المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أقوال أهل البدع والضلال - الروح - ابن القيم - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

الفصل: ‌ أقوال أهل البدع والضلال

وأما‌

‌ أقوال أهل البدع والضلال

(1)

، فقال أبو الهُذَيل والمَرِيسي

(2)

:

من خرج عن سمَة الإيمان فإنه يعذَّب بين النفختين، والمسألةُ في القبر إنما تقع في ذلك الوقت.

وأثبت الجُبَّائي وابنه

(3)

والبَلْخي

(4)

عذاب القبر، ولكنهم نفَوْه عن المؤمنين، وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار

(5)

والفُسَّاقِ على أصولهم.

(1)

هذه الأقوال إلى آخر الفصل منقولة من كتاب التذكرة للقرطبي (378 ــ 380). وانظر: المواقف للإيجي (3/ 517).

(2)

كذا في جميع النسخ. وفي تذكرة القرطبي ــ وهو مصدر المؤلف ــ: «بِشْر» . والمقصود به: بِشر بن المعتمر الهلالي. وقد صرَّح بذلك الآمدي في أبكار الأفكار (الآيات البينات: 87) والعضد في المواقف (3/ 517). ولكن ابن القيِّم توهَّم أن المراد: بِشر بن غياث المريسي، فتصرَّف في نقل كلام القرطبي، وكتب مكان «بشر»:«المريسي» مع أنَّ القرطبي ميَّز بينهما. فذكر ابن المعتمر باسمه «بشر» في أول الفقرة، وذكر ابن غياث في آخرها باسمه ونسبه:«بشر المريسي» .

أضف إلى ذلك أن السياق يأبى أن يراد هنا المريسي، فإن القرطبي نقل أولاً أقوال طائفة من المعتزلة القائلين بعذاب القبر، ومنهم أبو الهذيل وبشر، ثم قال: «وأما الباقون من المعتزلة

فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلاً». وذكر من هؤلاء «بشرًا المريسي» . فلا يعقل أن يكون المريسي منكرًا لعذاب القبر أصلاً وقائلاً به في وقت واحد.

(3)

الجبَّائي محمد بن عبد الوهاب (ت 303) وابنه عبد السلام (ت 321). ترجمتهما في طبقات المعتزلة (80، 94).

(4)

عبد الله بن أحمد البلخي الكعبي، رأس الفرقة الكعبية (ت 319). ترجمته في المصدر السابق (88).

(5)

في (ط، ج): «في النار» مكان «من الكفار» .

ص: 167

وقال كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة الله بمنكَر ونكير، وإنّما المنكَر: ما يبدو من تلجلجه إذا سئل؛ والنكير: تقريعُ الملكين له.

وقال الصالحي

(1)

وصالح قُبَّة

(2)

: عذاب القبر يجري على المؤمن من غير ردِّ الأرواح إلى الأجساد، والميتُ يجوز أن يأْلَم ويُحِسَّ ويعلمَ بلا روح. وهذا قول جماعة من الكرَّامية.

وقال بعض المعتزلة: إن الله سبحانه يعذِّب الموتى في قبورهم، ويُحدِثُ فيهم الآلام، وهم لا يشعرون. فإذا حُشروا وجدوا تلك الآلام، وأحسُّوا بها. قالوا: وسبيل المعذَّبين من الموتى كسبيل السكران والمغشيّ عليه، لو ضُرِبوا لم يجدوا الألم، فإذا عاد إليهم العقل أحسُّوا بألم الضرب.

وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسًا مثل ضِرار بن عمرو

(3)

. ويحيى بن كامل

(4)

، وهو قول المَريسي.

(1)

في (ب، ط، ن، ج): «الصنابحي» . والصواب ما أثبتنا من غيرها والتذكرة. وهو أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، رأس الفرقة الصالحية، من قدماء المعتزلة. انظر: طبقات المعتزلة (72).

(2)

في جميع النسخ الخطية ما عدا (ن، ز): «فيه» ، وكذا في المطبوعة. وفي (ن، ز): «فتنة» . وكلاهما تصحيف. والصواب ما أثبتنا من التذكرة. وقد أشار الأستاذ بسام العموش إلى احتمال هذا التصحيف في نشرته للروح (297)، ولكنه لم يكن على بينة منه فلم يثبته في المتن. وانظر في صالح قبَّة: طبقات المعتزلة (73) ومقالات الإسلاميين (406 ــ 407) وفيه سبب تلقيبه.

(3)

رأس الفرقة الضرارية. ترجمته في الفهرست (214) وسير أعلام النبلاء (10/ 544).

(4)

كان من أصحاب المريسي ومن المرجئة ثم انتقل إلى مذهب الإباضية. الفهرست (233).

ص: 168

فهذه أقوال أهل الحَيْرة والضلالة

(1)

.

فصل

ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ عذاب القبر هو عذاب البرزخ. فكلُّ من مات، وهو مستحِقٌّ للعذاب، ناله نصيبه منه، قُبر أو لم يُقبر. فلو أكلته السباع، أو أُحرِق حتى صار رمادًا، أو نُسِف في الهواء، [37 ب] أَو صُلِب، أو غَرِق في البحر= وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور

(2)

.

وفي «صحيح البخاري»

(3)

عن سَمُرة بن جُنْدُب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه، فقال:«من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال: فإن رأى أحدٌ رؤيا قصَّها. فيقول ما شاء الله. فسألنا يومًا، فقال:«هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قلنا: لا. قال: «لكنّي رأيتُ الليلةَ رجلين أتياني، فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الأرض المقدَّسة. فإذا رجل جالس، ورجل قائم، بيده كَلُّوبٌ من حديد، يُدخله في شِدْقِه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشِدقه الآخرِ مثلَ ذلك، ويلتئم شِدقه هذا، فيعود، فيصنع مثله.

قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطِلْق.

فانطلقنا حتى أتَيْنا على رجلٍ مضطجع على قَفاه، ورجلٌ قائمٌ على رأسه بصخرة أو فِهْر، فيشدَخ بها رأسَه. فإذا ضربه تدَهْدَهَ الحجر، فانطلقَ إليه

(1)

(ن، ز): «الضلال» .

(2)

في (ق، ز) والنسخ المطبوعة: «القبور» ، تحريف. وانظر «الأمر الثامن» في المسألة الآتية.

(3)

برقم (1386).

ص: 169

ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسُه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه.

قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِق.

فانطلقنا إلى نَقْبٍ مثل التنّور، أعلاه ضيِّق، وأسفلُه واسع، يوقَد تحته نارٌ

(1)

. فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ. فيأتيهم اللهب من تحتهم، فإذا اقترب

(2)

ارتفعوا حتى كادوا يخرجوا

(3)

، فإذا خمدت رجعوا.

فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق.

فانطلقنا، حتى أتينا على نهر من دمٍ، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمَى الرجلُ بحجرٍ في فيه، فردَّه حيث كان. فجَعل كلَّما جاء ليخرج رمَى في فيه بحجر، فرجع كما كان.

فقلت: ما هذا، قالا: انطلق.

فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراءَ، فيها شجرةٌ عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان. وإذا رجل قريب من الشجرة، بين يديه نارٌ يوقدها. فصعدا بي الشجرة، وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسنَ منها، فيها شيوخ وشبَّان

(4)

. ثم صعدا بي فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل.

(1)

(ق): «نارًا» .

(2)

(ب، ط): «ضرمت» . (ن): «أضرمت» .

(3)

كذا في الأصل وغيره ما عدا (ط، ز) والنون حذفت للتخفيف. وقد يكون المؤلف أثبت «كاد أن يخرجوا» كما في الصحيح، فأخطأ الناسخ. وفي (ط، ز): «يخرجون» .

(4)

في الصحيح: «رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان» .

ص: 170

قلت [38 أ]: طَوَّفْتُماني

(1)

الليلة، فأخبِراني عما رأيتُ. قالا: نعم. الذي رأيتَه يُشَقُّ شِدقُه كذَّاب يحدِّث بالكَذْبة، فتُحمَل عنه حتَّى تبلغ الآفاق؛ فيُصنَع به إلى القيامة. والذي رأيته يُشدَخ رأسُه، فرجلٌ علَّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به في النهار؛ يُفعل به إلى يوم القيامة. وأما الذي رأيت في النَّقْب فهم الزناة. والذي رأيتَه في النهر فآكلُ الربا.

وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم، والصبيانُ حوله فأولاد الناس، والذي يوقِد النار فمالكٌ خازُن النار. والدارُ الأولى دار عامَّة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء. وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك. فرفعتُ رأسي، فإذا قصر مثلُ السحابة. قالا: ذاك منزلك، قلت

(2)

: دَعاني أدخلْ منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملتَه أتيتَ منزلك».

وهذا نصٌّ في عذاب البرزخ، فإنَّ رؤيا الأنبياء وَحْي مطابق لما في نفس الأمر.

وقد ذكر الطحاوي

(3)

عن ابن مسعود عن

(4)

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِر بعبد

(1)

(ب، ط): «طُفتمابي» .

(2)

(ب، ط، ج): «فقلت» .

(3)

في مشكل الآثار (3185) قال: حدثنا فهد بن سليمان، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا جعفر بن سليمان، عن عاصم، عن شقيق، عن ابن مسعود.

ورجاله ثقات غير عاصم هو ابن أبي النجود وهو صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحن، كما في التقريب. وجوَّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (2774). (قالمي).

والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي. (الإصلاحي).

(4)

ما عدا (أ، ق، غ): «أنَّ» .

ص: 171

من عباد الله أن يُضرَب في قبره مائة جلدة. فلم يزل يسألُ الله ويدعوه حتى صارت واحدة

(1)

، فامتلأ قبره عليه

(2)

نارًا. فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: علَام جلدتموني؟ قالوا: إنّك صلَّيت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره».

وقد ذكر البيهقي

(3)

حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي

(1)

في (ب، ط) زيادة: «فضرباه» . وفي مشكل الآثار مكانها: «فجُلد جلدة واحدة» .

(2)

(أ): «عليه قبره» .

(3)

في دلائل النبوة (679) والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي (401). (الإصلاحي).

أخرجه البيهقي من طريق أبي جعفر الرازي وهو عيسى بن ماهان، عن الربيع بن أنس، بطوله.

ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (13184)، وابن جرير الطبري في تفسيره (14/ 424 ــ 435)، والبزار (55 ـ كشف الأستار). إلا أنه وقع عند ابن أبي حاتم والبزار الشك في شيخ الربيع بن أنس أو غيره. ووقع عند الطبري الشك في الصحابي:«عن أبي هريرة أو غيره» وزاد: «شك أبو جعفر» يعني عيسى بن ماهان الرازيّ.

قال البزار: «وهذا لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد من هذا الوجه» .

وفي إسناده أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، صدوق سيئ الحفظ كما في التقريب، ومن سوء حفظه شكّه في التابعي هل هو أبو العالية الرياحي واسمه نُفيع بن مهران وهو ثقة من رجال الجماعة أو غيره فيكون مجهولاً.

ولذلك قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 72) ــ بعد أن عزاه للبزار ــ: «رجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس، قال: عن أبي العالية أو غيره، فتابعيه مجهول» .

والحديث أورده ابن كثير في تفسيره (5/ 32 ــ 38) عن الطبري بطوله ثم قال عقبه: «أبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يَهِم في الحديث كثيرًا، وقد ضعَّفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم» . (قالمي).

ص: 172

هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية [الإسراء: 1]، قال:«أُتي بفرس، فحُمل عليه» . قال: «كلُّ خطوة منتهى أقصى بصره. فسار، وسار معه جبريلُ، فأتَى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلَّما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون

(1)

في سبيل الله، يُضاعَف لهم الحسنةُ بسبعمائة {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

ثم أتى على قوم تُرضَخ رؤوسهم بالصخر، كلَّما رُضِخت عادت [38 ب] كما كانت، لا يُفَتَّرُ عنهم شيءٌ من ذلك. قال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل

(2)

رؤوسهم عن الصلاة.

قال: ثم أتى على قوم، على أقبالهم رِقاعٌ، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام على الضَّريع، والزَّقُّوم، ورَضْفِ

(3)

جهنَّم، وحجارتها. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدُّون صدقات أموالهم. وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد.

(1)

ما عدا (أ، ق): «المجاهدون» . وقد غيَّر بعضهم في (ب)«المهاجرون» إلى «المجاهدون» . وفي الدلائل ما أثبتنا.

