الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: المبحث الثالث: معالم السبق التربوي
…
المبحث الثالث: معالم السبق التربوي
تتعدد معالم السبق التربوي بحسب القضايا الكلية أو جزئياتها، وبحسب الميادين التربوية وتعددها في التعلم والتعليم، وفي الطبيعة الإنسانية، وفي الأهداف التربوية، أو في وسائطها وغير ذلك.
ولما أن هذا المبحث بل هذا البحث لا يمكن له تغطية كل الميادين التربوية فإنه سيقتصر على أهمها وهي:
أ - الطبيعة الإنسانية.
ب - الأصول المرجعية.
ج - الأهداف والبواعث.
د - الوسائل المنهجية.
أولاً: الطبيعة الإنسانية:
إن الله تعالى عندما خلق الإنسان جعل فيه خصائص تساعده على الحياة، وتجعله سيد نفسه في الاختيارات التي تظهر أمامه، وزوده بقدرات وخصائص بعضها فطري، وبعضها مكتسب، تحقق له إنسانيته التي أرادها الله تعالى له، والتي هي:
1-
القابلية:
عندما خلق الله تعالى الناس جعل عندهم قابلية التجاوب والاختيار، وقابلية الحب والكره، والولاء والعداء، وقابلية التجانس والتنافر، والتدابر والتقارب، والإقدام والإحجام؛ وذلك ليتمكن هذا الإنسان من تحمل مسؤولية التكليف، واستحقاق المحاسبة، والجزاء والثواب فيما بعد، قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا} 1. أي: عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح. قال مجاهد: عرفها طريق الفجور والتقوى والطاعة والمعصية. قال الفراء: عرفها طريق الخير وطريق الشر.2.
2-
الإرادة:
لم يجعل الله سبحانه وتعالى عند الإنسان القابلية والاستعداد للتحول من اتجاه لآخر فقط، وإنما جعل له أيضاً الإرادة في ممارسة الخير والاستمرار على الفطرة التي فطر عليها، أو الانحراف عنها إلى طريق الهلاك والضلال. قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3.
وهذه الإرادة تنقسم عند الإنسان إلى قسمين:
(أ) - إرادة جازمة:
وهي التي يجب وقوع الفعل منها، إذا كانت القدرة حاصلة. فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل.
(ب) - إرادة غير جازمة:
وهي التي لا يقع الفعل منها، مع وجود القدرة على الفعل. فمتى وجدت الإرادة والقدرة التامة على الفعل، ولم يقع لم تكن الإرادة جازمة4.
والإرادة هي: عمل القلب الذي هو ملك الجسد، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: “ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده،
1 سورة الشمس: أية رقم (8) .
2 الشوكاني، فتح القدير (5/449) .
3 سورة الشمس: آية رقم (9-10) .
4 ابن تيمية، الفتاوى (10/722) .
وإذا خبث الملك خبثت جنوده “1.
ولعل هذا مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: “ إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب “ 2.
وهذه الإرادة التي زود بها الإنسان، تجعل له قوة تجاه الفعل أو الترك، وبالتالي يقع على كاهل التربية تنشئة وتحفيز الإرادة الجازمة نحو السلوك المستقيم وفق المنهج الإسلامي، وبأساليبه المتقررة.
ويؤكد تلك الإرادة ما جاء في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 3.
فالفلاح يأتي نتيجة الإرادة الجازمة نحو فعل الخير وسلوكه، والتدسية تأتي نتيجة الإرادة غير الجازمة في اتباع الخير وسلوكه.
3-
القدرات:
لقد زود الله تعالى الإنسان بالوسائل والمدارك التي تمكنه من معرفة ما يحيط به، إذ إن الإنسان لا تكفيه القابلية والإرادة في الاختيار والتفعيل ما لم تكن هناك وسائل يستطيع باستعمالها أن يهتدي إلى الحق، فزوده الله تعالى بمدارك حسية يكشف بها ما يعرض أمامه، فيعرف بها معالم الطريق وهديه، وهذه الوسائل متنوعة متعددة بتعدد خصائص الأشياء وما يعرض للإنسان من محسوسات، فبعضها لا تدرك إلا بحاسة السمع مثل الأصوات والبعض لا يدرك إلا بحاسة البصر، مثل رؤية الأشياء في أشكالها وأحجامها، والبعض لا يدرك إلا
1 المرجع السابق (10/726) .
2 البخاري (2/74) ، برقم (2051) ، ومسلم (3/1219-1220) ، برقم (107-1599) .
3 سورة الشمس: آية رقم (9-10) .
بحاسة اللمس فقط، كالخشونة والنعومة والحرارة والبرودة، ويقاس على ذلك بقية الحواس.
قال تعالى مبيناً أهمية تلك الحواس في إدراك الحق، وخطر من لم يسخرها ويفعلها في مصالح معادة:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.
