الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: المبحث الثاني: مفهوم السبق التربوي ومنهجه
…
المبحث الثاني: مفهوم السبق التربوي ومنهجه
مفهوم السبق:
السبق: القُدْمةُ في الجري وفي كل شيء.
والسابق: هو الذي وصل للشيء أولاً، والعرب تقول للذي يسبق من الخيل: السابق1.
فالعبرة في السبق إذاً ليس بالبدء، وإنما بالوصول أولاً، وبتحقيق النتائج، وإن كان البدء محموداً. فالسابق في مضمار الجري ليس لمن رفع قدمه أولاً، وإنما لمن حط قدمه على خط النهاية أولاً. والسابق في البحث العلمي: هو لمن وصل إلى نتائج وأعطى حقائق، لا لمن بدأ أولاً.
وإذا تقرر هذا المفهوم عندنا فإن السبق التربوي ليس لأول من دوّن وكتب في التربية كتابات جدلية ليست قطعية، والرد والطعن نافذ فيها ومتحقق في نتائجها، بل السبق لمن وصل أولاً إلى منهج تربوي قطعي متكامل في جميع جوانبه.
وهذه الحقيقة التعريفية المعرفية تنير لنا الطريق وتضعنا على أول معالم تحديد السبق، وتحقق لنا أن السبق في المنهج القطعي الصحيح، وليس لغيره.
ولكي نحدد السابق لابد من وضع معايير تُعرض عليها أعمال المتسابقين لتحديد السبق التربوي، كما يتضح من العنوان التالي:
أسس منهج السبق التربوي:
إن تحديد السبق التربوي يعتمد على تعيين أسسه التي يقوم عليها، حتى يكون للأحكام والاختيار اعتبار وميزان وثقة، وهي من مقدمات الدراسات
1 ابن منظور، لسان العرب (10/151) .
المقارنة، ويمكن إيضاح هذه الأسس في النقاط التالية:
أولاً: تحقيق نتائج صحيحة:
من أهم أسس السبق أن تكون النتائج المتوصل إليها صحيحة سليمة، إذ لا عبرة بالنتائج الخاطئة التي يتم التوصل إليها، أو أنها ضعيفة في مصداقيتها، وربّما النقد حليفها من أتباعها.
فهناك عوائق قد تكتنف البحث التربوي، فتعطي نتائج خاطئة، ومن تلك العوائق:
1-
عدم نضج النتائج:
فبعض الباحثين يدفعه الحماس إلى سرعة التعلق بنظرية مثيرة دون أن يتأكد من صحتها، فيبني عليها بحثه، في حين أن الباحث الدقيق يتأكد أولاً من صحة ما يبني عليه بحثه، ولا يعلن عما في ذهنه إلا بعد اختبار جميع الفروض، والوصول إلى الدليل الحاسم.
2-
تجاهل الأدلة المضادة:
وذلك بأن يتم التغافل عن الدليل المضاد، أو غير المتفق مع النتائج التي وصل إليها الباحث، من غير مناقشتها، والتأكد من صحتها أو بطلانها، وترجيح الراجح وإسقاط المرجوح.
3-
الافتقار للأصالة:
إن الافتقار للأصالة والتأثر بالتقليد غير الصحيح يعطي البحث تبعية غير ناضجة، فيعقب ذلك نتائج مفتقرة للمصداقية.
4-
ضعف القدرة:
عدم قدرة الباحث الحصول على جميع الحقائق المتعلقة بالمشكلة قيد ال-دراسة، وبالتّالي يبني نتائجه على أدل-ة مبتورة ناقصة، لم تستوف جانب
التكامل1.
5-
عدم الدقة في الملاحظة:
وذلك بإهمال بعض العناصر والعوامل بحجة أن غيرها يكفي عنها، كالاقتصار في دراسة الانحرافات على الدوافع السلوكية من خوف أو حاجة، دون النظر إلى غياب عامل الدين أو ضعفه، والذي يعتبر المنظم الأساسي لسلوك الإنسان وتصرفاته.
6-
الخطأ في التوفيق:
وذلك بعدم القدرة على الربط بين علاقة السبب والأثر، كمن يربط التسيب الدراسي بالضعف المادي الأسري فقط، أو بنظام المدرسة فقط، دون أن ينظر للأسباب الأخرى.
7-
التأثر بالأحكام الشخصية والتحيزات الذاتية المسبقة:
فربما يؤدي به ذلك إلى تفسيرات وتحليلات غير صحيحة.