(2)

(ب، ط، ن، ج): «تنام» .

(3)

ما عدا (ب، ط): «وصف» ، تصحيف. والرضف: الحجارة التي حميت بالشمس أو النار.

ص: 173

ثم أتى على قوم، بين أيديهم لحمٌ من

(1)

قِدْر نضيج، ولحم آخر خبيث. فجعلوا يأكلون من الخبيث، ويدَعُون النضيج الطيب. فقال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هذا الرجل يقوم، وعنده امرأة حلالاً طيبًا

(2)

، فيأتي المرأةَ الخبيثة، فتبيتُ معه حتى تصبح.

ثم أتى على خشبة على الطريق، لا يمرُّ بها شيء إلا قصَفَتْه. يقول الله تعالى:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86].

ثم مرَّ على رجل قد جمَعَ حُزمةً عظيمةً لا يستطيع حملَها، وهو يريد أن يزيدَ عليها. قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا

(3)

رجل من أمتك، عليه أمانةٌ، لا يستطيع أداءها، وهو يزيد عليها.

ثم أتى على قوم تُقَرَض شفاههم بمقاريض

(4)

من حديد، كلَّما قُرِضت عادت كما كانت، لا يفتَّر عنهم شيء. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة

(5)

.

ثم أتى على حجر صغير، يخرج منه ثور عظيم. فجعل الثور

(6)

يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال

(7)

: هذا الرجل

(1)

(ن، ز): «في» . وكذا في الدلائل.

(2)

(ق، ز): «حلال طيب» .

(3)

«هذا» من (ق، ن، ج) والدلائل.

(4)

(أ، غ): «بمقارض» .

(5)

(ط): «أمتك» .

(6)

«الثور» ساقط من (أ، غ).

(7)

«هؤلاء خطباء

قال» ساقط من (ن).

ص: 174

يتكلم بالكلمة، فيندم عليها، فيريد أن يردَّها، فلا يستطيع». وذكر الحديث.

وذكر البيهقي

(1)

أيضًا في حديث الإسراء من رواية أبي سعيد الخُدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فصعدْتُ أنا وجبريلُ، فاستفتح جبريل، فإذا بآدم

(2)

كهيئته يومَ خلقه الله على صورته، تُعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روحٌ طيِّبة ونَفْس طيِّبة، اجعلوها في علِّيين. ثم تُعرض عليه

(3)

أرواح ذريته الفُجَّارِ، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجِّين.

ثم مضَيْتُ هنيَّة، فإذا أنا بأَخوِنَة [39 أ]، عليها لحمٌ مُشرَّح

(4)

ليس بقربها أحد. وإذا بأخْوِنة أخرى، عليها لحم قد أرْوَحَ ونَتِن، وعندها ناس يأكلون منها. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء يتركون الحلال ويأتون الحرام.

(1)

في دلائل النبوة (677) والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي (403). (الإصلاحي).

أخرجه البيهقي بسنده عن أبي محمد بن أسد الحماني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره (14/ 436 ــ 441) من طريقين عن أبي هارون به، مطوّلا ومختصرًا.

وإسناده ضعيف جدًّا. علّته أبو هارون العبدي مشهور بكنيته واسمه عمارة بن جُوَيْن. قال الحافظ في التقريب: «متروك ومنهم من كذبه» .

وساقه الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 21 ــ 25) عن البيهقي بطوله، ثم قال في آخره:«أبو هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعَّف عند الأئمة، وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه من الشواهد لغيره» . (قالمي).

(2)

(أ، غ): «آدم» .

(3)

«عليه» ساقط من (ب، ط).

(4)

زاد بعضهم في الأصل واوًا بين الراء والحاء ليقرأ «مشروح» كما في (غ).

وفي (ب، ط، ن، ج): «يشرح» .

ص: 175

قال: ثم مضيت هنيَّة فإذا أنا بأقوامٍ بطونُهم أمثالُ البيوت

(1)

، كلّما نهض أحدهم خرَّ يقول: اللهم لا تُقِم الساعة. قال: وهم على سابلةِ آل فرعون. قال: فتجيء السابلة

(2)

، فتطؤُهم، فيصيحون

(3)

. قلت: يا جبريل

(4)

من هؤلاء؟ قال: هؤلاء {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

قال: ثم مضَيْت هنيَّةً، فإذا أنا بقوم

(5)

، مشافِرُهم كمشافر الإبل، فتُفتَح

(6)

أفواهُهم، فيُلْقَمون الجمر، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعتهم يصيحون

(7)

. قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا.

ثم مضيت هنيَّة، فإذا أنا بنساء معلَّقات بثُدِيِّهن، فسمعْتُهن يصِحْن. قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني.

ثم مضيت هنيَّة، فإذا أنا بقوم يُقطع من جنوبهم اللحمُ، فيُلْقَمون، فيقال: كُلْ ما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: من هؤلاء؟ قال: الهمَّازون من أمتك». وذكر الحديث بطوله.

(1)

(ط): «كأمثال البيوت» .

(2)

السابلة: الطريق المسلوك، والسالكون عليه.

(3)

(ب، ط، ج): «يضجُّون» .

(4)

«يا جبريل» ساقط من (ط).

(5)

(ط، ن): «بأقوام» .

(6)

(ط، ج): «فتنفتح» .

(7)

(ب، ط، ج): «يضجُّون» .

ص: 176

وفي سنن أبي داود

(1)

من حديث أنس بن مالك قال

(2)

: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عُرج بي مررتُ بقومٍ، لهم أظفارٌ من نحاس، يخمِشُون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» .

وقال أبو داود الطيالِسيُّ في مسنده

(3)

: حدثنا شعبةُ، عن الأعمش، عن

(1)

(ن): «وفي د» . كذا اكتفى بالرمز. والحديث فيه برقم (4878). وانظر: تذكرة القرطبي (404). (الإصلاحي».

أخرجه أبو داود من طريق بقية وأبي المغيرة كلاهما عن صفوان، عن راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير كلاهما عن أنس.

وأخرجه الإمام أحمد (13340)، والطبراني في الأوسط (8)، وفي مسند الشاميين (932) من طريق أبي المغيرة، به. وإسناده صحيح، رجاله ثقات شاميون؛ وصفوان هو ابن عمرو الحمصي، وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي. وانظر: السلسلة الصحيحة (533). (قالمي).

(2)

«قال» ساقط من (ب، ط).

(3)

برقم (2768) وانظر: التذكرة (395). (الإصلاحي).

ورجاله ثقات، غير أنّ أصحاب الأعمش خالفوا شعبة في إسناده ولفظه؛ فأخرجه البخاري (652)، ومسلم (292) من طريق وكيع. والبخاري (218) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، و (1378) من طريق جرير. ومسلم من طريق عبد الواحد بن زياد. أربعتهم عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، وفيه:«لا يستتر من بوله» بدل «فكان يأكل لحوم الناس» . فتبين بهذا أن مجاهدًا لم يسمعه من ابن عباس، فيكون في إسناد الطيالسي انقطاع، وشذوذ في قوله:«فكان يأكل لحوم الناس» يعني يغتابهم.

ويجوز أن يكون مجاهد سمع الحديث من الوجهين، بواسطة وبغير واسطة؛ يؤيد ذلك أن الإمام البخاري (216، 6055) رواه من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، لكن بلفظ الجماعة. (قالمي).

ص: 177

مجاهد، عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبرين فقال: «إنهما لَيُعذَّبان في غير كبير

(1)

. أمَّا أحدهما فكان يأكل لحوم الناس. وأما الآخر فكان صاحب نميمة. ثم دعا بجريدة، فشَقَّها نصفَين، فوضع نصفَها على هذا القبر، ونصفها على هذا القبر، وقال: عسى أن يخفَّف عنهما ما دامتا رَطبتين».

وقد اختلف الناس في هذين: هل كانا كافرين أو مؤمنين؟

فقيل: كانا كافرين. وقوله: «وما يعذّبان في كبير»

(2)

يعني: بالإضافة إلى الكفر والشِّرك. قالوا: ويدلُّ عليه [39 ب] أنَّ العذاب لم يرتفع عنهما، وإنما خُفّف

(3)

. وأيضًا فإنه

(4)

خُفِّف مدةَ رُطوبة الجريدة فقط. وأيضًا فإنّهما لو كانا مؤمنين لشَفَع فيهما ودعا لهما النبي صلى الله عليه وسلم، فرُفع عنهما العذابُ بشفاعته. وأيضًا ففي بعض طرق الحديث: أنهما كانا كافرين. وهذا التعذيبُ زيادةٌ على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما، وهو دليل على أنَّ الكافر يعذَّب بكفره وذنوبه جميعًا. وهذا اختيار أبي الحَكَم بن بَرَّجان

(5)

.

(1)

(ب، ط، ج، ز): «وما يعذبان في كبير» موضع «في غير كبير» . والمثبت من غيرها موافق لما في المسند. ولعل بعض الناسخين نظر إلى اللفظ الذي سيأتي في الكلام على الحديث، فأثبته هنا ليزول الخلاف بين المتن والشرح.

(2)

لم يسبق هذا اللفظ في كلام المصنف، ولكنه ينقل من تذكرة القرطبي الذي أورد أحاديث مختلفة وتكلم عليها. وهذا لفظ الصحيحين.

(3)

(ط، ز): «يخفف» . (ن): «خفف عنهما» .

(4)

(ط): «إنه» .

(5)

في كتابه: «الإرشاد الهادي إلى التوفيق والسداد» . انظر: التذكرة للقرطبي (396). وبه جزم أبو موسى المديني، كما في فتح الباري (1/ 321).

ص: 178

وقيل: كانا مسلمين لنفيْهِ صلى الله عليه وسلم التعذيبَ بسببٍ غير السببين المذكورين، ولقوله:«وما يعذبان في كبير» ، والكفرُ والشرك أكبر الكبائر على الإطلاق. ولا يلزم أن يشفَع النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم يعذَّب في قبره على جريمة من الجرائم

(1)

، فقد أَخبر عن صاحب الشَّملة الذي قُتل في الجهاد أنَّ الشملة تشتعل عليه نارًا في قبره، وكان مسلمًا مجاهدًا

(2)

. ولا يُعلَم ثبوت هذه اللفظة، وهي قوله:«كانا كافرين»

(3)

، ولعلها لو صحَّت ــ وكَلَّا

(4)

ــ فهي من

(1)

في (أ، غ): «على الحرام» . سقط وتحريف.

(2)

يشير إلى حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (4234) ومسلم (115).

(3)

أخرج الطبراني في الأوسط (4628) من طريق ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:«مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قبور نساء من بني النجار، هلكوا في الجاهلية، فسمعهم يعذَّبون في القبور في النميمة» . قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن أسامة بن زيد إلا ابن لهيعة» . ومن هذا الوجه رواه أبو موسى المديني، كما في فتح الباري (1/ 321)، ولفظه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة» قال أبو موسى: «هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح» .

قال الحافظ ابن حجر: «لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة» .

يعني الحافظ ما أخرجه الإمام أحمد (14152) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله، فذكره. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 55):«رجاله رجال الصحيح» . (قالمي).

(4)

«وكلا» ضرب عليه في الأصل، ولم يرد في (ب، غ).

ص: 179

قول بعض الرواة. والله أعلم. وهذا اختيار أبي عبد الله القرطبي

(1)

.

* * *

(1)

التذكرة (396). ورجح ابن حجر احتمال كونهما كافرين في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (3006). أما حديث ابن عباس، فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين. انظر: فتح الباري (1/ 321).

ص: 180

فصل

وأما المسألة السابعة

(1)

وهي قول السائل: ما جوابُنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسَعته وضِيقه، وكونِه حفرةً من حُفَر النار أو روضةً من رياض الجنة، وكونِ الميت لا يجلس ولا يقعد فيه؟

قالوا

(2)

: فإنّا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة عُمْيًا صُمًّا يضربون الموتى بمطارق الحديد، ولا نجد هناك حيَّاتٍ ولا ثعابينَ ولا نيرانًا تأجَّجُ. ولو كشفنا حالَه في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير. ولو وضعنا على عينيه الزئبقَ، وعلى صدره الخَرْدل، لوجدناه على حاله. وكيف

(3)

يُفسَح له مدَّ بصره، أو يُضيَّق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حدِّ

(4)

ما حفرناها، لم تزد ولم تنقص؟ وكيف يسَعُ ذلك اللحد الضيِّق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟

قال إخوانهم من أهل البدع والضلال

(5)

: وكلُّ حديث يخالف مقتضَى [40 أ] العقول والحسِّ يُقطَعُ بتخطئة ناقليه

(6)

.

