المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني تزكية النفس وكيف تزكو - الزهد والورع والعبادة

[ابن تيمية]

الفصل: ‌الفصل الثاني تزكية النفس وكيف تزكو

‌الْفَصْل الثَّانِي تَزْكِيَة النَّفس وَكَيف تزكو

وَقَالَ شيخ الاسلام احْمَد بن تَيْمِية رَحمَه الله تَعَالَى فصل فِي تَزْكِيَة النَّفس وَكَيف تزكو بترك الْمُحرمَات مَعَ فعل المأمورات قَالَ تَعَالَى قد أَفْلح من زكاها وَقد أَفْلح من تزكّى معنى التَّزْكِيَة قَالَ قَتَادَة وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهمَا قد أَفْلح من زكى نَفسه بِطَاعَة الله وَصَالح الْأَعْمَال وَقَالَ الْفراء والزجاج قد أفلحت نفس زكاها الله وَقد خابت نفس دساها الله وَكَذَلِكَ ذكره الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ مُنْقَطع وَلَيْسَ هُوَ مُرَاد من الْآيَة بل المُرَاد بهَا الأول قطعا لفظا وَمعنى أما اللَّفْظ فَقَوله من زكاها اسْم مَوْصُول وَلَا بُد فِيهِ من عَائِد على من فَإِذا قيل قد أَفْلح الشَّخْص الَّذِي زكاها كَانَ ضمير الشَّخْص فِي زكاها يعود على من هَذَا وَجه الْكَلَام الَّذِي لَا ريب فِي صِحَّته كَمَا يُقَال قد أَفْلح من اتَّقى الله وَقد أَفْلح من أطَاع ربه وَأما اذا كَانَ الْمَعْنى قد أَفْلح من زَكَّاهُ الله لم يبْق فِي الْجُمْلَة ضمير

ص: 59

يعود على من فَإِن الضَّمِير على هَذَا يعود على الله وَلَيْسَ هُوَ من وَضمير الْمَفْعُول يعود على النَّفس الْمُتَقَدّمَة فَلَا يعود على من لَا ضمير الْفَاعِل وَلَا الْمَفْعُول فتخلو الصِّلَة من عَائِد وَهَذَا لَا يجوز نعم لَو قيل قد أَفْلح من زكى الله نَفسه أَو من زكاها الله لَهُ وَنَحْو ذَلِك صَحَّ الْكَلَام وخفاء هَذَا على من قَالَ بِهِ من النُّحَاة عجب وَهُوَ لم يقل قد أفلحت نفس زكاها فَإِنَّهُ هُنَا كَانَت تكون زكاها صفة لنَفس لَا صلَة بل قَالَ قد أَفْلح من زكاها فالجملة صلَة لمن لَا صفة لَهَا وَلَا قَالَ أَيْضا قد أفلحت النَّفس الَّتِي زكاها فَإِنَّهُ لَو قيل ذَلِك وَجل فِي زكاها ضمير يعود على اسْم الله صَحَّ فَإِذا تكلفوا وَقَالُوا التَّقْدِير قد أَفْلح من زكاها هِيَ النَّفس الَّتِي زكاها وَقَالُوا فِي زكى ضمير الْمَفْعُول يعود على من وَهِي تصلح للمذكر والمؤنث وَالْوَاحد وَالْعدَد فَالضَّمِير عَائِد على مَعْنَاهَا الْمُؤَنَّث وتأنيثها غير حَقِيقِيّ وَلِهَذَا قيل قد أَفْلح وَلم يقل قد أفلحت قيل لَهُم هَذَا مَعَ أَنه خُرُوج من اللُّغَة الفصيحة فَإِنَّمَا يَصح اذا دلّ الْكَلَام على ذَلِك فِي مثل وَمن على أَن المُرَاد لنا وَكَذَا قَوْله وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون اليك وَنَحْو ذَلِك وَأما هُنَا فلس فِي لفظ من وَمَا بعْدهَا مَا يدل على أَن المُرَاد بِهِ النَّفس المؤنثه فَلَا يجوز أَن يُرَاد بالْكلَام مَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على ارادته فَإِن مثل هَذَا مِمَّا يصان كَلَام الله عز وجل عَنهُ فَلَو قدر احْتِمَال عود ضمير زكاها الى نفس والى من مَعَ أَن لفظ من لَا دَلِيل يُوجب عوده عَلَيْهِ لَكَانَ الى الْمُؤَنَّث أولى من اعادته الى مَا يحْتَمل التَّذْكِير والتأنيث