ومن جانب آخر فإن مناهج البحث العلمي التجريبي، تشير إلى أن التجارب التي محورها الإنسان يكتنف صحتها شيء من الشك، فيقول أحد المتخصصين: “أما بالنسبة للتجارب التي تتناول الناس، فهناك صعوبة من غير شك في تحديد جميع المتغيرات، أو العوامل التي تؤثر على نتائج التجربة، وإن عزل جميع العوامل التي يمكن أن يكون لها صلة بالتغيرات التي تحدث خلال التجربة، أو التحكم فيها يعتبر أمراً مستحيلاً “ 2.
فالإنسان الذي يكون قيد التجربة تتغير مشاعره تبعاً للمؤثرات وبالتالي
1 أحمد بدر، أصول البحث العلمي ومناهج، ص (68-71) .
2 المرجع السابق، ص (294) .
تتغير انفعالاته، فيتبع ذلك تغير في تصرفاته.
وإن كان هناك ضعف في نتائج التجارب المتعلقة بالمشاعر الإنسانية، فهذا أيضاً لا يعطينا الحق في رفضها البتة، ولكن يمكن أن نسترشد بها كعوامل مساعدة.
أما فيما يتعلق بالأبحاث التي مصدرها أو محورها الإنسان ولكن تتعلق بآرائه واتجاهاته في القضايا، فإن لها مدلولاً واعتباراً، إذا طبقت تطبيقاً صحيحاً.
وهناك ثمة محور آخر يتعلق بتعميم نظريات تربوية نشأت في بيئة لمواطنيها خصائص دينية وثقافية وعرفية تختلف تماماً عن البيئة الإسلامية، فتؤخذ مأخذ الأمر القطعي الذي لا يقبل التفاوض والجدل، وهذا في الحقيقة أمر خطير، ينحو بالنتائج منحى يبعدها عن الصواب.
والنتائج الخاطئة تظل أفكاراً جدلية ترتقي عند فئة، وتسقطها فئات أخرى، بعيدة عن الاستمرارية والديمومة، قريبة من الزوال، والإجماع ليس حليفها.
فإبليس - لعنه الله - عندما أمره ربه بالسجود لآدم، استعلى في نفسه، وعصى ربه، وبنى رفضه على مقدمتينِ خاطئتين، فترتب عليها نتائج خاطئة، وهاتان المقدّمتان: أنه خير من آدم، والثانية: أنه مخلوق من نار وآدم من طين. قال تعالى في وصف ذلك: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 1.
ثانياً: صحة الأصول المرجعية:
ويقصد بالأصول المرجعية، هي ما يستمد منه الباحث انطلاقته المعرفية، وما يُحتكم إليه، سواء في التشريع وفي الأهداف والبواعث أو في المنهجية،
1 سورة الأعراف، آية رقم (12) .
والأساليب، أو في الأسس والزاد المعرفي.
وهذه الأصول المرجعية تختلف بين المجتمعات بحسب عقائدهم، وهي تؤثر في السلوك البشري وفي مجال الأبحاث، حيث يستمدّ منها الباحث الأسس العامة والجزئية والأصول المعرفية ويتأثر بانتمائه إليها وبحماسه لها والانتصار لها، وهي تحرك عواطفه نحو الأشياء، فقد يبغض ويكره تأثراً بتوجيهات تلك الأصول المرجعية، بل قد تؤثر في رؤيته التحليلية والتفسيرية للآيات الكونية والاجتماعية.
فهناك مثلاً التفسير المادي للإنسان الذي ينطلق من أصل مرجعي هو أن المادة أساس كل شيء، وبالتالي ينظر لهذا المخلوق على أنه مركب فيزيقي عضوي، ولذلك: “فإن علم النفس المعاصر كما هو موجود في الشرق والغرب قائم على مبدأ أساسي هو أن الإنسان في بنائه النفسي محكوم كلياً ببنائه الفيزيقي العضوي المادي، وبناءً على ذلك فسلوك الكائن البشري محكوم بمسألة فِزيقية جوهرها باعث مادي واستجابة فِيزيقية”1.
فهذه النظرة تسقط جميع المحركات الانفعالية للإنسان، والتي مبعثها خارج عن التركيب العضوي، من أمور مفرحة سارة، وأمور محزنة، وأخرى تقتلع هدوء الإنسان ليغضب، وأخرى تضرب بانفعالات الإنسان إلى درجة التجمد فيهدأ حياءً من مثيرات وعوامل خارجية عن تركيبته العضوية.