(1)

«فصل وأما» لم يرد في (ن). ثم فيها وفي (ق): «المسألة الثامنة» لترقيم المسألة السابقة بالسابعة.

(2)

قارن بتذكرة القرطبي (371).

(3)

(ق): «فكيف» .

(4)

(ب، ط، ن، ج): «قدر» . والمثبت من غيرها موافق للتذكرة.

(5)

في التذكرة (373): «فإن قالوا» . وفي (ب، ط، ح): «الضلال والبدع» .

(6)

(أ، ق، غ): «قائله» . والمثبت من غيرها موافق للتذكرة.

ص: 181

قالوا

(1)

: ونحن نرى المصلوب على خشبته

(2)

مدةً طويلة، لا يسأل ولا يجيب، ولا يتحرّك، ولا يتوقَّد جسمُه نارًا؛ ومن افترسته السباع، ونهشَتْه

(3)

الطيور، وتفرّقت أجزاؤه في أجواف السباع، وحواصل الطيور

(4)

، وبطون الحيتان

(5)

، ومدارج الرياح= كيف تُسأَلُ أجزاؤه مع تفرُّقها؟ وكيف يُتصوَّر مسألةُ

(6)

الملكين لِمَن هذا وصفُه؟ وكيف يصير القبر على هذا روضةً من رياض الجنة أو حفرةً من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه؟

ونحن نذكر أمورًا يُعلم بها الجواب:

الأمر الأول

(7)

: أن يُعلَم أنّ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تُحيله العقول، وتقطع باستحالته. بل أخبارهم قسمان:

أحدهما: ما تشهد به العقول والفِطَر

(8)

.

الثاني: ما لا تدركه العقول بمجرَّدها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب.

(1)

قارن بالتذكرة (373 ــ 374).

(2)

(ق، ن، ز): «خشبةٍ» . (ط): «الخشبة» .

(3)

في (ق) كتب فوق الشين «معًا» يعني بالمهملة والمعجمة كلتيهما.

(4)

ما عدا (ق، ز): «حواصل السباع وأجواف الطيور» .

(5)

ما عدا (ب، ط، ط): «الحيّات» . وفي التذكرة: «أجواف الطير، وبطون الحيتان، وحواصل الطير» .

(6)

(ب): «تتصور مساءلة» .

(7)

«الأمر» ساقط من (ب).

(8)

(ق، ن، ز، غ): «الفطن» ، تصحيف.

ص: 182

ولا يكون خبرهم مُحالًا في العقول أصلًا. وكلُّ خبر يُظَنُّ

(1)

أنَّ العقل يُحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذبًا عليهم، أو يكون ذلك العقلُ فاسدًا. وهو شبهة خيالية يظنُّ صاحبُها أنَّها معقول صريح. قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36]. والنفوس لا تفرح بالمحال.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57، 58]. والمحال لا يَشفي، ولا يحصل به هدًى ولا رحمةٌ، ولا يُفرَح

(2)

به.

فهذا أمرُ مَن لم يستقرَّ في قلبه خيرٌ، ولم يثبُتْ له على الإسلام قدمٌ، وكان أحسن أحواله الحيرة والشكّ.

فصل

الأمر الثاني

(3)

: أن يُفهَم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرادُه من غير [40 ب] غلُوٍّ ولا

(1)

(ق): «نظن» . وهو مضبوط في (ط).

(2)

(ط): «فلا يفرح» .

(3)

أورد أوله شارح الطحاوية (396) بشيء من التصرف دون إشارة إلى ابن القيم.

ص: 183

تقصير، فلا يُحمَّلَ

(1)

كلامُه ما لا يحتمله، ولا يُقَصَّرَ به عن مراده وما قصَدَه من الهدى والبيان.

وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله. بل سوءُ الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِّ بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصلُ كل خطأ في الأصول والفروع؛ لا سيَّما إن أضيف إليه سوءُ القصد، فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حُسْن قَصْده، وسوءُ القصد من التابع

(2)

. فيا محنةَ الدين وأهلهِ! والله المستعان.

وهل أوقع القدريَّة والمرجئةَ والخوارجَ والمعتزلةَ والجهميةَ والرافضةَ وسائرَ طوائف أهل البدع إلا سوءُ الفهم عن الله ورسوله، حتى صار الدين بأيدي أكثرِ الناس

(3)

هو مُوجَبَ هذه الأفهام! والذي فهمه الصحابةُ ومن تَبِعهم عن الله ورسوله، فمهجورٌ لا يُلتفَت إليه، ولا يَرفع هؤلاء به رأسًا!

ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنَّا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوفٍ

(4)

؛ حتّى إنّك لتمرُّ على الكتاب من أوله إلى آخره، فلا تجدُ صاحبَه فَهِمَ عن الله ورسوله مرادَه كما ينبغي في موضع واحد!

وهذا إنما يعرفه من عَرَف ما عند الناس، وعَرَضه على ما جاء به الرسول. وأما مَن عَكَس الأمرَ بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده،

(1)

(ط): «ولا يحمل» .

(2)

وانظر: الصواعق المرسلة (507)، ومجموع الفتاوى (16/ 310).

(3)

في (أ، غ): «أكثر أهل الناس» !

(4)

ما عدا (أ، ق، غ): «عشرات ألوف» .

ص: 184

وانتحله، وقلَّد فيه مَن أحسَنَ به الظنَّ

(1)

؛ فليس يُجدي الكلامُ معه شيئًا. فدعه وما اختاره لنفسه، وولِّه ما تولَّى، واحمَدِ الذي عافاك مما ابتلاه به.

فصل

الأمر الثالث

(2)

: أنّ الله سبحانه جعل الدُّورَ ثلاثةً: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار؛ وجعل لكلِّ دار أحكامًا تختصُّ بها. وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواحُ تبعٌ

(3)

لها. ولهذا جعل أحكامه الشرعيةَ مرتَّبةً على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمَرت النفوسُ خلافَه. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدانُ تبعٌ لها. فكما تبعت الأرواحُ الأبدانَ في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذَّت [41 أ] براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب= تبعت الأبدانُ الأرواحَ في نعيمها وعذابها، والأرواح حيئنذ هي التي تباشر

(4)

العذاب والنعيم.

فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها. والأرواحُ هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها. تجري أحكام البرزخ على الأرواح،

(1)

(ن): «الظن به» .

(2)

لخَّصه شارح الطحاوية مضيفًا إليه جملة من الأمر الرابع (396) دون إشارة إلى ابن القيم.

(3)

هنا وفيما يأتي غيّره بعض القراء في (أ، ن) إلى «تبعًا» ، وكذا في (غ) والنسخ المطبوعة وهو خطأ.

(4)

كان في الأصل: «باشرت» ، فضرب بعضهم على التاء، وزاد تاءً قبل الباء ليقرأ:«تباشر» . وفي (ق): «تباشرت» ، كأن ناسخها جمع بين الصيغتين.

ص: 185

فتسري إلى أبدانها نعيمًا أو عذابًا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، فتسري إلى أرواحها نعيمًا أو عذابًا.

فأحِطْ بهذا الموضع علمًا، واعرِفْه كما ينبغي، يزيل

(1)

عنك كلَّ إشكالٍ يُورَد عليك من داخل وخارج.

وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجًا في الدنيا من حال النائم، فإنَّ ما يُنَعَّم به أو يُعذَّب في نومه يجري على روحه أصلًا، والبدنُ تبع له؛ وقد يقوى حتى

(2)

يؤثرَ في البدن تأثيرًا مشاهَدًا، فيَرى النائم في نومه

(3)

أنه ضُرِب، فيُصبح، وأثرُ الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل أو شرب، فيستيقظ، وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.

وأعجبُ من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه

(4)

، ويضربُ، ويبطِش، ويدافع، كأنه يقظانُ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك

(5)

أنَّ الحكمَ لمَّا جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسَّ.

فإذا كانت الروح تتألَّم وتنعَم

(6)

ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع،

(1)

كذا غير مجزوم في جميع النسخ. وقد سبق نحوه في (ص 125).

(2)

(ق): «حين» ، تحريف.

(3)

«في نومه» ساقط من (ن).

(4)

ما عدا (أ، ز، غ): «من نومه» .

(5)

«وذلك» استدرك في حاشية الأصل عند المقابلة. ولم يرد في (ز). وفي غيرهما: «لأن» في موضع «وذلك أن» .

(6)

ضبط في (ط) بضم التاء وتشديد العين. وفي النسخ المطبوعة: «تتنعم» .

ص: 186

فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإنَّ تجرُّدَ الروح هناك أكملُ

(1)

وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كلَّ الانقطاع. فإذا كان يومُ حشر الأجساد وقيامِ الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا أصلًا.

ومتى أعطيتَ هذا الموضع حقَّه تبيَّن لك أنّ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمِّه، وكونه حفرةً من حفر النار، أو روضةً من رياض الجنة مطابقٌ للعقل، وأنَّه حقٌّ لا مِريَة فيه، وأنَّ مَن أشكَلَ عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتيَ، كما قيل [41 ب]:

وكم مِن عائبٍ قولًا صحيحًا

وآفَتُه من الفهمِ السَّقيمِ

(2)

وأعجبُ من ذلك أنك تجد النائمَين

(3)

في فراش واحد، وهذا روحُه في النعيم، ويستيقظ وأثرُ النعيم على بدنه. وهذا روحُه في العذاب، ويستيقظ وأثرُ العذاب على بدنه. وليس عند أحدهما خبرٌ بما عند الآخر. فأمرُ البرزخ أعجبُ من ذلك.

فصل

(4)

الأمر الرابع: أنَّ الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلًا بها غيبًا، وحَجَبها عن إدراك المكلَّفين في هذه الدار. وذلك من كمال حكمته،

(1)

(ق): «أجمل» ، تصحيف.

(2)

للمتنبي في ديوانه بشرح الواحدي (339).

(3)

ما عدا (أ، ق، غ): «نائمين» .

(4)

«فصل» لم يرد في (ن).

ص: 187

ولِيتميَّزَ المؤمنون بالغيب من غيرهم.

فأولُ ذلك أنَّ الملائكة تنزل على المحتضَر، وتجلس قريبًا منه، ويشاهدهم عِيانًا. ويتحدثون عنده، ومعهم الأكفانُ والحَنُوط، إما من الجنة أو من النار؛ ويؤمِّنون على دعاء الحاضرين بالخير أو الشر. وقد يسلِّمون على المحتضَر، ويردُّ عليهم تارةً بلفظه، وتارةً بإشارته، وتارةً بقلبه حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة

(1)

.

وقد سُمِع بعضُ المحتضَرين يقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذه الوجوه!

وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضَرين، فلا أدري أشاهدَه أو أُخبر عنه، أنَّه سُمِع، وهو يقول: عليك السلام

(2)

، هاهنا فاجلس، وعليك السلام، هاهنا فاجلس.

وقصة خيرٍ النَّسَّاجِ مشهورة، حيث قال عند الموت: اصبِرْ ــ عافاك الله ــ فإنَّ ما أُمِرتَ به لا يفوت، وما أُمِرتُ به يفوت. ثم استدعى بماء، فتوضأ، وصلَّى، ثم قال: امض لما أُمِرتَ به، ومات

(3)

.

وذكر ابن أبي الدنيا

(4)

أنَّ عمر بن عبد العزيز لمَّا كان في يومه الذي

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «وإشارة» .

(2)

(ط، ن): «وعليك السلام» . وفي (ب، ج) جاءت «وعليك

فاجلس» مرة واحدة.

(3)

انظر: طبقات الصوفية (323)، وحلية الأولياء (10/ 307)، والرسالة القشيرية (437) والعاقبة (227). وخير النسّاج من الزهاد الكبار، صَحِب الجنيد وأبا حمزة البغدادي. توفي سنة 322. سير أعلام النبلاء (15/ 269).

(4)

في المحتضرين (88).

ص: 188

مات فيه قال: أجلِسوني. فأجلَسوه، فقال: أنا الذي أمرتَني فقصَّرتُ، ونهيتَني فعصيتُ ــ ثلاثَ مرات ــ ولكن لا إله إلا الله. ثم رفع رأسه، فأحدَّ النظر. فقالوا: إنّك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين! فقال: إني لأرى حَضرةً ما هم بإنس ولا جنّ. ثم قُبض.

