها مَن بين الخافقين لم تُقَلَّ، ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلفَ أضلاعُه. ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، مُنتن الريح؛ فيقول: جزاك الله شرًّا! فوالله ــ ما علمت ــ إن كنتَ لبطيئًا عن طاعةِ الله سريعًا في معصيةِ الله. فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملُكَ الخبيثُ. ثم يُفتح له بابٌ

(3)

إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعةُ»

(4)

. رواه الإمام أحمد

(1)

كذا في (أ، ق، غ). وفي غيرها: «يثيران» .

(2)

ضبط في (ط) بتشديد الباء، ويجوز بتخفيفها. والمرزبة: المطرقة الكبيرة.

(3)

في (أ، ن، غ): «بابًا» .

(4)

في إسناده عيسى بن المسيب البجلي الكوفي قاضيها ضعيف؛ ضعَّفه ابن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم. له ترجمة في لسان الميزان (4/ 405).

وحديثه يصلح في المتابعات ولأجل ذلك ساق المؤلف حديثه هنا. وعزوه للإمام أحمد فلعله في غير المسند فإني لم أره فيه. (قالمي).

ص: 133

ومحمود بن غيلان وغيرهما عن أبي النضر

(1)

.

ففيه أنَّ الأرواح تُعاد إلى القبر، وأنَّ الملَكين يُجلِسان الميِّتَ ويَستنطقانه.

ثم ساقه ابن مَنْده من طريق محمد بن سلَمةَ، عن خُصَيفٍ الجَزَري

(2)

، عن مجاهد، عن البراء بن عازب قال: كنا في جِنازة رجلٍ من الأنصار، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهينا إلى القبر، ولم يُلحَد

(3)

، ووُضعت الجنازة. وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

فقال: «إنّ المؤمنَ إذا احتُضِرَ أتاه ملَكٌ في أحسن صورةٍ وأطيبه ريحًا، فجلس عنده لقبضِ روحه، وأتاه ملكان بِحَنوطٍ من الجنة وكفنٍ من الجنة، وكانا منه على بعيد، فيستخرج ملَكُ الموت روحَه من جسده رَشحًا. فإذا صارت إلى ملك الموت

(5)

ابتدَرها الملكان، فأخذاها

(6)

منه، فحنَّطاها بِحَنوط من الجنة، وكفَّناها بكفن من الجنة.

ثم عَرجا به إلى الجنة، فتُفتح له أبوابُ السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروحُ الطيِّبة التي فُتحت لها أبواب السماء؟ ويُسمَّى [30 ب] بأحسن الأسماء التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، فيقال: هذه روحُ فلان.

(1)

هنا انتهى النقل من كتاب ابن منده. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 444).

(2)

كذا على الصواب في (أ، غ). وفي معظم النسخ بالحاء المهملة. وكذلك «الجزري» تصحف في (ب، ج، ط) إلى «الجوزي» . وفي (ق): «الخرزي» .

(3)

«فانتهينا .... » إلى هنا ساقط من (ب).

(4)

(ز، ج): «ولما يلحد» .

(5)

(ب، ط، ج): «فإذا استخرج ملك الموت روحه.

(6)

(ب، ط، ج): «يأخذانها» .

ص: 134

فإذا صُعِد بها إلى السماء شيَّعها مُقرَّبو كلِّ سماء حتى تُوضَع بين يدي الله عز وجل عند العرش، فيُخرَج عملُها من عِلِّيين، فيقول الله للمقرَّبين: اشهدوا أنّي قد غفرتُ لصاحب هذا العمل. ويُختَم كتابه، فيُرَدُّ

(1)

في عِلِّيين، فيقول

(2)

الله عز وجل: رُدُّوا روحَ عبدي إلى الأرض، فإنّي وعدتُهم أن أردَّهم فيها». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].

فإذا وُضِع المؤمن في لحده

(3)

فُتح له بابٌ عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعدَّ الله لك من الثواب! ويُفتح له بابٌ عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ماذا صرف الله عنك من العذاب! ثم يقال له

(4)

: نَمْ قرير العين! فليس شيء أحبَّ إليه من قيام الساعة».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُضِع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنتَ لحبيبًا إليَّ، وأنت على ظهري؛ فكيف إذا صِرتَ اليوم في بطني! سأُريك ما أصنع بك

(5)

. فيُفسَح له في قبره مدَّ بصره».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُضِع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير، فيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: لا دَريَت! فيضربانه ضربةً، فيصير رمادًا. ثم يُعاد، فيُجلَس، فيقال له: ما قولك في هذا

(1)

(ب، ط، ن، ج): «ويرد» .

(2)

ما عدا (أ، ق، غ): «ثم يقول» .

(3)

(ق، ز): «قبره» .

(4)

«له» ساقط من (ب).

(5)

لم يرد «بك» في (أ، غ).

ص: 135

الرجل؟ فيقول: أيُّ رجل

(1)

؟ فيقولان: محمد

(2)

صلى الله عليه وسلم. فيقول: قال الناسُ إنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فيضرِبانه ضربةً، فيصير رمادًا»

(3)

.

هذا حديث ثابتٌ مشهور مستفيض، صحَّحه جماعةٌ من الحفاظ، ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه. بل رووه في كتبهم، وتلقَّوه بالقبول، وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة

(4)

منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر.

وقولُ أبي محمد

(5)

: «لم يروه غيرُ زاذان» ، فوهَمٌ منه، بل رواه عن

(1)

كذا في (أ، غ). وفي (ز): «أي الرجال» . وفي غيرها: «أي الرجل» .

(2)

(ب، ط، ن، ج): «محمد رسول الله» .

(3)

وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، خصيف هو ابن عبد الرحمن الجزري تُكلم فيه لسوء حفظه، وبقية رجاله ثقات. (قالمي).

(4)

رسمها في النسخ: «مسايلة» .

(5)

هذه الفقرة من هنا إلى قول ابن عدي في آخرها من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 446 ــ 447). نقلها المصنف مع التصرف في أولها. ولفظ الشيخ: «وزعم ابن حزم أنّ (العَود) لم يروه إلا زاذان عن البراء، وضعَّفه. وليس الأمر كما قاله بل رواه غير زاذان عن البراء

».

والظاهر أن هذا وهمٌ من الشيخ، فإنَّ ما زعمه ابن حزم هو أن (العود) لم يروه إلا المنهال بن عمرو، وضعَّفه. أما زاذان فلم يقل فيه ابن حزم شيئًا لا في المحلى ولا في الملل والنحل. والدليل على ذلك أن الشيخ لم يُشر بعد ذلك إلى زعم ابن حزم بتفرد المنهال بالعود، وإنما ردَّ على تضعيفه إياه.

أما ابن القيم، فغيَّر عبارة الشيخ، فنسب إلى ابن حزم أنه قال:«لم يروه غير زاذان» . ومفاده أنه لم يرو هذا الحديث عن البراء غير زاذان. وهذا واضح من الردّ عليه. وهو وهمٌ آخر أدّى إليه الاعتماد على كلام الشيخ ثم التصرف فيه، مع أن المصنف قد أورد من قبل كلام ابن حزم من كتابه الملل والنحل، وليس فيه شيء عن زاذان. وسيردّ في الفقرة الآتية على زعم ابن حزم بتفرد المنهال بالعود مع ضعفه، ثم يذكر فيما بعد أن غير ابن حزم ــ يعني ابن حبان ــ أعلّ الحديث بأن زاذان لم يسمعه من البراء. وقد أعلَّه ابن حبان أيضًا بالانقطاع بين الأعمش والمنهال. فإن صح كلام المصنف في هذه الفقرة من تفرُّد زاذان بالحديث اجتمعت فيه أربع علل؛ مع أنه لما تكلم عليه في تهذيب السنن (13/ 63 ــ 64) قال:«ومجموع ما ذكراه ــ يعني ابن حزم وابن حبان ــ ثلاث: إحداها ضعف المنهال. والثانية أن الأعمش لم يسمعه من المنهال، والثالثة أن زاذان لم يسمعه من البراء» .

