المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الاول الصراط المستقيم في الزهد والعبادة والورع - الزهد والورع والعبادة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌الفصل الاول الصراط المستقيم في الزهد والعبادة والورع

‌الْفَصْل الاول الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة والورع

قَالَ الشَّيْخ رحمه الله أهمية لُزُوم السّنة فصل فِي الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة والورع فِي ترك الْمُحرمَات والشهوات والاقصتاد فِي الْعِبَادَة وَأَن لُزُوم السّنة هُوَ يحفظ من شَرّ النَّفس والشيطان بِدُونِ الطّرق المبتدعة فَإِن أَصْحَابهَا لَا بُد أَن يقعوا فِي الآصار والأغلال وَإِن كَانُوا متأولين فَلَا بُد لَهُم من اتِّبَاع الْهوى وَلِهَذَا سمي أَصْحَاب الْبدع أَصْحَاب الْأَهْوَاء فَإِن طَرِيق السّنة علم وَعدل وَهدى وَفِي الْبِدْعَة جهل وظلم وفيهَا اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس معنى الضلال والغي والرشد وَالرَّسُول مَا ضل وَمَا غوى والضلال مقرون بالغي فَكل غاو ضال والرشد ضد الغي وَالْهدى ضد الضلال وَهُوَ مجانبة طَرِيق الْفجار وَأهل الْبدع كَمَا كَانَ السّلف ينهون عَنْهُمَا قَالَ تَعَالَى فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا

ص: 9

والغي فِي الأَصْل مصدر غوى يغوي غيا كَمَا يُقَال لوى يلوي ليا وَهُوَ ضد الرشد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وان سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا والرشد الْعَمَل الَّذِي ينفع صَاحبه والغي الْعَمَل الَّذِي يضر صَاحبه فَعمل الْخَيْر رشد وَعمل الشَّرّ غي وَلِهَذَا قَالَت الْجِنّ وَإِنَّا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا فقابلوا بَين الشَّرّ وَبَين الرشد وَقَالَ فِي آخر السُّورَة قل اني لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا وَمِنْه الرشيد الَّذِي يسلم إِلَيْهِ مَاله وَهُوَ الَّذِي يصرف مَاله فِيمَا ينفع لَا فِيمَا يضر وَقَالَ الشَّيْطَان ولأعوينهم أَجْمَعِينَ الا عِبَادك مِنْهُم المخلصين وَهُوَ أَن يَأْمُرهُم بِالشَّرِّ الَّذِي يضرهم فيطيعونه كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان الا أَن دعوتكم فاستجبتم لي وَقَالَ وبرزت الْجَحِيم للغاوين الى أَن قَالَ فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون وجنود ابليس أَجْمَعُونَ وَقَالَ قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغويناهم غوينا وَقَالَ مَا ضل ضاحبكم وَمَا غوى

ص: 10

ثمَّ ان الغي اذا كَانَ اسْما لعمل الشَّرّ الَّذِي يضر صَاحبه فَإِن عَاقِبَة الْعَمَل أَيْضا تسمى غيا كَمَا ان عَاقِبَة الْخَيْر تسمى رشدا كَمَا تسمى عَاقِبَة الشَّرّ شرا وعاقبة الْخَيْر خيرا وعاقبة الْحَسَنَات حَسَنَات وعاقبة السَّيِّئَات سيئات فالحسنات والسيئات فِي كتاب الله يُرَاد بهَا أَعمال الْخَيْر وأعمال الشَّرّ كَمَا يُرَاد بهَا النعم والمصائب وَالْجَزَاء من جنس الْعَمَل فَمن عمل خيرا وحسنات لَقِي خيرا وحسنات وَمن عمل شرا وسئيات لَقِي شرا وسيئات كَذَلِك من عمل غيا لَقِي غيا وَترك الصَّلَاة وَاتِّبَاع الشَّهَوَات غي يلقى صَاحبه غيا فَلهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ كل شَرّ عِنْد الْعَرَب غي وكل خير رشاد كَمَا قيل فَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمرهومن يغولا يعْدم على الغي لائما وَقَالَ الزّجاج جَزَاؤُهُ غي لقَوْله يلق أثاما أَي مجازاة آثام وَفِي الحَدِيث الْمَأْثُور ان غيا وَاد فِي جَهَنَّم تستعيذ مِنْهُ أَوديتهَا وَهَذَا تَعْبِير عَن ملاقاة الشَّرّ وَقَالَ سُبْحَانَهُ أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَإِن الصَّلَاة فِيهَا ارادة وَجه الله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه أَي يصلونَ صَلَاة الْفجْر وَالْعصر والداعي يقْصد ربه ويريده فَتكون الْقُلُوب فِي هَذِه الْأَشْيَاء مريدة لِرَبِّهَا محبَّة لَهُ

ص: 11

اتِّبَاع الشَّهَوَات وَاتِّبَاع الشَّهَوَات هُوَ اتِّبَاع مَا تشتهيه النَّفس فَإِن الشَّهَوَات جمع شَهْوَة والشهوة هِيَ فِي الأَصْل مصدر وَيُسمى المشتهى شَهْوَة تَسْمِيَة للْمَفْعُول باسم الْمصدر قَالَ تَعَالَى وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلاعظيما فَجعل التَّوْبَة فِي مُقَابلَة اتِّبَاع الشَّهَوَات فَإِنَّهُ يُرِيد أَن يَتُوب علينا أَي فَالله يحب لنا ذَلِك ويرضاه وَيَأْمُر بِهِ وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات وهم الْغَاوُونَ أَن تميلوا ميلًا عَظِيما يعدل بكم عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الى اتِّبَاع الشَّهَوَات عُدُولًا عَظِيما فَإِن أصل الْميل الْعُدُول فَلَا بُد مِنْهُ للَّذين يتبعُون الشَّهَوَات كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة وَلَا يحافظ على الْوضُوء الا مُؤمن رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيث ثَوْبَان فَأخْبر أَنا لَا نطيق الاسْتقَامَة أَو ثَوَابهَا اذا استقمنا وَقَالَ وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة فَقَوله كل الْميل أَي يُرِيد نِهَايَة الْميل يُرِيد الزيغ عَن الطَّرِيق والعدول عَن سَوَاء الصِّرَاط الى نِهَايَة الشَّرّ بل اذا بليت بذلك فتوسط وعد الى الطَّرِيق بِالتَّوْبَةِ كَمَا فِي الحَدِيث عَن النَّبِي صلى اله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمُؤمن كَمثل

ص: 12

الْفرس فِي آخيته يجول ثمَّ يرجع الى آخيته كَذَلِك الْمُؤمن يجول ثمَّ يرجع الى ربه قَالَ تَعَالَى وسارعوا الى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين الى قَوْله وَنعم أجر العاملين فَلم يقل لَا يظْلمُونَ وَلَا يذنبون بل قَالَ اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم أَي بذنب آخر غير الْفَاحِشَة فعطف الْعَام على الْخَاص كَمَا قَالَ مُوسَى رب اني ظلمت نَفسِي وَقَالَت بلقيس رب اني ظلمت نَفسِي وَقَالَ تَعَالَى عُمُوما عَن أهل الْقرى الْمهْلكَة وَمَا ظلمناهم وَلكم ظلمُوا أنفسهم فظلموا أنفسهم بارتكابهم مَا نهوا عَنهُ وبعصيانهم لأنبيائهم وبتركهم التَّوْبَة الى رَبهم وَقَوله تَعَالَى ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَلِهَذَا قَالَ وَالله يُرِيد أَن يَتُوب عَلَيْكُم ثمَّ قَالَ يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الانسان ضَعِيفا قَالَ مُجَاهِد وَغَيره يتبعُون الشَّهَوَات الزِّنَا وَقَالَ

ص: 13

ابْن زيد هم أهل الْبَاطِل وَقَالَ السّديّ هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى والجميع حق فَإِنَّهُم قد يتبعُون الشَّهَوَات مَعَ الْكفْر وَقد يكون مَعَ الِاعْتِرَاف بِأَنَّهَا مَعْصِيّة ثمَّ ذكر أَنه خلق الانسان ضَعِيفا وَسِيَاق الْكَلَام يدل على أَنه ضيف عَن ترك الشَّهَوَات فَلَا بُد لَهُ من شَهْوَة مُبَاحَة يَسْتَغْنِي بهَا عَن الْمُحرمَة وَلِهَذَا قَالَ طَاوُوس وَمُقَاتِل ضَعِيف فِي قلَّة الصَّبْر عَن النِّسَاء وَقَالَ الزّجاج وَابْن كيسَان ضَعِيف الْعَزْم عَن قهر الْهوى وَقيل ضَعِيف فِي أصل الْخلقَة وَلِأَنَّهُ خلق من مَاء مهين يرْوى ذَلِك عَن الْحسن لَكِن لَا بُد أَن يُوجد مَعَ ذَلِك أَنه ضَعِيف عَن الصَّبْر يُنَاسب مَا ذكر فِي الْآيَة فانه قَالَ يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَهُوَ تسهيل التَّكْلِيف بِأَن يُبِيح لكم مَا تحتاجون اليه وَلَا تصبروا عَنهُ كَمَا أَبَاحَ نِكَاح الفتيات وَقد قَالَ قبل ذَلِك لمن خشِي الْعَنَت مِنْكُم وَأَن تصبروا خير لكم وَالله غَفُور رَحِيم فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ اباحته نِكَاح الاماء عِنْد عدم الطول وخشية الْعَنَت قَالَ وَأَن تصبروا خير لكم فَدلَّ ذَلِك على أَنه يُمكن الصَّبْر مَعَ خشيَة الْعَنَت وَأَنه لَيْسَ النِّكَاح كاباحة الْميتَة عِنْد المخمصة فَإِن ذَلِك لَا يُمكن الصَّبْر عَنهُ حكم الاستمناء وَكَذَلِكَ من أَبَاحَ الاستمناء عِنْد الضَّرُورَة فالصبر عَن الاستمناء أفضل فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن نِكَاح الاماء خير مِنْهُ وَهُوَ خير من

ص: 14

الزِّنَا فَإِذا كَانَ الصَّبْر عَن نِكَاح الاماء أفضل فَعَن الاستمناء بطرِيق الأولى أفضل لَا سِيمَا وَكثير من الْعلمَاء أَو أَكْثَرهم يجزمون بِتَحْرِيمِهِ مُطلقًا وَهُوَ أحد الْأَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي الْمُفْردَات وَالْمَشْهُور عَنهُ يَعْنِي عَن أَحْمد أَنه محرم الا اذا خشِي الْعَنَت وَالثَّالِث أَنه مَكْرُوه الا اذا خشِي الْعَنَت فَإِذا كَانَ الله قد قَالَ فِي نِكَاح الاماء وَأَن تصبروا خير لكم فَفِيهِ أولى وَذَلِكَ يدل على أَن الصَّبْر عَن كِلَاهُمَا مُمكن فَإِذا كَانَ قد أَبَاحَ مَا يُمكن الصَّبْر عَنهُ فَذَلِك لتسهيل التَّكْلِيف كَمَا قَالَ تَعَالَى يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الانسان ضَعِيفا والاستمناء لَا يُبَاح عِنْد أَكثر الْعلمَاء سلفا وخلفا سَوَاء خشِي الْعَنَت أَو لم يخْش ذَلِك وَكَلَام ابْن عَبَّاس وَمَا رُوِيَ عَن أَحْمد فِيهِ انما هُوَ لمن خشِي الْعَنَت وَهُوَ الزِّنَا واللواط خشيَة شَدِيدَة خَافَ على نَفسه من الْوُقُوع فِي ذَلِك فأبيح لَهُ ذَلِك لتكسير شدَّة عنته وشهوته وَأما من فعل ذَلِك تلذذا أَو تذكرا أَو عَادَة بِأَن يتَذَكَّر فِي حَال استمناءه صُورَة كَأَنَّهُ يُجَامِعهَا فَهَذَا كُله محرم لَا يَقُول بِهِ أَحْمد وَلَا غَيره وَقد أوجب فِيهِ بَعضهم الْحَد وَالصَّبْر عَن هَذَا من الْوَاجِبَات لابد من المستحبات وجوب الصَّبْر عَن الْمُحرمَات وَأما الصَّبْر عَن الْمُحرمَات فَوَاجِب وَإِن كَانَت النَّفس تشتهيها وتهواها قَالَ تَعَالَى وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا حَتَّى يغنيهم الله من فَضله والاستعفاف هُوَ ترك الْمنْهِي عَنهُ كَمَا فِي الحَدِيث