وقال مَسْلَمة بن عبد الملك: لما احتُضِر عمرُ بن عبد العزيز كنَّا عنده في قبةٍ، فأومأ إلينا أن اخرجوا. فخرجنا، [42 أ] فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هذه الآية:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ما أنتم بإنس ولا جانٍّ. ثم خرج الوصيف، فأومأ إلينا أن ادخلوا. فدخلنا

(1)

فإذا هو قد قُبض

(2)

.

وقال فَضَالة بن دينار: حضرتُ محمد بن واسع، وقد سُجِّي للموت، فجعل يقول: مرحبًا بملائكة ربِّي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشمِمْتُ رائحةً طيبةً لم أشَمَّ رائحةً

(3)

قطُّ أطيبَ منها. ثم شَخَص ببصره

(4)

، فمات

(5)

.

والآثار في ذلك أكثرُ من أن تُحصَر، وأبلغ. ويكفي من ذلك كلِّه قولُ الله عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ

(1)

«فدخلنا» ساقط من (ن).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (89).

(3)

من (أ، غ).

(4)

زاد في الأصل: «إلى السماء» وكتب فوقها: «لا» أولها و «إلى» آخرها.

(5)

أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (193).

ص: 189

إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 ــ 85]. أي: أقرب إليه بملائكتنا ورُسُلنا، ولكنكم لا ترونهم. فهذا أول الأمر، وهو غير مرئيّ لنا

(1)

ولا مشاهَد، وهو في هذه الدار.

ثم يمُدُّ الملَكُ يدَه إلى الروح، فيقبضُها، ويخاطبها. والحاضرون لا يرونه، ولا يسمعونه. ثم تخرج، فيخرج لها نور مثلُ شعاع الشمس، ورائحةٌ أطيب من رائحة المسك. والحاضرون لا يرون ذلك، ولا يشَمُّونه. ثم تصعد بين سِماطَين من الملائكة، والحاضرون لا يرونهم. ثم تأتي الروح فتشاهِد

(2)

غسلَ البدن وتكفينَه وحملَه، وتقول: قدِّموني، قدِّموني، أو إلى أين تذهبون بي؟ ولا يسمع

(3)

الناس ذلك.

فإذا وُضِع في لحده، وسُوِّي عليه التراب؛ لم يحجب الترابُ الملائكة

(4)

عن الوصول إليه. بل لو نُقِر له حجرٌ، فأودع فيه، وخُتِم عليه بالرصاص؛ لم يمنع وصولَ الملك

(5)

، إليه. فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تَمنَعُ خرق الأرواح لها. بل الجنُّ لا يمنعها ذلك. بل قد جعل الله سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير. واتساعُ القبر وانفساحُه للروح بالذات، والبدنِ تَبَعًا، فيكون البدن في لحدٍ أضيقَ من ذراع، وقد فُسِح له مَدَّ بصره تبعًا لروحه.

(1)

«لنا» ساقط من (ن).

(2)

(ب، ط، ن): «وتشاهد» .

(3)

(ق): «فلا يسمع» .

(4)

(ن): «الملائكة الترابُ» .

(5)

(ط): «الملائكة» .

ص: 190

وأما عَصْرةُ القبر حتى تختلف بعضُ أضلاع الموتى، فلا يردُّه حِسٌّ ولا عقل ولا فطرة. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا نبش عن ميِّت، فوجد أضلاعه كما هي لم تختلف [42 ب]، لم يمنع

(1)

أن تكون قد عادت إلى حالها بعد العصرة

(2)

. فليس مع الزنادقة والملاحدة إلا مجرَّدُ تكذيب الرسول.

ولقد أخبَرَ بعضُ الصادقين

(3)

أنَّه حفر ثلاثة أقْبُر، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح، فرأى فيما يرى النائم ملَكَين نزلا، فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخًا في فرسخ. ثم وقفا على الثاني، فقال: اكتب ميلًا في ميل. ثم وقفا على الثالث، فقال: اكتب فِتْرًا في فتر. ثم انتبه، فجيء برجل غريب لا يُؤْبَه له، فدُفن في القبر الأول. ثم جيء برجل آخر، فدفن في القبر الثاني. ثم جيء بامرأة مُترَفة من وجوه البلد حولها ناس كثير، فدُفِنتْ في القبر الضيِّق الذي سمعتُه

(4)

يقول: فِتْرًا في فِتْر. والفِتْر: ما بين الإبهام والسبَّابة.

(1)

(ب، ط، ن، ج): «لم يمتنع» .

(2)

(ب، ط، ن، ج): «العصر» .

(3)

(ط): «الصالحين» . وقد نقل المصنف هذه القصة بنصها من تذكرة القرطبي (387) ولكن سياقه مختلف عن سياق المصنف. قال القرطبي: «سمعتُ بعض علمائنا يقول: إن حفّارًا كان بقرافة مصر يحفر القبور، فحفر ثلاثة أقبر

». فالعالم الذي أخبر بالقصة لم يكن حفَّارًا، ولا صرَّح بأنه سمع القصة من الحفّار نفسه.

(4)

(ب): «سمعه» . وهو مقتضى السياق، ولكن يظهر أن ناسخها أصلح ما في سائر النسخ. هذا، وفي التذكرة:«سَعتُه فِترًا في فِتر» (كذا).

ص: 191

فصل

الأمر الخامس

(1)

: أنَّ النار التي في القبر والخُضْرة

(2)

ليست

(3)

من نار الدنيا ولا من

(4)

زرع الدنيا، فيشاهدَه مَن شاهد نار الدنيا وخُضرَتها. وإنما هي

(5)

من نار الآخرة وخضرتها، وهي

(6)

أشدُّ من نار الدنيا. ولا يحسُّ به أهل الدنيا، فإن الله سبحانه يُحْمي عليه ذلك الترابَ والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظمَ حرًّا من جمر الدنيا. ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسُّوا بذلك.

بل أعجبُ من هذا أنَّ الرجلين يُدفنان، أحدُهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حُفَر النار، لا يصل حرُّها إلى جاره. وذلك في روضة من رياض الجنة، لا يصل رَوْحُها ونعيمُها إلى جاره.

وقدرة الربِّ تعالى أوسع وأعجب من ذلك. وقد أرانا من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك بكثير، ولكنَّ النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تُحِط به علمًا، إلا من وفَّقه الله وعصمه. فيفرَش للكافر لوحان من نار، يشتعل عليه قبرُه بهما كما يشتعل التنور. فإذا شاء الله سبحانه أن يُطلِع على ذلك بعضَ عَبيده

(7)

أطلعه، وغيَّبه عن غيره؛ إذ لو اطَّلع عليه العباد

(1)

لخَّصه شارح الطحاوية (396) دون إشارة إلى المصنف.

(2)

في (ب، ج) هنا وفيما يلي: «خَضِر» مكان «الخضرة» .

(3)

(ب، ط): «ليس» .

(4)

هنا وقع خرم كبير في (ز) امتدَّ إلى المسألة التاسعة عشرة.

(5)

(ب، ط، ج): «هو» .

(6)

(أ، ب، ط، ج): «هو» .

(7)

(ب، ط، ن، ج): «عباده» .

ص: 192

كلُّهم لزالت حكمةُ

(1)

التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافَنَ الناس، كما في الصحيح

(2)

عنه صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر [43 أ] ما أسمع» .

ولما كانت هذه الحكمة منفيَّةً في حقّ البهائم سمعت ذلك وأدركته

(3)

، كما حادت برسول الله صلى الله عليه وسلم بغلتُه، وكادت تُلقِيه لمّا مرَّ بمن يُعذب في قبره

(4)

.

وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرُّزَيز

(5)

الحَرَّانيُّ أنه خرج من

(1)

في جميع النسخ: «كلمة» غير الأصل التي يحتمل رسمها قراءة «حكمة» ، وهي الصواب.

(2)

(أ، ق، غ): «الصحيحين» والحديث في صحيح مسلم، وقد سبق.

(3)

(ق): «فأدركته» .

(4)

جزء من الحديث السابق.

(5)

كذا في (أ، غ) بالراء والزاي مكررةً. وضبط بعض قراء (غ) بضم الراء وفتح الزاي مصغَّرًا. وهذا هو الصواب. وقد نصّ عليه في تبصير المنتبه (642) وتوضيح المشتبه (4/ 294).

وفي (ق): «رزين» . وفي النسخ الأخرى والبداية والنهاية (18/ 179، 458) والدارس (2/ 417، 418): «الوزير» ، وكلاهما تصحيف.

وهو محمد بن عبد الواحد بن يوسف الحرّاني الآمدي (في البداية والنهاية: «الأسدي»، تحريف) الحنبلي. نعته ابن كثير بـ «الإمام العالم العابد الناسك الصالح خطيب الجامع الكريمي بالقُبيبات» ، وأرخ وفاته في 17 شعبان من سنة 743. وقد ضبط في السحب الوابلة (994):«الرَّزيز» مكبّرًا، وقال محققه:«ولم أجده في مصدر آخر ــ يعني غير الدرر الكامنة (4/ 35) ـ لذا لا نحسن ضبط الرزيز» ومن ثم لم يقف على الصواب في تاريخ وفاته أيضًا، فاكتفى بالنقل من حاشية الدرر:«مات في رجب سنة 796 هـ» مع التنبيه على أن الحافظ لم يذكره في وفياتها في إنباء الغمر.

ص: 193

داره بعد العصر بآمِدَ إلى بستانٍ. قال: فلمّا كان قبل غروب الشمس توسطتُ

(1)

القبورَ، فإذا بقبر منها، وهو جمرةُ نار مثلُ كُور الزجَّاج

(2)

، والميتُ في وسطه. فجعلتُ

(3)

أمسح عينيَّ، وأقول: أنائم أنا أم يقظانُ؟ قال: ثم التفتُّ إلى سور المدينة، وقلت: والله ما أنا بنائم. ثم ذهبت إلى أهلي، وأنا مدهوشٌ، فأتَوْني بطعام، فلم أستطع أن آكلُ. ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مَكَّاسٌ قد توفِّي ذلك اليوم

(4)

.

فرؤيةُ هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجنِّ تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يُريه ذلك.

وقد ذكر ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور»

(5)

عن الشعبي أنّه ذكر

(1)

(أ، غ): «توسط» .

(2)

ضبطه من (غ). وكور الزجّاج: مَوقده لصهر الزجاج.

(3)

(ب، ط، ج): «وجعلت» .

(4)

(ن): في ذلك اليوم. وقد نقل الحكاية من كتابنا هذا ابن رجب في أهوال القبور (69).

(5)

برقم (92)، ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 89، 90)، وفي سنده مجالد وهو ابن سعيد الهمداني فيه ضعف، وهو مرسل. وأخرجه ابن أبي شيبة (30478) بسنده عن مسلم (وهو ابن صُبَيْح أبو الضُّحى) نحوه ورجاله ثقات وهو مرسل أيضًا.

وجاء موصولًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، رواه الطبراني في الأوسط (6560)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1739) من طريق عبد الله بن محمد بن المغيرة، عن مالك بن مغول، عن نافع عن ابن عمر قال: «بينا أنا أسير، بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض

» فذكره بنحوه، وفي سنده عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي نزيل مصر، له ترجمة في لسان الميزان (3/ 332) قال أبو حاتم:«ليس بقوي» ، وقال ابن عدي:«عامة ما يرويه لا يتابع عليه» . لكنه توبع على هذا الحديث، فرواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 253) من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر. وإسناده لا بأس به في المتابعات.

وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن لغيره. والله أعلم. (قالمي).

ص: 194

رجلًا

(1)

قال للنبي صلى الله عليه وسلم: مررتُ ببدر، فرأيت رجلًا يخرج من الأرض، فيضربُه رجلٌ بمِقْمعة حتى يغيبَ في الأرض؛ ثم يخرج، فيفعل به ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذلك أبو جهل بن هشام يُعذَّب إلى يوم القيامة» .

