المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌للروح(5)شأن آخر غير شأن البدن - الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

الفصل: ‌للروح(5)شأن آخر غير شأن البدن

ففي هذا الحديثِ بيانُ سرعة انتقال [65 ب] أرواحهم من العرش إلى الثَّرى، ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها

(1)

. ولهذا قال مالك وغيرُه من الأئمة: إنَّ الروحَ مرسَلةٌ تذهب حيث شاءت

(2)

. وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمرٌ يعلمه عامّة الناس، ولا يشكُّون فيه. والله أعلم.

وأما السلامُ على أهل القبور وخطابُهم فلا يدلُّ على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور، فهذا سيِّدُ ولد آدم الذي روحه في أعلى علِّيين مع الرفيق الأعلى يُسلَّم عليه عند قبره، ويرُدُّ سلام المسلِّم عليه.

وقد وافق أبو عُمر رحمه الله على أنَّ أرواح الشهداء في الجنَّة، ويسلَّم عليهم عند قبورهم، كما يسلَّم على غيرهم، كما علَّمَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نسلِّم عليهم؛ وكما كان الصحابة يسلِّمون على شهداء أحد، وقد ثبت أنَّ أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدَّم

(3)

.

ولا يضيق

(4)

عَطَنُك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المسلِّم عليها عند قبرها، وتدنو حتى ترُدَّ عليه السلام، ف‌

‌للروح

(5)

شأن آخر غيرُ شأن البدن

. وهذا جبريل صلوات الله

(1)

(ب، ط، ج): «أماكنها» .

(2)

تقدّم في أول هذه المسألة.

(3)

من حديث ابن مسعود، ضمن ما احتجّ به القائلون بأن أرواح المؤمنين في الجنة.

(4)

كذا في جميع النسخ: «يضيق» بإثبات الياء. والخبر بمعنى الطلب، كما في الحديث الآتي في (ص 372):«لا يصلي أحد على أحد ولا يصوم أحد عن أحد» .

(5)

ما عدا (ن): «وللروح» .

ص: 308

وسلامه عليه رآه النبيُ صلى الله عليه وسلم، وله ستمائة جناحٍ، منها جناحان قد سدَّ بهما

(1)

ما بين المشرق والمغرب. وكان يدنو

(2)

من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع ركبتيه بين

(3)

ركبتيه، ويديه على فخذيه. وما أظنك يتسع بِطانُك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات ــ حيث هو مستقرُّه ــ وقد دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنوَّ، فإنَّ التصديق بهذا له قلوبٌ خُلِقت له وأهِّلت لمعرفته. ومن لم يتَّسع بطانه لهذا فهو أضيَقُ

(4)

أن يتسع للإيمان بالتنزّل

(5)

الإلهي إلى سماء الدنيا كلَّ ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه، لا يكونُ فوقه شيء البتَّة

(6)

، بل هو العالي على كلِّ شيء، وعلوُّه من لوازم ذاته.

وكذلك دنوُّه عشيَّةَ عرفة من أهل الموقف

(7)

. وكذلك مجيئُه يوم

(8)

القيامة لمحاسبة خلقه، وإشراقُ الأرض بنوره. وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها، وسوَّاها، ومدَّها، وبسطها، [66 أ] وهيَّأها لما يرادُ منها. وكذلك مجيئه إليها قبل يوم القيامة حين

(9)

يقبض مَن عليها، ولا يبقى بها أحد؛ كما

(1)

(ق): «قد مدّهما» .

(2)

«يدنو» ساقط من (ق).

(3)

(ق، ن): «على» .

(4)

(أ، غ): «ضيق» ، خطأ.

(5)

(ق): «بالنزل» . (ج، غ): «بالتنزيل» . وكلاهما تصحيف.

(6)

«البتة» ساقط من (ن).

(7)

أخرجه مسلم (1348) من حديث عائشة.

(8)

«ذاته

يوم» ساقط من (ب).

(9)

(ب، ط، ج): «حتى» .

ص: 309

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأصبح ربُّك يطوف في الأرض، وقد خلت عليه البلاد»

(1)

.

هذا وهو فوق سماواته على عرشه.

(1)

قطعة من حديث أخرجه بطوله ابن أبي عاصم في السُّنة (636) عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن المنتفق العقيلي، عن جدّه عبد الله، عن عمِّه لقيط بن عامر بن المنتفق.

قال دلهم: وحدثني أيضًا أبي الأسود بن عبد الله، عن عاصم بن لقيط بن عامر: أن لقيط بن عامر خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق

الحديث.

ومن هذا الوجه أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (16206) وفي كتابه السُّنة (1120) إلا أنه قال: «عن أبيه» بدل «عن جده» .

وبالإسناد الثاني أخرجه الطبراني في الكبير (477) ج 19 إلا أنه قال: «عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط» وسقط منه «عن أبيه» . وإسناده مسلسل بالمجاهيل؛ عبد الرحمن بن عياش، ودلهم بن الأسود، وأبوه لا يعرفون إلا بهذا الحديث، وذكرهم ابن حبان في ثقاته (7/ 71، 6/ 291، 4/ 32) على قاعدته في توثيق من لم يعرف فيه جرح، وهي قاعدة مردودة عند عامة أهل الحديث؛ ولذلك أوردهم جميعًا الحافظ الذهبي في الميزان (2/ 580، 2/ 28، 1/ 256) وقال في دلهم بن الأسود: «لا يعرف» . وأما جدُّه عبد الله بن حاجب العقيلي فلم يذكره ابن حبان في الثقات ولذا قال الحافظ في التقريب: «مجهول» . والإسناد الثاني علاوة على ما فيه من مجاهيل فهو مرسل.

والحديث ساقه بتمامه وطوله ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 80 ــ 82) ثم قال عَقِبه: «هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة» . (قالمي).

وانظر ما قاله المصنف في زاد المعاد (3/ 677) وحادي الأرواح (536) في تصحيحه. (الإصلاحي).

ص: 310

فصل

ومما ينبغي أن يُعلَم أنَّ ما ذكرناه من شأن الروح يختلفُ بحسَب حال الأرواح، مِن

(1)

القوة والضعف، والكِبَر والصغر. فللروح العظيمة الكبيرة

(2)

من ذلك ما ليس لمن هو دونها

(3)

. وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوتُ أعظمَ تفاوت بحسَب تفاوت

(4)

الأرواح في كيفيَّاتها، وقواها، وبِطائها

(5)

وإسراعها، والمعاونة

(6)

لها.

فللروح المطلَقة من أَسْر البدن وعلائقه وعوائقه مِن التصرُّف والقوة والنَّفاذ والهمَّة وسرعة الصعود إلى الله والتعلُّق بالله ما ليس للروح المَهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه. فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها، فكيف إذا تجرَّدت، وفارقته، واجتمعت فيها قواها، وكانت في أصل شأنها روحًا عليِّة زكيَّة كبيرة ذات همّة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن

(7)

شأنٌ آخر، وفعلٌ آخر.

وقد تواترت الرُّؤيا من أصناف

(8)

بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها

(1)

(ب، ط، ن، ج): «في» .

(2)

«الكبيرة» ساقط من (ن).

(3)

(ن): «لمن دونها» بإسقاط «هو» .

(4)

ساقط من (أ، غ).

(5)

كذا في الأصل (أ، غ). والبطاء مصدر كالبطء. وفي غيرهما: «إبطائها» .

(6)

(ب، ج): «المعاوق» وهو: المانع. (ن): «العارف» ، وهذا تصحيف.

(7)

(ن): «مفارقتها للبدن» .

(8)

«أصناف» ساقط من (ن).

ص: 311

ما لا تقدِرُ

(1)

على مثله حالَ اتصالها بالبدن، من هزيمةِ الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك. وكم قد رُئِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزَمتْ أرواحُهم عساكرَ الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبةً

(2)

مكسورة، مع كثرة عَدَدهم وعُدَدهم

(3)

، وضعف المؤمنين وقلَّتهم.

ومن العجب أنَّ أرواحَ المؤمنين المتحابِّين المتعارفين تتلاقَى وبينها أعظم مسافة وأبعدها، فتتشامُّ

(4)

، وتتعارف، فيعرف بعضُها بعضًا كأنه جليسُه وعشيرُه. فإذا رآه طابقَ ذلك ما كان عرفَتْه به روحه قبل رؤيته.

قال عبد الله بن عمرو: إنَّ أرواح المؤمنين تتلاقَى على مسيرة يوم، وما رأى أحدهما صاحبه قطُّ. ورفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(1)

ضبط في (ن): «يُقدَر» .

(2)

كذا في (أ، غ). وفي غيرها: «مفلولة» .

(3)

«وعُددهم» ساقط من (ب، ج).

(4)

في (أ، ق، ن، غ): «فتتسالم» . والصواب ما أثبتنا من (ط). وكذا في (ب) ولكن بعضهم زاد همزة مفتوحة قبل الميم. وفي (ج): «هشام» . والتشامّ: التقارب والتعارف. وقد ورد في حديث تقدَّم.

(5)

المرفوع أخرجه الإمام أحمد في المسند (6636، 7048)، والبخاري في الأدب المفرد (261)، وأبو يعلى كما في إتحاف الخيرة المهرة (7362، 7363) من طريق درّاج أبي السّمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ودرّاج وثقه ابن معين، وضعّفه الجمهور، فقال الإمام أحمد: حديثه منكر، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في موضع: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: في حديثه ضعف، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال في موضع آخر: متروك. انظر: تهذيب التهذيب (3/ 208 ــ 209). وانظر: السلسلة الضعيفة (1947). (قالمي).