وهذا هو الصواب، والأُولى من هذه فقط لابن حزم.

ص: 136

البراء غير زاذان. ورواه عنه عديُّ بن ثابت، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن عُقْبة وغيرهم. وقد جمع الدارقطني طُرُقَه في مصنَّف مفرد. وزاذان من الثِّقات، روى عن أكابر الصحابة كعُمر وغيره. وروى له مسلم في «صحيحه». قال يحيى بن معين: ثقة. وقال حُميد بن هلال ــ وقد سئل عنه ــ: هو ثقة، لا يُسأل عن مثل هؤلاء. وقال ابن عديِّ: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة

(1)

.

وقوله: إن المِنهال بن عمرو تفرَّد بهذه الزيادة، وهي قوله:«فتعاد روحه في جسده» ، وضَعَّفه؛ فالمِنهال أحد الثقات العدول. قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفيٌّ ثقة. وأعظمُ ما قيل فيه: إنه سُمِع من بيته صوتُ غناء. وهذا لا يُوجب القدحَ في روايته واطِّراح حديثه. وتضعيفُ ابن حزم له لا شيء

(2)

،

(1)

في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «روى عن ثقة» . والصواب ما أثبتنا من الكامل لابن عدي (3/ 236). وانظر: تهذيب التهذيب (3/ 303). وهو على الصواب في مجموع الفتاوى.

(2)

«له» ساقط من (أ، غ). ثم فيهما وفي (ز، ق): «لا شيئًا» .

ص: 137

فإنه لم يذكر موجِبًا لتضعيفه غيرَ تفرُّده بقوله: «فتعاد روحه في جسده»

(1)

، وقد بينَّا أنه لم يتفرَّد بها، بل قد رواها غيره.

وقد رُوي ما هو أبلغُ منها، أو نظيرها، كقوله:«فتُرَدُّ إليه روحُه» ، وقوله:«فتصير إلى قبره» ، وقوله:«فيستوي جالسًا» ، وقوله:«فيُجلِسانه» ، وقوله:«فيُجْلَس في قبره» . وكلُّها أحاديث صحيحة لا مَغْمزَ فيها

(2)

.

وقد أعلَّ غيرُه

(3)

الحديثَ بأن زاذان لم يسمعه من البراء. وهذه العلَّة

(1)

قال في تهذيب السنن (1/ 133 ــ 134): «والذي غرّ ابن حزم شيئان: أحدهما قول عبد الله بن أحمد عن أبيه: تركه شعبة على عمد. والثاني أنه سمع من داره صوت طنبور» . والذي سمع هو شعبة قال: فرجعت ولم أسأله. قيل: فهلا سألته! فعسى كان لا يعلم به. وانظر أيضًا: تهذيب السنن (9/ 23، 13/ 64).

وقال جرير عن مغيرة: كان حسن الصوت، وكان له لحن يقال له:«وزن سبعة» . انظر: تهذيب التهذيب (10/ 320).

(2)

هذه الألفاظ كلها وردت في كتابنا هذا إلا «فيستوي جالسًا» . وقد ورد في حديث أبي تميم الداري، وأخرجه أبو يعلى الموصلي بسند ضعيف. انظر: إتحاف الخيرة المهرة (1852). وفي حديث لقيط بن عامر أخرجه الحاكم (8683) وصححه. وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (26/ 123) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (3/ 677) وحادي الأرواح (536) ونقل تصحيحه عن أبي عبد الله ابن منده وأبي الخير بن حمدان. وفي سنده دلهم بن الأسود، وعبد الرحمن بن عياش، والأسود بن عبد الله. ولم يوثقهم إلا ابن حبان. وقال ابن حجر: وهو حديث غريب جدًّا. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 57).

(3)

لم يسمّه المصنف هنا، وكأنّه يتابع في هذه الفقرة شيخه. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 438، 439). والذي أعلَّه بما ذكر هو ابن حبّان. وقد أعلَّه بعلة أخرى لم يشر إليها المصنف هنا، وهي الانقطاع بين الأعمش والمنهال. انظر: صحيح ابن حبان (3117). وقد أجاب المصنف عن العلتين في تهذيب السنن (13/ 63 ــ 65).

ص: 138

باطلة، فإنّ أبا عوانة الإسفراييني رواه في «صحيحه» بإسناده، وقال: عن ابن عمرو، عن

(1)

زاذان الكندي قال: سمعتُ البراء بن عازب. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: هذا إسناد متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء

(2)

.

ولو نزلنا عن حديث البراء، فسائرُ الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك، مثل حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار

(3)

، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميتَ تحضُره

(4)

الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: اخرجي أيتها النفسُ الطيِّبة كانت في الجسد الطيِّب، اخرجي حميدةً، وأبشري برَوح وريحان وربٍّ غير غضبان».

قال: «فيقولون

(5)

ذلك حتى تخرج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيُستفتَح لها، فيقال: مَن هذا؟ فيقولون: فلان

(6)

. فيقولون: مرحبًا بالنفس [31 ب] الطيِّبة كانت في الجسد الطيِّب، ادخلي حميدةً، وأبشري برَوحٍ ورَيحان وربٍّ غير غضبان. فيقال لها ذلك، حتى يُنتهَى بها

(7)

إلى السماء التي فيها

(1)

في (أ، غ): «بن» ، وهو تحريف. وابن عمرو هو المنهال بن عمرو.

وفي (ن) حذف «عن» . وفي (ب، ط): «إن ابن عمرو زاذان» . وهو غلط.

(2)

كتاب الإيمان لابن منده (1064).

(3)

(ب): «بشار» ، تصحيف.

(4)

(ب، ط، ج): «يحضر» . وفي (ز): «إن الملائكة تحضر الميت» .

(5)

(ق): «فيقول» .

(6)

(ق): «فلان بن فلان» .

(7)

(ط): «تنتهي» .

ص: 139

الله عز وجل.

وإذا كان الرجلَ السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. اخرجي

(1)

ذميمة، وأبشري بحميمٍ وغسَّاقٍ وآخرَ من شَكْله أزواج. فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيُستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنَّه

(2)

لن تُفتَح

(3)

لك أبوابُ السماء. فتُرسَل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر.

فيُجلَس الرجلُ الصالحُ في قبره غير فَزِع ولا مشعوف

(4)

، ثم يقال: فيمَ كنتَ؟ يقول: في الإسلام

(5)

. [فيقال]: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمدٌ رسول

(1)

في جميع النسخ: «ارجعي» . وهو خطأ هنا. والصواب ما أثبتنا من المسند (14/ 378) و (42/ 15) وغيره.

(2)

(أ، غ، ز): «فإنها» .

(3)

(ز): «لا تفتح» .

(4)

في جميع النسخ: «معوق» . وهو تصحيف ما أثبتنا من المسند (42/ 12) ومجموع الفتاوى (5/ 446). وفي (ط) حاشية بخط الشيخ علي بن عيسى رحمه الله. نقل فيها عن النهاية لابن الأثير (شعف): «في حديث عذاب القبر: فإذا كان الرجل صالحًا أجلس في قبره غير فزع ولا مشعوف. الشعف: شدة الفزع حتى يذهب بها القلب

».

(5)

في جميع النسخ: «فما كنت تقول في الإسلام ما هذا الرجل» وهو سياق فاسد وقد تحرَّف «فيما» ــ وكانوا يكتبون ما الاستفهامية بالألف مع دخول حرف الجر عليها ــ إلى «فما» ، ثم سقط «فيقال» .

انظر: المسند (42/ 12) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (29) وقارن بمجموع الفتاوى (5/ 446).