وذكر

(2)

من حديث حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: بينا أنا أسير بين مكة والمدينة على راحلة، وأنا مُحقِبٌ

(3)

إداوةً، إذ مررت بمقبرة، فإذا رجل خارجٌ من قبره يلتهب نارًا، وفي عنقه سلسلةٌ يجرُّها. فقال: يا عبد الله انضَحْ، يا عبد الله انضح

(4)

. فوالله ما أدري أعرفني باسمي، أم كما يدعو الناس. قال: فخرج آخَرُ فقال: لا عبد الله لا تنضح، يا عبد الله لا تنضح. ثم اجتذب السلسلة، فأعاده في قبره.

وقال ابن أبي الدنيا

(5)

: وحدَّثني أبي، ثنا موسى بن داود، ثنا حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: بينما راكبٌ يسير بين مكة والمدينة،

(1)

(ب، ط، ن، ج): «الشعبي أن رجلًا» .

(2)

في كتاب القبور (93).

(3)

(ن): «محتقب» ، وهو بمعناه.

(4)

هذه الجملة هنا وفيما يأتي وردت في (ن) مرة واحدة. ظنّها ناسخها مكررةً. ثم فيها في الموضعين: «يا أبا عبد الله» وهو غلط. نبَّه عليه بعض القراء في حاشية النسخة.

(5)

في كتاب القبور (95).

ص: 195

إذ مرَّ بمقبرة، فإذا برجل قد خرج من قبره، يلتهبُ نارًا، مصفَّدًا في الحديد، فقال: يا عبد الله انضح، يا عبد الله انضح، قال: وخرج [43 ب] آخرُ يتلوه فقال: يا عبد الله لا تنضح، يا عبد الله لا تنضح. قال: وغُشِي على الراكب، وعَدَلتْ به راحلته إلى العَرْج

(1)

. قال: وأصبح قد

(2)

ابيضَّ شعره. فأُخبِر عثمانُ بذلك، فنهى أن يسافر الرجل وحدَه.

وذكر

(3)

من حديث سفيان، حدثنا داود بن شابور

(4)

، عن أبي قَزَعة

(5)

قال: مررنا في بعض المياه التي بيننا وبين البصرة، فسمعنا نهيق حمار، فقلنا لهم: ما هذا النهيقُ؟ قالوا: هذا رجل كان عندنا، كانت أمه

(6)

تكلِّمه بالشيء، فيقول لها: انهقي نهيقَك. فلما مات سُمِع هذا النهيقُ من قبره كلَّ ليلة.

وذكر

(7)

أيضًا عن عمرو بن دينار قال: كان رجلٌ من أهل المدينة، وكانت له أخت في ناحية المدينة، فاشتكت، وكان يأتيها يعودها. ثم ماتت، فدفنها. فلما رجع ذكَر أنه نسي شيئًا في القبر

(8)

كان معه، فاستعان برجل من

(1)

واد في طريق الحاج القديم بين مكة والمدينة، ويقع على بعد 113 كِيلا من المدينة. معجم المعالم الجغرافية في السيرة (203).

(2)

(ب، ط، ن، ج): «وقد» .

(3)

في كتاب القبور (96) ومن عاش بعد الموت (26).

(4)

ما عدا الأصل: بالسين المهملة.

(5)

في كتاب القبور زيادة: «رجل من أهل البصرة، عنه أو عن رجل» . وفي كتاب من عاش: «

عنه أو عن غيره».

(6)

في (أ، غ): «له أمّ» ، وهو مستدرك في حاشية الأصل. وفي (ط):«امرأته» ، تحريف.

(7)

في كتاب القبور (97). وأخرجه أيضًا في كتاب الوَرع (84).

(8)

(ب، ط): «قبرها» .

ص: 196

أصحابه. قال: فنبشنا

(1)

القبر، ووجدتُ

(2)

ذلك المتاع. فقال للرجل: تنحَّ، حتَّى أنظر على أي حال أختي؟ فرفع بعضَ ما على اللحد؟ فإذا القبر مشتعلٌ نارًا، فردَّه، وسوَّى القبر. فرجع إلى أمه، فقال: ما كان حال أختي؟ فقالت: ما تسألُ عنها، وقد هلكتْ؟ فقال: لَتُخْبِرِنِّي

(3)

. قالت: كانت تؤخِّر الصلاة، ولا تصلِّي فيما أظنّ بوضوء؛ وتأتي أبواب الجيران، فتُلْقِمُ أذنهَا أبوابَهم، وتُخرِج حديثهم.

وذَكر

(4)

عن حصين الأسدي قال: سمعت مَرثَد بن حَوشَب قال: كنتُ جالسًا عند يوسف بن عمر، وإلى جنبه رجل كأنَّ شُقَّة وجهه صفحةٌ من حديد. فقال له يوسف: حدِّث مرثدًا بما رأيت. فقال: كنت شابًّا قد أتيتُ هذه الفواحش، فلما وقع الطاعون قلت: أخرجُ إلى ثغر من هذه الثغور. ثم رأيت أن أحفر القبور، فإنّي لِلَيلةٍ

(5)

بين المغرب والعشاء قد حفرتُ قبرًا، وأنا متكئٌ على تراب قبر آخر، إذ جيء

(6)

بجنازة رجلٍ حتى دُفن في ذلك القبر، وسوَّوا عليه. فأقبل طيران أبيضان من المغرب مثلُ البعيرين حتَّى سقط أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه. ثم أثاراه، ثم تدلَّى أحدهما في القبر، والآخر على شفيره. فجئت حتى [44 أ] جلست على شفير القبر، وكنتُ رجلًا لا يملأ جوفي شيءٌ. قال: فسمعته يقول: ألستَ الزائرَ أصهارَك في

(1)

(ط): «نبشنا» . (ب): «فنبشا» .

(2)

(ط): «ووجدنا» . (ن): «فوجدنا» . (ب): «ووجدا» .

(3)

(ق، ن، غ): «لتخبريني» .

(4)

في كتاب القبور (98).

(5)

(ق، ن، ج): «الليلة» . وفي كتاب القبور: «فإذا بي بليلة» .

(6)

(ق): «جاءوا» .

ص: 197

ثوبين مُمَصَّرين تسحبُهما

(1)

كِبْرًا، تمشي الخيلاء؟ فقال: أنا أضعف من ذلك

(2)

. قال: فضربه ضربةً امتلأ القبر حتى فاض ماءً ودُهنًا. ثم عاد، فأعاد عليه القول، حتى ضربه ثلاث ضربات، كلَّ ذلك يقول ذلك. ويذكر أنّ القبر يفيض ماءً ودهنًا. قال: ثم رفع رأسه، فنظر إليَّ، فقال: انظر

(3)

، أين هو جالس نكَّسه

(4)

الله! قال: ثم ضرب جانب وجهي فسقطتُ. فمكثتُ ليلتي حتّى أصبحت. قال: ثم أخذت أنظر إلى القبر، فإذا هو على حاله.

فهذا الماء والدهن في رأي العين لهذا الرائي هو نار تأجَّجُ للميِّت، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجّال: أنه يأتي معه بماء ونار، فالنار ماء بارد، والماء نار تأجَّجُ

(5)

.

وذكر ابن أبي الدنيا

(6)

أنَّ رجلًا سأل أبا إسحاق الفزاريَّ عن النَّباش: هل له توبة؟ فقال: نعَم إن صحَّت نيته، وعلم الله منه الصدقَ. فقال له الرجل: كنت أنبُش القبور، وكنت أجد قومًا وجوهُهم لغير القِبلة. فلم يكن عند الفزاريِّ في ذلك شيء، فكتب إلى الأوزاعي يخبره بذلك، فكتب إليه

(1)

(ق): «بمصرين» . وفي (ب، ط): «نسجتهما» . وكلاهما تصحيف.

وثوب ممصَّر: مصبوغ بالطين الأحمر أو بحمرة خفيفة.

(2)

«فقال

ذلك» ساقط من (ن).

(3)

ما عدا (أ، ق، غ): «انظروا» .

(4)

(ن): «ثبَّتَه» . وفي غيرها: «بلسه» وتصحيحه من كتاب القبور، وشرح الصدور (138).

(5)

أخرجه البخاري (3450) من حديث حذيفة بن اليمان.

(6)

في كتاب القبور (99).

ص: 198

الأوزاعي: تُقبَل توبتُه

(1)

إذا صحَّت نيته، وعلم الله الصدق من قلبه. وأما قوله: إنَّه كان يجد قومًا وجوههم لغير القبلة، فأولئك قوم ماتوا على غير السنّة.

وقال ابن أبي الدنيا

(2)

: حدَّثني عبد المؤمن بن عبد الله بن عيسى القيسي أنه قيل لنبّاشٍ قد تاب: ما أعجبُ ما رأيتَ؟ قال: نبشتُ رجلًا. قال

(3)

: فإذا هو مسمَّر بالمسامير في سائر جسده، ومسمارٌ كبير في رأسه، وآخرُ في رجليه.

قال

(4)

: وقيل لنبَّاشٍ آخر: ما أعجبُ ما رأيتَ؟ قال: رأيتُ جمجمةَ إنسانٍ مصبوبٌ

(5)

فيها رصاص

(6)

.

قال

(7)

: وقيل لنبَّاشٍ آخرَ: ما كان سبب توبتك؟ قال: عامَّةُ مَن كنت أنبُش، كنتُ أراه محوَّلَ الوجه عن القبلة.

قلتُ: وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد ابن مُنتاب السَّلامي

(8)

،

(1)

«توبته» ساقط من (ق).

(2)

في كتاب القبور (100).

(3)

من (أ، ق، غ).

(4)

هذا الخبر ساقط من كتاب القبور المطبوع.

(5)

كذا ضبط في (غ). وفي شرح الصدور (238): «مصبوبًا» .

(6)

(ق، ب، ج): «رصاصًا» .

(7)

وقد عزاه إليه ابن رجب في أهوال القبور (68) وهو ساقط من كتاب القبور المطبوع.

(8)

هو محمد بن داود بن محمد بن منتاب، شمس الدين أبو عبد الله الموصلي السلامي الشافعي التاجر. قال الذهبي: قلّ أن رأيت مثله في الدين والمحاسن والوقار والإيثار. وقف كتبًا كبارًا بدمشق وبغداد. توفي بدمشق سنة 728. أعيان العصر (4/ 437)، الدرر الكامنة (3/ 437).

ص: 199

وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرَّى [44 ب] الصدق. قال: جاء رجل إلى سوق الحدَّادين ببغداد، فباع مساميرَ صغارًا، المسمارُ برأسين. فأخذها الحدَّاد، وجعل يُحْمي عليها، فلا تلينُ معه حتى عجَز عن ضربها. فطلب البائعَ، فوجده، فقال: من أين لك هذه المسامير؟ فقال: لقيتُها. فلم يزل به حتَّى أخبره أنه

(1)

وجد قبرًا مفتوحًا، وفيه عظامُ ميِّتٍ منظومةٌ بهذه المسامير. قال: فعالجتُها على أن أُخرِجها، فلم أقدر، فأخذتُ حجرًا، فكسرتُ عظامه، وجمعتُها. قال: وأنا رأيت تلك المسامير. قلت له: فكيف صفتها؟ قال: المسمار صغير برأسين

(2)

.

قال ابن أبي الدنيا

(3)

: وحدَّثني أبي، عن أبي الحَريش

(4)

، عن أمِّه قالت

(5)

: لما حفر أبو جعفر

(6)

خندقَ الكوفة حوَّل الناسُ موتاهم، فرأينا

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «بأنه»

(2)

نقله من كتاب الروح: ابن رجب في أهوال القبور (68) وعلَّق عليه بقوله: «هذه الحكاية مشهورة ببغداد، وقد سمعتها وأنا صبي ببغداد، وهي مستفيضة بين أهلها» . ونقله أيضًا السيوطي في شرح الصدور (245). وتحرّف «منتاب» في الكتابين إلى «سنان» .

(3)

في كتاب القبور (102).

(4)

كذا في (ن). وفي (ط): «الحرس» . وفي (غ) بالجيم. وفي النسخ الأخرى: «الحريس» . وفي مطبوعة القبور وشرح الصدور: «الجريش» .

(5)

ما عدا (ق): «عن أبيه قال» . والمثبت موافق لما في كتاب القبور وشرح الصدور (238)، والأهوال (68). ويظهر أنه كان كذا في الأصل، فغيَّره بعضهم.

(6)

تعني: المنصور الخليفة، وقد أمر بحفر خندق الكوفة سنة 155. البداية والنهاية (13/ 435).

ص: 200

شابًّا ممن حُوِّل عاضًّا على يديه.