ص: 312

وقال عكرمة ومجاهد: إذا نام [66 ب] الإنسانُ فإنَّ له سببًا تجري فيه الروح، وأصلُه

(1)

في الجسد، فتبلغ حيث شاء الله. فما دام

(2)

ذاهبًا فالإنسانُ نائمٌ، فإذا رجعَ

(3)

إلى البدن انتبه الإنسان. وكان بمنزلة شعاع الشمس، هو ساقطٌ بالأرض، وأصلُه مُتَّصِلٌ بالشمس

(4)

.

وقد ذكر أبو عبد الله بن منده عن بعض أهل العلم

(5)

أنه

(6)

قال: إنَّ الروحَ

(7)

تمتدُّ من منخر الإنسان، ومركبُه وأصلُه

(8)

في بدنه، فلو خرج الروحُ بالكلّية لمات؛ كما أنّ السِّراجَ لو فُرِّق بينه وبين الفتيلة لطفئتْ. ألا ترى أنَّ

(9)

مركبَ النار في الفتيلة، وضَوْؤها وشعاعها يملأ البيت؟ فكذلك الروحُ تمتدُّ من منخر الإنسان في منامه حتى تأتي السماء، وتجول في البلدان، وتلتقي مع أرواح الموتى، فإذا أراه

(10)

الملَك الموكَّلُ بأرواح

(1)

(ب، ط، ن، ج): «داخله» ، تصحيف.

(2)

(أ، ق، غ): «ما دام» . والمثبت من غيرها ومجموع الفتاوى، وشرح الصدور (357).

(3)

(ب، ط): «راجع» .

(4)

قول عكرمة ومجاهد هذا نقله شيخ الإسلام في شرح حديث النزول، ولعل مصدره كتاب النفس والروح لابن منده. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 457).

(5)

هو علي بن يزيد السمرقندي. قال ابن منده: وكان من أهل العلم والأدب، وله بصر بالطب والتعبير. مجموع الفتاوى (5/ 457).

(6)

«أنه» ساقطة من (ب، ط، ج).

(7)

(ب): «قال الأرواح» .

(8)

(ب، ن، ج): «داخله» ، تحريف.

(9)

«أن» ساقطة من (ط).

(10)

(ن، ق): «رآه» .

ص: 313

العباد ما أحبَّ أن يُريَه، وكان المرأ

(1)

في اليقظة عاقلاً ذكيًّا صَدوقًا لا يلتفت في يقظته إلى شيء من الباطل= رجع إليه روحُه، فأدَّى إلى قلبه الصِّدقَ مما أراه الله عز وجل على حسب خلقه. وإن كان خفيفًا نَزقًا يُحبُّ الباطل والنظرَ إليه، فإذا نام وأراه الله أمرًا من خيرٍ أو شرٍّ= رجعت روحُه إليه، فحيثما رأى شيئًا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفتْ روحُه عليه، كما تقف في يقظته، فكذلك يؤدي

(2)

إلى قلبه، فلا يعقل ما رأى؛ لأنه خَلَطَ الحقَّ بالباطل، فلا يمكن معبِّرًا

(3)

أن يعبِّر له، وقد خلط الحق بالباطل

(4)

.

وهذا من أحسن الكلام، وهو دليل على معرفة قائله

(5)

وبصيرته بالأرواح وأحكامها. وأنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شيء له، ثم يمرُّ بباطل ولهو من غناءٍ أو شبهة

(6)

أو زور أو غيره، فيصغي إليه، ويفتحُ له قلبه حتى يتأدَّى

(7)

إليه، فيتخبَّط عليه ذلك الذي سمعه

(8)

مع العلم والحكمة، ويلتبس

(9)

عليه الحقُّ بالباطل.

(1)

(ق): «الرائي» .

(2)

(أ، ق، ن): «لا يؤدي» . والمثبت من غيرها ومجموع الفتاوى.

(3)

ما عدا (ج): «معبِّرٌ» ، وهو خطأ.

(4)

«فلا يمكن

بالباطل» ساقط من (ب). وانظر النصَّ في مجموع الفتاوى (5/ 357).

(5)

في (ط، ن) غيّر بعضهم إلى «قابليته» !

(6)

في (ب، ج): «شبه» ، وفي (ط) بالمهملة وتشديد الباء.

(7)

(ب، ط، ج): «يبادر» . (ن): «يُنادى» وكلاهما تصحيف.

(8)

(ب، ن، ج): «يسمعه» .

(9)

(ن): «يُلبس» .

ص: 314

فهكذا شأن الأرواح عند النوم

(1)

. وأما بعد المفارقة فإنها تُعَذَّب بتلك الاعتقادات والشُّبه الباطلة التي كانت حظَّها

(2)

حال اتصالها بالبدن. وينضافُ إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينها

(3)

وبينها. وينضاف إلى ذلك

(4)

عذابٌ آخر يُنشئه الله لها ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها. وهذه هي المعيشةُ الضَّنْك [67 أ] في البرزخ، والزاد الذي تزودته

(5)

إليه.

والروحُ الزكية العُلْوية المحِقَّة التي لا تُحبُّ الباطلَ ولا تألفه بضدِّ ذلك كلِّه. تَنعَّمُ بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقّتها

(6)

من مشكاة النبوة، وتلك الإرادات والهمم الزَّكية. وينشئُ الله لها من أعمالها نعيمًا يُنعِّمها

(7)

به في البرزخ، فتصيرُ

(8)

لها روضةً من رياض الجنة؛ وكذلك

(9)

حفرة من حفر النار.

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «في النوم» . وفي طرّة (ط) ذكر ما أثبتنا من غيرها.

(2)

(ن): «جَنَتْها» .

(3)

(ط): «بينه» وسقط من (ق)«بينها» الثانية.

(4)

(ط): «ويضاف إلى ذلك» . وقد سقط من (ب): «عذابها

ذلك».

(5)

(أ، ج، غ): «يزود به» . (ب): «تزود به» . (ق): «تردد به» . والصواب المثبت من (ط، ن) و «إليه» بعده ساقط من (ن).

(6)

(أ، غ): «تلقيها» ، تصحيف. وفي (ن):«بُلِّغَتْها» ، هكذا مضبوطًا.

(7)

(ب، ط): «تتنعّم» . (ج): «يتنعّم» . (ن): «تَنَعَّمُ» .

(8)

(ق): «تصير» يعني الأعمال. وفي (ب، ط، ن، غ): «يصير» يعني البرزخ. وفي الأصل بالتاء والياء جميعًا.

(9)

كذا في جميع النسخ. يعني: وكذلك ينشئ الله من أعمال الروح السفلية المبطلة عذابًا يعذِبها به في البرزخ، فتصير لها حفرة من حفر النار. وفي النسخ المطبوعة التي بين يديّ:«ولتلك» .

ص: 315

فصل

وأما قول

(1)

من قال: أرواحُ المؤمنين عند الله تعالى، ولم يزد على ذلك؛ فإنه تأدَّبَ مع لفظ القرآن، حيث يقول الله عز وجل:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وقد احتجَّ أربابُ هذا القول بحُجج، منها: ما رواه محمد بن إسحاق الصَّغَاني

(2)

، ثنا يحيى بن أبي بُكير

(3)

، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء

(4)

، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الميتَ إذا خرجت نفسُه يُعرَج بها إلى السماء حتى يُنتهى بها

(5)

إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجلُ السوءُ يُعرجَ بها إلى السماء، فإنه لا يُفتَح لها أبواب السماء، فترسَل من السماء، فتصير

(6)

إلى القبر».

(1)

«قول» ساقط من (ب، ط، ج، ن).

(2)

في (أ، غ): «الصنعاني» ، تحريف. وقد تحرّف من قبل في جميع النسخ إلى الصفار.

(3)

(ب، ج، ط، ن): «أبي بكر» ، تحريف.

(4)

زاد في (ب، ط) بعده: «عن عطاء» ، وهو خطأ.

(5)

«بها» ساقطة من (ب، ج).

(6)

«فترسل

فتصير» كذا في (ط، ج، ن). وفي الأصل: «فيرسل

فيصير». وفي (ب): «فترسل

فيصير».

ص: 316

وهذا إسنادٌ لا تَسألْ

(1)

عن صحته، وهو في مسند أحمد وغيره

(2)

.

وقال أبو داود الطيالسيُّ

(3)

: ثنا حماد بن سلَمة: عن عاصم بن بَهْدلة، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري قال: تخرج روح المؤمن

(4)

أطيبَ من ريح المسك، فتنطلق

(5)

بها الملائكة الذين يتوفَّونه، فتتلقاه الملائكة

(6)

من دون السماء، فيقولون: هذا فلان بن فلان، كان يعمل كَيْتَ وكيت ــ لمحاسن

(7)

عمله ــ فيقولون: مرحبًا بكم وبه! فيقبضونها منهم، فيُصعَد به من الباب الذي كان يَصعَد منه عمله

(8)

، فتشرق في السماوات

(9)

ولها برهانٌ كبرهان الشمس، حتى ينتهي

(10)

إلى العرش.

(1)

(ب، ط، ن): «يُسأل» . وانظر ما سبق من قول أبي نعيم في الإسناد.

(2)

تقدَّم الحديث في المسألة السادسة (ص 141) من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، وثَمَّ تخريجه.

(3)

ليس في المطبوع من مسنده. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12187) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (199) من غير هذا الطريق وبلفظ مختلف. وعزاه ابن رجب في الأهوال (106) والسيوطي في شرح الصدور (104) إلى اللالكائي أيضًا. وليس في كتابه المطبوع.

(4)

ما عدا (أ، غ): «نفس المؤمن» . وأشير إلى هذه النسخة في حاشية (ط) أيضًا.

(5)

(ن): «ينطلق» .