ص: 60

وَهُوَ فِي التَّذْكِير أظهر لعدم دلَالَته على التَّأْنِيث فان الْكَلَام اذا احْتمل مَعْنيين وَجب حمله على أظهرهمَا وَمن تكلّف غير ذَلِك فقد خرج عَن كَلَام الْعَرَب الْمَعْرُوف وَالْقُرْآن منزه عَن ذَلِك والعدول عَمَّا يدل عَلَيْهِ ظَاهر الْكَلَام الى مَا لَا يدل عَلَيْهِ بِلَا دَلِيل لَا يجوز الْبَتَّةَ فَكيف اذا كَانَ نصا من جِهَة الْمَعْنى فقد أخبر الله أَنه يلهم التَّقْوَى والفجور ولبسط هَذَا مَوضِع آخر التَّزْكِيَة فِي الْكتاب السّنة وَالْمَقْصُود هُنَا أَمر النَّاس بتزكية أنفسهم والتحذير من تدسيتها كَقَوْلِه قد أَفْلح من تزكّى فَلَو قدر أَن الْمَعْنى قد أَفْلح من زكى الله نَفسه لم يكن فِيهِ أَمر لَهُم وَلَا يُنْهِي وَلَا ترغيب وَلَا ترهيب وَالْقُرْآن اذا أَمر أَو نهى لَا يذكر مُجَرّد الْقدر فَلَا يَقُول من جعله الله مُؤمنا بل يَقُول قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ قد أَفْلح من تزكّى اذ ذكر مُجَرّد الْقدر فِي هَذَا يُنَاقض الْمَقْصُود وَلَا يَلِيق هَذَا بأضعف النَّاس عقلا فَكيف بِكَلَام الله أَلا ترى أَنه فِي مقَام الْأَمر وَالنَّهْي وَالتَّرْغِيب والترهيب يذكر الْقدر عِنْد بَيَان نعمه عَلَيْهِم اما بِمَا لَيْسَ من أفعالهم وَإِمَّا بإنعامه بالايمان وَالْعَمَل الصَّالح ويذكره فِي سِيَاق قدرته ومشيئته وَأما فِي معرض الْأَمر فَلَا يذكرهُ الا عِنْد النعم كَقَوْلِه وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى الْآيَة فَهَذَا مُنَاسِب وَقَوله قد أَفْلح من تزكّى وَهَذِه الأية من جنس الثَّانِيَة لَا الأولى وَالْمَقْصُود ذكر التَّزْكِيَة قَالَ تَعَالَى قل للْمُؤْمِنين يغضوا

ص: 61

الْآيَة وَقَالَ فَارْجِعُوا هُوَ أزكى لكم وَقَالَ الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة وَقَالَ وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى وأصل الزَّكَاة الزِّيَادَة فِي الْخَيْر وَمِنْه يُقَال زكا الزَّرْع وزكا المَال اذا نما وَلنْ يَنْمُو الْخَيْر الا بترك الشَّرّ وَالزَّرْع لَا يزكو حَتَّى يزَال عَنهُ الدغل فَكَذَلِك النَّفس والأعمال لَا تزكو حَتَّى يزَال عَنْهَا مَا يناقضها وَلَا يكون الرجل متزكيا الا مَعَ ترك الشَّرّ فَإِنَّهُ يدنس النَّفس ويدسيها قَالَ الزّجاج دساها جعلهَا ذليلة حقيرة خسيسة وَقَالَ الْفراء دساها لِأَن الْبَخِيل يخفي نَفسه ومنزله وَمَاله قَالَ ابْن قُتَيْبَة أَي أخفاها بِالْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَة فالفاجر دس نَفسه أَي قمعها وخباها وصانع الْمَعْرُوف شهر نَفسه ورفعها وَكَانَت أجواد الْعَرَب تنزل الربى لتشهر أَنْفسهَا واللئام تنزل الأطارف والوديان فالبر وَالتَّقوى يبسط النَّفس ويشرح الصَّدْر بِحَيْثُ يجد الانسان فِي نَفسه اتساعا وبساطا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قبل ذَلِك فَإِنَّهُ لما اتَّسع بِالْبرِّ وَالتَّقوى والاحسان بَسطه الله وَشرح صَدره والفجور وَالْبخل يقمع النَّفس ويضعها ويهينها بِحَيْثُ يجد الْبَخِيل فِي نَفسه أَنه ضيق وَقد بَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَلِك فِي الحَدِيث الصَّحِيح فَقَالَ مثل الْبَخِيل والمتصدق كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جبتان من حَدِيد قد اضطرت أَيْدِيهِمَا الى تراقيهما فَجعل الْمُتَصَدّق كلما هم بِصَدقَة اتسعت وانبسطت عَنهُ حَتَّى تغشى أنامله