وذكر

(1)

عن سِمَاك بن حرب قال: مرَّ أبو الدرداء بين القبور، فقال: ما أسكَنَ ظواهرَك، وفي دواخلك

(2)

الدواهي!

وقال ثابت البُنَاني: بينا أنا أمشي في المقابر، وإذا صوتٌ خلفي

(3)

، وهو يقول: يا ثابتُ، لا يغرَّنَّك سكوتُها

(4)

، فكم من مغمومٍ فيها! فالتفتُّ فلم أر أحدًا

(5)

.

ومرَّ الحسن على مقبرة، فقال: يا لهم من عسكر، ما أسكتهم

(6)

! وكم فيهم من مكروب

(7)

!

وذكر ابن أبي الدنيا

(8)

أنّ عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك: يا مسلمةُ، مَن دفن أباك؟ قال: مولاي فلان. قال: فمن دفن الوليد؟ قال: مولاي فلان. قال: فأنا أحدِّثك ما حدَّثني به: إنه لما دفَن أباك والوليدَ، فوضعهما في قبورهما، وذهب ليحُلَّ العقد عنهما= وجد وجوههما قد حُوِّلت في أقفيتهما. فانظر يا مسلمة، إذا أنا مِتُّ فالتمس وجهي، فانظر:

(1)

في كتاب القبور (101).

(2)

(ب، ق، ن): «داخلك» . وكان في الأصل: «دواخلك» ، فضرب بعضهم على الواو.

(3)

(ب، ج): «خفي» ، تحريف.

(4)

(ق، ط): «سكونها» .

(5)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (107، 14) والهواتف (45).

(6)

(ق، ب، ط): «أسكنهم» . وفي الأهوال (130): «يسكتهم» .

(7)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (108).

(8)

في كتاب القبور (123).

ص: 201

هل نزل بي ما نزل بالقوم، أوْ هل عوفيتُ من ذلك؟ قال مسلمة: فلما مات عمر وضعته في قبره، فلمست وجهه، فإذا هو مكانه.

وذكر ابن أبي الدنيا

(1)

عن بعض السلف قال: ماتت ابنة لي، فأنزلتُها القبر. فذهبتُ أُصلِح اللَّبِنَة، فإذا هي قد حُوِّلت عن القبلة. فاغتممتُ لذلك غمًّا شديدًا، فأُريتُها في النوم، فقالت: يا أبتِ أغتممتَ لِما رأيت؟ فإنَّ عامَّة مَن حولي محوَّلون

(2)

عن القبلة. قال: كأنها تريد الذين ماتوا مُصرِّين على الكبائر.

وقال عمرو بن ميمون: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: كنتُ فيمن دلَّى الوليدَ بن عبد الملك في قبره، فنظرتُ إلى ركبتيه قد جُمِعتا في عنقه. فقال ابنه: عاش أبي، وربِّ الكعبة! فقلتُ: عُوجِلَ أبوك، وربِّ الكعبة! فاتَّعظ بها عمر بعده

(3)

.

وقال عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلَّب لما استعمله

(4)

على العراق: يا يزيدُ، اتَّقِ الله، فإنّي حين وضعتُ الوليد في لحدِه، فإذا هو

(1)

في كتاب القبور (125)، قال: حدثني عبد المؤمن، حدثني رجل قال: ماتت ابنة لي

إلخ.

(2)

ما عدا (ن): «محوّلين» . وكذا في كتاب القبور، فلعل ناسخ (ن) أصلح المتن.

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (127).

(4)

الذي في كتاب القبور أن سليمان بن عبد الملك لما استعمل يزيد على العراق وخراسان ودَّعه عمر بن عبد العزيز قائلًا: يا يزيد

إلخ.

وانظر: تاريخ دمشق (63/ 181). ولعلّ المصنف كتب: «اُستُعمل» مبنيًّا للمجهول، فقرأه الناسخون: استعمله.

ص: 202

يركض

(1)

في أكفانه

(2)

.

وقال يزيد بن هارون: أبنا هشام بن حسَّان، عن واصلٍ مولى أبي عُيينة

(3)

، عن عَمرو بن هَرِم

(4)

عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، فأتاه قوم، فقالوا: إنّا خرجنا حُجَّاجًا، ومعنا صاحبٌ لنا، حتى إذا أتينا ذا الصِّفاح

(5)

مات. فهيأناه، ثم انطلقنا، فحفرنا له، ولحَدْناه

(6)

. فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسْودَ قد ملأ اللحد، فحفرنا له آخر، فإذا به قد ملأ لحدَه. فحفرنا آخر، فإذا به. فقال ابن عباس: ذاك الغُلُّ الذي يُغَلُّ به

(7)

. انطلقوا، فادفنوه في بعضها. فوالذي نفسي بيده، لو حفرتم

(1)

(ب): «إذا هو يركض» . (ق): «فإذا يركض» . وفي كتاب القبور: «يرتكض» . وفي رواية أخرى في تاريخ دمشق: «اضطرب في أكفانه» ، وفيه:«ركض في لحده، أي: ضرب برجله الأرض» .

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (126).

(3)

في جميع النسخ: «ابن عيينة» ، والصواب ما أثبتنا من كتاب القبور. وانظر: تهذيب التهذيب (11/ 105) وغيره.

(4)

في جميع النسخ: «زهدم» ، وهو تحريف ما أثبتنا من كتاب العقوبات، وشعب الإيمان (5311)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (1742). وهو عمرو بن هرم الأزدي البصري، مات سنة 245. انظر: تهذيب التهذيب (8/ 113).

(5)

كذا في جميع النسخ وكتاب القبور، وغيّره بعضهم في الأصل إلى «ذات» كما في الأهوال (66) وشرح الصدور (239). وفي شعب الإيمان وكتاب اللالكائي:«الصفاح» ، وهو المعروف. انظر: معجم البلدان (3/ 412).

(6)

(ق): «لحدنا له» . وهو ساقط من (ن).

(7)

في شعب الإيمان وكتاب اللالكائي: «ذاك عمله الذي كان يعمل» . ولا يبعد أن يكون ما في كتاب القبور تحريفًا لهذا.

ص: 203

الأرضَ كلَّها لوجدتموه فيه

(1)

، فانطلقنا فوضعناه في بعضها. فلما رجعنا أتينا أهله بمُتَيِّعٍ

(2)

له معنا، فقلنا لامرأته: ما كان يعمل زوجك؟ قالت: كان يبيع الطعام، فيأخذ منه كلَّ يومٍ قوتَ أهله، ثم يقرِضُ القَصَل

(3)

مثلَه

(4)

، فيلقيه فيه

(5)

.

وقال ابن أبي الدنيا

(6)

: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني أبو إسحاق صاحب الشاء

(7)

قال: دُعيت إلى ميت لأغسِّله، فلما كشفت الثوب

(1)

كذا في جميع النسخ. ولعل المقصود: في لحده. وفي كتاب القبور: «فيها» .

(2)

تصغير «متاع» .

(3)

وهو ما يخرج من الطعام فيرمى به، ومثله: القُصالة .. قال اللحياني: هي ما يخرج من الطعام، فيرمى به، ثم يُداس الثانيةَ، وذلك إذا كان أجَلَّ من التراب والدقاق قليلًا. انظر: اللسان (11/ 558). وفي كتاب العقوبات: «ثم ينظر مثله من الشعير والقصب، فيقطعه، ويخلطه في طعامه» . وفي شعب الإيمان: «ثم ينظر مثله من قصب الشعير» . ولعل القصب تحريف القصل.

(4)

(ب، ط): «منه» .

(5)

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (128) والعقوبات (338).

(6)

في كتاب القبور (129).

(7)

رسمها في الأصل: «السا» وفوقها تضبيب. وفي الحاشية: «ط» فأثبت صاحبا نشرتي دار ابن تيمية ودار ابن كثير «الشاط» . والظاهر أنها «ظ» المعجمة وهو رمز معروف لما فيه نظر. وفي كتاب القبور: «الشاة» ، فأقرب ما يكون منه ومن رسم الأصل:«الشاء» جمع الشاة كما أثبتنا.

وفي (ن): «صاحب أبي» . وفي (غ): «صاحب النعا» وفوق الألف: ن. أما في (ب، ط، ج) فحذفوا الكلمتين، واستراحوا. وكذا فعل السيوطي أو ناسخ كتابه شرح الصدور (238).

وممن لقب بصاحب الشاء: أبو سعيد سكن بن أبي خالد، يروي عن الحسن. ويقال له أيضًا: صاحب الغنم. انظر: الزهد لأحمد (270) والجوع لابن أبي الدنيا (200). ومنهم خلف بن عنبس صاحب الشاء. انظر: الإكمال (6/ 82).

ص: 204

عن وجهه إذا بحيَّة قد تطوَّقتْ على حلقه. فذكر من غِلَظها، قال: فخرجت ولم أغسله. فذكروا أنه كان يسبُّ الصحابة رضي الله عنهم.

وذكر ابن أبي الدنيا

(1)

، عن سعيد بن خالد بن يزيد

(2)

الأنصاري، عن رجل من أهل البصرة كان يحفر القبور. قال: حفرت قبرًا ذات يوم، ووضعت رأسي قريبًا منه، فأتتني امرأتان في منامي، فقالت إحداهما: يا عبد الله، نَشَدتُك [45 ب] بالله إلا صرَفتَ عنَّا هذه المرأة، ولم تجاورنا بها. فاستيقظتُ فَزِعًا، فإذا

(3)

بجنازة امرأة قد جيء بها. فقلت: القبر وراءكم، فصرفتُهم عن ذلك القبر. فلما كان بالليل إذا أنا بالمرأتين في منامي تقول إحداهما: جزاك الله عنَّا خيرًا، فلقد صرفتَ عنا شرًّا طويلًا. قلت

(4)

: ما لِصاحبتِك لا تكلّمني، كما تكلِّميني

(5)

أنت؟ قالت: إن هذه ماتت عن غير وصية وحُقَّ لمن مات عن غير وصية

(6)

ألا يتكلَّم إلى يوم القيامة.

وهذه

(7)

الأخبار وأضعافُها وأضعاف أضعافِها ــ مما لا يتَّسع لها

(1)

في كتاب القبور (137).

(2)

(ب، ج): «زيد» .

(3)

(ط): «وإذا» .

(4)

(ط): «فقلت» .

(5)

كذا بحذف نون الرفع في جميع النسخ وكتاب القبور.

(6)

«وحقّ

وصية» ساقط من (ن).

(7)

ما عدا (أ، ق، غ): «فهذه» .

ص: 205

الكتاب ــ مما أراه الله سبحانه لبعض عباده من عذاب القبر ونعيمه عِيَانًا.

وأما رؤية المنامِ، فلو ذكرناها لجاءت عدّة أسفار. ومن أراد الوقوفَ عليها، فعليه بكتاب «المنامات» لابن أبي الدنيا، وكتاب «البستان»

(1)

للقيرواني، وغيرِهما من الكتب المتضمِّنة لذلك. وليس عند الملاحدة والزنادقة إلا التكذيبُ بما لم يحيطوا بعلمه.

فصل

الأمر السادس

(2)

: أنّ الله سبحانه يُحْدِث في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك. فهذا جبريلُ كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمثَّلُ له رجلًا، فيكلِّمه بكلام يسمعه. ومَن

(3)

إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه، ولا يسمعُه. وكذلك غيره من الأنبياء. وأحيانًا يأتيه الوحي في مثل صَلصلَة الجرس، ولا يسمعه غيره من الحاضرين.

وهؤلاء الجنُّ يتحدَّثون ويتكلَّمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمعهم. وقد كانت الملائكة تضرب الكفَّارَ بالسياط، وتضربُ رقابهم، وتصيح بهم؛ والمسلمون معهم لا يرونهم، ولا يسمعون كلامهم. والله سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يُحْدِثه في الأرض، وهو بينهم. وقد

(1)

لم ينقط ناسخ الأصل التاء، وأسنان السين أيضًا لم تبرز، فقرأه ناسخ (غ):«البيان» وكذا في نشرة دار ابن كثير. وقد سبق ذكر القيرواني في (ص 94)، وسيأتي النقل من كتاب البستان هذا (ص 544، 551، 552).

(2)

ما عدا (أ، ن، غ): «السابع» وهو خطأ. وهذا الأمر تفصيل الوجه الثاني من جواب القرطبي عن هذه المسألة. التذكرة (375).

(3)

(ب، ط): «ومن هو» .

ص: 206

كان جبريل يقرئ النبي صلى الله عليه وسلم، ويدارسُه القرآن، والحاضرون لا يسمعونه.