(6)

(أ، غ): «فيتلقاه

». (ب، ط): «فتلقاهم ملائكة» . (ن، ج): «فيتلقاهم» .

(7)

(ب، ط، ن): «بمحاسن» .

(8)

«فيقولون

عمله» ساقط من (ن).

(9)

(ن): «السماء» . و «في» ساقطة من (ب).

(10)

(غ): «تنتهي» . ولم ينقط أوله في (ب، ق).

ص: 317

وأما الكافرُ، فإذا قُبض اُنطُلِق بروحه، فيقولون: ما هذا؟ فيقولون: هذا

(1)

فلان بن فلان، كان يعمل كيت وكيت ــ لمساوي

(2)

عمله ــ فيقولون: لا مرحبًا! لا مرحبًا! رُدُّوه إلى أسفل الأرض

(3)

إلى الثرى.

وقال المكّي

(4)

بن إبراهيم، عن داود بن [67 ب] يزيد الأودي

(5)

، قال: أراه عن عامر الشعبي، عن حذيفة بن اليمان، أنه قال: الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعدها

(6)

حتى يُنفَخ فيها

(7)

.

وذكر سفيان بن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه أنه

(8)

دخل ابن عمر المسجد بعد قتل

(9)

ابن الزبير، وهو مصلوب، فأتى أسماء يعزِّيها، فقال لها: عليكِ بتقوى الله والصبر، فإنَّ هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله. فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل

(10)

.

(1)

«هذا» ساقط من (ب، ط، ن). ومكانها في (ج): «روح» .

(2)

(ب، ط، ن): «بمساوي» .

(3)

ما عدا (أ، ق، غ): «الأرضين» .

(4)

ما عدا (أ، ق، غ): «مكي» ، دون لام التعريف.

(5)

(ق): «الأزدي» ، تصحيف.

(6)

ما عدا (أ، ق، غ): «فتنظر موعودها» .

(7)

(ب، ط): «في الصور» . والأثر أخرجه ابن منده. عزاه إليه ابن رجب في الأهوال (115) وقال: هذا إسناد ضعيف. وانظر: شرح الصدور (331).

(8)

«أنه» ساقط من (ب، ط، ج).

(9)

(ب، ط، ن): «أن قُتِل» .

(10)

سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 123).

ص: 318

وذكر جريرٌ، عن الأعمش، عن شِمْر بن عطية، عن هلال بن يساف

(1)

، قال: كنَّا جلوسًا إلى كعب، والربيع بن خُثَيم

(2)

، وخالد بن عَرْعَرة في أناس، فجاء ابن عبَّاس فقال: هذا ابنُ عمِّ نبيِّكم. قال: فأوسعَ له، فجلس

(3)

فقال: يا كعب، كلُّ ما في القرآن قد عرفتُ غيرَ أربعة أشياء، فأخبرني عنهن: ما سجِّين؟ وما علِّيون؟

(4)

وما سِدرة المنتهى؟ وما قول الله لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]؟

قال: أما عِلِّيُّون، فالسماء السابعة، فيها أرواح المؤمنين. وأما سِجِّين، فالأرض السابعة السفلى، وأرواح الكفار تحت خدِّ إبليس

(5)

.

وأما قول الله سبحانه لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، فإنَّ الله أوحى إليه أنّي رافعٌ لك كلَّ يوم مثل أعمال بني آدم. وكلَّم صَديقًا له من الملائكة أن يُكلِّم له ملَكَ الموت، فيؤخِّرَه حتى يزدادَ عملاً، فحمله بين جناحيه، فعرج به. حتى إذا كان في السماء الرابعة لقيه ملَكُ الموت، فكلَّمه في حاجته، فقال: وأين هو؟ قال: هو ذا بين جناحيَّ. قال: فالعجبُ أنِّي أُمِرتُ أن أقبض روحَه في السماء الرابعة. فقبض روحه

(6)

.

(1)

(ن): «يسار» ، تحريف.

(2)

(ق، ب، ن): «خَيثم» ، تصحيف.

(3)

(ق): «في المجلس» .

(4)

(أ، غ): «عليين» .

(5)

هذا الجزء من الجواب قد سبق في أول هذه المسألة.

(6)

«فقبض روحه» ساقط من (ن). وأخرج الطبري هذا الجزء في تفسيره (15/ 562 ــ 563). وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} : «وقد روى ابن جرير هنا أثرًا غريبًا عجيبًا» وبعد ما أورده قال: «هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة» . تفسير ابن كثير (3/ 123).

ص: 319

وأما سِدرة المنتهى فإنها سِدرة على رؤوس حَمَلة العرش، ينتهي إليها علمُ الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها علمٌ، فلذلك سُمِّيتْ سدرة المنتهى

(1)

.

قال ابن منده: ورواه وهب بن جرير، عن أبيه، ورواه يعقوب القُمِّي عن شِمْر

(2)

. ورواه خالد بن عبد الله، عن العوَّام بن حَوشَب، عن القاسم بن عوف، عن الربيع بن خُثَيم، قال: كنَّا جلوسًا عند كعب، فذكره [68 أ].

وذكر يعلى بن عبيد، عن الأجلَح، عن الضحَّاك قال: إذا قُبِض روحُ العبد المؤمن عُرِج به إلى السماء الدنيا، فينطلق معه المقرَّبون إلى السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، حتى يُنتهى به إلى سدرة المنتهى. قلت للضحّاك: لِمَ سُمِّيت سدرة المنتهى؟ قال: لأنه ينتهي إليها كلُّ شيء من أمر الله عز وجل لا يعدُوها. فيقول: ربِّي

(3)

عبدك فلان، وهو أعلم به منهم

(4)

، فيبعث الله إليه بصكٍّ مختوم بأمنه من العذاب، وذلك قوله:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 ــ 21]

(5)

.

وهذا القولُ لا ينافي قولَ من قال: هم في الجنة، فإنَّ الجنّة عند سدرة

(1)

هذا الجزء أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 33).

(2)

(ق): «شمس» ، تحريف.

(3)

(ب، ج): «ربِّ» . (ط): «فيقولون: ربِّ» .

(4)

«من أمر الله

منهم» ساقط من (ن).

(5)

في (ن) اكتفي بإثبات الآية الأولى. والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 209).

ص: 320

المنتهى، والجنةُ عند الله. وكأنَّ قائلَه رأى أنَّ هذه العبارة أسلمُ وأوفق، وقد أخبر الله سبحانه أنَّ أرواح الشهداء عنده، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تسرح في الجنة حيث شاءت.

فصل

وأما من قال

(1)

: إنَّ أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار بحضرموت ببَرَهُوت

(2)

؛ فقال أبو محمد بن حزم: هذا من قول الرافضة

(3)

. وليس كما قال، بل قد قاله جماعةٌ من أهل السنّة.

قال أبو عبد الله بن منده: ورُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنَّ أرواح المؤمنين بالجابية، ثم قال: أنا محمد

(4)

بن محمد بن يونس، حدثنا أحمد بن عصام، ثنا أبو داود سليمان بن داود، ثنا همّام، حدثني قتادة، حدثني رجلٌ، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين تجتمع بالجابية، وإن أرواحَ الكُفَّار تجتمع في سَبَخة

(5)

بحضرموت يقال لها: بَرَهُوت

(6)

.

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «قول من قال» .

(2)

(ن): «بحضرموت بئر ببرهوت» .

(3)

الفصل في الملل والنحل (2/ 320).

(4)

(ق): «قال أبو محمد» ، خطأ.

(5)

(ط): «بسبخة» . وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.

(6)

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (544) وابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 334) من طريق همام. ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن ابن المسيب من قوله. أخرجه ابن عساكر من طريق ابن أبي الدنيا. وانظر: صحيح ابن حبان (3013).

ص: 321

ثم ساق من طريق

(1)

حماد بن سلمة، عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر بن حوشَب، أنَّ كعبًا رأى عبد الله بن عمرو، وقد تكابَّ

(2)

الناسُ عليه يسألونه، فقال له رجل

(3)

: سَلْه أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار؟ فسأله

(4)

فقال: أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببَرَهُوت

(5)

.

قال ابن منده: ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل.

ثم ساق من حديث سفيان، عن فرات القزَّاز، عن أبي الطُّفيل، عن علي قال: خيرُ بئر في الأرض زمزمُ، وشرُّ بئر في الأرض بَرَهوت، بئر في حضرموت

(6)

. وخير وادٍ في الأرض وادي مكة، والوادي [68 ب] الذي أُهبِط فيه آدمُ بالهند، منه

(7)

طِيبكم. وشرُّ وادٍ في الأرض الأحقاف، وهو في حضرموت، تَرِدُه أرواحُ الكفار

(8)

.

قال ابن منده: وروى حماد بن سلَمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبَّاس، عن علي، قال: أبغضُ بقعة في الأرض وادٍ

(1)

(ن): «حديث» .

(2)

أي ازدحموا عليه. وفي (ب، ج): «تكابت» .

(3)

(ن): «فقال لرجل» .

(4)

«فقال

فسأله» ساقط من (ب).

(5)

عزاه ابن رجب في الأهوال (114) إلى ابن منده.

(6)

(ن): «بحضرموت» . وقد سقط من (ب، ج): «بئر في حضرموت» .

(7)

(ن): «فمنه» .

(8)

من «ترده» إلى هنا ساقط من (ن). والخبر بهذا الإسناد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1918)، والفاكهي في أخبار مكة (1110) وانظر: ذكر الموت لابن أبي الدنيا (541، 542). وعزاه ابن رجب في الأهوال (112) إلى ابن منده كما هنا.