ص: 15

الصَّحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من يستعفف يعفه الله وَمن يسْتَغْن يغنه الله وَمن يتصبر يصبره الله وَمَا أعطي لأحد عَطاء خيرا وأوسع من الصَّبْر فالمستغني لَا يستشرف بِقَلْبِه والمستعف هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل النَّاس بِلِسَانِهِ والمتصبر هُوَ الَّذِي لَا يتَكَلَّف الصَّبْر فَأخْبر أَنه من يتصبر يصبره الله وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاق الصَّبْر على الْفَاقَة بِأَن يصبر على مرَارَة الْحَاجة لَا يجزع مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ من الْفقر وَهُوَ الصَّبْر فِي البأساء وَالضَّرَّاء قَالَ تَعَالَى وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس الصَّبْر على الْبلَاء وَالضَّرَّاء وَالْمَرَض وَهُوَ الصَّبْر على مَا ابْتُلِيَ بِهِ من حَاجَة وَمرض وَخَوف وَالصَّبْر على مَا ابْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كالجهاد فَإِن الصَّبْر عَلَيْهِ أفضل من الصَّبْر على الْمَرَض الَّذِي يبتلى بِهِ بِغَيْر اخْتِيَاره وَلذَلِك اذا ابْتُلِيَ بالعنت فِي الْجِهَاد فالصبر على ذَلِك أفضل من الصَّبْر عَلَيْهِ فِي بَلَده لِأَن هَذَا الصَّبْر من تَمام الْجِهَاد وَكَذَلِكَ لَو ابْتُلِيَ فِي الْجِهَاد بفاقة أَو مرض حصل بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْر عَلَيْهِ أفضل كَمَا قد بسط هَذَا فِي مَوَاضِع

ص: 16

الصَّبْر على الطَّاعَات وَكَذَلِكَ مَا يُؤْذِي الانسان بِهِ فِي فعله للطاعات كَالصَّلَاةِ وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَطلب الْعلم من المصائب فصبره عَلَيْهَا أفضل من صبره على مَا ابْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِك وَكَذَلِكَ اذا دَعَتْهُ نَفسه الى مُحرمَات من رئاسة وَأخذ مَال وَفعل فَاحِشَة كَانَ صبره عَنهُ أفضل من صبره على مَا هُوَ دون ذَلِك فَإِن أَعمال الْبر كلما عظمت كَانَ الصَّبْر عَلَيْهَا أعظم مِمَّا دونهمَا فَإِن فِي الْعلم والامارة وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالصَّلَاة وَالْحج وَالصَّوْم وَالزَّكَاة من الْفِتَن النفسية وَغَيرهَا مَا لَيْسَ فِي غَيرهَا ويعرض فِي ذَلِك ميل النَّفس الى الرِّئَاسَة وَالْمَال والصور فَإِذا كَانَت النَّفس غير قادرة على ذَلِك لم تطمع فِيهِ كَمَا تطمع مَعَ الْقُدْرَة فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَة تطلب تِلْكَ الْأُمُور الْمُحرمَة بِخِلَاف حَالهَا بِدُونِ الْقُدْرَة فَإِن الصَّبْر مَعَ الْقُدْرَة جِهَاد بل هُوَ من أفضل الْجِهَاد وأكمل من ثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا أَن الصَّبْر عَن الْمُحرمَات أفضل من الصَّبْر على المصائب الثَّانِي أَن ترك الْمُحرمَات مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَطلب النَّفس لَهَا أفضل من تَركهَا بِدُونِ ذَلِك الثَّالِث أَن طلب النَّفس لَهَا اذا كَانَ بِسَبَب أَمر ديني كمن خرج لصَلَاة أَو طلب علم أَو جِهَاد فابتلي بِمَا يمِيل اليه من ذَلِك فَإِن صبره عَن ذَلِك يتَضَمَّن فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور بِخِلَاف مَا اذا مَالَتْ نَفسه الى ذَلِك بِدُونِ عمل صَالح وَلِهَذَا كَانَ يُونُس بن عبيد يُوصي بِثَلَاث

ص: 17

يَقُول لَا تدخل على سُلْطَان وَإِن قلت آمره بِطَاعَة الله وَلَا تدخل على امْرَأَة وَإِن قلت أعلمها كتاب الله وَلَا تصنع أُذُنك الى صَاحب بِدعَة وان قلت أرد عَلَيْهِ فَأمره بالاحتراز من أَسبَاب الْفِتْنَة فَإِن الانسان اذا تعرض لذَلِك فقد يفتتن وَلَا يسلم فَإِذا قدر أَنه ابْتُلِيَ بذلك بِغَيْر اخْتِيَاره أَو دخل فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وابتلي فَعَلَيهِ أَن يَتَّقِي الله ويصبر ويخلص ويجاهد وَصَبره على ذَلِك وسلامته مَعَ قِيَامه بِالْوَاجِبِ من أفضل الْأَعْمَال كمن تولى ولَايَة وَعدل فِيهَا أَو رد على أَصْحَاب الْبدع بِالسنةِ الْمَحْضَة وَلم يتفنوه أَو علم النِّسَاء الدّين على الْوَجْه الْمَشْرُوع من غير فتْنَة الِابْتِلَاء لَكِن الله اذا ابتلى العَبْد وَقدر عَلَيْهِ أَعَانَهُ واذا تعرض العَبْد بِنَفسِهِ الى الْبلَاء وَكله الله الى نَفسه كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة لَا تسْأَل الامارة فَإنَّك ان أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت اليها وَإِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الطَّاعُون اذا بِبَلَد وَأَنْتُم بهَا فَلَا تخْرجُوا فِرَارًا مِنْهُ واذا سَمِعْتُمْ بِهِ

ص: 18

بِأَرْض فَلَا تقدمُوا عَلَيْهِ فَمن فعل مَا أمره الله بِهِ فعرضت لَهُ فتْنَة من غير اخْتِيَاره فَإِن الله يُعينهُ عَلَيْهَا بِخِلَاف من تعرض لَهَا التَّوْبَة لَكِن بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح فَإِن الرجل قد يسْأَل الامارة فيوكل اليها ثمَّ ينْدَم فيتوب من سُؤَاله فيتوب الله عَلَيْهِ ويعينه اما على اقامة الْوَاجِب واما على الْخَلَاص مِنْهَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْفِتَن كَمَا قَالَ قل يَا عباري الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله ان الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا وَهَذِه الْأُمُور تحْتَاج الى بسط لَا يَتَّسِع لَهُ هَذَا الْموضع الْهِدَايَة وَالْمَقْصُود أَن الله سُبْحَانَهُ يُرِيد أَن يبين لنا ويهدينا سنَن الَّذين من قبلنَا الَّذين قَالَ فيهم أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده وهم الَّذين أمرنَا أَن نَسْأَلهُ الْهِدَايَة لسبيلهم فِي قَوْله اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صرط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم فَهُوَ يحب لنا ويأمرنا أَن نتبع صِرَاط هَؤُلَاءِ وَهُوَ سَبِيل من أناب اليه فَذكر هُنَا ثَلَاثَة أُمُور الْبَيَان وَالْهِدَايَة وَالتَّوْبَة

ص: 19

المُرَاد بالسنن وَقيل المُرَاد بالسنن هُنَا سنَن أهل الْحق وَالْبَاطِل أَي يُرِيد أَن يبين لنا سنَن هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فيهدي عباده الْمُؤمنِينَ الى الْحق ويضل آخَرين فَإِن الْهدى والضلال انما يكون بعد الْبَيَان كَمَا قَالَ وَمَا أرسلنَا من رَسُول الا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم وَقَالَ وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد اذ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ فَتكون سنَن مُتَعَلقا بيبين يَعْنِي سنَن أهل الْبَاطِل لَا بيهدي وَأهل الْحق مُتَعَلق بقوله وَيهْدِيكُمْ وَقَالَ الزّجاج السّنَن الطّرق فَالْمَعْنى بدلكم على طَاعَته كَمَا دلّ الْأَنْبِيَاء وتابعيهم وَهَذَا أولى لِأَنَّهُ قد يقدم فعلين فَلَا يَجْعَل الأول هُوَ الْعَامِل وَحده بل الْعَامِل اما الثَّانِي وَحده واما الِاثْنَان كَقَوْلِه آتوني أفرغ عَلَيْهِ قطرا أَو اذا أُرِيد هَذَا التَّقْدِير يبين لكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَيهْدِيكُمْ سننا فَدلَّ على أَنه يهدينا سُنَنهمْ وَالْمرَاد بذلك سنَن أهل الْحق بِخِلَاف قَوْله قد خلت من قبلكُمْ سنَن فَإِنَّهُ قَالَ بعْدهَا فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين فَإِنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيف عُقُوبَة

ص: 20

الظَّالِمين بالعيان وَهنا فَأنْزل علينا من الْقُرْآن مَا يهدينا بِهِ سنَن الَّذين من قبلنَا وهم الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم وَذكر ثَلَاثَة أُمُور التَّبْيِين وَالْهدى وَالتَّوْبَة لِأَن الانسان أَولا يحْتَاج الى معرفَة الْخَيْر وَالشَّر وَمَا أَمر بِهِ وَمَا نهي عَنهُ ثمَّ يحْتَاج بعد ذَلِك الى أَن يهدي فيقصد الْحق وَيعْمل بِهِ دون الْبَاطِل وَهُوَ سنَن الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ ثمَّ لَا بُد لَهُ بعد ذَلِك من الذُّنُوب فيريد أَن يتَطَهَّر مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاج الى الْعلم وَالْعَمَل بِهِ والى التَّوْبَة مَعَ ذَلِك فَلَا بُد لَهُ من التَّقْصِير أَو الْغَفْلَة فِي سلوك تِلْكَ السّنَن الَّتِي هداه الله اليها فيتوب مِنْهَا بِمَا وَقع من تَفْرِيط فِي كل سنة من تِلْكَ السّنَن وَهَذِه السّنَن تدخل فِيهَا الْوَاجِبَات والمستحبات فَلَا بُد للسالك فِيهَا من تَقْصِير وغفلة فيستغفر الله وَيَتُوب اليه فَإِن العَبْد لَو اجْتهد مهما اجْتهد لَا يَسْتَطِيع أَن يقوم لله بِالْحَقِّ الَّذِي أوجبه عَلَيْهِ فَمَا يَسعهُ الا الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة عقيب كل طَاعَة تَفْسِير الْهِدَايَة وَقد يُقَال الْهِدَايَة هُنَا الْبَيَان والتعريف أَي يعرفكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ من أهل السَّعَادَة والشقاوة لتتبعوا هَذِه وتجتنبوا هَذِه كَمَا قَالَ تَعَالَى وهديناه النجدين قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود سَبِيل الْخَيْر وَالشَّر وَعَن ابْن عَبَّاس سَبِيل الْهدى والضلال وَقَالَ مُجَاهِد سَبِيل السَّعَادَة والشقاوة أَي فطرناه على ذَلِك وعرفناه اياه والجميع وَاحِد والنجدان الطريقان الواضحان والنجد الْمُرْتَفع من الأَرْض فَالْمَعْنى ألم نعرفه طَرِيق الْخَيْر وَالشَّر ونبينه لَهُ كتبيين الطَّرِيقَيْنِ العاليين لَكِن الْهدى والتبيين والتعريف فِي هَذِه الْآيَة يشْتَرك فِيهِ بَنو آدم ويعرفونه بعقولهم وَأما طَرِيق من تقدم من الْأَنْبِيَاء فَلَا بُد من اخبار الله تَعَالَى عَنْهَا كَمَا