ص: 62

وَتَعْفُو أَثَره وَجعل الْبَخِيل كلما هم بِصَدقَة قلصت وَأخذت كل حَلقَة بمكانها وَأَنا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول بإصبعه فِي جيبه فَلَو رَأَيْتهَا يوسعها فَلَا تتسع أَخْرجَاهُ وإخفاء الْمنزل واظهاره تبعا لذَلِك قَالَ تَعَالَى يتَوَارَى من الْقَوْم من سوء مَا بشر بِهِ الْآيَة فَهَكَذَا النَّفس البخيلة الْفَاجِرَة قد دسها صَاحبهَا فِي بدنه بَعْضهَا فِي بعض وَلِهَذَا وَقت الْمَوْت تنْزع من بدنه كَمَا ينْزع السفود من الصُّوف المبتل وَالنَّفس الْبرة التقية النقية الَّتِي قد زكاها صَاحبهَا فارتفعت واتسعت ومجدت ونبلت فوقت الْمَوْت تخرج من الْبدن تسيل كالقطرة من فِي السقاء وكالشعرة من الْعَجِين قَالَ ابْن عَبَّاس ان للحسنة لنورا فِي الْقلب وضياء فِي الْوَجْه وَقُوَّة فِي الْبدن وسعة فِي الرزق ومحبة فِي قُلُوب الْخلق وان للسيئة لظلمة فِي الْقلب وسوادا فِي الْوَجْه وهونا فِي الْبدن وضيقا فِي الرزق وبغضة فِي قُلُوب الْخلق قَالَ تَعَالَى والبلد الطّيب الْآيَة وَهَذَا مثل الْبَخِيل والمنفق قَالَ فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره الْآيَة وَقَالَ الله ولي الَّذين آمنُوا الْآيَة

ص: 63

وَقَالَ لَهُ فِي سِيَاق الرَّمْي بالفاحشة وذم من أحب اظهارها فِي الْمُؤمنِينَ والمتكلم بِمَا لَا يعلم وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا الْآيَة فَبين أَن الزَّكَاة انما تحصل بترك الْفَاحِشَة وَلِهَذَا قَالَ قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم الْآيَة وَذَلِكَ أَن ترك السَّيِّئَات هُوَ من أَعمال النَّفس فَإِنَّهَا تعلم أَن السَّيِّئَات مذمومة ومكروه فعلهَا ويجاهد نَفسه اذا دَعَتْهُ اليها ان كَانَ مُصدقا لكتاب ربه مُؤمنا بِمَا جَاءَ عَن نبيه صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا التَّصْدِيق والايمان وَالْكَرَاهَة وَجِهَاد النَّفس أَعمال تعملها النَّفس المزكاة فتزكو بذلك أَيْضا بِخِلَاف مَا اذا عملت السَّيِّئَات فانها تتدنس وتدنس وتنقمع كالزرع اذا نبت مِنْهُ الدغل وَالثَّوَاب انما يكون على عمل مَوْجُود وَكَذَلِكَ الْعقَاب فَأَما الْعَدَم الْمَحْض فَلَا ثَوَاب فِيهِ وَلَا عِقَاب لَكِن فِيهِ عدم الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالله سُبْحَانَهُ أَمر بِالْخَيرِ وَنهى عَن الشَّرّ وَاتفقَ النَّاس على أَن الْمَطْلُوب بِالْأَمر فعل مَوْجُود وَاخْتلفُوا فِي النَّهْي هَل الْمَطْلُوب أَمر وجودي أم عدمي فَقيل وجودي وَهُوَ التّرْك وَهَذَا قَول الْأَكْثَر وَقيل الْمَطْلُوب عدم الشَّرّ وَهُوَ أَن لَا يَفْعَله وَالتَّحْقِيق أَن الْمُؤمن اذا نهى عَن النكر فَلَا بُد أَن لَا يقربهُ ويعزم على تَركه وَيكرهُ فعله وَهَذَا أَمر وجودي بِلَا ريب فَلَا يتَصَوَّر أَن الْمُؤمن الَّذِي يعلم أَنه وجودي لَكِن قد لَا يكون مرِيدا لَهُ كَمَا يكره أكل الْميتَة طبعا وَمَعَ ذَلِك فَلَا بُد لَهُ من اعْتِقَاد التَّحْرِيم والعزم على تَركه لطاعة الشَّارِع وَهَذَا قدر زَائِد على كَرَاهَة الطَّبْع وَهُوَ أَمر وجودي يُثَاب عَلَيْهِ