ص: 140

الله، جاءنا بالبينات من قِبَل الله، فآمنَّا، وصدَّقنا». وذكر تمام الحديث

(1)

.

قال الحافظ أبو نُعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه

(2)

. اتَّفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجَّاج

(3)

على ابن أبي ذئب، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وسعيد

(4)

بن يسار، وهم من شرطهما. ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب، مثل ابن أبي فُديك، وعنه دُحيم

(5)

بن إبراهيم. انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غيرُ واحدٍ

(6)

.

وقد احتجَّ أبو عبد الله ابن منده على إعادة الروح إلى البدن، بأن قال:

(1)

أخرجه ابن ماجه (4262)، والإمام أحمد (8769)، والنسائي في الكبرى (11442)، وابن خزيمة في التوحيد (176: 15 ــ 18)، وابن منده في الإيمان (1068)، وأبو بكر الآجري في الشريعة (923) كلهم من طريق ابن أبي ذئب بإسناده.

وعزاه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (12/ 440) لابن أبي شيبة وصحّح إسناده. (قالمي).

(2)

(أ، ق، غ): «ناقله» .

(3)

زاد في (ط): «القشيري» .

(4)

(ن): «شعبة» ، تحريف.

(5)

«وعنه دحيم» تحرّف في النسخ إلى «وعبد الرحيم» . وأقربها إلى الصحة (ب) التي رسم ناسخها: «وعبد رحم» (كذا). وفي (ن): «وعبد الرحمن بن إبراهيم» . ودحيم اسمه: عبد الرحمن، ولكن المقصود هنا أنه رواه عن ابن أبي فديك.

(6)

«ورواه

غير واحد» عقَّب به شيخ الإسلام على كلام أبي نعيم. وقد نقل ابن القيم حديث أبي هريرة مع كلام أبي نعيم وتعقيب الشيخ بنصّه من شرح حديث النزول له غير أنه أخّر كلام أبي نعيم، وكان مقدَّمًا في الأصل. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 445 - 446).

ص: 141

أبنا محمد بن الحسين بن الحسن، ثنا محمد بن يزيد النيسابوري، ثنا حماد بن قيراط، ثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي

(1)

. عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال:

بينما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ قاعدٌ تلا هذه الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الآية [الأنعام: 93]. قال: «والذي نفسُ محمد بيده، ما من نفسٍ تُفارق الدنيا حتى ترى مقعدَها من الجنة أو النار» . ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صُفَّ

(2)

له سِماطان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ. فينظر إليهم ما يرى غيرَهم، وإن

(3)

كنتم تَرون أنّهم ينظرون

(4)

إليكم، مع كل ملكٍ أكفانٌ وحَنُوطٍ.

[32 أ] فإن كان مؤمنًا بشَّروه بالجنة، وقالوا: اخرجي أيتها النفس الطيِّبة

(5)

إلى رضوان الله وجنَّته

(6)

، فقد أعدَّ الله لكِ من الكرامة ما هو خيرٌ لك من الدنيا وما فيها. فلا يزالون يُبشِّرونه ويَحُفُّون به، فلَهم ألطفُ وأرأفُ من الوالدة بولدها. ثم يَسُلُّون روحَه من تحت كل ظُفر ومَفْصِل، ويموت الأول فالأول، ويهون

(7)

عليه، وإن كنتم ترونه شديدًا، حتَّى تبلغ ذَقَنه».

(1)

(أ، غ): «البجلي» . ولعله تحريف.

(2)

كذا ضبط في (ب، ط، ن) بالبناء للمجهول. والفعل لازم ومتعد.

(3)

ما عدا (ط، ن): «فإن» ، تحريف.

(4)

كذا في جميع النسخ، يعني المحتضرين. وفي الدر المنثور (6/ 133):«أنه ينظر» ، وهو أشبه بالسياق.

(5)

(ب، ط، ج): «المطمئنة» .

(6)

(ق): «رحمته» . والعبارة «فإن كان

جنته» ساقطة من (ن).

(7)

(ب، ط، ج): «تهون» .

ص: 142

قال: «فلَهِي أشدُّ كراهيةً للخروج من الجسد، من الولد حين يخرجُ من الرحم، فيبتدرونها، كلُّ ملكٍ منهم، أيُّهم يَقبِضها. فيتولَّى قبضها ملكُ الموت» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] «فيتلقَّاها بأكفانٍ بيض، ثم يحتضنها

(2)

إليه، فلهو أشدُّ لزومًا لها من المرأة إذا ولدتها. ثم يفوح منها ريحٌ أطيبُ من المسك، فيستنشقون ريحَها، ويتباشرون بها

(3)

، ويقولون: مرحبًا بالرِّيح الطيبة والرُّوح الطيِّبِ! اللهم صلِّ عليه رُوحًا، وصلِّ على جسدٍ خرجتْ منه».

قال: «فيصعَدون بها

(4)

. ولله عز وجل خلقٌ في الهواء لا يَعلَم عِدَّتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريحٌ أطيبُ من المسك، فيصلُّون عليها ويتباشرون بها. وتفتح لهم أبوابُ السماء، فيصلِّي عليها كلُّ ملك، في كلِّ سماء تمرُّ بهم، حتى يُنتهى بها

(5)

بين يدي الملك الجبَّار. فيقول الجبّارُ: مرحبًا بالنفس الطيِّبة وبجسدٍ خرجتْ منه! وإذا قال الربُّ عز وجل للشيء: مرحبًا، رحُبَ

(6)

له كلُّ شيء، ويذهب عنه كلُّ ضيق.

ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنةَ، وأرُوها مقعدَها من الجنة،

(1)

زاد في (ط): «قوله تعالى» .

(2)

(ب، ط، ج): «فيحضنها» .

(3)

«بها» لم يرد في (أ، غ).

(4)

زاد في (ط): «إلى السماء» .

(5)

زاد في (ط): «إلى» .

(6)

الضبط من (ط)، يعني: اتسع. وفي (ب): «وجب» تصحيف.

ص: 143

واعرِضوا عليها ما أعددتُ لها من الكرامة والنعيم. ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإنِّي قضيتُ أنّي منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى. فوالذي نفس محمد بيده، لهي أشدُّ كراهيةً للخروج، منها حين كانت تخرج من الجسد. وتقول: أين تذهبون بي؟ إلى ذلك الجسد الذي كنتُ فيه؟»

قال: «فيقولون: إنَّا مأمورون بهذا، فلابدَّ لك منه. فيهبطون به على قَدْر فراغِهم من غُسْله وأكفانه، فيُدخِلون [32 ب] ذلك الروحَ بين جسده وأكفانه»

(1)

.

فدلَّ هذا

(2)

الحديث أنَّ الروح تُعاد بين الجسد والأكفان. وهذا عَودٌ غير التعلُّق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوعٌ آخرُ؛ وغير تعلُّقها به

(1)

في إسناده حماد بن قيراط النيسابوريّ، قال ابن حبان في المجروحين (1/ 254):«يقلب الأخبار على الثقات، ويجيء عن الأثبات بالطامات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار، وكان أبو زرعة الرازي يمرِّض القول فيه» .

وأورد ابن عدي في الكامل (2/ 250 ــ 251) بعض مناكيره، ثم قال:«ولحماد بن قيراط غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه فيه نظر» . وتنظر ترجمته في لسان الميزان (2/ 352).

وأما شيخه وشيخ شيخه فلم أهتد إليهما.

والحديث أشار إليه ابن كثير في تفسيره (3/ 302) فقال: «وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثًا مطولاً جدًا من طريق غريبة، عن الضحَّاك، عن ابن عباس، مرفوعًا» .

وساقه السيوطي في الدر المنثور (6/ 133) بطوله وقال: «أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف» . (قالمي).

(2)

«هذا» ساقط من (ط). وفي (ن): «فثبت بهذا» .