ص: 21

قَالَ تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها اليك مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا لَكِن يُجَاب عَن هَذَا بِأَنَّهُ لَو أُرِيد هَذَا الْمَعْنى لقَالَ يُرِيد الله ليبين لكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَلم يحْتَج أَن يذكر الْهدى اذا كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا فَلَمَّا ذكر أَنه يُرِيد التَّبْيِين وَالْهدى علم أَن هَذَا غير هَذَا فالتبيين التَّعْرِيف والتعليم وَالْهدى هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ الدُّعَاء الى الْخَيْر كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلكُل قوم هاد أَي دَاع يَدعُوهُم الى الْخَيْر كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإنَّك لتهدي الى صِرَاط مُسْتَقِيم أَي تدعوهم اليه دُعَاء تَعْلِيم الارادة الشرعيه والارادة الكونية وهداه هُنَا يتَعَدَّى نَفسه لِأَن التَّقْدِير ولزمكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ فَلَا تعدلوا عَنْهَا وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا بِالْهدى الالهام كَمَا فِي قَوْله اهدنا الصراد الْمُسْتَقيم لكَونه لَو أَرَادَ ذَلِك لوقع وَلم يكن فِينَا ضال بل هَذِه ارادة شرعيه أمرية بِمَعْنى الْمحبَّة وَالرِّضَا وَلِهَذَا قَالَ الزّجاج يُرِيد أَن يدلكم على مَا يكون سَببا لتوبتكم فعلق الارادة بِفعل نَفسه فَإِن الزّجاج ظن الارادة فِي الْقُرْآن لَيست الا كَذَلِك وَلَيْسَ كَمَا ظن بل الارادة الْمُتَعَلّقَة بِفِعْلِهِ يكون مرادها كَذَلِك فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَأما الْإِرَادَة وشرعه فَهُوَ كَقَوْلِه مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم الْآيَة وَقَوله انما يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَنَحْو ذَلِك

ص: 22

فَهَذِهِ ارادته لما أَمر بِهِ بِمَعْنى أَنه يُحِبهُ ويرضاه ويثيب فَاعله لَا بِمَعْنى أَنه أَرَادَ أَن يخلقه فَيكون كَمَا قَالَ فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره للاسلام وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا الْآيَة وكما قَالَ نوح وَلَا ينفعكم نصحي ان أردْت أَن أنصح لكم ان كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم واليه ترجعون فَهَذِهِ ارادة لما يخلقه ويكونه كَمَا يَقُول الْمُسلمُونَ مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَهَذِه الارادة مُتَعَلقَة بِكُل حَادث والارادة الشرعيه الأمرية لَا تتَعَلَّق الا بالطاعات كَمَا يَقُول النَّاس لمن يفعل الْقَبِيح يفعل شَيْئا مَا يُريدهُ الله مَعَ قَوْلهم مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَإِن هَذِه الارادة نَوْعَانِ كَمَا قد بسط فِي مَوضِع آخر وَقد يُرَاد بِالْهدى الالهام وَيكون الْخطاب للْمُؤْمِنين المطيعين الَّذين هدَاهُم الله الى طَاعَته فَإِن الله تَعَالَى أَرَادَ أَن يَتُوب عَلَيْهِم ويهديهم فاهتدوا وَلَوْلَا إِرَادَته لَهُم ذَلِك لم يهتدوا كَمَا قَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جائت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ لَكِن الْخطاب فِي الْآيَة لجَمِيع الْمُسلمين كالخطاب بِآيَة الْوضُوء وَالْخطاب لأهل الْبَيْت بقوله انما يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس وَلِهَذَا يهدد من لم يطعه وكا فِي الصّيام يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر فَهَذِهِ ارادة شَرْعِيَّة أمرية بِمَعْنى الْمحبَّة وَالرِّضَا لَا ارادة

ص: 23

الْخلق المستلزمة للمراد لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم تكن الْآيَة خطابا الا لمن أَخذ باليسر وَلمن فعل مَا أَمر بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك بل الحكم الشَّرْعِيّ لَازم لجَمِيع الْمُسلمين فَمن أطَاع أثيب وَمن عصى عُوقِبَ وَالَّذين أطاعوه انما أطاعوه بهداه لَهُم هدى الامام والاعانة بِأَن جعلهم مهتدين كَمَا أَنه هُوَ الَّذِي جعل الْمُصَلِّي مُصَليا وَالْمُسلم مُسلما وَلَو كَانَت الارادة هُنَا من الانسان مستلزمة لوُقُوع المُرَاد لم يقل وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلًا عَظِيما فَأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَأْثِير لارادة هَؤُلَاءِ بل وجدهَا وَعدمهَا سَوَاء كَمَا فِي قَول نوح وَلَا ينفعكم نصحي ان أردْت أَن أنصح لكم ان كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم فَإِنَّهُ شَاءَ الله كَانَ وان لم يَشَاء النَّاس وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَإِن شاءه النَّاس اتِّبَاع الشَّهَوَات والأهواء وَالْمَقْصُود بِالْآيَةِ تحذيرهم من مُتَابعَة الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات وَالْمعْنَى اني أُرِيد لكم الْخَيْر الَّذِي ينفعكم وَهَؤُلَاء يُرِيدُونَ لكم الشَّرّ الَّذِي يضركم كالشيطان الَّذِي يُرِيد أَن يغويكم وَأَتْبَاعه هم أهل الشَّهَوَات فَلَا تتخذوه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني بل اسلكوا طرق الْهدى والرشاد وَإِيَّاكُم وطرق الغي وَالْفساد كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى الْآيَات وَقَوله يتبعُون الشَّهَوَات فِي الْمَوْضِعَيْنِ فاتباع الشَّهْوَة من جنس اتِّبَاع الْهوى كَمَا قَالَ تَعَالَى انما

ص: 24

يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله وَقَالَ وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فيهم وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وَقَالَ تَعَالَى أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن زين لَهُ سوء عمله وَاتبعُوا أهواءهم وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ وَهَذَا فِي الْقُرْآن كثير والهوى مصدر هوى يهوى هوى وَنَفس المهوي يُسمى هوى مَا يهوى فاتباعه كاتباع السَّبِيل كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وكما فِي لفظ الشَّهْوَة فاتباع الْهوى يُرَاد بِهِ نفس مُسَمّى الْمصدر أَي اتِّبَاع ارادته ومحبته الَّتِي هِيَ هَوَاهُ وَاتِّبَاع الارادة هُوَ فعل مَا تهواه النَّفس كَقَوْلِه تَعَالَى وَاتبع سَبِيل من أناب الي وَقَوله وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله وَقَالَ وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء فَلفظ الِاتِّبَاع يكون للْآمِر الناهي وللأمر وَالنَّهْي وللمأمور بِهِ والمنهي عَنهُ وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم كَذَلِك يكون للهوى أَمر وَنهي وَهُوَ أَمر النَّفس ونهيا كَمَا قَالَ

ص: 25

تَعَالَى ان النَّفس لأمارة بالسوء الا مَا رحم رَبِّي ان رَبِّي غَفُور رَحِيم وَلَكِن مَا يَأْمر بِهِ من الْأَفْعَال المذمومة فأحدها مُسْتَلْزم للْآخر فاتباع الْأَمر هُوَ فعل الْمَأْمُور وَاتِّبَاع أَمر النَّفس هُوَ فعل مَا تهواه فعلى هَذِه يعلم أَن اتِّبَاع الشَّهَوَات وَاتِّبَاع الْأَهْوَاء هُوَ اتِّبَاع شَهْوَة النَّفس وهواها وَذَلِكَ يفعل مَا تشتهيه وتهواه بل قد يُقَال هَذَا هُوَ الَّذِي يتَعَيَّن فِي لفظ اتِّبَاع الشَّهَوَات والأهواء لِأَن الَّذِي يَشْتَهِي ويهوى انما يصير مَوْجُودا بعد أَن يَشْتَهِي ويهوى وَإِنَّمَا يذم الانسان اذا فعل مَا يشتهى ويهوى عِنْد وجود فَهُوَ حِينَئِذٍ قد فعل وَلَا ينْهَى عَنهُ بعد وجوده وَلَا يُقَال لصَاحبه لَا تتبع هَوَاك وَأَيْضًا فالفعل المُرَاد المشتهى الَّذِي يهواه الانسان هُوَ تَابع لشهوته وهواه فَلَيْسَتْ الشَّهْوَة والهوى تَابِعَة لَهُ فاتباع الشَّهَوَات هُوَ اتِّبَاع شَهْوَة النَّفس واذا جعلت الشَّهْوَة بِمَعْنى المشتهى كَانَ مَعَ مُخَالفَة الأَصْل يحْتَاج الى أَن يَجْعَل فِي الْخَارِج مَا يشتهى والانسان يتبعهُ كَالْمَرْأَةِ الْمَطْلُوبَة أَو الطَّعَام الْمَطْلُوب وَإِن سميت الْمَرْأَة شَهْوَة وَالطَّعَام أَيْضا كَمَا فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم كل عمل ابْن آدم لَهُ الا الصّيام فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ يدع طَعَامه طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي أَي بترك شَهْوَته وَهُوَ إِنَّمَا يتْرك مَا يشتهيه كَمَا يتْرك الطَّعَام لَا أَنه يدع طَعَامه بترك الشهوتة الْمَوْجُودَة فِي نَفسه

ص: 26

فَإِن تِلْكَ مخلوقة فِيهِ مجبول عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُثَاب اذا ترك مَا تطلبه تِلْكَ الشَّهْوَة وَحَقِيقَة الْأَمر أَنَّهُمَا متلازمان فَمن اتبع نفس شَهْوَته الْقَائِمَة بِنَفسِهِ اتبع مَا يشتهيه وَكَذَلِكَ من اتبع الْهوى الْقَائِم بِنَفسِهِ اتبع مَا يهواه فَإِن ذَلِك من آثَار الارادة وَاتِّبَاع الارادة هُوَ امْتِثَال أمرهَا وَفعل مَا تطلبه كالمأمور الَّذِي يتبع أَمر أميره ولابد أَن يتَصَوَّر مُرَاده الَّذِي يهواه ويشتهيه فِي نَفسه ويتخيله قبل فعله فَيبقى ذَلِك الْمِثَال كَالْإِمَامِ مَعَ الْمَأْمُوم يتبعهُ حَيْثُ كَانَ وَفعله فِي الظَّاهِر تبع لاتباع الْبَاطِن فَتبقى صُورَة المُرَاد الْمَطْلُوب المشتهى الَّتِي فِي النَّفس هِيَ المحركة للانسان الآمرة لَهُ وَلِهَذَا يُقَال الْعلَّة الغائية عِلّة فاعلية فَإِن الانسان لِلْعِلَّةِ الغائية بِهَذَا التَّصَوُّر والارادة صَار فَاعِلا للنفعل وَهَذِه الصُّورَة المرادة المتصورة فِي النَّفس هِيَ الَّتِي جعلت الْفَاعِل فَاعِلا فَيكون الانسان مُتبعا لَهَا والشيطان يمده فِي الغي فَهُوَ يُقَوي تِلْكَ الصُّورَة وَيُقَوِّي أَثَرهَا ويزين للنَّاس اتباعها وَتلك الصُّورَة تتَنَاوَل صُورَة الْعين الْمَطْلُوبَة كالمحبوب من الصُّور وَالطَّعَام وَالشرَاب وتتناول نفس الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمُبَاشرَة لذَلِك الْمَطْلُوب المحبوب والشيطان وَالنَّفس تحب ذَلِك وَكلما تصور ذَلِك المحبوب فِي نَفسه أَرَادَ وجوده فِي الْخَارِج فَإِن أول الْفِكر آخر الْعَمَل وَأول البغية آخر الدَّرك وَلِهَذَا يبْقى الانسان عِنْد شَهْوَته وهواه أَسِيرًا لذَلِك مقهورا تَحت سُلْطَان الْهوى أعظم من قهر كل قاهر فَإِن هَذَا القاهر الهوائي القاهر للْعَبد هُوَ صفة قَائِمَة بِنَفسِهِ لَا يُمكنهُ مُفَارقَته الْبَتَّةَ وَالصُّورَة الذهنية تطلبها النَّفس فَإِن المحبوب تطلب النَّفس أَن تُدْرِكهُ وتمثله لَهَا فِي نَفسهَا فو مُتبع للارادة وَإِن كَانَت الذهنية والتزين من الزين وَالْمرَاد التَّصَوُّر فِي نَفسه والمشتهى الْمَوْجُود فِي الْخَارِج لَهُ محركان التَّصَوُّر والمشتهى هَذَا