ص: 64

وَلَكِن لَيْسَ كثواب من كف نَفسه وجاهدها عَن طلب الْمحرم وَمن كَانَت كَرَاهَته للمحرمات كَرَاهَة ايمان وَقد غمر ايمانه حكم طبعه فَهَذَا أَعلَى الْأَقْسَام الثَّلَاثَة وَهَذَا صَاحب النَّفس المطمئنة وَهُوَ أرفع من صَاحب اللوامة الَّتِي تفعل الذَّنب وتلوم صَاحبهَا عَلَيْهِ وتتلوم وتتردد هَل تَفْعَلهُ أم لَا وَأما من لم يخْطر بِبَالِهِ أَن الله حرمه وَلَا هُوَ مُرِيد لَهُ بل لم يَفْعَله فَهَذَا لَا يُعَاقب وَلَا يُثَاب اذ لم يحصل مِنْهُ أَمر وجودي يُثَاب عَلَيْهِ أَو يُعَاقب فَمن قَالَ الْمَطْلُوب أَن لَا يفعل ان أَرَادَ أَن هَذَا الْمَطْلُوب يَكْفِي فِي عدم الْعقَاب فقد صدق وَإِن أَرَادَ أَنه يُثَاب على هَذَا الْعَدَم فَلَيْسَ كَذَلِك وَالْكَافِر اذا لم يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله فَلَا بُد لنَفسِهِ من أَعمال يشْتَغل بهَا عَن الايمان وَترك الْأَعْمَال كفر يُعَاقب عَلَيْهَا وَلِهَذَا لما ذكر الله عُقُوبَة الْكفَّار فِي النَّار ذكر أمروا وجودية وَتلك تددس تفس النَّفس وَلِهَذَا كَانَ التَّوْحِيد والايمان أعظم مَا تزكو بِهِ النَّفس وَكَانَ الشّرك أعظم مَا يدسيها وتتزكى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة وَالصَّدَََقَة هَذَا كُله مِمَّا ذكره السّلف قَالُوا فِي قد أَفْلح من تزكّى تطهر من الشّرك وَمن الْمعْصِيَة بِالتَّوْبَةِ وَعَن أبي سعيد وَعَطَاء وَقَتَادَة صَدَقَة الْفطر وَلم يُرِيدُوا أَن الْآيَة لم تتَنَاوَل الا هِيَ بل مقصودهم أَن من أعْطى صَدَقَة الْفطر وَصلى صَلَاة الْعِيد فقد تناولته وَمَا بعْدهَا وَلِهَذَا كَانَ يزِيد بن حبيب كلما خرج الى الصَّلَاة خرج بِصَدقَة وَيتَصَدَّق بهَا قبل الصَّلَاة وَلَو لم يجد الا بصلا قَالَ الْحسن قد أَفْلح من تزكّى من كَانَ عمله زاكيا وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَص زَكَاة الْأُمُور كلهَا وَقَالَ الزّجاج تزكّى بِطَاعَة الله عز وجل وَمعنى الزاكي النامي الْكثير