ص: 322

بحضرموت يقال له: بَرَهوت، فيه أرواح الكفار. وفيه بئر ماؤها بالنهار أسودُ كأنه قَيحٌ، يأوي

(1)

إليه الهوامُّ

(2)

.

ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا أبَان بن تَغلب قال: قال رجل: بِتُّ

(3)

فيه ــ يعني وادي برهوت ــ فكأنما حُشِرتْ فيه أصواتُ الناس، وهم يقولون: يا دُومة! يا دُومة

(4)

، قال أبان: فحدّثنا رجلٌ من أهل الكتاب أنَّ دومة هو الملَك الذي على أرواح الكفار. قال سفيان: وسألْنَا الحضرميين، فقالوا: لا يستطيع أحدٌ أن يبيتَ

(5)

فيه بالليل

(6)

.

فهذا جملةُ ما علمتُه في هذا القول. فإن أراد عبد الله بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه، وأنها تجتمع في مكان فسيح يُشبه الجابية لسعته وطيب هوائه، فهذا قريب. وإن أراد نفسَ الجابية دون سائر الأرض، فهذا لا يُعلم إلا بالتوقيف

(7)

. ولعلَّه ممّا تلقّاه عن بعض أهل الكتاب.

(1)

(ن، غ): «تأوي» .

(2)

أورده ابن رجب في الأهوال (112) عن ابن منده. وأخرجه بهذا الإسناد الفاكهي في أخبار مكة (111).

(3)

(ق): «رأيت» ، تحريف.

(4)

في (ن) مرة واحدة. ولم أجد نصًّا على ضبط الدال.

(5)

(ق): «رجل يثبت» ، سقط وتصحيف.

(6)

أورده ابن رجب في الأهوال (112) عن ابن منده. وأخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1112) من طريق ابن أبي عمر عن سفيان.

(7)

تحرف في بعض النسخ المطبوعة إلى «التوفيق» و «التوقيت» .

ص: 323

فصل

وأما قول من قال: إنها

(1)

تجتمع في الأرض التي قال الله فيها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] فهذا إن كان قاله

(2)

تفسيرًا للآية، فليس هو تفسيرًا لها.

وقد اختلفَ الناسُ في الأرض المذكورة هنا. فقال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: هي أرض الجنة

(3)

. وهذا قول أكثر المفسرين.

وعن ابن عبَّاس

(4)

قولٌ آخر: إنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم

(5)

.

وهذا القول هو الصحيح، ونظيره قوله تعالى في سورة النور:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55].

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زُوِيتْ لي الأرضُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملكُ أمتي ما زُوي لي منها»

(6)

.

(1)

«إنها» ساقطة من (ب، ج).

(2)

(ن): «قد قاله» .

(3)

أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 435) وابن أبي حاتم (14613، 14614).

(4)

«هي

عباس» ساقط من (ط).

(5)

أخرجه الطبري (16/ 435) وابن أبي حاتم (141615).

(6)

أخرجه مسلم (2889) من حديث ثوبان.

ص: 324

وقالت طائفةٌ من المفسرين: المراد بذلك أرض

(1)

بيت المقدس

(2)

. وهي من الأرض التي أورثها الله عباده الصالحين، وليست الآية مختصةً بها.

فصل

وأمَّا قولُ من قال: إنَّ

(3)

أرواحَ المؤمنين في علِّيِّين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجِّينٍ في الأرض السابعة؛ فهذا قولٌ قد قاله جماعةٌ من السَّلف والخلف. ويدلُّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم عند موته:«اللهم الرفيقَ الأعلى»

(4)

.

وقد تقدَّم

(5)

حديث أبي هريرة: «إن الميت إذا خرجت روحُه عُرِجَ بها إلى السماء حتى يُنتهىَ بها إلى السماء السابعة التي فيها الله عز وجل» .

وتقدَّم

(6)

قول أبي موسى: إنها تصعد حتى تنتهي إلى العرش. وقول حذيفة: إنها موقوفةٌ عند الرحمن. وقول عبد الله بن عمر: إنَّ هذه الأرواح عند الله.

وتقدَّم

(7)

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت

(1)

«بذلك أرض» ساقط من (ن).

(2)

في تفسير القرطبي (14/ 301) نسب هذا القول أيضًا إلى ابن عباس. وفي زاد المسير (5/ 397): قاله ابن السائب. يعني الكلبي.

(3)

«إن» ساقطة من (ب، ط، ن، ج).

(4)

سبق تخريجه في آخر المسألة الثامنة (ص 222).

(5)

في هذه المسألة (ص 316).

(6)

الأقوال الثلاثة كلها في هذه المسألة (ص 317، 318).

(7)

في المسألة الخامسة (ص 112) وهذه المسألة (ص 291).

ص: 325

العرش».

وتقدَّم

(1)

حديث البراء بن عازب: «أنها تصعد من سماء إلى سماء، ويشيِّعها مِن كلِّ سماء مقرّبوها حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة» . وفي لفظ: «إلى السماء التي فيها الله عز وجل» .

ولكن هذا لا يدلُّ على استقرارها هناك دائمًا، بل يُصعدُ بها إلى هناك للعرض على ربِّها عز وجل، فيقضي فيها أمره، ويَكتب كتابه: من أهل علِّيين، أو من أهل سجِّين. ثم تعود إلى القبر للمسألة، ثم ترجع إلى مقرِّها الذي أودِعَتْ فيه. فأرواحُ المؤمنين في علِّيين بحسب منازلهم، وأرواحُ الكفار في سجِّين بحسب منازلهم.

فصل

وأما قول من قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين تجتمع ببئر زمزم، فلا دليل على هذا القول من كتابٍ، ولا سنَّةٍ يجب

(2)

التسليم لها، ولا قولِ صاحبٍ يُوثق به. وليس بصحيح، فإنَّ

(3)

تلك البئر لا تسَعُ أرواحَ المؤمنين جميعهم. وهو مخالفٌ لما ثبتت به السُّنَّة الصريحة من أنَّ نسَمةَ المؤمن طائرٌ يعلُق في شجر الجنة.

وبالجملة فهذا من أبطل الأقوال وأفسَدِها. وهو أفسدُ من قول من قال:

(1)

في أول المسألة السادسة.

(2)

(أ، ق، غ): «ولا سنة ولا يجب» ، وهذا خطأ.

(3)

(ب، ط): «بأن» ، تصحيف.

ص: 326

إنها بالجابية، فإنَّ

(1)

ذلك مكانٌ

(2)

متَّسِعٌ فضيٌّ

(3)

بخلاف البئر الضيقة

(4)

.

فصل

وأما قول من قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، فهذا مرويٌّ عن سلمان الفارسي

(5)

. والبرزخ هو: الحاجزُ بين شيئين، وكأنَّ سلمان أرادَ بها: في أرضٍ

(6)

بين الدُّنيا [69 ب] والآخرة، مُرسَلة هناك تذهب حيث شاءت.

وهذا قولٌ قويٌّ، فإنها قد فارقت الدنيا، ولم تلِج الآخرة، بل هي في برزخ بينهما. فأرواح المؤمنين في برزخٍ واسعٍ فيه الرَّوح والريحان والنعيم، وأرواحُ الكفار في برزخ ضيِّق فيه الغم والعذاب. قال تعالى:{وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]، فالبرزخ هنا

(7)

: ما بين الدنيا والآخرة، وأصله: الحاجز بين

الشيئين.

(1)

(ب، ط، ج): «وإن» ، تصحيف.

(2)

ساقط من (ق).

(3)

كذا في جميع النسخ إلا (ط). من فضا المكانُ يفضو فَضاءً وفُضُوًّا: اتسع. ولم تثبت في المعجمات. وفي (ط): «قصي» بالقاف، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة:«فضاء» ولعله من إصلاح الناشرين.

(4)

هذا الفصل برمَّته ساقط من (ن).

(5)

سبق تخريجه في أول المسألة.

(6)

(ب، ن): «أراد أنها في الأرض» . (ط): «

بالأرض» واقترح بعض قرائها أن يكون: «أراد بالأرض أنها» . وفي (ج): «أنها بين الدنيا» . والمثبت من الأصل وغيره صحيح.

(7)

(ب، ط): «بها» ، تصحيف.

ص: 327

فصل

وأما قول من قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين عن يمين آدم، وأرواحَ الكفار عن يساره

(1)

؛ فلَعمرُ الله، لقد قال قولاً يؤيِّده الحديث الصحيح. وهو حديث الإسراء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم كذلك

(2)

؛ ولكن لا يدلُّ

(3)

ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال، بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلوِّ والسعة، وهؤلاء عن يساره في السُّفْل والسِّجن.

وقد قال أبو محمد بن حزم: إن ذلك البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسْري به

(4)

عند سماء الدنيا. قال: وذلك عند منقطَع العناصر

(5)

. قال: وهذا يدلُّ على أنها عنده تحت السماء حيث تنقطع العناصر، وهي الماء

(6)

والتراب والنار والهواء

(7)

. وهو دائمًا يشنِّع على من قال قولاً لا دليل عليه، فأيُّ دليل له على هذا القول من كتاب أو سنَّة؟ وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: فإذا كانت أرواحُ أهل السعادة عن يمين آدم، وآدم في سماء الدنيا، وقد ثبت أن أرواح الشهداء في ظل العرش، والعرش فوق السماء

(1)

(ن): «شماله» .

(2)

انظر حديث أنس في البخاري (349)، ومسلم (263).

(3)

(ق): «يدرك» ، تصحيف. وسقط بعده «ذلك» من (ط).

(4)

زاد بعده في (ب، ط، ن، ج): «إنه» .

(5)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 322).

(6)

الهواء بعد الماء في (ب، ط، ن، ج).