ص: 144

حالَ النوم، وغير تعلُّقها به وهي في مقرِّها؛ بل هو عَودٌ خاصٌّ للمسألة

(1)

.

قال شيخُ الإسلام

(2)

: الأحاديثُ الصحيحة المتواترة تدلُّ على عَود الروح إلى البدن وقت السؤال. وسؤالُ البدن بلا روح قولٌ قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور. وقابلهم آخرون، فقالوا: السؤالُ للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مسرَّة

(3)

وابن حزم. وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة تردُّه، ولو كان ذلك على الروحِ فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاصٌ.

* * *

(1)

ما عدا (أ، غ): «للمساءلة» ، ورسم كالعادة بالياء.

(2)

في شرح حديث النزول. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 446). وانظر أيضًا: (4/ 262)، (5/ 525).

(3)

في (ط، ز، غ) يحتمل قراءة «ابن مرة» . وفي (ج، ن): «ابن ميسرة» ، وكذا في مجموع الفتاوى في المواضع المذكورة في الحاشية السابقة. والصواب ما أثبتنا من (أ، ب، ق) غير أن كلمة «ابن» سقطت من الأصل. ولعل المقصود هنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرّة القرطبي الصوفي المتكلم المتوفى سنة 319. انظر ترجمته في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (2/ 55). وهناك أبو الحزم وهب بن مسرّة الحجاري الحافظ الفقيه المحدث المتوفى سنة 346. وابن حزم ممن أخذ عن أصحابه. ترجمته في كتاب ابن الفرضي (2/ 207). وقد ذكر ابن حزم في الملل والنحل مذهب ابن مسرّة الصوفي في بعض المسائل لكن لم يشر إلى أن عذاب القبر عنده على الروح فقط.

ص: 145

فصل

(1)

وهذا يتضح بجواب المسألة

(2)

[الملحقة بالسادسة]، وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن، أو على النفس دون البدن، أو على البدن دون النفس؟ وهل يُشارك البدنُ النفسَ في النعيمِ والعذاب أم لا؟

وقد سُئل شيخُ الإسلام عن هذه المسألة ــ ونحن نذكر لفظَ جوابه ــ فقال

(3)

:

«بل العذابُ والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتِّفاق أهل السنة والجماعة. تُنعَّم النفسُ وتُعذَّب منفردةً عن البدن، وتُنعَّم وتُعذَّب متَّصلة بالبدن، والبدن متَّصلٌ بها، فيكون النعيمُ والعذاب عليهما في هذه الحال

(1)

كلمة «فصل» لم ترد في (ن).

(2)

كذا في جميع النسخ ما عدا (ق، ن)، ففيهما «المسألة السابعة» . واستّمرت (ن) على هذا الترقيم، فالمسألة الأخيرة التي هي الحادية والعشرون في النسخ الأخرى صارت الثانية والعشرين في (ن). أما (ق) فسارت مع (ن) إلى المسألة الثامنة، فهي عندها التاسعة، ولكن لما جاءت التاسعة في غيرها فارقت (ن)، وكتبت «التاسعة» مكررة وتابعت النسخ الأخرى. والظاهر من السياق أن الصواب مع (ن)، وحقّ هذه المسألة أن تكون مستقلّة برقمها، ولكن يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن المؤلف رحمه الله أضافها بعد إكمال الكتاب، ولم يرقِّمها في أصله، فبقيت غير مرقَّمة في النسخ المنقولة عنه أيضًا. وزيادة «السابعة» هنا من بعض النسَّاخ، ومن هنا انفردت بها (ن)، ولم تستمر عليها (ق). وقد سميتها «الملحقة بالسادسة» لتمييزها من السادسة مع الحفاظ على ترقيم المسائل في النسخ.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (4/ 282 ــ 295).

ص: 146

مجتمعَين، كما يكون للروح

(1)

منفردةً عن البدن.

وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام. وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنة والحديث: قولُ من يقول

(2)

: إنّ النعيمَ والعذابَ لا يكون إلا على الروح، وإنَّ البدنَ لا يُنعَّم ولا يُعذَّب. وهذا تقوله

(3)

الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين. ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يُقِرُّون بمعاد الأبدان، لكن يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور».

[33 أ] لكن

(4)

هؤلاء يُنكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إنَّ الأرواحَ هي المنعَّمة أو المعذَّبة في البرزخ، فإذا كان يومُ القيامة عُذِّبت الروح والبدن معًا. وهذا القول قاله طوائفُ من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيارُ ابن حزم وابن مسَرَّة

(5)

. فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذّة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويُقِرُّ بالقيامة، ويُثبِت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:

(1)

في جميع النسخ: «تكون الروح» ، وفي (ب، ز): «يكون» . والصواب ما أثبتنا من الفتاوى.

(2)

ذكر شيخ الإسلام ثلاثة أقوال شاذّة، وهذا هو الأول.

(3)

ما عدا (أ، ق)، الفتاوى:«يقوله» .

(4)

هذا تعليق ابن القيم عقّب به على كلام شيخه للتوضيح.

(5)

(أ، ط، غ): «ابن مرة» . (ن، ج): «ابن ميسرة» . وفي (ز): «مرّة» دون كلمة «ابن» . والمثبت من (ب، ق). وقد مرّ ذكره قريبًا.

ص: 147

أحدها: أنَّه على الروح فقط.

الثاني: أنَّه عليها وعلى البدن بواسطتها.

الثالث: أنَّه على البدن فقط.

وقد يُضمُّ إلى ذلك القولُ الثاني

(1)

، وهو قول من يُثبِت عذاب القبر، ويَجعل الروحَ هي الحياةَ. ويُجعَل الشاذُّ

(2)

قولَ منكر عذاب الأبدان مطلقًا، وقولَ من يُنكر عذابَ الروح مطلقًا.

فإذا جعلت الأقوال الشاذَّة ثلاثةً، فالقولُ الثاني الشاذُّ

(3)

: «قولُ من يقول: إنَّ الروحَ بمفردها لا تُنعَّم ولا تُعذَّب. وإنما الروحُ هي الحياة. وهذا يقوله طوائفُ من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أنَّ الروحَ تبقى بعد فراق البدن. وهذا قولٌ باطل، وقد خالفه أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره. بل قد ثبت بالكتابِ والسنّة واتِّفاق [سلف]

(4)

الأمة أنّ الروحَ تبقى بعد فراق البدن

(5)

، وأنّها منعَّمة أو مُعذَّبة.

والفلاسفة الإلهيون يُقِرُّون بذلك، لكن ينكرون معاد الأبدان. فهؤلاء يُقِرُّون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان. وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قولُ الفلاسفة أبعدُ عن أقوال أهل

(1)

يعني: من الأقوال الشاذّة عند شيخه.

(2)

في جميع النسخ ما عدا (ن): «الفساد» ، وهو تحريف.

(3)

انتهى تعليق ابن القيم، ورجع السياق إلى كلام شيخ الإسلام.

(4)

من مجموع الفتاوى.

(5)

«فإذا جعلت

البدن» ساقط من (ب، ط، ج).

ص: 148

الإسلام، وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنّه متمسِّك بدين الإسلام، بل من يظنُّ أنّه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام

(1)

.

والقول الثالث الشاذُّ: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقومَ الساعة الكبرى. كما يقول [33 ب] ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم، ممن ينكر عذابَ القبر ونعيمَه، بناءً على أنَّ الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأنَّ البدنَ لا يُنعَّم ولا يُعذَّب.

فجميع هؤلاء الطوائف ضُلَّال في أمر البرزخ، لكنهم خيرٌ من الفلاسفة، فإنهم مُقِرُّون بالقيامة الكبرى».