وكيف يستنكر من يعرف

(1)

الله سبحانه ويُقِرُّ بقدرته، أن يُحدِثَ حوادثَ يَصرِفُ

(2)

عنها أبصارَ بعض خلقه

(3)

، حكمةً منه ورحمةً بهم؛ لأنّهم لا يطيقون رؤيتها وسماعَها؟ والعبد أضعفُ بصرًا وسمعًا من أن يثبُتَ لمشاهدة عذاب القبر. وكثيرٌ

(4)

ممن أشهده الله ذلك صَعِق [46 أ] وغُشي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنًا. وبعضهم

(5)

كُشِف قناعُ قلبه، فمات. فكيف ينكَر في الحكمة الإلهية إسبالُ غطاء يحول بين المكلَّفين وبين مشاهدة ذلك، حتى إذا كُشِفَ الغطاءُ رأوه وشاهدوه عيانًا.

ثم إنّ العبد قادر على أن يزيل الزئبق والخردل عن عين الميِّت وصدره، ثم يردَّه بسرعة. فكيف يعجزُ عنه الملَك؟ وكيف لا يقدر عليه مَن هو على كل شيء قدير؟ وكيف

(6)

تعجز قدرته عن إبقائه في عينيه وعلى صدره، لا

(1)

(ن): «يعبد» .

(2)

(ن): «تُصرَف» .

(3)

(ن): «أبصار خلقه» .

(4)

ما عدا (ن): «وكثيرًا» ولم يتبين لي وجه نصبه.

(5)

(ب، ط): «بالعيش وسأل بعضهم» ، وهو تحريف طريف. والمصنف يشير إلى ما رواه ابن إسحاق في حديث شهود الملائكة غزوة بدر من قول الغفاري: «

إذ دنت منّا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعتُ قائلًا يقول: أقدِمْ حَيزومُ. فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلِكُ، ثم تماسكتُ». سيرة ابن هشام (1/ 633).

(6)

(ب، ط، ج): «فكيف» .

ص: 207

يسقط

(1)

عنه؟ وهل قياسُ أمر البرزخ على ما يشاهدُه

(2)

الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين، وذلك غايةُ الجهل والظلم.

وإذا كان أحدنا يمكنه توسعةُ

(3)

القبر عشرةَ أذرع ومائة ذراع فأكثر

(4)

، طولًا وعرضًا وعمقًا، ويستر توسُّعه

(5)

عن الناس، ويُطلِع عليه من يشاء

(6)

= فكيف يعجز ربُّ العالمين أن يوسِّعه ما يشاء على من يشاء، ويسترَ ذلك عن أعين بني آدم

(7)

، فيراه بنو آدم ضيِّقًا، وهو أوسعُ شيء، وأطيبُه ريحًا، وأعظمُه إضاءةً ونورًا، وهم لا يرون ذلك؟

وسرُّ المسألة: أنَّ هذه التوسعةَ والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، والله سبحانه إنما أشهدَ بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها. فأما ما كان من أمر الآخرة، فقد أَسْبَلَ عليه الغطاءَ ليكون

(8)

الإقرارُ به والإيمانُ سببًا لسعادتهم، فإذا كُشِفَ عنهم الغطاءُ صار عيانًا مشاهدًا.

(1)

(ب، ط، ج): «ولا يسقط» .

(2)

(ب، ط، ج): «يشاهد» .

(3)

ما عدا (أ، ق، غ): «توسيع» .

(4)

ما عدا (أ، غ): «وأكثر» .

(5)

(ب، ق، ن): «توسيعه» . (ط): «توسعته» .

(6)

في (ب، ط) هنا وفيما يأتي: شاء.

(7)

(ب، ط، ج): «عيون بني آدم» .

(8)

(ب، ط، ج): «فيكون» . وقد سقط «ليكون

الغطاء» من (ن).

ص: 208

فلو كان الميت بين الناس موضوعًا لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه، من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضرْبَه. وهذا الواحد منّا ينام إلى جنب صاحبه، فيُعذَّب في النوم، ويُضرَب، ويألَم، وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتَّة، وقد يسري

(1)

أثر الضرب والألم إلى جسده.

ومِن أعظم الجهل استبعادُ شقِّ الملَكِ الأرضَ والحجرَ، وقد جعلها

(2)

الله سبحانه له

(3)

كالهواء للطير، ولا يلزم من حَجْبِها للأجسام الكثيفة [46 ب] أن تتولَّج فيها حَجْبُها للأرواح اللطيفة. وهل هذا إلا من أفسد القياس؟ وبهذا وأمثالِه كُذِّبت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

فصل

الأمر السابع

(4)

: أنه غير ممتنِعٍ أن تُردَّ الروح

(5)

إلى المصلوب والغريق والمحترق

(6)

ونحن لا نشعر بها، إذ ذلك الردُّ نوع آخرُ غير المعهود. فهذا المغمَى عليه والمسكوتُ

(7)

والمبهوتُ أحياء، وأرواحُهم معهم، ولا

(1)

ما عدا (أ، غ): «سرى» .

(2)

(ق): «جعلهما» .

(3)

«له» لم يرد في (أ، غ).

(4)

(ق، ب، ط، ج): «الثامن» ، والصواب ما أثبتنا من الأصل و (ن، غ) وقارن هذا الأمر بالوجه الثالث من جواب القرطبي في التذكرة (376).

(5)

في (أ، غ): «الروح ترد» .

(6)

كذا في الأصل. وفي (ق، ب، ط، غ): «المحرَق» . وفي (ن، ج): «الحريق» .

(7)

يعني من أصابته السكتة. والكلمة لم ترد في المعجمات. وفي التذكرة: صاحب السكتة.

ص: 209

نشعر

(1)

بحياتهم. ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالًا بتلك الأجزاء، على تباعُدِ ما بينهما

(2)

وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعورٌ بنوع من الألم واللذَّة.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورًا

(3)

وإدراكًا تُسبِّح ربَّها به، وتسقط

(4)

الحجارةُ من خَشيته، وتسجد له الجبال والشجر، وتسبِّحه الحصَى والمياهُ والنبات.

قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. ولو كان التسبيح هو مجرَّد دلالتها على صانعها لم يقل: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}

(5)

فإنَّ كلَّ عاقل يفهم

(6)

دلالتها على صانعها

(7)

.

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «يُشعر» .

(2)

كذا في (أ، غ) يعني بين الروح وأجزاء الجسم. وفي غيرهما: «بينها» . وكأنّ في (ق، ط) تغييرًا في المتن.

(3)

زاد في (ب): «بنوع من الألم» . وأشير إليها في حاشية (ط). وهو غلط سببه انتقال النظر. وجواب «إذا» سيأتي بعد الشواهد على تسبيح الجمادات.

(4)

(ن): «تهبط» .

(5)

«ولو كان

تسبحهم» ساقط من (ن).

(6)

ما عدا (أ، غ): «يفقه» .

(7)

وقد ذكر المصنف في مفتاح دار السعادة (2/ 106) أن هذا القول ــ وهو أنّ المراد من تسبيح الجمادات دلالتها على صانعها فقط ــ باطل من أكثر من ثلاثين وجهًا قد ذكر أكثرها في موضع آخر. وانظر: جامع الرسائل لشيخ الإسلام (1/ 40). والقول المذكور نسبه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 453) إلى جماعة من العلماء.

ص: 210

وقال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] والدلالة على الصانع لا تَختصُّ بهذين الوقتين.

وكذلك قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] والدلالة لا تختصُّ معِيَّته

(1)

وحده. وكذَب على الله من قال: التأويبُ رجعُ الصدى

(2)

، فإنّ هذا يكون لكل مصوِّت.

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]. والدلالة على الصانع لا تختصُّ بكثير من الناس.

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فهذه صلاةٌ وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون

(3)

المكذبون.

وقد أخبر تعالى عن الحجارة أنَّ بعضها يزولُ من مكانه، ويسقط

(4)

من

(1)

(ن): «بمعيته» . وفي (ب، ج): «بعينه» . وفي (ط): «بعينيه» وكلاهما تصحيف.

(2)

ما عدا (أ، غ): «الصدر» ، وهو تحريف. وفي (ط) حاشية لبعض القراء:«لعله الصوت أو الصدا» . ثم نقل قول البغوي في تفسيره (3/ 595): «وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها، وعكف الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك» . ثم قال: فلعل هذا هو الذي ردّه المصنّف.

(3)

في (ج) زاد بعده واو العطف. وفي (ب، ط، ن): «الجاحدون» . وفي (ط، ن) زاد واو العطف.

(4)

(ن): «يهبط» .

ص: 211

خشيته. وقد أخبر عن الأرض والسماء أنهما يأذنان له، ــ وحُقَّ لهما

(1)

ذلك ــ أي

(2)

: يستمعان كلامه؛ وقد خاطبهما، فسمعا خطابه، وأحسنا جوابه، فقال لهما:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. وقد كان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام، وهو يؤكل

(3)

. وسمعوا حنين الجذع اليابس في المسجد

(4)

[47 أ].

فإذا

(5)

كانت هذه الأجسام فيها

(6)

الإحساس والشعور، فالأجسام التي كانت فيها الروح والحياة أولى بذلك.

وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادةَ حياةٍ كاملة إلى بدن قد فارقته الروح، فتكلَّم، ومشى، وأكل وشرب، وتزوّج ووُلد له؛ كالذين {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، وكالذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259]، وكقتيلِ بني

(1)

(أ، ق، غ): «قولهما» ، تحريف.

(2)

(ب، ط، ج): «أن» .

(3)

يشير إلى حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3579).

(4)

انظر ما أخرجه البخاري في كتاب المناقب من حديث ابن عمر (3583) وجابر بن عبد الله (3584، 3585).

(5)

سياق الكلام: «وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورًا وإدراكًا

فإذا كانت هذه الأجسام». طال الفصل بين إذا وجوابها فأعاد «فإذا كانت

».

(6)

(أ، غ): «منها» .

ص: 212

إسرائيل، وكالذين قالوا لموسى:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأماتهم الله، ثم بعثهم من بعد موتهم، وكأصحاب الكهف، وكقصة إبراهيم في الطيور الأربعة.

= فإذا أعاد الحياة التامَّة

(1)

إلى هذه الأجساد بعد ما بَرَدت بالموت، فكيف يمتنع على قدرته الباهرة

(2)

أن يعيد إليها بعدَ موتها حياةً ما غيرَ مستقرَّة يقضي بها ما أمره فيها، ويستنطقُها بها، ويعذِّبها أو ينعِّمها بأعمالها؟ وهل إنكار ذلك إلا مجردُ تكذيب وعناد وجحود؟ وبالله التوفيق.

فصل

الأمر الثامن

(3)

: أنه ينبغي أن يُعلَم أنَّ عذاب القبر ونعيمَه اسمٌ لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة

(4)

. قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. وهذا البرزخ يُشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة.

وسمِّي عذابَ القبر ونعيمَه وأنه روضة

(5)

أو حفرةُ نار باعتبار غالب الخلق، فالمصلوبُ والحريق والغريق

(6)

وأكيل السِّباع والطيور، له من

(1)

(ب): «العامة» ، تحريف.

(2)

(ب، ط، ن، ج): «القاهرة» .

(3)

(ب، ط، ق، ج): «التاسع» ، خطأ.

(4)

(أ، ق، غ): «وقال» .

(5)

زاد في (ط): «من رياض الجنة» .

(6)

(ب، ط، ج): «المحرق والمغرق» . (ق، ن): «الحرق والغرق» .

ص: 213

عذاب البرزخ ونعيمه قِسْطُه الذي تقتضيه

(1)

أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما.

وقد

(2)

ظنَّ بعضُ الأوائل

(3)

أنّه إذا حُرِق جسده بالنار، وصار رمادًا، وذُرِي بعضه في البحر وبعضه في البرِّ

(4)

في يوم شديد الريح= أنه ينجو من ذلك، فأوصى

(5)

بنيه أن يفعلوا به ذلك. فأمر الله البحرَ فجمع ما فيه، وأمر البرَّ فجمع ما فيه، ثم قال: قم، فإذا هو قائم بين يدي الله فسأله

(6)

: ما حملك على ما فعلت؟ فقال

(7)

: خَشْيتُك يا ربِّ، وأنت أعلم. فما تلافاه أن رحمه

(8)

.