ص: 27

يحركه تَحْرِيك طلب وَأمر وَهَذَا يَأْمُرهُ أَن يتبع طلبه وَأمره فاتباع الشَّهَوَات والأهواء يتَنَاوَل هَذَا كُله بِخِلَاف كل قاهر ينْفَصل عَن الانسان فَإِنَّهُ يُمكنهُ مُفَارقَته مَعَ بَقَاء نَفسه على حَالهَا وَهَذَا انما يُفَارِقهُ بِتَغَيُّر صفة نَفسه وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع واعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَثَلَاث منجيات خشيَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنا وَكلمَة الْحق فِي الْغَضَب وَالرِّضَا وَقَوله فِي الحَدِيث هوى مُتبع فِيهِ دَلِيل على أَن المتبع هُوَ مَا قَامَ فِي النَّفس كَقَوْلِه فِي الشُّح المطاع وَجعل الشُّح مُطَاعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِر وَجعل الْهوى مُتبعا لِأَن المتبع قد يكون اماما يقْتَدى بِهِ وَلَا يكون آمرا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ اياكم الشُّح فَإِن الشُّح أهلك من كَانَ قبلكُمْ أَمرهم بالبخل فبخلوا وَأمرهمْ بالظلم فظلموا وَأمرهمْ بالقطيعة فَقطعُوا فَبين أَن الشُّح يَأْمر بالبخل وَالظُّلم والقطيعة فالبخل منع مَنْفَعَة النَّاس بِنَفسِهِ وَمَاله وَالظُّلم هُوَ الاعتداء عَلَيْهِم فَالْأول هُوَ التَّفْرِيط فِيمَا يجب فَيكون قد فرط فِيمَا يجب واعتدى عَلَيْهِم بِفعل مَا يحرم وَخص قطيعة الرَّحِم بِالذكر اعظاما لَهَا لِأَنَّهَا تدخل فِي الْأَمريْنِ الْمُتَقَدِّمين قبلهَا

ص: 28

تَفْسِير الْبُخْل وَالشح والحسد وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى وَمن يُوقَ شح نَفسه هُوَ أَن لَا يَأْخُذ شَيْئا مِمَّا نَهَاهُ الله عَنهُ وَلَا يمنه شَيْئا أمره الله بِأَدَائِهِ فالشح يَأْمر بِخِلَاف أَمر الله وَرَسُوله فَإِن الله ينْهَى عَن الظُّلم وَيَأْمُر بالاحسان وَالشح يَأْمر باظلم وَينْهى عَن الاحسان وَقد كَانَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يكثر فِي طَوَافه بِالْبَيْتِ وبالوقوف بعرفه أَن يَقُول اللَّهُمَّ قنى شح نَفسِي فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ اذا وقيت شح نَفسِي وقيت الظُّلم وَالْبخل والقطيعة وَفِي رِوَايَة عَنهُ قَالَ اني أَخَاف أَن أكون قد هَلَكت قَالَ وَمَا ذَلِك قَالَ اسْمَع الله يَقُول وَمن يُوقَ شح نَفسه وَأَنا رجل شحيح لَا يكَاد يخرج من يَدي شَيْء فَقَالَ لَيْسَ ذَلِك بالشح الَّذِي ذكره الله فِي الْقُرْآن انما الشُّح أَن تَأْكُل مَال أَخِيك ظلما وانما يكن بالبخل وَبئسَ الشَّيْء الْبُخْل وَقد ذكر تَعَالَى الشُّح فِي سِيَاق ذكر الْحَسَد والايثار فِي قَوْله وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة ثمَّ قَالَ وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون فَمن وقى شح نَفسه لم يكن حسودا بَاغِيا على الْمَحْسُود والحسد أَصله بغض الْمَحْسُود وَالشح يكون فِي الرجل مَعَ الْحِرْص وَقُوَّة الرَّغْبَة فِي المَال وبغض للْغَيْر وظلم لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم والقائلين لاخوانهم هَلُمَّ الينا وَلَا يأْتونَ الْبَأْس الا قَلِيلا أشحة عَلَيْكُم الْآيَات

ص: 29

الى قَوْله أشحة على الْخَيْر أُولَئِكَ لم يُؤمنُوا فأحبط الله أَعْمَالهم فشحهم على الْمُؤمنِينَ وعَلى الْخَيْر يتَضَمَّن كراهيته وبغضه وبغض الْخَيْر يَأْمر بِالشَّرِّ وبغض الانسان يَأْمر بظلمه وقطيعته كالحسد فَإِن الْحَاسِد يَأْمر حاسده بظُلْم الْمَحْسُود ولقطيعته كابني آدم واخوة يُوسُف فالحسد وَالشح يتضمنان بغضا وكراهية فيأمران بِمَنْع الْوَاجِب وبظلم ذَلِك الشَّخْص فَإِن الْفِعْل صدر فِيهِ عَن بغض بِخِلَاف الهوا فَإِن الْفِعْل صدر فِيهِ عَن حب أحب شَيْئا فَأتبعهُ فَفعله وَذَلِكَ مَقْصُوده أَمر عدمي والعدم لَا ينفع وَلَكِن ذَلِك الْقَصْد أَمر بِأَمْر وجودي فأطيع أمره وَابْن مَسْعُود جعل الْبُخْل خَارِجا عَن الشُّح وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جعل الشُّح يَأْمر بالبخل وَمن النَّاس من يَقُول الشُّح وَالْبخل سَوَاء كَمَا قَالَ ابْن جرير الشُّح فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الْبُخْل وَمنع الْفضل من المَال وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بل مَا قَالَه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَابْن مَسْعُود أَحَق أَن يتبع فَإِن الْبَخِيل قد يبخل بِالْمَالِ محبَّة لما يحصل لَهُ بِهِ من اللَّذَّة والتنعم وَقد لَا يكون متلذذا بِهِ وَلَا متنعما بل نَفسه تضيق عَن انفاقه وَتكره ذَلِك حَتَّى يكون يكره أَن ينفع نَفسه مِنْهُ مَعَ كثره مَاله وَهَذَا قد يكون مَعَ التذاذة بِجمع المَال ومحبته لرُؤْيَته وَقد لَا يكون هُنَاكَ لَذَّة أصلا بل يكره أَن يفعل احسانا الى أحد حَتَّى لَو أَرَادَ غَيره أَن يُعْطي كره ذَلِك مِنْهُ بغضا للخير لَا للمعطي وَلَا للمعطي بل بغضا مِنْهُ للخير وَقد يكون بغضا وحسدا للمعطي أَو للمعطى وَهَذَا هُوَ الشُّح وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْمر بالبخل قطعا وَلَكِن كل بخل يكون عَن شح فَكل شحيح بخيل وَلَيْسَ كل بخيل شحيحا

ص: 30

قَالَ الْخطابِيّ الشُّح أبلغ فِي الْمَنْع من الْبُخْل وَالْبخل انما هُوَ من أَفْرَاد الْأُمُور وخواص الْأَشْيَاء وَالشح عَام فَهُوَ كالوصف اللآزم للانسان من قبل الطَّبْع والجبلة وَحكى الْخطابِيّ عَن بعضعهم أَنه قَالَ الْبُخْل أَن يضن الانسان بِمَالِه وَالشح أَن يضن بِمَالِه ومعروفه وَقيل الشُّح أَن يشح بِمَعْرُوف غَيره على غَيره وَالْبخل أَن يبخل بمعروفه على غَيره وَالَّذين يتبعُون الشَّهَوَات ويتبعون أهواءهم يحبونَ ذَلِك ويريدونه فاتبعوا محبتهم وارادتهم من غير علم فَلم ينْظرُوا هَل ذَلِك نَافِع لَهُم فِي الْعَاقِبَة أَو ضار دَرَجَات اتِّبَاع الْهوى وَلِهَذَا قَالَ فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم ثمَّ قَالَ وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله وَاتِّبَاع الْهوى دَرَجَات فَمنهمْ الْمُشْركُونَ وَالَّذين يعْبدُونَ من دون الله مَا يتسحسنون بِلَا علم وَلَا برهَان كَمَا قَالَ أَفَرَأَيْت من أَتَّخِذ اله هَوَاهُ أَي يتَّخذ الهه الَّذِي يعبده وَهُوَ مَا يهواه من آلِهَة وَلم يقل ان هَوَاهُ نفس الهه فَلَيْسَ كل من يهوى شَيْئا يعبده فَإِن الْهوى أَقسَام بل المُرَاد أَنه جعل المعبود الَّذِي يعبده هُوَ مَا يهواه فَكَانَت عِبَادَته تَابِعَة لهوى نَفسه فِي الْعِبَادَة فَإِنَّهُ لم يعبد مَا يحب أَن يعبد وَلَا عبد الْعِبَادَة الَّتِي أَمر بهَا وَهَذِه حَال أهل الْبدع فَإِنَّهُم عبدُوا غير الله وابتدعوا عبادات

ص: 31

زَعَمُوا أَنهم يعْبدُونَ الله بهَا فهم انما اتبعُوا أهواؤهم فَإِن أحدهم يتبع محبَّة نَفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير فَلَو اتبع الْعلم وَالْكتاب الْمُنِير لم يعبد الا الله بِمَا شَاءَ لَا بالحوادث والبدع وَالْمَقْصُود أَن الْآلهَة كَثِيرَة والعبادات لَهَا متنوعة وَبِالْجُمْلَةِ فَكل مَا يُريدهُ الانسان وَيُحِبهُ لَا بُد أَن يتصوره فِي نَفسه فَتلك الصُّورَة العلمية محركة لَهُ الى محبوبة ولوازم الْحبّ فَمن عَبده عبد غير الله وتمثلت لَهُ الشَّيَاطِين فِي صُورَة من يعبده وَهَذَا كثير مَا زَالَ وَلم يزل وَلِهَذَا كَانَ كل من عبد شَيْئا غير الله فَإِنَّمَا يعبد الشَّيْطَان وَلِهَذَا يقارن الشَّيْطَان الشَّمْس عِنْد طُلُوعهَا وغروبها واستوائها ليَكُون سُجُود من يَعْبُدهَا لَهُ وَقد كَانَت الشَّيَاطِين تتمثل فِي صُورَة من يعبد كَمَا كَانَت تكلمهم من الْأَصْنَام الَّتِي يعبدونها وَكَذَلِكَ فِي وقتنا خلق كثير من المنتسبين الى الاسلام وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين مِمَّن أشرك بِبَعْض من يعظمه من الْأَحْيَاء والآموات من الْمَشَايِخ ويرهم فيدعوه ويستغيث بِهِ فِي حَيَاته وَبعد مماته فيراه قد أَتَاهُ وَكَلمه وَقضى حَاجته وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان تمثل على صورته ليغوي هَذَا الْمُشرك والمبتلون بالعشق لَا يزَال الشَّيْطَان يمثل لأَحَدهم صُورَة المعشوق اَوْ يتَصَوَّر بصورته فَلَا يزَال يرى صورته مَعَ مغيبه عَنهُ بِعْ مَوته فَإِنَّمَا جلاه الشَّيْطَان على قبله وَلِهَذَا اذا ذكر العَبْد الله الذّكر الَّذِي يخنس مِنْهُ الوسواس الخناس خنس هَذَا الْمِثَال الشيطاني وَصُورَة المحبوب تستولي على الْمُحب أَحْيَانًا حَتَّى لَا يرى غَيرهَا وَلَا يسمع غير كَلَامهَا فَتبقى نَفسه مشتغله بهَا وَالَّذين يسلكون فِي محبَّة الله مسلكا نَاقِصا يحصل لأَحَدهم نوع من