فصل

(2)

«فإذا عرَفتَ هذه الأقوالَ الباطلة

(3)

، فلتعلَمْ أنّ مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنّ الميتَ إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأنّ ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأنّ الروحَ تبقى بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذَّبة، وأنها تتَّصل بالبدن أحيانًا فيحصل

(4)

له معها النعيم أو العذاب. ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لربِّ العالمين. ومعادُ الأبدان متفقٌ عليه بين المسلمين واليهود والنصارى».

(1)

(ب، ط، ن، ج): «والتحقيق في الكلام» .

(2)

كلمة «فصل» لم ترد في (ب، ن، ج)، ولا في مجموع الفتاوى.

(3)

الفتاوى: الثلاثة الباطلة.

(4)

(ق، ط): «يحصل» .

ص: 149

فصل

(1)

«ونحن ننصر

(2)

ما ذكرناه. فأما أحاديثُ عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير، فكثيرةٌ متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في «الصحيحين»

(3)

عن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين، فقال: «إنهما لَيُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير. أما أحدُهما فكان لا يستتر

(4)

من البول، وأما الآخرُ فكان يمشي بالنميمة». ثم دعا بجريدة رَطْبة، فشقَّها نصفين، فقال:«لعله يخفَّفُ عنهما ما لم يَيْبسا» .

وفي «صحيح مسلم»

(5)

: عن زيد بن ثابت قال: بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبُرٌ ستة أو خمسة أو أربعة. فقال:«من يعرف أصحابَ هذه القبور؟» فقال رجل: أنا. قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك. فقال: «إنَّ هذه الأمةَ تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعكم من عذاب القبر الذي أسمعُ منه» . ثم أقبل علينا بوجهه، فقال:«تعوَّذوا بالله من عذاب النار» . قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال

(6)

: «تعوَّذوا بالله من عذاب القبر» . قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. [34 أ] قال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما

(1)

لا وجود لكلمة «فصل» في (ب، ن، ج) والفتاوى.

(2)

من (أ، غ). وفي (ب، ط، ن): «نبيّن» . وفي الفتاوى: «ونحن نذكر ما يبيِّن ما ذكرناه» . وفي (ق): «نضمن» . وفي (ز): «نضم» . ولعلها تصحيف «ننصر» .

(3)

البخاري (216) ومسلم (292).

(4)

(ن): «يستبرئ» .

(5)

برقم (2867).

(6)

«تعوّذوا

قال» ساقط من (ط).

ص: 150

ظهر منها وما بطن». قالوا: نعوذُ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: «تعوَّذوا بالله من فتنة الدجَّال» . قالوا: نعوذُ بالله من فتنة الدجَّال.

وفي «صحيح مسلم»

(1)

وجميع السنن

(2)

: عن أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فَرَغ أحدُكم من التشهد الأخير، فليتعوَّذ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجَّال» .

وفي «صحيح مسلم»

(3)

أيضًا وغيره

(4)

: عن ابن عبّاس أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم هذا الدعاءَ، كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن:«اللهم إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذُ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذُ بك من فتنة المسيح الدجَّال» .

وفي «الصحيحين»

(5)

: عن أبي أيوب قال: خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقد وجَبت الشمسُ، فسمع صوتًا، فقال:«يهود تُعذَّب في قبورها» .

وفي «الصحيحين»

(6)

: عن عائشة قالت: دخلتْ عليَّ عجوزٌ من عجائز

(1)

برقم (588).

(2)

أخرجه أبو داود (983) والنسائي (1309) وابن ماجه (909). وانظر: الترمذي (3604).

(3)

برقم (590).

(4)

«وغيره» ساقط من (ط). وأخرجه أبو داود (1542) والترمذي (3494) والنسائي (2062).

(5)

البخاري (1375) ومسلم (2869).

(6)

البخاري (6366) ومسلم (586). وكذا سياق الحديث في مجموع الفتاوى (4/ 286). وفي الصحيحين أن الداخلة على عائشة عجوزان.

ص: 151

يهود المدينة، فقالت: إنّ أهلَ القبور يُعذَّبون في قبورهم. قالت: فكذَّبتُها، ولم أُنعِمْ أن أُصدِّقَها. قالت: فخرجَتْ، ودخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّ عجوزًا من عجائز يهود أهل المدينة دخلتْ، فزعمتْ أنَّ أهلَ القبور يُعذَّبون في قبورهم. قال:«صدقَتْ، إنَّهم يُعذَّبون عذابًا تسمعُه البهائمُ كلُّها» . قالت: فما رأيتُه بعدُ في صلاة إلا يتعوَّذ من عذاب القبر.

وفي صحيح ابن حِبَّان

(1)

: عن أمِّ مبشِّر قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:«تعوَّذوا بالله من عذاب القبر» فقلت: يا رسول الله، وللقبر

(2)

عذاب؟ قال: «إنهم لَيعذَّبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم» .

قال بعض أهل العلم

(3)

: ولهذا السبب يذهب الناس بدوابِّهم إذا مَغِلَتْ

(4)

(1)

برقم (3125) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أمِّ مبشر. وأخرجه ابن أبي شيبة (12025)، والإمام أحمد (27044) كلاهما عن أبي معاوية به.

وإسناده جيد. أبو سفيان هو طلحة بن نافع الواسطي، وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 56): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» . (قالمي).

(2)

(ب، ط، ج): «أللقبر» .

(3)

مجموع الفتاوى: «بعضهم» . وفي تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 590): «وهذا المعنى كنت أذكره للناس، ولم أعلم أحدًا قاله. ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء» . وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 287)، (35/ 139) ومختصر الفتاوى المصرية (314) والبداية والنهاية (12/ 598).

(4)

المغَل: مَغْص يأخذ الدوابَّ عن أكل التراب (المصباح المنير). ويظهر مما ذكر هنا وفي المصادر السابقة أنه يسبّب الإمساك الشديد.

ص: 152

إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية والنُّصَيرية والقرامطة من بني عُبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإنَّ أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك، كما يقصِدون قبور اليهود والنصارى. قالوا: فإذا سمعت الخيلُ عذاب القبر أحدَثَ لها ذلك فزَعًا وحرارةً تذهب بالمَغَل

(1)

.

وقد قال عبد الحقّ الإشبيليُّ

(2)

: حدثني الفقيه أبو الحكم بن بَرَّجان

(3)

ــ وكان من أهل العلم والعمل ــ أنهم دفنوا ميتًا بقريتهم في شرق

(4)

إشبيلية. فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحيةً يتحدثون، ودابةٌ ترعى قريبًا منهم، فإذا بالدابَّة قد أقبلت مسرعةً إلى القبر، فجعلت أذنَها عليه، كأنها تستمع

(5)

، ثم ولَّت فارَّة. ثم عادت إلى القبر، فجعلت أذنها عليه، كأنها تستمع

(6)

، ثم ولَّت فارة. فعلت ذلك مرة بعد مرة.

(1)

في تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 590): «فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحلُّ بطونها، فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال» .

(2)

في كتاب العاقبة (247).

(3)

عبد السلام بن عبد الرحمن اللخمي الإشبيلي، من أهل المعرفة بالقراءات والحديث. نعته الذهبي بشيخ الصوفية. توفي سنة 536. سير أعلام النبلاء (20/ 72). و «بَرَّجان» ضبط في (ق) بضم الموحدة، وهو خطأ. انظر: وفيات الأعيان (4/ 237).

(4)

(أ، ق، ج): «شرف» . وفي (ن): «سوق» . والمثبت من غيرها. وكذا في العاقبة، وتذكرة القرطبي (408).

(5)

(ق، ن، ز، غ): «تسمع» .

(6)

ما عدا (أ، ج): «تسمع» . و «كأنها تستمع» ساقطة من (ب).

ص: 153

قال أبو الحكم: فذكرت عذاب القبر، وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم:«إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم» .