فلم يفُتْ عذابُ البرزخ [47 ب] ونعيمه لهذه

(9)

الأجزاء التي صارت في هذه الحال، حتى لو عُلِّق الميت على رؤوس الأشجار في مهابِّ الرياح لأصابَ جسده من عذاب البرزخ حظُّه ونصيبُه. ولو دُفن الرجل الصالح في

(1)

(ق، غ): «يقتضيه» . ولم ينقط أوله في الأصل.

(2)

(أ، ق، غ): «فقد» .

(3)

(ن): «أولئك» ، تحريف.

(4)

في (ب، ج) قدّم البرّ على البحر.

(5)

(ب، ج)، «ما حرض» تحريف.

(6)

(ب، ط، ج): «قال» .

(7)

(ب، ط، ج): «قال» .

(8)

يشير إلى ما أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3478، 3481) ومسلم في التوبة باب سعة رحمة الله (2756، 2757) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.

(9)

في الأصل: «هذه» ولكن أخشى أن اللام لم تظهر في الصورة كما لم تظهر همزة الوصل من «الأجزاء» .

ص: 214

أتُّون من النار لأصاب جسدَه من نعيم البرزخ ورَوحه نصيبُه وحظُّه، فيجعل الله النارَ على هذا بردًا وسلامًا، والهواءَ على ذلك

(1)

نارًا وسَمُومًا. فعناصرُ العالم وموادُّه منقادة لربِّها وفاطرِها وخالقها، يُصَرِّفُها كيف يشاء

(2)

. ولا يستعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طوع مشيئته، مذلَّلةٌ منقادةٌ لقدرته. ومَن أنكر هذا فقد جحدَ ربَّ العالمين، وكفر به، وأنكر ربوبيته.

فصل

الأمر التاسع

(3)

: أن الموت معادٌ وبعث أوَّل، فإنَّ الله سبحانه جعل لابن آدم معادَين وبعثَين، يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فالبعث الأول: مفارقةُ الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء

(4)

الأول.

والبعث الثاني: يومَ يردُّ الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثُها من قبورها إلى الجنة أو إلى النار، وهو الحشر الثاني. ولهذا في الحديث الصحيح:«وتؤمن بالبعث الآخر»

(5)

، فإنَّ البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب.

(1)

(ط): «هذا» .

(2)

(ط): «شاء» .

(3)

كذا في (ن، غ). وهو الصواب. ومما يستغرب أن الأصل الذي استمرّ على الصواب من الأمر الأول إلى الثامن أخطأ هنا وساير النسخ الأخرى.

(4)

(ن): «الحشر» ، تصحيف. وانظر في تفسير «البعث الأول»: فتح الباري (1/ 118).

(5)

أخرجه البخاري في التفسير (4777) ومسلم في الإيمان (9) من حديث أبي هريرة.

ص: 215

وقد ذكر الله سبحانه هاتين القيامتين ــ وهما الصغرى والكبرى ــ في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور. وقد اقتضى عدلُه وحكمتُه أن جعلهما داري جزاءٍ للمحسن والمسيء

(1)

، ولكنَّ توفية الجزاء إنما يكون يومَ المعاد الثاني في دار القرار، كما قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].

وقد اقتضى عدلُه وأوجبت أسماؤه الحسنى وكمالُه المقدَّس تنعيمَ أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيبَ أبدان أعدائه وأرواحهم؛ فلابدَّ أن يذيق بدنَ المطيع له وروحَه من النعيم واللذة ما يليق به [48 أ]، ويذيق بدنَ الفاجر العاصي له وروحَه من الألم والعقوبة ما يستحقّه. هذا موجَب عدلِه وحكمتِه وكمالِه المقدَّس.

ولما كانت هذه الدارُ دارَ تكليف وامتحان، لا دار جزاء، لم يظهر فيها ذلك. وأما البرزخ فأولُ دار الجزاء، فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضى الحكمةُ إظهارَه. فإذا كان يومُ القيامة الكبرى وَفَّى

(2)

أهلَ الطاعة وأهلَ المعصية ما يستحقُّونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما.

وعذابُ

(3)

البرزخِ ونعيمُه أولُ عذاب الآخرة ونعيمها. وهو مشتقٌّ منه، وواصِلٌ إلى أهل البرزخ من هناك، كما دلَّ عليه القرآن والسنة الصريحةُ في

(1)

(ن): «للمحسنين والمسيئين» . ونحوه في (ق) دون لام الجرّ.

(2)

الضبط من (أ، ط، ن). ويجوز بالبناء للمجهول.

(3)

ما عدا الأصل: «فعذاب» . وقد عدّل بعض القراء في الأصل أيضًا، فزاد فاءً، ونسي حذف الواو.

ص: 216

غير موضع دلالةً صريحةً، كقوله:«فيفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من رَوْحها ونعيمها» ، وفي الفاجر:«فيفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها»

(1)

. ومعلوم قطعًا أنَّ البدن يأخذ حظَّه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظَّها، فإذا كان يومُ القيامة دخَلَ من ذلك الباب إلى مقعده الذي هو داخلُه.

وهذان البابان يصل منهما إلى العبد في هذه الدار أثرٌ خفيٌّ محجوب بالشواغل والغواشي الحسيَّة

(2)

والعوارض، ولكن يُحِسُّ به كثير من الناس، وإن لم يعرف سببه، ولا يُحسِن التعبيرَ؛ فوجود الشيء غيرُ الإحساس به والتعبيرِ عنه. فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذَيْنك البابين أكملَ، فإذا بُعِث كَمُل وصولُ ذلك

(3)

الأثر إليه. فحكمةُ الربِّ تعالى منتظمة لذلك أكملَ انتظام في الدور الثلاثة.

(1)

سبق تخريجه في أول المسألة السادسة.

(2)

(ن): «الجسمية» . (ب، ط، ج): «الجسيمة» .

(3)

(أ، غ): «بُعِث وصل ذلك» .

ص: 217

فصل

وأما المسألة الثامنة

(1)

وهي قول السائل: ما الحكمةُ في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن، مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليُحذَر ويُتَّقى؟

فالجواب من وجهين: مجمل، ومفصل.

فأما

(2)

المجمل، فهو أنَّ الله سبحانه أنزل على رسوله وَحْيَين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتابُ والحكمةُ؛ كما

(3)

قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].

والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، باتفاق السلف. وما أخبر به الرسول عن الله، فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أَخبرَ به الربُّ تعالى على لسان رسوله. هذا أصلٌ متفق عليه بين أهل الإسلام، لا ينكره إلا من ليس منهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»

(4)

.

(1)

«فصل وأما» لم يرد في (ن). وسقط من (ب، ط): «وأما» . وفي (ق، ن): «التاسعة» . وزاد في (ن) بعدها: «منه» .

(2)

ما عدا (أ، غ): «وأما» .

(3)

«كما» من (أ، غ). وفي (ط): «وقال» .

(4)

أخرجه أبو داود (4604)، والإمام أحمد (17147) من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه وإسناده صحيح. وصححه المصنف في التبيان في أيمان القرآن (ص 370). وانظر: السلسلة الصحيحة (2870). (قالمي).

ص: 218

وأما الجواب المفصل، فهو أنَّ نعيم البرزخ

(1)

وعذابَه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

وهذا خطاب لهم عند الموت قطعًا

(2)

، وقد أخبرت الملائكة ــ وهم الصادقون ــ أنَّهم حينئذٍ يُجزون عذاب الهون. ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صحَّ أن يقال لهم:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} .

ومنها

(3)

قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46]. فذَكَر عذابَ الدَّارَين ذكرًا صريحًا لا يحتمل غيره.

ومنها قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 45 ــ 47] وهذا يحتمل أن

(4)

يراد به عذابهم بالقتل

(1)

ما عدا (أ، ق، غ): «الروح» ، تصحيف. وفي (ق):«النعيم» ، خطأ.

(2)

لم يرد «قطعًا» في (أ، ق، غ).

(3)

«منها» من (أ، ق، غ).

(4)

في (ب، ط، ج): «الذي» . تحريف اختلّ به المعنى.

ص: 219

وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابُهم في البرزخ. وهو أظهر، لأن كثيرًا منهم مات

(1)

، ولم يعذَّب في الدنيا. وقد يقال ــ وهو أظهر ــ أنَّ من مات منهم عُذِّب في البرزخ، ومن بقي منهم

(2)

عُذِّب في الدنيا بالقتل وغيره. فهو وَعيدٌ بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ.

ومنها قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. وقد احتجَّ بهذه الآية جماعة ــ منهم عبد الله بن عباس

(3)

ــ على عذاب القبر. وفي الاحتجاج بها شيءٌ؛ لأنَّ هذا عذابٌ في الدنيا يُستدعى به

(4)

رجوعُهم عن الكفر. ولم يكن هذا مما يخفَى على حبر الأمة وترجمان القرآن

(5)

، لكن من فِقْهه [49 أ] في القرآن ودِقَّة فهمه فيه، فَهِم منها عذابَ القبر؛ فإنَّه سبحانه أخبر أنَّ له فيهم عذابين: أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقُهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدلَّ على أنه بقي لهم من الأدنى بقيةٌ يعذَّبون بها بعد عذاب الدنيا. ولهذا قال:{مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} ، ولم يقل: ولنذيقنَّهم العذاب الأدنى

(6)

فتأمَّلْه.

(1)

«مات» ساقط من (ن).

(2)

«منهم» من (أ، ق، غ).

(3)

لم أجده منهم، وإنما نُسب إليه في رواية ابن أبي طلحة: أنه مصائب الدنيا. وفيما رواه عكرمة: الحدود. أما القول بأن المراد عذاب القبر أو هو وعذاب الدنيا، فنسب إلى البراء بن عازب، ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (18/ 631)، وزاد المسير (6/ 341).

(4)

ما عدا (أ، ق، غ): «بهم» ، وهو خطأ.

(5)

في (ب، ط، ج) دون واو العطف قبله.

(6)

«ولم يقل

الأدنى» ساقط من (ن).

ص: 220

وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فيفتح له طاقةٌ إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها»

(1)

. ولم يقل: فيأتيه حرُّها وسمومها، فإنَّ الذي وصل إليه بعض ذلك، وبقي له أكثر. والذي ذاقه أعداء الله في الدنيا بعضُ العذاب الأدنى، وبقي لهم ما هو أعظم منه.

ومنها: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 83 ــ 96]

(2)

، فذكر هاهنا أحكامَ الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر

(3)

، وقدَّم ذلك على هذا تقديم الغاية

(4)

، إذ هي أهم وأولى بالذكر. وجعلهم عند الموت ثلاثةَ أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام.

ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي}

(5)

[الفجر: 27 ــ 30]. وقد اختلف السلف

(1)

سبق تخريجه في المسألة السادسة.

(2)

في (ن) اكتفى الناسخ بكتابة الآيات إلى «المقربين» ثم قال: «إلى آخرها» .

(3)

ما عدا (أ، غ): «الآخرِ» . وانظر: المسألة الرابعة عشرة، وطريق الهجرتين (420).

(4)

زاد في (ق): «للقائه» .

(5)

هنا أيضًا أثبت ناسخ (ن) الآيتين 27 ــ 28 ثم قال: إلى آخر الآية.

ص: 221

متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها ذلك

(1)

عند الموت. وظاهرُ اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطابٌ للنفس التي قد تجرَّدت عن البدن، وخرجت منه. وقد فسَّر ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث البراء وغيره:«فيقال لها: اخرجي راضيةً مرضيًّا عنك»

(2)

. وسيأتي تمام تقرير هذا في المسألة التي يُذكَر فيها مُستقَرُّ الأرواح في البرزخ إن شاء الله تعالى

(3)

.

وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} مطابق لقوله عليه السلام [49 ب]: «اللهم الرفيق الأعلى»

(4)

، وأنت إذا تأمَّلت أحاديث

(5)

عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلًا وتفسيرًا لما دلَّ عليه القرآن. وبالله التوفيق

(6)

.

(1)

«ذلك» من (ب، ط، ج).

(2)

سبق تخريجه في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 159).

(3)

انظر المسألة الخامسة عشرة. ومدارج السالكين (2/ 179).

(4)

أخرجه البخاري (4463) ومسلم (2444) من حديث عائشة.

(5)

كلمة «أحاديث» ساقطة من (ن).

(6)

«وبالله التوفيق» لم يرد في (ن).

ص: 222