ثالثاً: مشروعية السبق:
ويقصد به أن يكون موضوع السبق نافعاً غير ضار، مطلوباً غير مرفوض. وهذا يتطلب تحقيق ما يلي:
1-
المشروعية في الأدوات المستخدمة لتحقيق السبق.
1 عبد الحميد الهاشمي، صبغة علم النفس بالصبغة الإسلامية، ص (79-80) .
2-
المشروعية في المنهج.
3-
المشروعية في الهدف.
ويمكن إيضاح ذلك فيما يلي:
1-
المشروعية في الأدوات المستخدمة لتحقيق السبق:
والمقصود أن تكون أدوات البحث مأذوناً بها شرعاً، ولا تُخضع المسائل غير التجريبية على أدوات التجريب، كقضايا الإيمان بالغيبيات، أو تفسير الظواهر الكونية على مقاييس مادية بحتة، مثل: ظواهر الزلازل والبراكين والخسوف والكسوف، إذ يجب أن يرتبط تفسير الآيات الكونية بالمنهج الشرعي، حتى يرتبط الفهم بالحقيقة والمطلوب، ويُربط العلم بالإيمان؛ لأن في عدم ربطها إخلالاً بفكر الإنسان وبتربيته وتنشئته.
ومن أدوات البحث التربوي ما يلي:
أ - الملاحظة.
ب - المقابلة.
ج - الاستبانات.
د - تحليل المحتوى أو المضمون.
هـ- - الأساليب الإسقاطية.
و أساليب قياس الاتجاهات.
ز - الخرائط والرسوم والوثائق.
ح - الوسائل الإحصائية1.
وعلى الباحث أن يختار من تلك الأدوات ما يناسب بحثه، مع ملاحظة أن
1 انظر: أحمد بدر، أصول البحث العلمي، ص (30) .
منهج التربية الإسلامية يوجب على الباحث أن لا يعمل بتلك الأدوات في معزل عن المنهج الإسلامي الذي يعتمد في قضاياه الكلية والجزئية على الكتاب والسنة؛ لأنه ما من بحث تربوي يسير في معزل عن منهج التربية الإسلامية إلا ويحيد عن الطريق في النتائج والتحليل.
ومثال ذلك: التجارب الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية التي دُرست دراسة معملية في معزل عن الشرع الحكيم نجد أنها حادت عن الطريق، وساهمت في هدم البشرية، بقدر ما حققت من تقدم علمي عالمي، وسيأتي توضيح لذلك في مشروعية الهدف.
2-
المشروعية في المنهج:
وذلك أن يكون المنهج المتبع منهجاً سليماً بعيداً عن الخداع والتلاعب في جمع المعلومات، وفي طرح النتائج وتحليلها، بل يجب أن يعتمد على مصادر صحيحة سليمة، ويعالجها بمنهجية دقيقة صحيحة، وهذا يتطلب البعد عن المنهج الفلسفي القائم على الأفكار الذاتية اللادينية، والبعد عن النظريات ذات المنطلقات غير الشرعية، والاستخدام العكسي للأدوات البحثية، حيث تمخض سوء استخدام أدوات البحث التجريبي التربوي عن دراسات ميدانية خاطئة، أجريت على بعض الأفراد؛ ولذلك تؤكد مناهج البحث العلمي على خطورة نتائج مثل تلك الدراسات التي تعتمد على منهجية خاطئة.
ومن الصعوبات المنهجية التي تواجه الدراسات الميدانية على الإنسان ما يلي:
أ - صعوبة التعرف على جميع العوامل المتغيرة التي قد تؤثر في نتائج تجربة ما، فعلى سبيل المثال نجد أنه في أية دراسة خاصة بالأفراد يكاد يكون من المستحيل عزل وضبط كل عامل يحتمل أن يكون له أي تأثير في التغيرات
الحادثة أثناء التجربة. ولو أن تجربة أجريت على إنسان وتحتاج هذه التجربة إلى فترة زمنية كشهر أو أكثر، فإنه في نفس الوقت الذي تجرى فيه الأحداث التجريبية سيكون الإنسان قد نما وتغير من نواح معينة أثناء هذه الفترة، ولن يعود هو نفس الشخص الذي كان عند بدء التجربة، وقد تكون التغيرات دقيقة إلا أنها موجودة مع ذلك بدرجة معينة1.
(ثم إن هناك قضية منهجية هامة عند التجريب على المجموعات وهي كيفية اختيار عينة البحث، ومدى تمثيلها لمجتمع البحث)2.