ص: 32

ذَلِك يُسمى الاصطلام والفناء يغيب بمحبوبه عَن محبته وبمعروفه عَن مَعْرفَته وبمذكوره عَن ذكره حَتَّى لَا يشْعر بِشَيْء من أَسمَاء الله وَصِفَاته وَكَلَامه وَأمره وَنَهْيه وَمِنْهُم من قد ينْتَقل من هَذَا الى الِاتِّحَاد فَيَقُول أَنا هُوَ وَهُوَ أَنا وانا الله ويظن كثير من الْمَسَاكِين أَن هَذَا هُوَ غَايَة السالكين وَأَن هَذَا هُوَ التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ نِهَايَة كل سالك وهم غالطون فِي هَذَا بل هَذَا من جنس قَول النَّصَارَى وَلَكِن ضلوا لأَنهم لم يسلكوا الطَّرِيق الشرعيه فِي الْبَاطِن فِي خبر الله وَأمره وَقد بسط الْكَلَام على هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع وَالْمَقْصُود أَن المتبعين لشهواتهم من الصُّور وَالطَّعَام وَالشرَاب واللباس يستولي على قلب أحدهم مَا يشتهيه حَتَّى يَقْهَرهُ ويملكه وَيبقى أَسِيرًا مَا يهواه يصرفهُ كَيفَ تصرف ذَلِك الْمَطْلُوب وَلِهَذَا قَالَ بعض السّلف مَا أَنا على الشَّاب الناسك بأخوف مني عَلَيْهِ من سبع ضار يثب عَلَيْهِ من صبي حدث يجلس اليه وَذَلِكَ أَن النَّفس الصافية الَّتِي فِيهَا رقة الرياضة وَلم تنجذب الى محبَّة الله وعبادته انجذابا تَاما وَلَا قَامَ بهَا من خشيَة الله التَّامَّة مَا يصرفهَا عَن هَواهَا مَتى صَارَت تَحت صُورَة من الصُّور استولت تِلْكَ الصُّورَة عَلَيْهَا كَمَا يستولي السَّبع على مَا يفترسه فالسبع يَأْخُذ فريسته بالقهر وَلَا تقدر الفريسة على الِامْتِنَاع مِنْهُ كَذَلِك مَا يمثله الانسان فِي قلبه من الصُّور المحبوبة تبتلع قبله وتقهره فَلَا يقدر قلبه على الِامْتِنَاع مِنْهُ فَيبقى قلبه مُسْتَغْرقا فِي تِلْكَ الصُّورَة أعظم من استغراق الفريسة فِي جَوف الْأسد لِأَن المحبوب المُرَاد هُوَ غَايَة النَّفس لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَان قاهر

ص: 33

الْقلب بَين الْحبّ وَالْخَوْف وَالْقلب يغرق فِيمَا يستولي عَلَيْهِ اما من مَحْبُوب وَإِمَّا من مخوف كَمَا يُوجد من محبَّة المَال والجاه والصور والخائف من غَيره يبْقى قلبه وعقله مستغرقان فِيهِ كَمَا يغرق الغريق فِي المَاء فَلَا بُد أَن يستولي عَلَيْهَا مَا يُحِيط بهَا من الْأَجْسَام والقلوب يستولي عَلَيْهَا مَا يتَمَثَّل لَهَا من المخاوف والمحبوبات والمكروهات فالمحبوب يَطْلُبهُ وَالْمَكْرُوه يَدْفَعهُ والرجاء يتَعَلَّق بالمحبوب وَالْخَوْف يتَعَلَّق بالمكروه وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ الا الله وَلَا يذهب السَّيِّئَات الا الله وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ الا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ اذا مسكم الضّر فإليه تجئرون واذا دَعَا العَبْد ربه باعطاء الْمَطْلُوب وَدفع المرهوب جعل لَهُ من الايمان بِاللَّه ومحبته ومعرفته وتوحيده ورجائه وحياة قلبه واستنارته بِنور الايمان مَا قد يكون أَنْفَع لَهُ من ذَلِك الْمَطْلُوب ان كَانَ عرضا من الدُّنْيَا وَأما إِذا طلب مِنْهُ أَن يُعينهُ على ذكره وشكره وَحسن عِبَادَته وَمَا يتبع ذَلِك فَهُنَا الْمَطْلُوب قد يكون أَنْفَع من الطّلب وَهُوَ الدُّعَاء وَالْمَطْلُوب الذّكر وَالشُّكْر وَقيام الْعِبَادَة على أحسن الْوُجُوه وَغير ذَلِك وَهَذَا لبسطه مَوضِع آخر اسْتِيلَاء الشَّهَوَات والأهواء على الْقُلُوب والمقصور أَن الْقلب قد يغمره فيستولي عَلَيْهِ مَا يُريدهُ العَبْد وَيُحِبهُ وَمَا يخافه ويحذره كَائِنا من كَانَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بل قلبوبهم فِي

ص: 34

غمرة من هَذَا وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون فَهِيَ فِيمَا يغمرها عَمَّا أنذرت بِهِ فيغمرها ذَلِك عَن ذكر الله وَالدَّار الْآخِرَة وَمَا فِيهَا من النَّعيم وَالْعَذَاب الْأَلِيم قَالَ الله تَعَالَى فذرهم فِي غمرتهم حَتَّى حِين أَي فِيمَا يغمر قُلُوبهم من حب المَال والبنين الْمَانِع لَهُم من المسارعة فِي الْخيرَات والأعمال الصَّالِحَة وَقَالَ تَعَالَى قتل الخراصون الَّذين هم فِي غمرة ساهون الْآيَات أَي ساهون عَن أَمر الْآخِرَة فهم فِي غمرة عَنْهَا أَي فِيمَا يغمر قلبوهم من حب الدُّنْيَا ومتاعها ساهون عَن أَمر الْآخِرَة وَمَا خلقُوا لَهُ وَهَذَا يشبه قَوْله وَلَا تُطِع من أَغْفَلنَا قلبه عَن ذكرنَا وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ أمره فرطا فالغمرة تكون من اتِّبَاع الْهوى والسهو من جنس الْغَفْلَة وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ السَّهْو الْغَفْلَة عَن الشَّيْء وَذَهَاب الْقلب عَنهُ وَهَذَا جماع الشَّرّ الْغَفْلَة والشهوة فالغفلة عَن الله وَالدَّار الْآخِرَة تسد بَاب الْخَيْر الَّذِي هُوَ الذّكر واليقظة والشهوة تفتح بَاب الشَّرّ والسهو وَالْخَوْف فَيبقى الْقلب مغمورا فِيمَا يهواه ويخشاه غافلا عَن الله رائدا غير الله سَاهِيا عَن ذكره قد اشْتغل بِغَيْر الله قد انفرط أمره قد ران حب الدُّنْيَا على قلبه كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ تعس عبد الدِّينَار تعس عبد الدِّرْهَم تعس عبد

ص: 35

القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس واذا شيك فَلَا انتقش ان أعطي رَضِي وَإِن منع سخط جعله عبد مَا يرضيه وجوده ويسخطه فَقده حَتَّى يكون عبد الدِّرْهَم وَعبد مَا وصف فِي هَذَا الحَدِيث والقطيفة هِيَ الَّتِي يجلس عَلَيْهَا فَهُوَ خَادِمهَا كَمَا قَالَ بعض السّلف البس من الثِّيَاب مَا يخدمك وَلَا تلبس مِنْهَا مَا تكن أَنْت تخدمه وَهِي كالبساط الَّذِي تجْلِس عَلَيْهِ والخميصة هِيَ الَّتِي يرتدي بهَا وَهَذَا من أقل المَال وَإِنَّمَا نبه بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم على مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ فَهُوَ عبد لذَلِك فِيهِ أَرْبَاب متفرقون وشركاء متشاكسون وَلِهَذَا قَالَ ان أعطي رَضِي وَإِن منع سخظ فَمَا كَانَ يُرْضِي الانسان حُصُوله ويسخطه فَقده فَهُوَ عَبده اذ العَبْد يرضى باتصاله بهما ويسخط لفقدهما والمعبود الْحق الَّذِي لَا اله الا هُوَ اذا عَبده الْمُؤمن وأخيه حصل لِلْمُؤمنِ بذلك فِي قلبه ايمان وتوحيد ومحبة وَذكر وَعبادَة فيرضى بذلك واذا منع من ذَلِك غضب وَكَذَلِكَ من أحب شَيْئا فَلَا بُد من أَن يتصوره فِي قلبه وَيُرِيد اتِّصَاله بِهِ بِحَسب الامكان قَالَ الْجُنَيْد لَا يكون العَبْد عبدا حَتَّى يكون مِمَّا سوى الله تَعَالَى

ص: 36

حرا وَهَذَا مُطَابق لهَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ لَا يكون عبدا لله خَالِصا مخلصا دينه لله كُله حَتَّى لَا يكون عبدا لما سواهُ وَلَا فِيهِ شُعْبَة وَلَا أدنى جُزْء من عبودية مَا سوى الله فَإِذا كَانَ يرضيه ويسخطه غير الله فَهُوَ عبد لذَلِك الْغَيْر فَفِيهِ من الشّرك بِقدر محبته وعبادته لذَلِك الْغَيْر زِيَادَة قَالَ الفضيل بن عِيَاض وَالله مَا صدق الله فِي عبوديته من لأحد من المخلوقين عَلَيْهِ ربانية وَقَالَ زيد بن عَمْرو بن نفَيْل أربا وَاحِدًا أم ألف ربأدين اذا انقسمت الْأُمُور روى الامام أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ بئس العَبْد عبد تخيل واختال وَنسي الْكَبِير المتعال بئس العَبْد عبد تجبر واعتدى وَنسي الْجَبَّار الْأَعْلَى بئس العَبْد عبد سَهَا وَلها وَنسي الْمَقَابِر والبلى بئس العَبْد عبد بغى واعتدى وَنسي المبدأ والمنتهى بئس العَبْد عبد ال دنيا بِالدّينِ بئس العَبْد عبد يخْتل الدّين بِالشُّبُهَاتِ بئس العَبْد عبد رغب يذله ويزيله عَن الْحق بئس العَبْد عبد طمع يَقُودهُ بئس العَبْد عبد هوى يضله قَالَ