(7)

هذا النص لم أجده في الفصَل المطبوع.

ص: 328

السابعة، فكيف تكون عن يمينه؟ وكيف يراها النبي صلى الله عليه وسلم هناك في السماء الدنيا؟

فالجواب من وجوه:

أحدها

(1)

: أنه لا يمتنع كونُها عن يمينه في جهة العلوِّ، كما كانت أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفل.

الثاني: أنه غيرُ ممتنع أن تُعرَض على النبي صلى الله عليه وسلم في سماء الدنيا، وإن كان مستقَرُّها فوق ذلك.

الثالث: أنه لم يخبِر أنه رأى أرواح السعداء جميعًا

(2)

هناك، بل قال:«فإذا عن يمينه أَسْوِدة، وعن يساره أسْوِدة» . ومعلوم قطعًا أنَّ روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء [70 أ] السادسة والسابعة. وكذلك الرفيق الأعلى أرواحُهم فوق ذلك. وأرواحُ السعداء

(3)

بعضُها أعلى من بعض بحسب منازلهم، كما أنَّ أرواحَ الأشقياء بعضُها أسفلُ

(4)

من بعض بحسب منازلهم

(5)

. والله أعلم.

(1)

(ب، ط، ن، ج): «وجهين أحدهما» مع ذكر الوجوه الثلاثة! وأصلح بعضهم في (ن): «وجوه» ، وترك «أحدهما» .

(2)

(ن): «جميعها» . (ب، ط، ج): «رأى السعداء جميعها» .

(3)

(ن): «الشهداء» .

(4)

(ط): «أعلى» .

(5)

«كما أن

منازلهم» ساقط من (ب، ن، ج).

ص: 329

فصل

وأما قول أبي محمد بن حزم: إنَّ مستقرَّها حيث كانت قبل خلق أجسادها، فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره، وهو أنَّ الأرواح مخلوقة قبل الأجساد.

وهذا فيه قولان للناس. وجمهورُهم على أنَّ الأرواح خُلِقت بعد الأجساد.

والذين قالوا: إنها خُلقت قبل الأجساد

(1)

، ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنّة

(2)

ولا إجماع، إلا ما فهموه من نصوص لا تدلُّ على ذلك، أو أحاديث لا تصحُّ؛ كما احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية

(3)

[الأعراف: 172]، وبقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11].

قال

(4)

: فصحَّ أنَّ الله خلق الأرواح جملةً، وهي

(5)

الأنفس. وكذلك

(1)

«وهذا فيه

الأجساد» ساقط من (ب، ج) ومستدرك في حاشية (ن).

(2)

(ط): «وسنة» .

(3)

كذا وردت الآية في (ق). وفي غيرها: «ذرّياتهم» . وزاد في (ب، ط، ج): «أن يقولوا» . وهذه قراءة أبي عمرو بالجمع في «الذريات» ، والياء في «يقولوا». انظر: الإقناع لابن الباذش (651).

(4)

ساقط من (ب، ط، ن، ج).

(5)

(ن): «هنّ» .

ص: 330

أخبر عليه السلام أنَّ «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»

(1)

.

قال: وأخذ عز وجل عهدها وشهادتَها، وهي مخلوقة مصوَّرة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يُدخِلها في الأجساد، والأجسادُ يومئذ تراب.

وقال: لأنَّ الله تعالى [ذكر]

(2)

ذلك بلفظة «ثمَّ» التي توجب التعقيب والمهلة. ثم أقرَّها سبحانه حيث شاء، وهو البرزخ الذي ترجع إليه

(3)

عند الموت

(4)

.

وسنذكر ما في هذا الاستدلال عند

(5)

جواب سؤال السائل عن الأرواح: أهي

(6)

مخلوقةٌ مع الأبدان أم قبلها؟ إذ الغرضُ هنا الكلام على مستقَرِّ الأرواح بعد الموت.

وقوله: «إنها تستقرُّ في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد» مبنيٌّ

(1)

سبق تخريجه في (ص 277).

(2)

في (ب، ج): «حلف» . وفي النسخ الأخرى جميعًا ــ خطيةً كانت أو مطبوعة ــ: «خلق» . ولا معنى للخلق بلفظة «ثم» . والظاهر أنه تحريف ما أثبتناه من كتاب ابن حزم. ولما أشكل على ناسخ (ط) غيَّر «بلفظة» إلى «بلطفه» . وأسقط ناسخا (ب، ج): «ذلك بلفظة» .

(3)

«إليه» ساقط من الأصل.

(4)

الفصل لابن حزم (2/ 321).

(5)

(ب، ط، ج): «عن» ، خطأ.

(6)

(ق): «هل» موضع «أهي» .

ص: 331

على هذا الاعتقاد الذي اعتقده

(1)

.

وقوله: «إن أرواح السعداء عن يمين آدم، وأرواحَ الأشقياء عن يساره» حقٌّ، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: «إن ذلك عند منقطَعِ العناصر» [70 ب] لا دليل عليه من كتاب ولا سنَّة، ولا يشبه أقوال أهل الإسلام. والأحاديث الصحيحة تدلُّ على أنَّ الأرواح فوق العناصر في الجنة عند الله تعالى. وأدلَّةُ القرآن تدلُّ

(2)

على ذلك.

وقد وافق أبو محمد على أنَّ أرواح الشهداء في الجنَّة، ومعلومٌ أنَّ الصدِّيقين أفضلُ منهم، فكيف تكون روح أبي بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم عند منقطَع العناصر ــ وذلك تحت هذا الفلك الأدنى

(3)

، وتحت السماء الدنيا ــ وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر وفوق السموات؟

وأما قوله: قد ذكر محمد بن نصر المروزيُّ عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلناه

(4)

بعينه. قال: وعلى هذا جميع أهل العلم، وهو قول

(5)

جميع أهل الإسلام

(6)

.

(1)

(أ، ق، غ): «اعتقدوه» .

(2)

(أ، غ): «تدلّك» .

(3)

(ب، ط): «العالم الأدنى» . (ج): «العالم العلوي» .

(4)

(ب، ن، ج): «قلنا» .

(5)

«جميع

قول» ساقط من (ب، ط، ج).

(6)

الفِصَل (2/ 322).

ص: 332

قلت: محمد بن نصر المروزي

(1)

ذكر في كتاب «الردِّ على ابن قتيبة» في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}

(2)

[الأعراف: 172] الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه، ثم أخذِ الميثاق عليهم وردِّهم في صلبه، وأنّه أخرجهم مثلَ الذرِّ، وأنَّه سبحانه قَسَمهم إذ ذاك إلى شقيٍّ وسعيد، وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، وما يصيبُهم من خير وشر. ثم قال

(3)

: «قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست ربكم؟ أن لا يقولوا

(4)

: إنا كنَّا عن هذا غافلين أو يقولوا: إنَّما أشرك آباؤنا من قبل».

هذا نصُّ كلامه. وهو ــ كما ترى ــ لا يدلُّ على أنَّ مستقَرَّ الأرواح ما ذكر أبو محمد حيث منقطعُ العناصر

(5)

بوجهٍ من الوجوه، بل

(6)

ولا يدلُّ على أن الأرواح كائنةٌ قبل خلق الأجساد. بل إنما يدل على أنه سبحانه

(1)

«المروزي» ساقط من (ب، ط، ن، ج).

(2)

هنا أيضًا في (ق): «ذريتهم» على قراءة الكوفيين وابن كثير. وفي غيرها: «ذرياتهم» وهي قراءة الباقين من السبعة.

(3)

زاد بعده في (ن): «محمد بن نصر» . وقد سقط «قال» من (ب، ج).

(4)

كذا في الأصل، (ب، ق، ج). ولكن ضرب بعضهم في الأصل على «لا» ، وحذفها ناسخ (غ)، وكتب:«أن يقولوا» . وكذا في (ط). وزاد في (ن): «يوم القيامة» ، وقد توهم هؤلاء أن المقصود نصّ الآية.

(5)

(ن): «ينقطع العناصر» .

(6)

ساقطة من (ن).

ص: 333

استخرجها

(1)

حينئذ، فخاطبها، ثم ردَّها إلى صلب آدم.

وهذا القول وإن كان قد قاله جماعة من السلف والخلف، فالقول الصحيح غيرُه، كما ستقف عليه إن شاء الله

(2)

؛ إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلامُ في الأرواح: هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟ حتى لو سلّم لأبي محمد هذا كلُّه لم يكن فيه دليل على أنَّ مستقرَّها حيث منقطعُ العناصر

(3)

، ولا أنَّ ذلك الموضع كان مستقرَّها أوّلاً.

فصل

وأما قول من قال: إنَّ

(4)

مستقرَّها العدمُ المحضُ، فهذا قول من قال: إنها عرَض من أعراض البدن، هو الحياة. وهذا قول ابن الباقِلَّاني ومَن تبعه

(5)

. وكذلك قال أبو الهذيل

(6)

العلَّاف: النفسُ عرَضٌ من الأعراض، ولم يعيِّنه بأنه الحياةُ، كما عيَّنه ابن الباقلاني. ثم قال

(7)

: هي عرَض كسائر أعراض الجسم. وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عَدِمت روحُه كما تعدم سائر أعراضه المشروطة بالحياة.

(1)

ما عدا (أ، غ): «أخرجها» .

(2)

في المسألة الثامنة عشرة.

(3)

(ب، ق): «تنقطع العناصر» .

(4)

لم ترد «إن» فيما عدا الأصل و (غ).

(5)

نقل المؤلف هذا القول وغيرَه من الفصل لابن حزم (3/ 214، 217)، وستأتي في المسألة التاسعة عشرة في حقيقة النفس.

(6)

(ب، ج): «قول أبي الهذيل» .