ب - وتعاني التجارب التي تجرى على الإنسان من أثر الإيحاء أو العوامل غير الشعورية، وعادة ما يكون اكتشاف هذه الأخطار غاية في الصعوبة3.
ومن جانب آخر فإن مشروعية المنهج تستلزم توازناً بين السبق المادي والحفاظ على الدين والقيم الاجتماعية والخلقية والسلوكية؛ لأن الانخراط في السبق المادي مع عدم الحفاظ على الدين المنظم لشؤون حياة الإنسانية هو تدمير لحياة البشرية، ولا أدل على ذلك مما تعيشه كثير من مجتمعات هذا العصر من التقدم المادي الذي يواكبه التدهور الأخلاقي والاجتماعي والتنكر للدين، فأصبح أفرادها يعانون من الخلل النفسي الذي حطم حياتهم، وأبعدهم عن جادة الطريق وسلك بهم سبيل الهلاك.
3-
مشروعية الهدف:
بأن يكون القصد من تحقيق السبق النفع لا الضرر، والخير لا الشر؛ لأن التزام هذا الهدف يحقق الخُلُق الرفيع في مضمار التسابق، حيث إن ميدان السبق
1 محمد زيان عمر، البحث العلمي ومناهجه وتقنياته، ص (109-111) .
2 المرجع السابق، ص (110) .
3 المرجع السابق، ص (111) .
قد يكون مشروعاً في ذاته لكنه متعلق بنوايا خبيثة، كمن يخترع ليدمر حياة الإنسان أو يفكر بهدف نشر الرذيلة.
فطلب الحقيقة العلمية غير المرتبطة بالالتزامات الشرعية يؤدي إلى تدمير البشرية، فهناك ميادين علمية تؤكد صحة هذا الكلام، فميدان الهندسة الوراثية واحد من هذه الميادين التي اتجهت لمعالجة الجنس البشري بحيث يكون النسل يحمل صفات وراثية محددة مما سوف تعقبه عواقب وخيمة، وكذلك القدرة على استخدام الطاقة الذرية للتخريب اتضحت معالمها في هيروشيما ونجازاكي، والأبحاث في ميادين غازات الأعصاب والميكروبات المميتة قد تطورت الآن إلى مبيدات للبشرية، وقد استخدم الكثير منها في فيتنام، ويظهر الآن ميدان من ميادين الكيمياء الانفعالية التي قد تؤدي في النهاية إلى السيطرة على الإرادة البشرية بواسطة مركبات كيميائية مختلفة1.
فهذه النوايا التي صاحبت السبق العلمي اتجهت به نحو التدمير والهلاك، فهل هذا يخدم البشرية؟ وهل هذا نتاج تربية سباقة للخير؟.
والبث المباشر، والإنترنت يخدم أهدافاً غير مشروعة بقصد تحقيق عولمة العقل البشري، ليفكر بتفكير واحد ويعيش بطريقة واحدة أو متشابهة، ومظهرها الانحلال الديني والخلقي والاجتماعي، فقد رصدت بعض الدراسات اتجاهاً عالمياً يهدف لعولمة العقل البشرية2. فهل هذا الإنجاز وليد تربية سباقة للخير؟.
1 عطاء الرحمن، التربية العلمية في الدولة الإسلامية، مبادئ وإرشادات، ص (240-241) ، سلسلة التعليم الإسلامي، العلوم الطبيعية والاجتماعية من وجهة النظر الإسلامية.
2 خالد الحازمي، الهدف التعليمي والثقافي لتقنية المعلومات، للمجتمع العربي، ص (26) .
رابعاً: تحقيق القُدْمة:
وهو الوصول إلى الشيء أولاً، بحسب ميدان مناط السبق، سواء في مضمار الجري أو البحث العلمي، أو في غيرهما، ومثال تحقيق القدمة: لو أن باحثاً بدأ في موضوع معين في بداية شهر محرم من عام 1418هـ- واستكمل بحثه بمقدمات صحيحة ونتائج سليمة وذلك في نهاية شهر شوال لعام 1418?. وفي نفس الوقت بدأ باحث آخر في نفس الموضوع ولكن بعد الأول بشهر. واستكمل بحثه بمنهجية سليمة، ونتائج صحيحة قبل الأول بشهر، فإن السبق هنا يكون للثاني بالرغم من أنه بدأ بعد الأول، لكنه أنجز وأتم البحث قبله.
فإذاً تحقيق القدمة الزمنية أس في عملية السبق لابد منها.
***