ص: 37

التِّرْمِذِيّ غَرِيب وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح الْمُتَقَدّم مَا يقويه وَالله أعلم وَكَذَلِكَ أَحَادِيث وآثار كَثِيرَة رويت فِي معنى ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله وطالب الرِّئَاسَة وَلَو بِالْبَاطِلِ ترضيه الْكَلِمَة الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمه وَإِن كَانَت بَاطِلا وتغضبه الْكَلِمَة الَّتِي فِيهَا ذمَّة وان كَانَت حَقًا وَالْمُؤمن ترضيه كلمة الْحق لَهُ وَعَلِيهِ وتغضيه كلمة الْبَاطِل لَهُ وَعَلِيهِ لِأَن الله تَعَالَى يحب الْحق والصدق وَالْعدْل وَيبغض الْكَذِب وَالظُّلم فَإِذا قيل الْحق والصدق وَالْعدْل الَّذِي يُحِبهُ الله أحبه وان كَانَ فِيهِ مُخَالفَة هَوَاهُ لِأَن هَوَاهُ قد صَار تبعا لما جَاءَ بِهِ الرَّسُول واذا قيل الظُّلم وَالْكذب فَالله يبغضه وَالْمُؤمن يبغضه وَلَو وَافق هَوَاهُ وَكَذَلِكَ طَالب المَال وَلَو بِالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فان أعْطوا مِنْهَا رَضوا وان لم يُعْطوا مِنْهَا اذا هم يسخطون وَهَؤُلَاء هم الَّذين قَالَ فيهم تعس عبد الدِّينَار الحَدِيث فَكيف اذا استولى على الْقلب مَا هُوَ أعظم استعبادا من الدِّرْهَم وَالدِّينَار من الشَّهَوَات والأهواء والمحبوبات الَّتِي تجذب الْقلب عَن كَمَال محبته لله وعبادته لما فِيهَا من الْمُزَاحمَة والشرك بالمخلوقات كَيفَ تدفع الْقلب وتزيغه عَن كَمَال محبته لرَبه وعبادته وخشيته لِأَن كل مَحْبُوب يجذب قلب محبه اليه ويزيغه عَن محبَّة غير محبوبة وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوه يَدْفَعهُ ويزيله ويشغله عَن عبَادَة الله تَعَالَى

ص: 38

وَلِهَذَا روى الامام أَحْمد فِي مُسْنده وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَصْحَابه الْفقر تخافون لَا أَخَاف عَلَيْكُم الْفقر انما أَخَاف عَلَيْكُم الدُّنْيَا حَتَّى ان قلب أحدكُم اذا زاغ لَا يزيغه الا هِيَ وَكَذَلِكَ الَّذين يحبونَ العَبْد كأصدقائه وَالَّذين يبغضونه كأعدائه فَالَّذِينَ يحبونه يجذبونه اليهم فاذا لم تكن الْمحبَّة مِنْهُم لَهُ لله كَانَ ذَلِك مِمَّا يقعطه عَن الله وَالَّذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عَن الله وَلَو أحسن اليه أصدقاؤه الَّذين يحبونه لغير الله أوجب احسانهم اليه محبته لَهُم وانجذاب قلبه اليهم وَلَو كَانَ على غير الاسْتقَامَة وَأوجب مكافأته لَهُم فيقطعونه عَن الله وعبادته خلاص الْقلب من الْفِتْنَة فَلَا تَزُول الْفِتْنَة عَن الْقلب الا اذا كَانَ دين العَبْد كُله لله عز وجل فَيكون حبه لله وَلما يُحِبهُ الله وبغضبه لله وَلما يبغضه الله وَكَذَلِكَ موالاته ومعاداته والا فمحبة الْمَخْلُوق تجذبه وَحب الْخلق لَهُ سَبَب يجذبهم بِهِ اليه ثمَّ قد يكون هَذَا أقوى وَقد يكون هَذَا أقوى فَإِذا كَانَ هُوَ غَالِبا لهواه لم يجذبه مغلوب مَعَ هَوَاهُ وَلَا محبوباته اليها لكَونه غَالِبا لهواه ناهيا لنَفسِهِ عَن الْهوى لما فِي قلبه من خشيَة الله ومحبته الَّتِي تَمنعهُ عَن انجذابه الى المحبوبات وَأما حب النَّاس لَهُ فَإِنَّهُ يُوجب أَن يجذبوه هم بقوتهم اليهم فَإِن لم يكن فِيهِ قُوَّة يدفعهم بهَا عَن نَفسه من محبَّة الله وخشيته وَإِلَّا جذبوه وأخذوه اليهم كحب امْرَأَة الْعَزِيز ليوسف فَإِن قُوَّة يُوسُف ومحبته لله

ص: 39

وإخلاصه وخشيته كَانَت أقوى من جمال امْرَأَة الْعَزِيز وحسنها وحبه لَهَا هَذَا اذا أحب أحدهم صورته مَعَ أَن هُنَا الدَّاعِي قوي مِنْهُ وَمِنْهُم فَهُنَا الْمَعْصُوم من عصمه الله وَإِلَّا فالغالب على النَّاس فِي الْمحبَّة من الطَّرفَيْنِ أَنه يَقع بعض الشَّرّ بَينهم وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يخلون رجل بِامْرَأَة الا كَانَ ثالثهما الشَّيْطَان حَال المواليه لغير الله وَقد يحبونه لعلمه أَو دينه أَو احسانه أَو غير ذَلِك فالفتنة فِي هَذَا أعظم الا اذا كَانَت فِيهِ قُوَّة ايمانية وخشية وتوحيد تَامّ فَإِن فتْنَة الْعلم والجاه والصور فتْنَة لكل مفتون وهم مَعَ ذَلِك يطْلبُونَ مِنْهُ مقاصدهم ان لم يَفْعَلهَا والا نقص الْحبّ أَو حصل نوع بغض وَرُبمَا زَاد أَو أدّى الى الانسلاخ من حبه فَصَارَ مبغوضا بعد أَن كَانَ محبوبا فأصدقاء الانسان يحبونَ استخدامه واستعماله فِي أغراضهم حَتَّى يكون كَالْعَبْدِ لَهُم وأعداؤه يسعون فِي أَذَاهُ واضراره وَأُولَئِكَ يطْلبُونَ مِنْهُ انتفاعهم وان كَانَ مضرا لَهُ مُفْسِدا لدينِهِ لَا يفكون فِي ذَلِك وَقَلِيل مِنْهُم الشكُور فاطائفتان فِي الْحَقِيقَة لَا يقصدون نَفعه وَلَا دفع ضَرَره وانما يقصدون أغراضهم بِهِ فَإِن لم يكون الانسان عابدا الله متوكلا عَلَيْهِ مواليا لَهُ ومواليا فِيهِ ومعاديا وَإِلَّا أَكلته الطائفتان وَأدّى ذَلِك الى هَلَاكه فِي الدِّينَا وَالْآخِرَة وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من أَحْوَال بني آدم وَمَا يَقع بَينهم من المحاربات والمخاصمات وَالِاخْتِلَاف والفتن قوم يوالون زيدا ويعادون عمروا

ص: 40

وَآخَرُونَ بِالْعَكْسِ لأجل أغراضهم فَإِذا حصلوا على أغراضهم مِمَّن يوالونه وَمَا هم طالبوه من زيد انقلبوا الى عَمْرو وَكَذَلِكَ أَصْحَاب عَمْرو كَمَا هُوَ الْوَاقِع بَين أَصْنَاف النَّاس وَكَذَلِكَ الرَّأْس من الْجَانِبَيْنِ يمِيل الى هَؤُلَاءِ الَّذين يوالونه وهم اذا لم تكن الْمُوَالَاة لله أضرّ عَلَيْك من اولئك فَإِن أُولَئِكَ انما يقصدون افساد دُنْيَاهُ اما بقتْله أَو بِأخذ مَاله وَإِمَّا بِإِزَالَة منصبه وَهَذَا كُله ضَرَر دُنْيَوِيّ لَا يعْتد بِهِ اذا سلم العَبْد وَهُوَ عكس حَال أهل الدُّنْيَا ومحبيها الَّذين لَا يعتدون بِفساد دينهم مَعَ سَلامَة دنياهم فهم لَا يبالون بذلك وَأما دين العَبْد الَّذِي بَينه وَبَين الله فهم لَا يقدرُونَ عَلَيْهِ ضَرَر الْمُوَالَاة لأجل الْمصلحَة وَأما أولياؤه الَّذين للأغراض فَإِنَّمَا يقصدون مِنْهُ فَسَاد دينه بمعاونته على أغراضهم وَغير ذَلِك فَإِن لم أَعدَاء فَدخل بذلك عَلَيْهِ الْأَذَى من جِهَتَيْنِ من جِهَة مفارقتهم وَمن جِهَة عداوتهم وعداوتهم أَشد عَلَيْهِ من عَدَاوَة أعدائه لأَنهم قد شاهدوا مِنْهُ وَعرفُوا مَا لم يعرفهُ أعداؤه فاستجلبوا بذلك عَدَاوَة غَيرهم فتتضاعف الْعَدَاوَة وان لم يجب مفارقتهم احْتَاجَ الى مداهنتهم ومساعدتهم على مَا يريدونه وَإِن كَانَ فِيهِ فَسَاد دينه فَإِن ساعدهم على نيل مرتبَة دنيوية ناله مِمَّا يعْملُونَ فِيهَا نَصِيبا وافرا وحظا تَاما من ظلمهم وجورهم وطلبوا مِنْهُ أَيْضا أَن يعاونهم على أغراضهم وَلَو فَاتَت أغراضه الدُّنْيَوِيَّة فَكيف

ص: 41

بالدينية ان وجدت فِيهِ أَو عِنْده فَإِن الانسان ظَالِم جَاهِل لَا يطْلب الا هَوَاهُ فَإِن لم يكن هَذَا فِي الْبَاطِن يحسن اليهم ويصبر على أذاهم وَيَقْضِي حوائجهم لله وَتَكون استعانته عَلَيْهِم بِاللَّه تَامَّة وتوكله على الله تَامّ وَإِلَّا أفسدوا دينه ودنياه كَمَا هُوَ الْوَاقِع الْمشَاهد من النَّاس مِمَّن يطْلب الرِّئَاسَة الدُّنْيَوِيَّة فَإِنَّهُ يطْلب مِنْهُ من الظُّلم والمعاصي مَا ينَال بِهِ تِلْكَ الرِّئَاسَة وَيحسن لَهُ هَذَا الرَّأْي ويعاديه ان لم يقم مَعَه كَمَا قد جرى ذَلِك مَعَ غير وَاحِد وَذَلِكَ يجْرِي فِيمَن يحب شخصا لصورته فَإِنَّهُ يَخْدمه ويعظمه وَيُعْطِيه مَا يقدر عَلَيْهِ وَيطْلب مِنْهُ من الْمحرم مَا يفْسد دينه وفيمن يحب صَاحب بِدعَة لكَونه لَهُ دَاعِيَة الى تِلْكَ الْبِدْعَة يحوجه الى أَن ينصر الْبَاطِل الَّذِي يعلم أَنه بَاطِل والا عَادَاهُ وَلِهَذَا صَار عُلَمَاء الْكفَّار وَأهل الْبدع مَعَ علمهمْ بِأَنَّهُم على الْبَاطِل ينْصرُونَ ذَلِك الْبَاطِل لأجل الأتباع والمحبين ويعادون أهل الْحق ويهجنون طريقهم فَمن أحب غير الله ووالى غَيره كره محب الله ووليه وَمن أحب أحدا لغير الله كَانَ ضَرَر أصدقائه عَلَيْهِ أعظم من ضَرَر أعدائه فَإِن أعداءه غايتهم أَن يحولوا بَينه وَبَين هَذَا المحبوب الدنيوي والحيلوله بَينه وَبَينه رَحْمَة فِي حَقه وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تِلْكَ الرَّحْمَة وذهابها عَنهُ فَأَي صداقة هَذِه وَيُحِبُّونَ بَقَاء ذَلِك المحبوب ليستعملوه فِي أغراضهم وَفِيمَا يحبونه وَكِلَاهُمَا ضَرَر عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى اذ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا وَرَأَوا الغذاب