(7)

(ب، ط، ج): «بل قال» . (ن): «ومن ثم قال» .

ص: 334

ومَن يقول منهم: إن العَرَض لا يبقى زمانين ــ كما يقوله

(1)

أكثر الأشعرية ــ فمِن قولهم: إنَّ روحَ الإنسان الآن هي غيرُ روحه قبلُ، وهو لا ينفكُّ تحدث له روحٌ ثم تُغَيَّر، ثم روحٌ ثم تغيَّر

(2)

، هكذا أبدًا، فتُبدَّل له ألفُ روح فأكثر في مقدار ساعة

(3)

من الزمان فما دونها. فإذا مات فلا روحَ

(4)

تصعد إلى السماء، وتعودُ إلى القبر وتقبضُها الملائكة، ويستفتحون لها أبواب السماوات، ولا تُنعَّم، ولا تُعذَّب. وإنما ينعَّم ويعذَّب الجسد. إذا شاء الله تنعيمه وعذابه

(5)

ردَّ إليه الحياة في وقت يريد نعيمه وعذابه، وإلا فلا روح هناك قائمة بنفسها البتَّة.

وقال بعض أرباب هذا القول: تُرَدُّ الحياة إلى عَجْب الذَّنَب، فهو الذي يعذَّب وينعَّم حَسْبُ. وهذا قولٌ يردُّه الكتاب والسنَّة، وإجماع الصحابة، وأدلَّة العقول والفِطَر

(6)

. وهو قول مَن لم يَعرِف روحَه، فضلاً عن روح غيره. وقد خاطب الله سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج، ودلَّت النصوص الصحيحة الصريحة

(7)

على أنها تصعد وتنزل، وتُقبَض وتُمْسَك،

(1)

(ط): «يقول» .

(2)

في الفصل ابن حزم (2/ 320): «ثم تفنى» في الموضعين.

(3)

(ط): «ساعاته» ، خطأ.

(4)

«روح» لم يرد في (أ، غ).

(5)

(ق، غ): «تنعيمه وتعذيبه» . (ب، ط، ج): «تعذيبه وتنعيمه» . (ن): «نعيمه وتعذيبه» .

(6)

ما عدا (ب، ط، ج): و «الفِطَن والفِطَر» . والظاهر أن «الفطر» تحرَّف إلى «الفطن» ثم جُمع بينهما.

(7)

النصوص التي أشار المصنف إليها فيما يأتي قد سبقت، ثم تأتي مرة أخرى في المسألة التاسعة عشرة.

ص: 335

وتُرسَل ويُستفتَح لها أبوابُ السماء، وتسجُد وتتكلَّم. وأنَّها تخرج تسيلُ كما تسيل القطرة، وتُكفَّن وتُحنَّط في أكفان الجنة أو النار. وأنَّ ملك الموت يأخذها بيده، ثم تتناولها الملائكة من يده، ويُشتَمُّ

(1)

لها كأطيبِ نفحة مسكٍ، أو أنتنِ جيفةٍ [71 ب]، وتُشيَّع من سماء إلى سماء، ثم تُعاد إلى الأرض مع الملائكة. وأنَّها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجةٌ. ودلَّ القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها.

وجميعُ ما ذكرنا من الأدلَّة الدالَّة

(2)

على تَلاقي الأرواح وتعارفها، وأنها أجناد مجنَّدة، إلى غير ذلك= يُبطِل

(3)

هذا القول. وقد شاهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأرواحَ ليلة الإسراء عن يمين آدمَ وشماله. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إنَّ نسمة المؤمن طائر يعلُق في شجر الجنة، وأنَّ أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر. وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنَّها تُعرَض على النار غدوًا وعشيًّا.

ولمَّا أُورِد ذلك على ابن الباقِلَّاني لَجَّ في الجواب، وقال: يخرج هذا على

(4)

أحد وجهين: إما بأن يوضع عَرَض من الحياة في أقلِّ جزء

(5)

من أجزاء الجسم، وإما أن يُخْلَق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسدٌ

(6)

آخر.

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «يُشَمّ» .

(2)

«الدالّة» ساقطة من (ب، ط، ج).

(3)

(ن، غ): «تبطل» .

(4)

(أ، ق، غ): «على هذا» ولعله سهو. وكلمة «أحد» بعده ساقطة من (ن).

(5)

(أ، ق، غ): «أول جزء» . ولعله تحريف. والمثبت من غيرها موافق لما في كتاب الفصل (2/ 217) وهو المصدر لهذا النقل. وانظر أيضًا كتاب الفصل (3/ 320).

(6)

(ق): «جسدًا» .

ص: 336

وهذا قولٌ في غاية الفساد من وجوه كثيرة. وأيُّ قول أفسدُ مِن قول مَن يجعل روح الإنسان عَرَضًا

(1)

من الأعراض تتبدَّل كلَّ ساعةٍ ألوفًا من المرَّات، فإذا فارقه هذا العرضُ لم يكن بعد المفارقة روحٌ تنعَّمُ ولا تعذَّب، ولا تصعد ولا تنزل، ولا تُمسَك ولا تُرسَل؟

فهذا قولٌ

(2)

مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنَّة والفطرة. وهو قول مَنْ لم يعرف نفسَه.

وسيأتي ذكرُ الوجوه الدالَّة على بُطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء الله

(3)

. وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين

(4)

ولا أئمة الإسلام.

فصل

وأمَّا قولُ من قال: إن مستقرَّها بعد الموت أبدانٌ أُخَرُ غيرُ هذه الأبدان

(5)

، فهذا القول فيه حقٌّ وباطل.

فأما الحقُّ، فما أخبر به

(6)

الصادق المصدوقُ عن أرواح الشهداء، أنَّها

(1)

(ب، ط): «عرضٌ» ، خطأ.

(2)

(ق): «فهذه أقوال» ، خطأ.

(3)

انظر المسألة التاسعة عشرة.

(4)

(ب، ط، ن): «ولا التابعين» . (ق): «ولا من الصحابة والتابعين» .

(5)

ساقط من (ن).

(6)

لم يرد «به» في (أ، ق). وفي (غ) بعد «المصدوق» .

ص: 337

في حواصلِ طيرٍ خُضْرٍ تأوي إلى قناديل معلَّقةٍ بالعرش، هي لها كالأوكار للطائر. وقد صرَّح بذلك في قوله:«جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خُضر» .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «نسَمةُ المؤمن طائر يعلُق في شجر الجنة» ، يحتمل

(1)

أن يكون هذا الطائرُ مَرْكبًا للروح كالبدن لها، ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء. ويَحتمل أن يكون الروحُ في صورة طائر. [72 أ] وهذا اختيار أبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البر

(2)

.

وقد تقدَّم كلام أبي عمر، والكلام عليه

(3)

.

وأما ابن حزم، فإنه قال: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلُق» هو على ظاهره، لا على ظنِّ أهل الجهل. وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ نسمة المؤمن طائر

(4)

يعلُق، بمعنى

(5)

أنَّها تطير في الجنَّة، لا أنَّها تُمْسَخ

(6)

في صورة الطير.

قال: فإن قيل: إنَّ النسمة مؤنثة

(7)

، قلنا: قد صحَّ عن عربي فصيح أنَّه

(1)

زاد في (ن) قبله: «فهذا» .

(2)

كذا ورد في جميع النسخ. والظاهر أن هذا اختيار أبي عمر. أما ابن حزم فذهب إلى أن النسمة هي التي ستطير في الجنة، كما نقل عنه المصنف.

(3)

انظر (ص 293) فما بعدها.

(4)

«هو على

طائر» ساقط من (ن). وكذا «يعلق» بعد «طائر» في جميع النسخ، ولم يرد في كتاب الفصل، وهو الأفضل في هذا السياق؛ لأن ابن حزم أراد تفسير كلمة «طائر» لا إعادة الحديث.

(5)

(ب، ط، ن، ج): «يعني» . والمثبت من غيرها موافق لما في مصدر النقل.

(6)

الفصَل: «تنسخ» .

(7)

يعني: مقتضى تأنيثها أن يقال: طائرة، لا طائر كما في الحديث.

ص: 338

قال: أتتك كتابي، فاستخفَفْت بها. فقيل له: أتؤنِّثُ الكتاب؟ قال: أوَليس صحيفةً؟

(1)

وكذلك النسمة [روحٌ]، فتُذكَّر

(2)

لذلك.

قال: وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصِل طيرٍ خُضْرٍ، فإنَّها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها. والحديثان معًا حديث واحد

(3)

.

وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظًا ومعنًى، فإنَّ حديث:«نسَمةُ المؤمن طائرٌ يعلُق في شجر الجنة» غير حديث: «أرواحُ الشهداء في حواصلِ طيرٍ خُضْرٍ» . والذي ذكره محتمل في الحديث الأول.

وأما الحديث الثاني، فلا يَحتملُه

(4)

بوجه. فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ أرواحَهم في حواصل طير

(5)

، وفي لفظ

(6)

: «في أجواف طير خُضر» . وفي لفظ: «بِيض»

(7)

،

(1)

حكاه الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلاً من اليمن يقول: فلان لغوب، جاءته كتابي، فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي! قال: نعم، أليس بصحيفة؟ انظر: الخصائص لابن جني (1/ 249)، ولسان العرب (لغب)(1/ 742).

(2)

كذا بالفاء في كتاب الفصَل. وما بين المعقوفين زدناه منه، لأن السياق يقتضيه.

وفي (أ، ق، ن، غ): «تذكر لذلك» . وفي (ب): «ولذلك» . وفي (ط): «تؤنث وتذكر وكذلك» .

(3)

كتاب الفصَل (2/ 217).