ص: 65

وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة قَالَ ابْن عَبَّاس لَا يشْهدُونَ أَن لَا اله الا الله وَقَالَ مُجَاهِد لَا يزكون أَعْمَالهم أَي لَيست زاكية وَقيل لَا يطهرونها بالاخلاص كَأَنَّهُ أَرَادَ وَالله أعلم أهل الرِّيَاء فَإِنَّهُ شرك وَعَن الْحسن لَا يُؤمنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يقرونَ بهَا وَعَن الضَّحَّاك لَا يتصدقون وَلَا يُنْفقُونَ فِي الطَّاعَة وَعَن ابْن السَّائِب لَا يُعْطون زَكَاة من أَمْوَالهم قَالَ كَانُوا يحجون ويعتمرون وَلَا يزكون وَالتَّحْقِيق أَن الْآيَة تتَنَاوَل كل مَا يتزكى بِهِ الْإِنْسَان من التَّوْحِيد والأعمال الصَّالِحَة كَقَوْلِه هَل لَك الى أَن تزكي وَقَوله قد أَفْلح من تزكّى وَالصَّدَََقَة الْمَفْرُوضَة لم تكن فرضت عِنْد نُزُولهَا فَإِن قيل يُؤْتى فعل مُتَعَدٍّ قيل هَذَا كَقَوْلِه ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لأتوها وَتقدم قبلهَا أَن الرَّسُول دعاهم وَهُوَ طلب مِنْهُ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظ متضمنا قيام الْحجَّة عَلَيْهِم بالرسل وَالرسل إِنَّمَا يَدعُونَهُمْ لما تزكو بِهِ أنفسهم وَمِمَّا يَلِيق أَن الزَّكَاة تَسْتَلْزِم الطَّهَارَة لِأَن مَعْنَاهَا معنى الطَّهَارَة قَوْله خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ من الشَّرّ وتزكيهم بِالْخَيرِ قَالَ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ طهرني بِالْمَاءِ وَالْبرد والثلج

ص: 66

كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الاستفتاح وَفِي الِاعْتِدَال من الرُّكُوع وَالْغسْل فَهَذِهِ الْأُمُور توجب تبريد المغسول بهَا وَالْبرد يُعْطي قُوَّة وصلابة وَمَا يسر يُوصف بالبرد وقرة الْعين وَلِهَذَا كَانَ دمع السرُور بَارِدًا ودمع الْحزن حارا لِأَن مَا يسوء النَّفس يُوجب حزنها وغمها وَمَا يسرها يُوجب فرحها وسرورها وَذَلِكَ مِمَّا يبرد الْبَاطِن فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يغسل الذُّنُوب على وَجه يبرد الْقُلُوب أعظم برد يكون بِمَا فِيهِ من الْفَرح وَالسُّرُور الَّذِي أَزَال عَنهُ مَا يسوء النَّفس من الذُّنُوب وَقَوله بالثلج وَالْبرد وَالْمَاء الْبَارِد تَمْثِيل بِمَا فِيهِ من هَذَا الْجِنْس والا فَنَفْس الذُّنُوب لَا تغسل بذلك كَمَا يُقَال أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَلما قضى أَبُو قَتَادَة دين الْمَدِين قَالَ صلى الله عليه وسلم الْآن بردت جلدته وَيُقَال برد الْيَقِين وحرارة الشَّك وَيُقَال هَذَا الْأَمر يثلج لَهُ الصَّدْر اذا كَانَ حَقًا يعرفهُ الْقلب ويفرح بِهِ حَتَّى يصير فِي مثل برد الثَّلج وَمرض النَّفس اما شُبْهَة واما شَهْوَة أَو غضب وَالثَّلَاثَة توجب السخونة وَيُقَال لمن نَالَ مَطْلُوبه برد قلبه فان الطَّالِب فِيهِ حرارة الطّلب وَقَوله خُذ من أَمْوَالهم دَلِيل على أَن عمل الْحَسَنَات يطهر النَّفس ويزكيها من الذُّنُوب السالفة فَإِنَّهُ قَالَه بعد قَوْله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا الْآيَة فالتوبة وَالْعَمَل الصَّالح يحصل بهما التَّطْهِير والتزكية وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاق قَوْله قل للْمُؤْمِنين يغضوا الْآيَات وتوبوا الى