ص: 42

وتقطعت بهم الْأَسْبَاب قَالَ الفضيل بن عِيَاض عَن لَيْث عَن مُجَاهِد هِيَ المودات الَّتِي كَانَت لغير الله والوصلات الَّتِي كَانَت بَينهم فِي الدُّنْيَا وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كره فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار فالأعمال الَّتِي أَرَاهُم الله حسرات عَلَيْهِم هِيَ الْأَعْمَال الَّتِي يَفْعَلهَا بَعضهم مَعَ بعض فِي الدُّنْيَا كَانَت لغير الله وَمِنْهَا الْمُوَالَاة والصحبة والمحبة لغير الله فالخير كُله فِي أَن يعبد الله وَحده لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه سَبَب الْمحبَّة وَمِمَّا يُحَقّق هَذِه الْأُمُور أَن الْمُحب يجذب والمحبوب يجذب فَمن أحب شَيْئا جذبه اليه بِحَسب قوته وَمن أحب صُورَة جذبته تِلْكَ الصُّورَة الى المحبوب الْمَوْجُود فِي الْخَارِج بِحَسب قوته فَإِن الْمُحب علته فاعلية والمحبوب علته غائية وكل مِنْهُمَا لَهُ تَأْثِير فِي وجود الْمَعْلُول والمحب انما يجذب المحبوب بِمَا فِي قلب الْمُحب من صورته الَّتِي يتمثلها فَتلك الصُّورَة تجذبه بِمَعْنى انجذابه اليها لِأَنَّهَا هِيَ فِي نَفسهَا قصد وَفعل فَإِن فِي المحبوب من الْمَعْنى الْمُنَاسب مَا يَقْتَضِي انجذاب الْمُحب اليه كَمَا ينجذب الانسان الى الطَّعَام ليأكله والى امْرَأَة ليباشرها والى صديقه ليعاشره وكما تنجذب قُلُوب المحبين لله وَرَسُوله الى الله وَرَسُوله وَالصَّالِحِينَ من عباده لما اتّصف بِهِ سُبْحَانَهُ من الصِّفَات الَّتِي يسْتَحق لأَجلهَا أَن يحب ويعبد بل لَا يجوز أَن يحب شَيْء من الموجودات لذاته الا هُوَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فَكل مَحْبُوب فِي الْعَالم انما يجوز أَن يحب لغيره لَا لذاته والرب تَعَالَى هُوَ الَّذِي يجب أَن يحب لنَفسِهِ وَهَذَا من مَعَاني الهيته وَلَو كَانَ فيهمَا

ص: 43

آلِهَة الا الله لفسدتا ف الله فغن ذَلِك من خَصَائِص اليهيته فَلَا يسْتَحق ذَلِك الا الله وَحده وكل مَحْبُوب سواهُ ان لم يحب لأَجله أَو لما يحب لأَجله فمحبته فَاسِدَة وَالله تَعَالَى خلف فِي النُّفُوس حب الْغذَاء وَحب النِّسَاء لما فِي ذَلِك من حفظ الْأَبدَان وَبَقَاء الانسان ف وَلَوْلَا حب النِّسَاء لما تزوجوا فَانْقَطع النَّسْل وَالْمَقْصُود بِوُجُود ذَلِك بَقَاء كل مِنْهُم ليعبدوا الله وَحده وَيكون هُوَ المحبوب المعبود لذاته الَّذِي لَا يسْتَحق ذَلِك غَيره وانما تحب الْأَنْبِيَاء والصالحوب تبعا لمحبته فَإِن من تَمام حبه حب مَا يُحِبهُ وَهُوَ يحب الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَيُحب الْأَعْمَال الصَّالِحَة فحبها لله هُوَ من تَمام حبه وَأما الْحبّ مَعَه فَهُوَ حب الْمُشْركين الَّذين يحبونَ أنندادهم كحب الله فالمخلوق اذا أحب لله كَانَ حبه جاذبا الى حب الله واذا تحاب الرّجلَانِ فِي الله اجْتمعَا على ذَلِك وتفرقا عَلَيْهِ كَانَ لكل مِنْهُمَا جاذبا للْآخر الى حب الله كَمَا قَالَ تَعَالَى حقت محبتي للمتحابين فِي وحقت محبتي للمتجالسين فِي وحقت محبتي للمتباذلين فِي وَإِن لله عبادا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاء وَلَا شُهَدَاء يَغْبِطهُمْ الْأَنْبِيَاء وَالشُّهَدَاء يقربهُمْ من الله وهم قوم تحَابوا بِروح الله على غير أَمْوَال يتباذلونها وَلَا أَرْحَام يتواصلون بهَا ان لوجوههم لنورا وَإِنَّهُم لعلى كراس من نور لَا يخَافُونَ اذا خَافَ النَّاس وَلَا يَحْزَنُونَ اذا حزن النَّاس

ص: 44

فَإنَّك اذا أَحْبَبْت الشَّخْص لله كَانَ الله هُوَ المحبوب لذاته فَكلما تصورته فِي قَلْبك تصورت مَحْبُوب الْحق فأحببته فازداد حبك لله كَمَا اذا ذكرت النَّبِي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله وَالْمُرْسلِينَ وأصحابهم الصَّالِحين وتصورتهم فِي قبلك فَإِن ذَلِك يجذب قَلْبك الى محبَّة الله الْمُنعم عَلَيْهِم وبهم اذا أحب شخصا لله فَإِن الله هُوَ محبوبه فَهُوَ يحب أَن يجذبه الى الله تَعَالَى وكل من الْمُحب لله والمحبوب لله يجذب الى الله وَهَكَذَا اذا كَانَ الْحبّ لغير الله كَمَا اذا أحب كل من الشخصين الآخر بِصُورَة كَالْمَرْأَةِ مَعَ الرجل فَإِن الْمُحب يطْلب المحبوب والمحبوب يطْلب الْمُحب بانجذاب المحبوب فَإِذا كَانَا متحابين صَار كل مِنْهُمَا جاذبا مجذوبا من الْوَجْهَيْنِ فَيجب الِاتِّصَال وَلَو كَانَ الْحبّ من أحد الْجَانِبَيْنِ لَكَانَ الْمُحب يجذب المحبوب والمحبوب يجذبه لَكِن المحبوب لَا يقْصد جذبه والمحب يقْصد جذبه وينجذب وَهَذَا سَبَب التَّأْثِير فِي المحبوب اما تمثل يحصل فِي قلبه فينجذب وَإِمَّا أَن ينجذب بِلَا محبَّة كَمَا يَأْكُل الرجل الطَّعَام ويلبس الثَّوْب ويسكن الدَّار وَنَحْو ذَلِك من المحبوبات الَّتِي لَا ارادة لَهَا وَأما الْحَيَوَان فيحب بِبَعْضِه بَعْضًا بِكَوْنِهِ سَببا للاحسان اليه وَقد جبلت النُّفُوس على حب من أحسن اليها لَكِن هَذَا فِي الْحَقِيقَة انما هُوَ محبَّة الاحسان لَا نفس المحسن وَلَو قطع ذَلِك لضمحل ذَلِك الْحبّ وَرُبمَا أعقب بغضا فَإِنَّهُ لَيْسَ لله عز وجل فَإِن من أحب انسانا لكَونه يُعْطِيهِ فَمَا أحب الا الْعَطاء وَمن قَالَ انه يحب من يُعْطِيهِ لله فَهَذَا كذب ومحال وزور من القَوْل وَكَذَلِكَ من أحب انسانا لكَونه ينصره انما أحب النَّصْر لَا النَّاصِر وَهَذَا كُله من اتِّبَاع مَا تهوى الْأَنْفس فَإِنَّهُ لم يحب فِي الْحَقِيقَة الا مَا يصل اليه من جلب مَنْفَعَة

ص: 45

أَو دفع مضرَّة فَهُوَ انما أحب تِلْكَ الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة وانما أحب ذَلِك لكَونه وَسِيلَة الى محبوبه وَلَيْسَ هَذَا حبا لله وَلَا لذات المحبوب وعَلى هَذَا تجْرِي عَامَّة محبَّة الْخلق بَعضهم مَعَ بعض وَهَذَا لَا يثابون عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة وَلَا يَنْفَعهُمْ بل رُبمَا أدّى ذَلِك الى النِّفَاق والمداهنة فَكَانُوا فِي الْآخِرَة من الأخلاء الَّذين بَعضهم لبَعض عَدو الا الْمُتَّقِينَ وَإِنَّمَا يَنْفَعهُمْ فِي الأخرة الْحبّ فِي الله وَللَّه وَحده وَأما من يَرْجُو النَّفْع والنصر من شخص ثمَّ يزْعم أَنه يُحِبهُ لله فَهَذَا من دسائس النُّفُوس ونفاق الْأَقْوَال وَإِنَّمَا ينفع العَبْد الْحبّ لله لما يُحِبهُ الله من خلقه كالأنبياء وَالصَّالِحِينَ لكَون حبهم يقرب الى الله ومحبته وَهَؤُلَاء هم الَّذين يسْتَحقُّونَ محبَّة الله لَهُم وَنَبِينَا كَانَ يُعْطي الْمُؤَلّفَة قلبوهم ويدع آخَرين هم أحب اليه من الَّذِي يُعْطي يكلهم الى مَا فِي قُلُوبهم من الايمان وَإِنَّمَا كَانَ يُعْطي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم لما فِي قُلُوبهم من الْهَلَع والجزع ليَكُون مَا يعطيهم سَببا لجلب قُلُوبهم الى أَن يُحِبُّوا الاسلام فيحبوا الله فَكَانَ مَقْصُوده بذلك دَعْوَة الْقُلُوب الى حب الله عز وجل وصرفها عَن ضد ذَلِك وَلِهَذَا كَانَ يُعْطي أَقْوَامًا خشيَة أَن يكبهم الله على وُجُوههم فِي النَّار فَمَنعهُمْ بذلك الْعَطاء عَمَّا يكرههُ مِنْهُم فَكَانَ يُعْطي لله وَيمْنَع لله وَقد قَالَ من أحب لله وَأبْغض لله وَأعْطى لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الايمان وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَنهُ صلى الله

ص: 46

عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ اني وَالله انما أَنا قَاسم لَا أعطي أحدا وَلَا أمنع أحدا وَلَكِن أَضَع حَيْثُ أمرت سيطرة المحبوب على الْمُحب وَصُورَة المحبوب المتمثلة فِي النَّفس يَتَحَرَّك لَهَا الْمُحب وَيُرِيد لَهَا وَيُحب وَيبغض ويبتهج وينشرح عِنْد ذكرهَا من أَي جنس كَانَت فَتبقى هِيَ كالآمر الناهي لَهُ وَلِهَذَا يجد فِي نَفسه كَأَنَّهَا تخاطبه بِأَمْر وَنهي وَغير ذَلِك كَمَا يرى كثير من النَّاس من يُحِبهُ ويعظمه فِي مَنَامه وَهُوَ يَأْمُرهُ وينهاه ويخبره بِأُمُور تَدْلِيس ابليس على المحبين وَالْمُشْرِكُونَ تتمثل لَهُم الشَّيَاطِين فِي صور من يعبدونه تَأْمُرهُمْ وتنهاهم والقائلون بِالشَّاهِدِ والمنتسبون الى السلوك يَقُول أحدهم انه يُخَاطب فِي بَاطِنه على لِسَان الشَّاهِد فَمنهمْ من يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَذَلِكَ بازائه ليشاهده فِي الضَّوْء وَمِنْهُم من يُشَاهِدهُ فِي حَال السماع فِي غَيره ويظنون أَنهم يخاطبون ويجدون المريد فِي قُلُوبهم بذلك وَذَلِكَ لأَنهم يتمثلونه فِي أنفسهم وَرُبمَا كَانَ الشَّيْطَان يتَمَثَّل فِي صورته فيجدون فِي نُفُوسهم خطابا من تِلْكَ الصُّورَة فَيَقُولُونَ خوطبنا من جِهَته وَهَذَا وَإِن كَانَ مَوْجُودا فِي الْمُخَاطب فَمن الْمُخَاطب لَهُ فالفرقان هُنَا فَأَما ذَلِك الْمُخَاطب من وسواس الشَّيْطَان وَالنَّفس وَقد يخاطبون بأَشْيَاء حَسَنَة رشوة مِنْهُ لَهُم وَلَا يخاطبون بِمَا يعْرفُونَ