(4)

(ب، ط، ج): «ما لا يحتمله» ، تحريف.

(5)

(ق، ن): «طير خضر» .

(6)

(ب، ط، ج): «لفظ آخر» .

(7)

عزاه ابن رجب في أهوال القبور (ص 185) لأبي الشيخ الأصبهاني من طريق عبد الله بن ميمون، عن عمّه مصعب بن سُليم، عن أنس بن مالك، مرفوعًا بلفظ:«يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش» . وعبد الله بن ميمون ذكره المزي في تهذيب الكمال (28/ 27) في الرواة عن مصعب بن سُليم ووصفه بصاحب الطيالسة، ولم أظفر له بترجمة. (قالمي)

ص: 339

وأنَّ تلك الطيرَ

(1)

تسرح في الجنة، فتأكلُ من ثمارها، وتشرب من أنهارها، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش، هي لها كالأوكار للطائر. وقوله: «إنَّ حواصل تلك الطير هي صفة القناديل

(2)

التي تأوي إليها» خطأٌ قطعًا، بل تلك القناديل مأوىً لتلك الطير. فهاهنا ثلاثة أمور صرَّح بها الحديث: أرواحٌ، وطير هي في أجوافها، وقناديل هي مأوىً لتلك الطير. والقناديلُ مستقرَّة

(3)

تحت العرش لا تسرح، والطير تسرح وتذهب وتجيء، والأرواح في أجوافها.

فإن قيل: يحتمل أن تُجعَل نفسُها في صورة طير، لا أنها تُرَكَّب [72 ب] في بدن طير، كما قال تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، ويدلُّ عليه

(4)

قولُه في اللفظ الآخر: «أرواحهم كطير خضر» . كذلك رواه ابن أبي شيبة

(5)

، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله. قال أبو عمر: والذي يشبه عندي ــ والله أعلم ــ أن يكون القول

(1)

لم ترد كلمة «الطير» في (أ، غ). وفي (ن): «الطيور» .

(2)

(ط): «للقناديل» .

(3)

(ن): «معلّقة» .

(4)

«عليه» ساقطة من الأصل، أو استدركت في طرّتها ولم تظهر في الصورة.

(5)

في المصنّف (19731).

ص: 340

قول من قال: كطير، أو صُوَر طير

(1)

، لمطابقته لحديثنا المذكور

(2)

. يعني حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن.

فالجواب: أنَّ هذا الحديث قد رُوي بهذين اللفظين. والذي رواه مسلم في الصحيح من حديث الأعمش، عن مسروق:«أرواحهم في جوف طير خُضْر»

(3)

قد

(4)

رواه ابن عبَّاس وكعب بن مالك، فلم يختلف حديثهما أنّها في أجواف طير خُضر.

فأما

(5)

حديث ابن عباس، فقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير

(6)

، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم ــ يعني يومَ أحد ــ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيرٍ خُضْرٍ تَرِد أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذلَّلة

(7)

في ظلِّ العرش. فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلِّغُ إخواننا عنَّا أنَّا أحياءٌ في الجنة نُرزَق، لئلا يَنْكُلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: أنا أبلِّغهم عنكم. فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ

(1)

(ط، ق، ن): «صورة طير» .

(2)

التمهيد (11/ 64) وقد سبق في (ص 293) أيضًا.

(3)

تقدّم في هذه المسألة (ص 292).

(4)

(ب، ط، ج): «وقد» .

(5)

(أ، ق، غ): «وأما» .

(6)

«عن أبي الزبير» ساقط من (أ، ق، غ).

(7)

ما عدا (ن): «مدللة» بالدال، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة: مدلاة.

ص: 341

الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]»

(1)

.

وأما حديث كعب بن مالك، فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد. ولفظه للترمذي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ أرواح الشهداء في طيرٍ خُضْرٍ تعلُق في ثمر الجنة أو شجر الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح

(2)

.

ولا محذور في هذا، ولا يبطِل قاعدة من قواعد الشرع، ولا يخالف نصًّا من كتاب الله ولا سنَّةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل هذا من تمام إكرام الله تعالى للشهداء أن أعاضَهم من أبدانهم التي مَزَّقوها لله أبدانًا

(3)

خيرًا منها، تكون مَرْكبًا لأرواحهم، ليحصل بها كمال تنعُّمهم

(4)

. فإذا كان يومُ القيامة ردَّ أرواحَهم

(5)

إلى تلك الأبدان التي كانت [73 أ] فيها في الدنيا.

فإن قيل: فهذا هو القولُ بالتناسخُ وحلولِ الأرواح في أبدانٍ غيرِ أبدانها التي كانت فيها.

قيل: هذا المعنى الذي دلَّت عليه السنَّة الصريحة حقٌّ يجب اعتقاده. ولا يُبطلِه تسميةُ المسمِّي له: تناسخًا، كما أنَّ إثبات ما دلَّ عليه العقل والنقل

(1)

سبق تخريجه في المسألة الخامسة (ص 112).

(2)

الترمذي (1641). وقد سبق في (ص 112) تخريجه والتنبيه على أن لفظ الترمذي من رواية عمرو بن دينار عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري كمالك ومعمر ويونس والأوزاعي فلم يذكروا الشهداء، وإنما ذكروا «نسمة المؤمن أو المسلم» . (قالمي).

(3)

(ب، ط، ن، ج): «أبدانًا أُخَر» .

(4)

(ق): «تنعيمهم» . (ن، غ): «نعيمهم» .

(5)

«يحصل

أرواحهم» ساقط من (ب).

ص: 342

من صفات الله عز وجل وحقائق أسمائه الحسنى حقٌّ لا يُبطلِه تسميةُ المعطلين لها: تركيبًا وتجسيمًا. وكذلك ما دلَّ عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته، ونزوله كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده= حقٌّ لا يُبطلِه تسميةُ المعطِّلين

(1)

له: حلولَ حوادثَ. وكما أنَّ ما دلَّ عليه العقل والنقل من علوِّ الله على خلقه ومباينته لهم

(2)

، واستوائه على عرشه، وعروجِ الملائكة والروح إليه ونزولِها من عنده، وصعودِ الكلِم الطيِّب إليه، وعروجِ رسوله إليه ودنوِّه منه حتى صار قاب قوسين أو أدنى، وغير ذلك من الأدلّة= حقٌّ لا يبطله تسمية الجهمية له: حيِّزًا وجهةً وتجسيمًا.

قال الإمام أحمد: لا نُزيل عن الله صفةً

(3)

من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين

(4)

. فإنَّ هذا شأن أهل البدع، يلقِّبون أهلَ السُّنَّة وأقوالَهم بالألقاب التي ينفِّرون منها الجُهَّال، ويسمونها: حشوًا وتركيبًا وتجسيمًا. ويسمُّون عرش الربِّ تبارك وتعالى: حيِّزًا وجهةً، ليتوصَّلوا بذلك إلى نفي علوِّه على

(5)

خلقه

(1)

(غ): «المعطل» . وكذا كان في الأصل ثم أصلح.

(2)

(ط): «له» . وهو ساقط من (ب، ج).

(3)

(ب، ط، ن): «لا تزيل

». وفي (أ، غ): «لا تُزِلِ الله عن صفة» . والمثبت من (ق)، وهو الموافق للمصادر الأخرى.

(4)

أوردها المؤلف بهذا اللفظ في الصواعق المرسلة (440) ومدارج السالكين (3/ 259) ومفتاح دار السعادة (2/ 458) وغيره. ولفظه في رواية حنبل: «ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعات شُنِّعت» . إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 44). وانظر أيضًا (2/ 297). ونحوه عن حنبل في اجتماع الجيوش الإسلامية (322).

(5)

(أ، غ): «عن» .

ص: 343

واستوائه على عرشه؛ كما تسمِّي الرافضةُ موالاةَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم، ومحبتَهم والدعاءَ لهم نَصْبًا، وكما تسمِّي القدريةُ المجوسيةُ إثباتَ القدر جبرًا

(1)

. فليس الشأن في الألقاب، وإنما الشأن في الحقائق.

والمقصود: أنَّ تسمية ما دلَّت عليه السُّنَّة الصريحة من جَعْل أرواح الشهداء في أجواف طيرٍ خُضْرٍ تناسخًا لا يبطل هذا المعنى. وإنما التناسخ الباطل ما يقوله

(2)

أعداء الرسل من الملاحدة وغيرِهم الذين ينكرون المعاد: إنَّ الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي

(3)

تناسبها وتشاكلها، فإذا فارقت هذه الأبدانَ انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات فتنعَّم فيها وتعذَّب، ثم تفارقها وتحلُّ في أبدان أُخَر [73 ب] تناسب أعمالها وأخلاقها؛ وهكذا أبدًا. فهذا معادُها عندهم ونعيمُها وعذابها، لا معادَ لها عندهم غيرُ ذلك. فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت

(4)

عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو كفر بالله وباليوم

(5)

الآخر.

وهذه الطائفة تقول: إنَّ مستقرَّ الأرواح بعد المفارقة أبدانُ الحيوانات التي تناسبها. وهو أبطلُ قولٍ وأخبثُه.

ويليه قول من قال: إنَّ الأرواح تُعدَم جملةً بالموت، ولا تبقى هناك

(1)

انظر في هذا المعنى أيضًا: الصواعق المرسلة (ص 438 ــ 441).

(2)

(ن): «تقوله» . وأهمل نقطه في (أ، ق).

(3)

في (ب، ط، ن، ج) زيادة بعد «التي» : «كانت» .

(4)

(ط): «أنفق» .

(5)

(ب، ن): «واليوم» .