ص: 67

الله الْآيَة فَأَمرهمْ جيمعا بِالتَّوْبَةِ فِي سِيَاق مَا ذكره لِأَنَّهُ لَا يسلم أحد من هَذَا الْجِنْس كَمَا فِي الصَّحِيح ان الله كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا الحَدِيث وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح أَن قَوْله ان الْحَسَنَات يذهب السَّيِّئَات نزلت بِسَبَب رجل نَالَ من امْرَأَة كل شَيْء الا الْجِمَاع ثمَّ نَدم فَنزلت وَيحْتَاج الْمُسلم فِي ذَلِك الى أَن يخَاف الله وَينْهى النَّفس عَن الْهوى وَنَفس الْهوى والشهوة لَا يُعَاقب عَلَيْهِ بل على اتِّبَاعه وَالْعَمَل بِهِ فَإِذا كَانَت النَّفس تهوى وَهُوَ يَنْهَاهَا كَانَ نَهْيه عبَادَة لله وَعَملا صَالحا وَثَبت عَنهُ أَنه قَالَ الْمُجَاهِد من جَاهد نَفسه فِي ذَات الله فَيُؤْمَر بجهادها كَمَا يُؤمر بجهاد من يَأْمر بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو اليها وَهُوَ الى جِهَاد نَفسه أحْوج فَإِن هَذَا فرض عين وَذَاكَ فرض كِفَايَة وَالصَّبْر فِي هَذَا من أفضل الْأَعْمَال فَإِن هَذَا الْجِهَاد حَقِيقَة ذَلِك الْجِهَاد فَمن صَبر عَلَيْهِ صَبر على ذَلِك الْجِهَاد كَمَا قَالَ وَالْمُهَاجِر من هجر السَّيِّئَات

ص: 68

ثمَّ هَذَا لَا يكون مَحْمُودًا فِيهِ الا اذا غلب بِخِلَاف الأول فَإِنَّهُ من يقتل أَو يغلب فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ الشَّديد بالصرعة الخ وَذَلِكَ لِأَن الله أَمر الانسان أَن ينْهَى النَّفس عَن الْهوى وَأَن يخَاف مقَام ربه فَحصل لَهُ من الايمان مَا يُعينهُ على الْجِهَاد فَإِذا غلب كَانَ لضعف ايمانه فِي كَون مفرطا بترك الْمَأْمُور بِخِلَاف الْعَدو الْكفَّار فَإِنَّهُ قد يكون بدنه أقوى فالذنوب انما تقع اذا كَانَت النَّفس غير ممتثلة لما أمرت بِهِ وَمَعَ امْتِثَال الْمَأْمُور لَا تفعل الْمَحْظُور فَإِنَّهُمَا ضدان قَالَ تَعَالَى كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء الْآيَة وَقَالَ ان عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان فَعبَّاد الله المخلصون لَا يغويهم الشَّيْطَان والغي خلاف الرشد وَهُوَ اتِّبَاع الْهوى فَإِن ذَلِك يصرف عَنهُ السوء والفحشاء خشيَة ومحبة وَالْعِبَادَة لَهُ وَحده وَهَذَا يمْنَع من السَّيِّئَات فَإِذا كَانَ تَائِبًا فَإِن كَانَ نَاقِصا فَوَقَعت السَّيِّئَات من صَاحبه كَانَ ماحيا لَهَا بعد الْوُقُوع فَهُوَ كالترياق الَّذِي يدْفع أثر السم وَيَرْفَعهُ بعد حُصُوله وكالغذاء من الطَّعَام وَالشرَاب وكالاستمتاع بالحلال الَّذِي يمْنَع

ص: 69

النَّفس على طلب الْحَرَام فَإِذا حصل لَهُ طلب ازالته وكالعلم الَّذِي يمْنَع من الشَّك وَيَرْفَعهُ بعد وُقُوعه وكالطلب الَّذِي يحفظ الصِّحَّة ويدع الْمَرَض وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقلب من الايمان يحفظ بأشباهه مِمَّا يقوم بِهِ واذا حصل مِنْهُ مرض من الشُّبُهَات والشهوات أزيل بِهَذِهِ وَلَا يحصل الْمَرَض الا لنَقص أَسبَاب الصِّحَّة كَذَلِك الْقلب لَا يمرض الا لنَقص ايمانه وَكَذَلِكَ الايمان والكفران متضادان فَكل ضدين فأحدهما يمْنَع الآخر تَارَة وَيَرْفَعهُ أُخْرَى كالسواد وَالْبَيَاض حصل مَوْضِعه وَيَرْفَعهُ اذا كَانَ حَاصِلا كَذَلِك الْحَسَنَات والسيئات والاحباط والمعتزلة أَن الْكَبِيرَة تحبط الْحَسَنَات حَتَّى الايمان وان من مَاتَ عَلَيْهَا لم يكن الجبائي وَابْنه بالموازنة لَكِن قَالُوا من رجحت سيئاته خلد فِي النَّار والموازنة بِلَا تخليد قَول الاحباط مَا أجمع عَلَيْهِ وَهُوَ حبوط الْحَسَنَات كلهَا بالْكفْر كَمَا قَالَ وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه الْآيَة وَقَوله وَمن يكفر بالايمان فقد حَبط عمله الْآيَة وَقَالَ وَلَو أشركوا الحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ وَقَالَ لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك الْآيَة وَمَا ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزلَة مُخَالف لأقوال السّلف فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذكر حد الزَّانِي