ذكَر لنا هذه الحكاية ــ ونحن نسمع عليه «كتاب مسلم» ــ لما انتهى القارئ إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم»

(1)

.

وهذا

(2)

السماع واقع على أصوات المعذَّبين. قال هنَّاد بن السَّرِيّ في كتاب «الزهد»

(3)

: ثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن شَقِيق، [عن مسروق]

(4)

عن عائشة قالت: دخلتْ عليَّ يهودية، فذكرتْ عذاب القبر، فكذَّبتُها. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ، فذكرتُ ذلك له، فقال:«والذي نفسي بيده، إنّهم ليعذَّبون في قبورهم حتى تسمعَ البهائم أصواتهم»

(5)

.

قلتُ

(6)

: وأحاديث المسألة في القبر كثيرة، كما في الصحيحين والسُّنن عن البراء بن عازب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المسلم إذا سُئِل في قبره، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]» .

(1)

في (ن): «القارئ إلى هذا الحديث» .

(2)

(ق): «فهذا» .

(3)

برقم (347). وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (1416) عن وكيع، به. وإسناده صحيح. (قالمي).

(4)

ساقط من جميع النسخ، وقد أضفناه من مصادر التخريج.

(5)

من «وقد قال عبد الحق الإشبيلي

» إلى هنا لم يرد في مجموع الفتاوى. ولعله إضافة من ابن القيم إلى كلام شيخه.

(6)

السياق موهمٌ أن القائل هنا ابن القيم، ولكن الكلام الآتي لشيخ الإسلام. وليس في الفتاوى (4/ 287):«قلت» .

ص: 154

وفي لفظ: «نزلت في عذاب القبر. يقال له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، ونبيِّي محمد

(1)

. فذلك قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} »

(2)

.

وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطوَّلاً كما تقدّم.

وقد صرح في هذا

(3)

الحديث بإعادة الروح إلى البدن، وباختلاف أضلاعه. وهذا بيِّنٌ في أنّ العذاب على الروح والبدن [35 أ] مجتمعين.

وقد روى مثلَ حديث البراء في قبض الروح والمساءلة

(4)

والنعيم والعذاب أبو هريرة ــ وحديثُه في المسند وصحيح أبي حاتم

(5)

ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميّت إذا وُضِع في قبره إنّه يسمع خفق نعالهم حين يولُّون

(1)

(أ، ق، غ): «الله ربي، ومحمد نبيّي» .

(2)

أخرجه البخاري (4699)، ومسلم (2871)، وأبو داود (4750)، والترمذي (3120)، والنسائي (2057)، وابن ماجه (4269) من حديث سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه. وهو عند البخاري وأبي داود بنحو اللفظ الأول. وعند الآخرين بنحو اللفظ الثاني. (قالمي).

(3)

لم يرد «هذا» في (ب، ط، ز، ج).

(4)

رسمها في النسخ: «المسايلة» .

(5)

أخرجه أحمد (8563) مختصرًا، وابن حبان (3113)، والحاكم (1/ 379 ــ 380) من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وأخرجه من هذا الوجه ابن أبي شيبة (12062)، وعبد الرزاق (6703)، والطبراني في الأوسط (2630) وغيرهم. وصححه الحاكم على شرط مسلم.

وقال الهيثمي في المجمع (3/ 52): «رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن» . وهو كما قال. (قالمي).

ص: 155

عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه.

فيؤتَى من قِبَل رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل. ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخل. ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل. ثم يؤتى من قِبَل رجليه، فيقول فِعْلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قِبَلي مدخل.

فيقول له

(1)

: اجلِسْ. فيجلس، قد مُثِّلتْ له الشمسُ، وقد آضَتْ

(2)

للغروب. فيقال له: هذا الرجلُ الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وما تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلِّي

(3)

. فيقولون: إنك ستصلِّي، أخبِرْنا عَمّا نسألك عنه. أرأيت هذا الرجلَ الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ فيقول: محمدٌ، أشهد أنَّه رسول الله، جاء بالحقّ من عند الله. فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبعَث إن شاء الله.

ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وما أعدَّ الله لك فيها. فيزداد غبطةً وسرورًا. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، وينَّور له فيه، ويعاد الجسد لما بُدِئ منه، وتُجعل نَسَمتُه في النَّسَم الطيِّب، وهي طير يعلُق

(4)

في

(1)

«له» ساقط من (ط).

(2)

كذا في جميع النسخ. وفي مجموع الفتاوى: «أصغت» . وفي كتاب ابن حبان: «أُدنيت» . وفي بعض المصادر: «تدانت أو دنت» . وآضت: عادت.

(3)

(ب، ط، ج): «دعوني أصلي» .

(4)

(ب، ط، ج): «تعلق» . وقد سبق تفسيره.

ص: 156

شجر الجنة». قال: «فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}» .

وذكر في الكافر ضدَّ ذلك إلى أن قال: «ثم يُضَيَّق عليه في قبره إلى أن تختلِفَ فيه أضلاعه، فتلك المعيشةُ الضَّنْكُ التي قال الله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]»

(1)

.

وفي الصحيحين

(2)

من حديث قتادة، عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الميت إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابُه [35 ب] ــ إنّه ليَسمع خفقَ نعالهم ــ أتاه ملكان فيقرِّرانِه

(3)

، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله». قال: «فيقول

(4)

: انظر إلى مقعدك من النار، قد أَبْدَلَك الله به مقعدًا من الجنة». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فيراهما جميعًا» .

قال قتادة: وذُكِر لنا أنَّه يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُملأ عليه خَضِرًا إلى يوم يبعثون. ثم رجع إلى حديث أنس. قال: «فأمّا

(5)

الكافرُ

(1)

ثم ساق شيخ الإسلام حديث البراء بطوله، ثم ذكر حديث أنس الآتي وما بعده. مجموع الفتاوى (4/ 292 ــ 295).

(2)

البخاري (1374) ومسلم (2870).

(3)

(ق): «فيقعدانه» . وهو لفظ الصحيحين. وفي النسخ الأخرى كلها ومجموع الفتاوى ما أثبتنا.

(4)

كذا في جميع النسخ والفتاوى. وغيَّره بعض القراء في (ن) إلى «فيقولان» . وفي الصحيحين: «فيقال له» .

(5)

(ب، ط، ج): «وأما» .

ص: 157

والمنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقولان: لا دريْتَ ولا تَلَيْتَ! ثم يُضرَب بمطراقٍ من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحةً، فيسمعُها مَن عليها غيرَ الثقَلَين».

وفي صحيح أبي حاتم

(1)

، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قُبِر أحدُكم أو الإنسان أتاه ملَكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكَرُ، والآخر: النَّكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فهو قائلٌ ما كان يقول. فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. فيقولان له: إنْ كنّا لَنَعلمُ أنّك تقول ذلك. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا، وينَّور له فيه، ويقال له: نَمْ. فيقول: أرجعُ إلى أهلي ومالي، فأُخبِرهم! فيقولان: نَمْ كنَومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.

وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنتُ اسمع الناس يقولون شيئًا، فكنتُ أقوله. فيقولان له: كنَّا نعلم أنَّك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التَئِمي عليه. فتلتئم

(2)

عليه، حتى تختلفَ فيها أضلاعه. فلا يزال معذّبًا حتى يبعثَه الله من مضجعه ذلك».

(1)

برقم (3117) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة.

وأخرجه من هذا الوجه الترمذي (1071)، وابن أبي عاصم في السنة (864)، والآجري في الشريعة (858)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (56). وقال الترمذي:«حسن غريب» . وينظر: السلسلة الصحيحة (1391). (قالمي).

(2)

رسم الفعلين في النسخ: التامي، تلتيم.

ص: 158

وهذا صريح في أنَّ البدن يُعذَّب

(1)

.