ص: 344

روح تنعَّم ولا تعذَّب، بل النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو على جزء منه: إمَّا عَجْبِ الذنَب

(1)

أو غيرِه؛ فيخلق الله فيه الألم واللذة، إما بواسطة ردِّ الحياة إليه كما قال

(2)

بعض أرباب هذا القول، أو بدون ردِّ الحياة كما قاله آخرون منهم. فهؤلاء

(3)

عندهم: لا عذابَ في البرزخ إلا على الجسد

(4)

.

ومقابلُهم

(5)

من يقول: إنَّ الروح لا تعاد إلى الجسد بوجهٍ ولا تتصل به، والعذابُ والنعيم على الروح فقط.

والسُّنَّة الصريحة المتواترة

(6)

تردُّ قول هؤلاء وهؤلاء، وتبيِّن أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين

(7)

.

فإن قيل: فقد

(8)

ذكرتم أقوال الناس في مستقرِّ الأرواح ومآخذهم، فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده

(9)

؟

قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت:

(1)

(ب، ط، ن، ج): «عجم الذنب» .

(2)

ما عدا (أ، غ): «قاله» .

(3)

(ق): «وهؤلاء» .

(4)

ما عدا (أ، غ): «الأجساد» .

(5)

(ب، ط): «ومقابله» .

(6)

«المتواترة» ساقط من (ن).

(7)

(ط): «متفرقين» .

(8)

(ب، ط، ج): «قد» .

(9)

(ط، ج): «يُعتقَد» . (ن): «نعتقد» .

ص: 345

فمنها أرواح في أعلى علِّيين في الملأ الأعلى. وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.

ومنها أرواح في حواصل طيرٍ خُضْرٍ تسرح في الجنَّة حيث شاءت. وهي

(1)

أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تُحبَس روحه عن دخول الجنة لدَين عليه أو غيره، كما في المسند

(2)

عن محمد بن عبد الله بن جحش أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتلت في سبيل الله؟ قال:«الجنة» . فلما ولَّى قال: «إلا الدَّين، سارَّني به جبريلُ آنفًا»

(3)

.

ومنهم من يكون محبوسًا على باب الجنَّة، كما في الحديث الآخر [74 أ]:«رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنَّة»

(4)

.

(1)

(ب، ط): «هم» .

(2)

برقم (17253)(28/ 491) ورقم (19077)(31/ 430).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (17253) قال: ثنا محمد بن بشر، ثنا محمد بن عمرو، ثني أبو كثير مولى الليثيين، عن محمد بن عبد الله بن جحش.

ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12019) ومن طريقه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (930)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 247).

وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي فإنه حسن الحديث.

وله شواهد منها حديث أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه في صحيح مسلم (1885). (قالمي).

(4)

أخرجه الإمام أحمد (20124، 20157)، والحاكم (2/ 52) وغيرهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي، عن سمرة بن جندب، بنحوه. وإسناده صحيح. (قالمي).

ص: 346

ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، كحديث صاحب الشَّملة التي غلَّها ثم استُشهِد، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كلّا، والذي نفسي بيده، إنَّ الشملة التي غلَّها لَتشتعل عليه نارًا في قبره»

(1)

.

ومنهم من يكون مقرُّه بباب الجنة، كما في حديث ابن عباس:«الشهداء على بارقِ نهرٍ بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشية» رواه أحمد

(2)

. وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله مِن يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء

(3)

.

(1)

تقدّم تخريجه في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 179).

(2)

تقدم تخريجه (ص 299).

(3)

أخرج الترمذي (3763)، وأبو يعلى الموصلي (6464)، والحاكم (3/ 209) من طريق عبد الله بن جعفر المديني، ثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير مع الملائكة بجناحين» . وإسناده ضعيف لأجل عبد الله بن جعفر وهو والد علي بن المديني، وبه أعلّه الترمذي فقال:«هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن جعفر وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره» . ولذلك لما صحح إسناده الحاكم تعقبه الذهبي بقوله: «المديني واه» . ولكن الحديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده، وتراها مخرّجة في السلسلة الصحيحة رقم (1226). كما يشهد له ما أخرجه البخاري في صحيحه (3709) عن الشعبي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلّم على ابن جعفر قال:«السلام عليك يا ابن ذي الجناحين» . (قالمي).

ص: 347

ومنهم من يكون محبوسًا في الأرض، لم تَعْلُ

(1)

روحُه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحًا سُفْلِيَّة أرضية؛ فإنَّ الأنفس الأرضية لا تُجامع الأنفسَ السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا. والنفسُ التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربِّها ومحبتَه وذكرَه والأنسَ به والتقرُّب إليه، بل هي أرضية سفلية= لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلّا هناك. كما أنَّ النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفةً على محبةِ الله وذكرِه والتقربِ إليه والأنس

(2)

به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها. فالمرء مع من أحبَّ في البرزخ ويوم القيامة

(3)

. والله تعالى

(4)

يزوِّج النفوسَ بعضَها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، كما تقدَّم

(5)

في الحديث: «ويجعل روحه ــ يعني المؤمن ــ مع النَّسَم الطيِّب» . أي: الأرواحِ الطيِّبةِ المشاكلةِ لروحه. فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها

(6)

وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك.

ومنها أرواحٌ تكون في تنوُّر الزُّناة والزواني، وأرواحٌ في نهر الدم تَسْبح فيه، وتُلقَم الحجارة

(7)

.

(1)

ضبط هكذا في (ط، ن). وفي (ب): «يُعَدْ» ، تصحيف.

(2)

«بل هي .. والأنس» ساقط من (ن).

(3)

انظر ما سبق في المسألة الثانية.

(4)

(ق): «فالله تعالى» .

(5)

بعده في (ب، ط، ن، ج): «من قوله» . وقد تقدم الحديث في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 156).

(6)

(ب، ط، ن، ج): «أخدانها» .

(7)

كما في الحديث المتقدم في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 170).

ص: 348

فليس للأرواح ــ سعيدِها وشقيِّها

(1)

ــ مستقرٌّ واحد. بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض، وأنت إذا تأملتَ السنن والآثار في هذا الباب، وكان لك بها فضلُ اعتناءٍ، عرفتَ صحة

(2)

ذلك.

ولا تظنَّ أنَّ بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنَّها كلَّها حقٌّ يصدِّق بعضُها بعضًا

(3)

، لكن الشأن في فهمهما ومعرفةِ النفس وأحكامها، وأنَّ لها شأنًا

(4)

غيرَ شأن البدن، وأنَّها مع كونها في الجنَّة فهي في السماء، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركةً وانتقالاً وصعودًا وهبوطًا، وأنَّها تنقسم إلى مرسَلة ومحبوسة، وعلويّة وسفليّة. ولها بعد المفارقة صحّة ومرض، ولذّة ونعيم، وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير. فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهناك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق. وما أشبهَ حالَها في هذا البدن بحال البدن

(5)

في بطن أمه، وحالَها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار!

فلهذه الأنفس أربع دُورٍ

(6)

كلُّ دار أعظم من التي قبلها:

(1)

(ب، ط): «شقيها وسعيدها» .

(2)

(أ، ق، غ): «حجة» ، ولعلها تصحيف.

(3)

انظر: مختصر الفتاوى المصرية (234).

(4)

(ق): «شأن» ، وكذا كان في الأصل، فأصلحه بعضهم.

(5)

كذا في جميع النسخ. وفي بعض النسخ المطبوعة: «الولد» . ولعله من تصرّف الناشرين.

(6)

(ب، ط، ن، ج): «أربعة دور» .

ص: 349

الدار الأولى: في بطن الأمِّ، وذلك الحصَر والضِّيق والغمِّ، والظلمات الثلاث.

الدار الثانية: هذه الدار التي نشأتْ فيها وأَلِفَتْها، واكتسبتْ فيها الخيرَ والشرَّ وأسبابَ السعادة والشقاوة.

والدار الثالثة: دار البرزخ. وهي أوسعُ من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الدار الأولى

(1)

.

الدار الرابعة

(2)

: دار القرار. وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها.

والله تعالى ينقلها في هذه الدور طَبَقًا بعد طَبَق، حتى يبلِّغها الدار التي لا يصلح لها غيرُها، ولا يليق بها سواها. وهي التي خُلِقتْ لها وهُيِّئت للعمل الموصل لها إليها. ولها في كلِّ دار من هذه الدور حكمٌ وشأن غير شأن الدار الأخرى. فتبارك الله فاطرُها ومنشيها، ومميتُها ومحييها، ومُسعدُها ومُشقيها، الذي

(3)

فاوَت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علوِّها

(4)

وأعمالها وقواها وأخلاقها

(5)

.

فمن عَرَفها كما ينبغي شهِدَ أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، الذي له

(1)

ما عدا (أ، غ): «إلى الأولى» .

(2)

بعده في الأصل: «هي» ، وكأنها زيدت فيما بعد في آخر السطر. وهي في (غ) في المتن.

(3)

(ب، ط، ق، ج): «التي» وكذا كان في الأصل ثم أصلح.

(4)

كذا في (أ، ق، غ). وفي غيرها: «علومها» .

(5)

«وقواها وأخلاقها» ساقط من (ب، ج).

ص: 350

الملكُ كلُّه، وله الحمدُ كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كلُّه، وله القوة كلُّها، والقدرةُ كلُّها، والعزُّ كلُّه، والحكمةُ كلُّها، والكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ وعَرَف بمعرفة نفسه صدقَ أنبيائه ورسله، وأنَّ الذي جاؤوا به هو الحقُّ الذي تشهد به العقول، وتُقِرُّ به الفِطر؛ وما خالفه فهو الباطل. وبالله التوفيق.

ص: 351