ص: 70

وَغَيره وَلم يجعلهم كفَّارًا حابطي الْأَعْمَال وَلَا أَمر بِقَتْلِهِم كَمَا أَمر بقتل الْمُرْتَدين والمنافقون لم يَكُونُوا يظهرون كفرهم وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمر بِالصَّلَاةِ على الغال وعَلى قَاتل نَفسه وَلَو كَانُوا كفَّارًا ومنافقين لم تجز الصَّلَاة عَلَيْهِ فَعلم أَنهم لم يحبط ايمانهم كُله وَقَالَ عَمَّن شرب الْخمر لَا تلعنه فَإِنَّهُ يحب الله وَرَسُوله وَذَلِكَ الْحبّ من أعظم شعب الايمان فَعلم أَن ادمانه لَا يذهب الشّعب كلهَا وَثَبت من وُجُوه كَثِيرَة يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من ايمان وَلَو حَبط لم يكن فِي قُلُوبهم شَيْء مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الْآيَة فَجعل من المصطفين فَإِذا كَانَت السَّيِّئَات لَا تحبط جَمِيع الْحَسَنَات فَهَل تبط بقدرهاوهل يحبط بعض الْحَسَنَات بذنب دون الْكفْر فِيهِ قَولَانِ للمنتسبين الى السّنة مِنْهُم من يُنكره وَمِنْهُم من يُثبتهُ كَمَا دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص مثل قَوْله لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى الْآيَة دلّ على أَن هَذِه السَّيئَة تبطل الصَّدَقَة وَضرب مثله بالمرائي وَقَالَت عَائِشَة أبلغي زيدا أَن جهاده بَطل الحَدِيث

ص: 71

وَأما قَوْله أَن تحبط أَعمالكُم وَحَدِيث صَلَاة الْعَصْر فَفِي ذَلِك نزاع وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم قَالَ الْحسن بِالْمَعَاصِي والكبائر وَعَن عَطاء بالشرك والنفاق وَعَن ابْن السَّائِب بالرياء والسمعة وَعَن مقَاتل بالمن وَذَلِكَ أَن قوما منوا باسلامهم فَمَا ذكر عَن الْحسن يدل على أَن الْمعاصِي والكبائر تحبط الْأَعْمَال فَإِن قيل لم يرد الا ابطالها بالْكفْر قيل ذَلِك مَنْهِيّ عَنهُ فِي نَفسه وَمُوجب للخلود الدَّائِم فالنهي عَنهُ لَا يعبر عَنهُ بِهَذَا بل على وَجه التَّغْلِيظ كَقَوْلِه وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه وَنَحْوهَا وَالله سُبْحَانَهُ فِي هَذِه وَفِي آيَة الْمَنّ سَمَّاهَا ابطالا وَلم يسمه احباطا وَلِهَذَا ذكر بعْدهَا الْكفْر بقوله ان الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ مَاتُوا وهم كفار الْآيَة فان قيل المُرَاد اذا دَخَلْتُم فِيهَا فأتموها وَبهَا احْتج من قَالَ يلْزم التَّطَوُّع بِالشُّرُوعِ فِيهِ قيل لَو قدر أَن الْآيَة تدل على أَنه مَنْهِيّ عَن ابطال بعبض الْعَمَل فابطاله كُله أولى بِدُخُولِهِ فِيهَا فَكيف وَذَلِكَ قبل فَرَاغه لَا يُسمى صَلَاة وَلَا صوما ثمَّ يُقَال الابطال يُوجد قبل الْفَرَاغ أَو بعده وَمَا ذكره وَأمر بالاتمام والابطال هُوَ ابطال الثَّوَاب وَلَا نسلم أَن من لم يتم الْعِبَادَة يبطل جَمِيع ثَوَابه بل يُقَال انه يُثَاب على مَا فعل من ذَلِك وَفِي الصَّحِيح حَدِيث الْمُفلس الَّذِي يَأْتِي بحسنات أَمْثَال الْجبَال

ص: 72