ص: 47

أَنه بَاطِل لِئَلَّا ينفرون مِنْهُ بل الشَّيْطَان يُخَاطب أحدهم بِمَا يرى أَنه حق والراهب اذا رَاض نَفسه فَمرَّة يرى فِي نَفسه صُورَة التَّثْلِيث وَرُبمَا خُوطِبَ مِنْهَا لِأَنَّهُ كَانَ قد يتمثلها قبل ذَلِك فَلَمَّا انصقلت نَفسه بالرياضة ظَهرت لَهُ وَالْمُؤمن الَّذِي يحب الله وَرَسُوله يرى الرَّسُول فِي مَنَامه بِحَسب ايمانه وَكَذَلِكَ يرى الله تَعَالَى فِي مَنَامه بِحَسب ايمانه كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا الْمَوْضُوع وَلِهَذَا كثير من أهل الزّهْد وَالْعِبَادَة يكون من أعوان الْكفَّار وَيَزْعُم أَنه مَأْمُور بذلك ويخاطب بِهِ ويظن أَن الله هُوَ الَّذِي أمره بذلك وَالله منزه عَن ذَلِك وَإِنَّمَا الْآمِر لَهُ بذلك النَّفس والشيطان وَمَا فِي نَفسه من الشّرك اذ لَو كَانَ مخلصا لله الدّين لما عرض لَهُ شَيْء من ذَلِك فَإِن هَذَا لَا يكون الا لمن فِيهِ شرك فِي عِبَادَته أَو عِنْده بِدعَة وَلَا يَقع هَذَا لمخلص متمسك بِالسنةِ الْبَتَّةَ واذا كَانَت الرُّؤْيَا على ثَلَاثَة أَقسَام رُؤْيا من الله ورؤيا من حَدِيث النَّفس ورؤيا من الشَّيْطَان فَكَذَلِك مَا يلقى فِي نفس الانسان فِي حَال يقظته ثَلَاثَة أَقسَام وَلِهَذَا كَانَت الْأَحْوَال ثَلَاثَة رحماني ونفساني وشيطاني وَمَا يحصل من نوع المكاشفة وَالتَّصَرُّف ثَلَاثَة أَصْنَاف ملكي وَنَفْسِي وشيطاني فَإِن الْملك لَهُ قُوَّة وَالنَّفس لَهَا قُوَّة والشيطان لَهُ قُوَّة وقلب الْمُؤمن لَهُ قُوَّة فَمَا كَانَ من الْملك وَمن قلب الْمُؤمن فَهُوَ حق وَمَا كَانَ من الشَّيْطَان ووسوسة النَّفس فَهُوَ بَاطِل وَقد اشْتبهَ هَذَا بِهَذَا على طوائف كَثِيرَة فَلم يفرقُوا بَين أَوْلِيَاء الله

ص: 48

وأعداء الله بل صَارُوا يظنون فِي من هُوَ من جنس الْمُشْركين وَالْكفَّار أهل الْكتاب من وُجُوه كَثِيرَة أَنه من أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ وَالْكَلَام فِي هَذَا مَبْسُوط فِي مَوضِع آخر وَلِهَذَا فِي هَؤُلَاءِ من يرى جَوَاز قتال الْأَنْبِيَاء وَمِنْهُم من يرى أَنه أفضل من الْأَنْبِيَاء الى أَنْوَاع آخر وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حصل لَهُم من الْأَنْوَاع الشيطانية والنفسانية مَا ظنُّوا أَنَّهَا من كرامات الْأَوْلِيَاء فظنوا أَنهم مِنْهُم فَكَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ وأصل هَذَا أَنهم تعبدوا بِمَا تحبه النَّفس وَأما الْعِبَادَة بِمَا يُحِبهُ الله ويرضاه فَلَا يحبونه وَلَا يريدونه وَحده ويرون أَنهم اذا عبدُوا الله بِمَا أَمر بِهِ وَرُسُله حط لَهُم عَن منصب الْولَايَة فيحدثون محبَّة قَوِيَّة وتألها وَعبادَة وشوقا وزهدا وَلَكِن فِيهِ شرك وبدعة ومحبة التَّوْحِيد انما تكون لله وَحده على مُتَابعَة رَسُوله كَمَا قَالَ تَعَالَى قل ان كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم فَلهَذَا يكون أهل الِاتِّبَاع فيهم جِهَاد وَنِيَّة فِي محبتهم يحبونَ لله ويبغضون لَهُ وهم على مِلَّة ابراهيم وَالَّذين مَعَه اذ قَالُوا لقومهم انا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده وَأُولَئِكَ محبتهم فِيهَا شرك وَلَيْسوا متابعين للرسول وَلَا مجاهدين فِي سَبِيل الله فَلَيْسَتْ هِيَ المحبه الاخلاصية فَإِنَّهَا مقرونة بِالتَّوْحِيدِ وَلِهَذَا سمى أَبُو طَالب الْمَكِّيّ كِتَابه قوت الْقُلُوب فِي مُعَاملَة المحبوب وَوصف طَرِيق المريد الى مقَام التَّوْحِيد وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

ص: 49

الزّهْد والورع قَالَ شيخ الاسلام رحمه الله قد كتبت فِي كراسة الْحَوَادِث فضلا فِي جماع الزّهْد والروع وَأَن الزّهْد هُوَ عَمَّا لَا ينفع اما لانفاء نَفعه أَو لكَونه مرجوحا لِأَنَّهُ مفوت لما هُوَ أَنْفَع مِنْهُ أَو مُحَصل لما يَرْبُو ضَرَره على نَفعه وَأما الْمَنَافِع الْخَالِصَة أَو الراجحة فالزهد فِيهَا حمق وَأما الْوَرع فَإِنَّهُ الامساك عَمَّا قد يضر فَتدخل فِيهِ الْمُحرمَات والشبهات لِأَنَّهَا قد تضر فَإِنَّهُ من اتَّقى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام كَالرَّاعِي حول الْحمى يُوشك أَن يواقعه وَأما الْوَرع عَمَّا لَا مضرَّة فِيهِ أَو فِيهِ مضرَّة مرجوحة لما تقترن بِهِ من جلب مَنْفَعَة راجحة أَو دفع مضرَّة أُخْرَى راجحة فجل وظلم وَذَلِكَ يتَضَمَّن ثَلَاثَة أَقسَام لَا يتورع عَنْهَا الْمَنَافِع الْمُكَافَأَة والراجحة والخالصة كالمباح المحص أَو الْمُسْتَحبّ أَو الْوَاجِب فان الْوَرع عَنْهَا ضَلَالَة وَأَنا أذكر هُنَا تَفْصِيل ذَلِك فَأَقُول الزّهْد خلاف الرَّغْبَة يُقَال فلَان زاهد فِي كَذَا وَفُلَان رَاغِب فِيهِ وَالرَّغْبَة هِيَ من جنس الارادة وَالْكَرَاهَة بِحَيْثُ لَا يكون لَا مرِيدا لَهُ كَارِهًا وَلَا كَارِهًا لَهُ وكل من لم يرغب فِي الشَّيْء ويريده فَهُوَ زاهد فِيهِ وكما أَن سَبِيل الله يحمد فِيهِ الزّهْد فِيمَا زهد الله فِيهِ من فضول الدُّنْيَا فتحمد فِيهِ الرَّغْبَة والارادة لما حمد الله ارادته وَالرَّغْبَة فِيهِ وَلِهَذَا كَانَ أساس الطَّرِيق الارادة كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ

ص: 50

والعشي يُرِيدُونَ وَجهه وَقَالَ تَعَالَى وَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا ونظائره مُتعَدِّدَة الزّهْد بَين الذَّم والمدح كَمَا رغب فِي الزّهْد وذم ضِدّه فِي قَوْله من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدِّينَا وَزينتهَا نوف اليهم أَعْمَالهم فِيهَا وهم فِيهَا لَا يبخسون أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الْآخِرَة الا النَّار وَقَالَ تَعَالَى ألهكم التكاثر السُّورَة وَقَالَ تَعَالَى وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المَال حبا جما وَقَالَ ان الانسان لرَبه لكنود وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد وَقَالَ تَعَالَى انما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وزينة وتفاخر بَيْنكُم الْآيَة وَهَذَا بَاب وَاسع وَإِمَّا الْمَقْصُود هُنَا تميز الزّهْد الشَّرْعِيّ من غَيره وَهُوَ الزّهْد الْمَحْمُود وتميز الرَّغْبَة الشرعيه من غَيرهَا وَهِي الرَّغْبَة المحمودة فَإِنَّهُ كثيرا مَا يشْتَبه الزّهْد بِالْكَسَلِ وَالْعجز والبطالة عَن الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة وَكَثِيرًا مَا تشتبه الرَّغْبَة الشرعيه بالحرص والطمع وَالْعَمَل الَّذِي ضل سعي صَاحبه وَأما الْوَرع فَهُوَ اجْتِنَاب الْفِعْل واتقاؤه والكف والامساك عَنهُ

ص: 51

والحذر مِنْهُ وَهُوَ يعود الى كَرَاهَة الْأَمر والنفرة مِنْهُ والبغض لَهُ وَهُوَ أَمر وجودي أَيْضا وَإِن كَانَ قد اخْتلف فِي الْمَطْلُوب بِالنَّهْي هَل هُوَ عدم الْمنْهِي عَنهُ أَو فعل ضِدّه وَأكْثر أهل الاثبات على الثَّانِي فَلَا ريب أَنه لَا يُسمى ورعا ومتورعا ومتقيا الا اذا وجد مِنْهُ الِامْتِنَاع والامساك الَّذِي هُوَ فعل ضد الْمنْهِي عَنهُ وَالتَّحْقِيق أَنه مَعَ عدم الْمنْهِي عَنهُ يحصل لَهُ عدم مضرَّة الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ وَهُوَ ذمَّة وعقابه وَنَحْو ذَلِك وَمَعَ وجود الِامْتِنَاع والاتفاء والاجتناب يكون قد وجد مِنْهُ عمل صَالح وَطَاعَة وتقوى فَيحصل لَهُ مَنْفَعَة هَذَا الْعَمَل من حَمده وثوابه وَغير ذَلِك فَعدم الْمضرَّة لعدم السَّيِّئَات وَوُجُود الْمَنْفَعَة لوُجُود الْحَسَنَات الْفرق بَين الزّهْد والورع فتلخص أَن الزّهْد من بَاب عدم الرَّغْبَة والارادة فِي المزهود فِيهِ والورع من بَاب وجود النفرة وَالْكَرَاهَة للمتورع عَنهُ وَانْتِفَاء الارادة انما يصلح فيهمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة خَالِصَة أَو راجحة وَأما وجود الْكَرَاهِيَة فانما يصلح فيهمَا فِيهِ مضرَّة خَالِصَة أَو راجحة وَأما وجود الْكَرَاهَة فانما يصلح فِيمَا فِيهِ مضرَّة خَالِصَة أَو راجحة فَأَما اذا فرض مَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ وَلَا مضرَّة أَو منفعَته ومضرته سَوَاء من كل وَجه فَهَذَا لَا يصلح أَن يُرَاد وَلَا يصلح أَن يكره فيصلح فِيهِ الزّهْد وَلَا يصلح فِيهِ الْوَرع فَظهر بذلك أَن كل مَا يصلح فِيهِ الْوَرع يصلح فِيهِ الزّهْد من غير عكس وَهَذَا بَين فَإِن مَا صلح أَن يكره وينفر عَنهُ صلح أَن لَا يُرَاد وَلَا يرغب فِيهِ فَإِن عدم الارادة أولى من وجود الْكَرَاهَة وَوُجُود الْكَرَاهَة مُسْتَلْزم عدم الارادة من غير عكس وَلَيْسَ كل مَا صلح أَن لَا يُرَاد يصلح أَن يكره بل قد يعرض من الْأُمُور مَا لَا تصلح ارادته وَلَا كَرَاهَته ونلا حبه وَلَا بغضه وَلَا الْأَمر بِهِ وَلَا النَّهْي عَنهُ وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوَاجِبَات والمستحبات لَا يصلح فِيهَا زهد وَلَا ورع

ص: 52