وعن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حُضِرَ المؤمنُ

(2)

أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي أيتها الروح الطيّبة راضيةً مرضيًّا عنكِ [36 أ] إلى رَوحٍ ورَيحانٍ وربٍّ غيرِ غضبان. فتخرج كأطيب ريح المسك، حتّى إنّه ليناولُه بعضهُم بعضًا، حتّى يأتوا به بابَ السماء، فيقولون: ما أطيبَ هذه الريحَ التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواحَ المؤمنين، فلَهم أشدُّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدَمُ عليه. فيسألونه: ماذا فعل فلان؟» قال: «فيقولون: دَعُوه يستريح، فإنه كان في غمِّ الدنيا. فإذا قال: أتاكم

(3)

، فيقولون: إنه ذُهِب به إلى أمه الهاوية

(4)

.

وإنّ الكافر إذا احتُضِر أتته ملائكة العذاب بمِسْحٍ، فيقولون: اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب الله! فتخرج كأنتَنِ ريحِ جيفةٍ، حتى

(5)

يأتوا به بابَ الأرض، فيقولون: ما أنتنَ هذه الروحَ! حتى يأتوا به أرواحَ الكفار».

رواه النسائي، والبزار، ومسلم مختصرًا

(6)

.

(1)

لفظ شيخ الإسلام: «وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك، مما يبيِّن أن البدن نفسه يعذَّب» . فاختصره المصنف كما ترى.

(2)

أي حضره الموت. وفي (ق): «احتضر» .

(3)

(ب، ط، ج): «إنه أتاكم» .

(4)

«فإذا قال

الهاوية» ساقط من (ن).

(5)

«حتى» ساقطة من (ن).

(6)

أخرجه النسائي (1833)، والبزار (8219)، وابن حبان (3014)، والحاكم (1/ 353) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة.

وأخرجه الحاكم أيضًا من طريق معمر، عن قتادة، به.

وصحَّح إسناده الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار (4392).

وقال الحاكم: «وقال همام بن يحيى عن قتادة عن أبي الجوزاء عن أبي هريرة» .

يشير بذلك إلى الاختلاف على قتادة، وما رواه عنه معمر وهشام هو الأشبه بالصواب، ولا يمنع أن يكون فيه لقتادة شيخان؛ لأن قتادة واسع الرواية وهو ممن تدور عليه الأسانيد.

وحديث همام أخرجه ابن حبان (3013) وهو الحديث التالي عند المصنف.

وحديث أبي هريرة هذا سبق تخريجه بسياق أطول من رواية سعيد بن يسار، عنه. (قالمي).

ص: 159

وأخرجه أبو حاتم في صحيحه

(1)

وقال: «إن المؤمن إذا حضره الموتُ حضرته ملائكة الرحمة. فإذا قُبض جُعلت

(2)

روحه في حريرة بيضاء، فيُنطلَق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا

(3)

ريحًا أطيب من هذه. فيقال: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقال: دعوه يستريح

(4)

، فإنَّه كان في غمِّ الدنيا. وأما الكافر إذا

(5)

قُبضت نفسُه

(6)

ذُهب بها إلى الأرض، فتقول خَزَنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتنَ من هذه، فيُبلغ بها إلى الأرض السفلى»

(7)

.

(1)

سبق تخريجه في الحاشية السابقة.

(2)

(ب، ط، ج): «وضعت» .

(3)

(ب، ط): «رحنا» .

(4)

«يستريح» ساقط من (ط).

(5)

(ب، ط، ج): «فإذا» .

(6)

(ن): «روحه» .

(7)

هنا انتهى ما نقله المصنف من كلام شيخه. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 295). وفيما بعده إلى آخر الفصل كأنه اعتمد في سياق الأحاديث على تذكرة القرطبي (323 ــ 325).

ص: 160

وروى النسائي في سننه

(1)

من حديث عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«هذا الذي تحرَّك له العرش، وفُتِحت له أبوابُ السماء، وشهد له سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضَمَّةً، ثم فُرِّج عنه» . قال النسائي: يعني سعد بن معاذ

(2)

.

ورَوَى

(3)

من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للقبر ضغطةٌ لو

(1)

برقم (2055) عن إسحاق بن إبراهيم (هو ابن راهويه)، عن عمرو بن محمد العنقزيّ، عن عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه من هذا الوجه أيضًا الطبراني في الكبير (1707) والأوسط (5333). وقال: «لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله إلا ابن إدريس» .

وإسناده صحيح. رجاله رجال الصحيح.

وينظر: السلسلة الصحيحة (1695). (قالمي).

(2)

لم أجده في السنن. وقال السيوطي في شرحه: «زاد البيهقي في كتاب عذاب القبر [109]: يعني سعد بن معاذ» .

ولكن كذا وقع في تذكرة القرطبي (323)، فلعله وهم في عزو ما قاله البيهقي إلى النسائي، وتابعه المصنف.

(3)

ضبط في (ب): «رُوي» . ولكن قال المصنف فيما بعد: «رواه» . والسياق موهمٌ أن هذا الحديث أيضًا رواه النسائي. والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي، والقرطبي صادر عن كتاب العاقبة (244).

والسياق في العاقبة: «وذكر النسائي عن ابن عمر

ومن حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين

وذكر مسلم من حديث عبد الله بن عمر». فذكرُ حديث شعبة بعد النسائي وقبل مسلم قد يُوهم أن حديث شعبة أيضًا من كتاب النسائي. وسياق القرطبي في التذكرة (323): «النسائي عن عبد الله بن عمر

ومن حديث شعبة

» إلخ. فتابع عبد الحق بالنص. وليس فيه تصريح بأن حديث شعبة رواه النسائي، خلافًا لابن القيم الذي تصرَّف في النقل، فقال:«رواه من حديث شعبة» ، فصرَّح بأنه رواه النسائي، إذ لا مرجع للضمير غيره؛ إلا أن يقال: إن الفاعل سقط من النسخ، وكان في أصل المصنف مثلاً:«رواه [أحمد] من حديث شعبة» . والله أعلم.

ص: 161

نجا منها أحد لنجا منها سعدُ بن معاذ». رواه من حديث شعبة

(1)

.

وقال هنَّاد بن السَّرِيّ

(2)

: حدثنا محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن ابن أبي مُليَكة قال: ما أُجِيرَ من ضغطة القبر أحدٌ، ولا سعدُ بن معاذ الذي منديلٌ من مناديله خيرٌ من الدنيا وما فيها.

(1)

أخرجه البغوي في الجعديات (1566)، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (897 ــ مسند عمر بن الخطاب)، وابن حبان (3112)، والبيهقي في شعب الإيمان (396)، وفي إثبات عذاب القبر (119، 120) من طرق عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن صفية امرأة ابن عمر، عن عائشة.

وأخرجه الإمام أحمد (24283) من طريقين عن شعبة، فقال في الأولى:«عن نافع عن عائشة» ولم يذكر الواسطة، وقال في الأخرى:«عن إنسان عن عائشة» ولم يسمه.

وقال الحافظ العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء (4466): «رواه أحمد بإسناد جيد» .

ولكن علم من رواية الجماعة عن شعبة أن نافعًا يرويه عن عائشة بواسطة صفية امرأة ابن عمر.

وإسناده صحيح. رجاله رجال الصحيح. (قالمي).

(2)

في كتاب الزهد (356).

ص: 162

قال

(1)

[36 ب]: وحدثنا عَبْدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع قال: لقد

(2)

بلغني أنه شهد جنازة سعدِ بن معاذ سبعون ألفَ ملَك لم ينزلوا إلى الأرض قطُّ. ولقد بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد ضُمَّ صاحبُكم في القبر ضمَّةً» .

وقال علي بن معبد

(3)

:

حدّثنا عبيد الله، عن زيد

(4)

بن أبي أُنَيْسة، عن جابر، عن نافع قال: أتينا صفيةَ بنت أبي عبيد امرأةَ عبد الله بن عمر، وهي فَزِعةٌ

(5)

، فقلنا: ما شأنُك؟ فقالت: جئت من عند بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فحدَّثتني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنْ كنت لأرى لو أنَّ أحدًا أُعْفِيَ من عذاب القبر لعُوفيَ

(6)

منه سعدُ بن معاذ. لقد ضُمَّ فيه ضَمَّةً»

(7)

.

(1)

في كتاب الزهد (358). ورجاله ثقات ولكنه مرسل. وعبدة هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. (قالمي).

(2)

«لقد» ساقط من الأصل.

(3)

في (ب، ن): «علي بن سعيد» . وهو تحريف. والآثار الثلاثة الآتية خرَّجها القرطبي في التذكرة (324) من كتاب «الطاعة والمعصية» لعلي بن معبد، غير أنه حذف أسانيدها. أما المصنف فساقها بأسانيدها ولكن لم يصرّح باسم الكتاب.

وهو علي بن معبد بن شدَّاد العبدي أبو الحسن ــ ويقال: أبو محمد ــ الرَّقِّي نزيل مصر. توفي سنة 218. انظر: تهذيب التهذيب (7/ 384). وكتابه «الطاعة والمعصية» ذكره ابن خير في فهرسته (272) وابن حجر في المعجم المفهرس (92).

(4)

(أ، ن): «يزيد» ، تحريف.

(5)

(ق): «خزاعة» .

(6)

في جميع النسخ والتذكرة هنا: «لعفي» ، ولعله تصحيف سماعي لما أثبتنا من الأوسط للطبراني (1159) وحلية الأولياء (3/ 174).

(7)

أخرجه الطبراني في الأوسط (1159) قال: حدثنا أحمد (هو ابن داود المكي) ثنا عبيد الله (هو ابن عمرو الرقي) بإسناده. وفيه جابر وهو ابن يزيد الجعفي وهو متروك.

وقال الهيثمي في المجمع (3/ 47): «وهو مرسل وفي إسناده من لم أعرفه» . كذا قال! ولم يتبين لي وجه الإرسال فيه؛ لأنه من رواية نافع عن صفية، عن بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان على مذهب من يسمي حديث الصحابي المبهم مرسلاً كالبيهقي وغيره. وقد سبق في رواية سعد بن إبراهيم أنّ نافعًا يرويه عن صفية، عن عائشة رضي الله عنها. وقوله رحمه الله:«وفي إسناده من لم أعرفه» كذا ولعله يعني شيخ الطبراني وإلا فرواته معروفون بالثقة سوى جابر الجعفي فهو معروف بالضعف. والله أعلم. (قالمي).

ص: 163

وحدثنا مروان بن معاوية، عن العلاء بن المسيّب، عن معاوية العبسي، عن زاذان أبي عمر

(1)

، قال: لما دَفَن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتَه جلس عند القبر، فتربَّد وجهُه، ثم سُرِّي عنه. فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفًا، ثم سُرِّي عنك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ذكرت ابنتي وضعْفَها وعذابَ القبر، فدعوت الله، ففرَّج عنها. وَايم الله لقد ضُمَّت ضَمَّةً سمعها مَن بين الخافقين»

(2)

.

(1)

(ب): «أبي عمرو» . (ز): «بن عمر» . وفي غيرهما: «بن عمرو» . والصواب ما أثبتنا. وكذا في التذكرة.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في اللآلئ المصنوعة (2/ 434) عن مروان بن معاوية بإسناده. ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1518)، وفي الموضوعات (3/ 233).

وهو مرسل، زاذان أبو عمر ذكره ابن سعد في الطبقات (6/ 178) في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال:«كان ثقة قليل الحديث» ، ووثقه أيضًا ابن معين والخطيب وغيرهما. (انظر: تهذيب التهذيب 3/ 303). وأما معاوية العبسي فلم أظفر له بترجمة.

وله شاهد من حديث أنس. أخرجه الطبراني في الأوسط (5810) من طريق زكريا بن سلام، عن سعيد بن مسروق عن أنس.

قال الحافظ ابن رجب في أهوال القبور (ص 116): «وزكريا قيل: إنه مجهول، وسعيد بن مسروق لم يُدرك أنسًا فهو منقطع» .

وله طريق أخرى من رواية الأعمش، لكن اختُلف عليه كثيرًا كما شرح ذلك أبو الحسن الدارقطني في العلل (12/ 251) ثم قال:«والحديث مضطرب عن الأعمش» .

ونقله عنه ابن الجوزي في الموضوعات وقال: «هذا حديث لا يصح من جميع طرقه» . (قالمي).

ص: 164

وحدثنا شعيب، عن ابن دينار

(1)

، عن إبراهيم الغنَوي، عن رجل قال: كنت عند عائشة، فمرَّت جنازة صبيٍّ، فبكت، فقلت لها: ما يُبكيكِ يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيتُ له شفقةً عليه من ضمَّة القبر.

ومعلوم أنَّ هذا كلَّه للجسد

(2)

بواسطة الروح.

فصل

وهذا كما أنَّه مقتضَى السنّة الصحيحة، فهو متفق عليه بين أهل السنة.

قال المرُّوذي: قال أبو عبد الله: عذابُ القبر حقٌّ لا ينكره إلا ضالٌّ مُضِلّ

(3)

.

وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديثُ

(1)

في (ب، ط، ج): «سعيد» موضع «شعيب» . وفي (ن): «حدثنا سعيد بن دينار» . وعزاه ابن رجب في الأهوال (61) إلى هناد بن السري عن سعيد بن دينار. ولم أجده في كتاب الزهد لهناد.

(2)

«للجسد» ساقط من (ط).

(3)

طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 149).

ص: 165

صحاحٌ نؤمن بها، ونُقِرُّ بها. كلُّ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسنادُه جيِّدٌ

(1)

أقررنا به. إذا لم نُقِرَّ بما جاء به الرسول، ودفَعناه، وردَدْناه= رددنا على الله أمرَه. قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. قلت له: وعذابُ القبر حقٌّ؟ قال: حقٌّ، يعذَّبون في القبور.

قال

(2)

: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير، وأنَّ العبد يُسأل في قبره فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في القبر

(3)

.

وقال أحمد بن القاسم

(4)

: قلتُ: يا أبا عبد الله، تُقِرُّ بمنكر ونكير، وما يروَى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان الله! نعم، نُقِرُّ بذلك، ونقوله. قلت: هذه اللفظة نقول

(5)

: «منكَر ونكير» هكذا، أو نقول ملكين؟ قال: منكر ونكير. قلت: يقولون ليس في حديثٍ منكر ونكير. قال: هو هكذا. يعني: أنهما منكر ونكير.

(1)

في النسخ كلها ما عدا (ن): «إسنادٌ جيِّدٌ» . وقد ضبط في الأصل بتنوين الكلمتين. وكذا نقله من كتاب الروح المنبجي في تسلية أهل المصائب (285) والسفاريني في لوامع الأنوار (2/ 23). ولعل صوابه ما أثبتناه من حادي الأرواح للمصنف (708). وفي (ن): «بإسناد جيد» . وكذا في مجموع الفتاوى (6/ 500) في جواب أبي عبد الله عن سؤال حنبل في مسألة الرؤية. وفي كتاب اللالكائي (889): بأسانيد جيدة.

(2)

نقله المنبجي في تسلية المصائب (285) والسفاريني في لوامع الأنوار (2/ 23).

(3)

«في القبر» ساقط من (ن). وقد سبق أن الآية نزلت في عذاب القبر.

(4)

ذكره بنحوه ابن أبي يعلى في ترجمته في طبقات الحنابلة (1/ 135).

(5)

كذا في (ط، ع) بالنون «نقول» هنا وفيما بعد. وفي غيرهما لم ينقط.

ص: 166