وإضافة إلى تلك الحواس كرمه بالعقل، الذي يعقل به الأشياء ويعرفها، ويفكر به، ويرجح به المنافع على المضار، وقد جاء في الحديث “ والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس” 2؛ ولذلك خاطب الإسلام الإنسان عن طريق عقله بالتأمل والتفكر فيما يحيط به ليهتدي ويعرف أن لهذه المخلوقات خالقاً يجب أن يعبد على الوجه الذي أراده الله تعالى وفق ما جاء به الشرع الحكيم: “لأن الاعتماد على الجانب العقلي وقوى الإدراك المختلفة لدى الإنسان فقط ليس مأمون العواقب، وذلك أن ثمّة عوامل ودوافع نفسية وغير نفسية تقوم بدورها في توجيه المعارف، وبالتالي يكون تأثيرها في الحكم العقلي الصادر عنها، كالأهواء والشبهات والشهوات”3.
وبهذا يتضح أن الله تعالى زود الإنسان بقدرات يكتسب بها المعرفة، ولكن يجب أن لا تنعزل عن الشرع وتعمل في منأى عنه حتى لا تضل ولا تشقى؛ لأن هناك معارف غيبية لا يمكن معرفتها إلا من خلال التشريع الإلهي.
1 سورة الأعراف: آية رقم (179) .
2 مسلم (4/1980) برقم (14/2553) .
3 محمد عبد الله عفيفي، النظرية الخلقية عند ابن تيمية، ص (157) .
4-
القوى:
لقد زود الله تعالى الإنسان بقوى تجعله متحركاً متجاوباً مع ما يحيط به، ولولا هذه القوى لأصبح الإنسان كالحيوان في حركة آلية رتيبة. فبعض هذه الدوافع يعمل للمحافظة عليه بالدفاع عنه، والبعض يعمل على المحافظة عليه بإشباعها. مثل: الدافع إلى العمل والسكن والتكسب والزواج، فهذه دوافع للمحافظة عليه، والغضب والغيرة والخوف للدفاع عمّا يضره للمحافظة عليه، وهذه القوى ثلاثة أنواع، منها: اثنتان فطريتان، وثالثة جمعت بين الفطرة والاكتساب، يقول ابن تيمية: إن قوى الأفعال في النفس إما جذب وإما دفع1. ويقول ابن قيم الجوزية: للقلب قوتان: قوة الطلب، وقوة الهرب، وكأنّ العبد هارب لمصالحه هارب من مضاره2.
ويشير ابن حجر إلى أن في كل إنسان ثلاثة قوى: أحدها الغضبية وكمالها الشجاعة، وثانيهما: الشهوانية، وكمالها الجود، وثالثهما: العقلية، وكمالها النطق بالحكمة3.
فاقتضت حكمة الباري اللطيف الخبير أن جعلت في الإنسان بواعث ومستحثات تؤزه أزاً إلى ما فيه قوامه وبقاؤه، ومصلحته، وتَرِدُ عليه بغير اختياره ولا استدعائه، فجعل لكل واحد من هذه الأفعال محركاً من نفس الطبيعة يحركه ويحدوه عليه4.
وبالاستقراء يمكن تقسيم القوى المحركة للطبيعة البشرية إلى ثلاثة
1 ابن تيمة، الفتاوى (15/420) .
2 ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، ص (191) .
3 ابن حجر، فتح الباري (10/457) .
4 ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة (1/276) .
أقسام: اثنتان فطريتان، وثالثة جمعت بين الفطرة والاكتساب، حسب التوضيح التالي:
(أ) : القوة الجاذبة:
هي القوة الجالبة للملائم، وهي الشهوة، وجنسها: من المحبة والإرادة، ونحو ذلك1 وبدونها يفقد الإنسان اندفاعه للعمل والتكسب والحركة والاختلاط، ومن تلك الشهوات: شهوة حب المال، والذرية، والنساء، ونحو ذلك، وهي مركوزة في النفس البشرية، ولولا هذه الدوافع الشهوية، لسكن الإنسان فلا حراك له، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 2.
والدوافع منها ما يكون الإنسان واعياً بها، فاهماً إياها، منتبهاً إليها وهي ما يطلق عليها الدوافع الشعورية. وهناك دوافع غير منتبه لها، ومع هذا تحرك سلوكه، دون علم منه، وهي ما يطلق عليها الدوافع غير الشعورية3.
والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد هذه الدافعية الشهوية، ولكنه نظم للإنسان أسلوب ممارستها بشكل يحفظ للإنسان قواه ونشاطه بما يضمن له الاستقرار النفسي، ويضمن للآخرين عدم التصادم مع الدوافع الفردية، وهذا ما عنت به التربية الإسلامية من تنظيم لهذه الدوافع الشهوية، من خلال المنهج الإسلامي الذي احتوى ما يكفل للفرد إشباع شهواته وفق معايير أخلاقية واجتماعية تكفل للجماعة حقوقها دون ما تعارض بينهما، وهذا ما افتقرت إليه التربيات الأخرى.
1 ابن تيمية، الفتاوى (15/340) .
2 سورة آل عمران: آية رقم (14) .
3 نبيل محمد السمالوطي، الإسلام وقضايا علم النفس، ص (86، 87) .
حيث تجد أن رواد مدرسة التحليل النفسي يختصرون عدد الغرائز حتى إن البعض أوصلها إلى اثنتين فقط، هما: غريزة الحياة أو الغريزة الجنسية، وغريزة الموت أو العدوان، والبعض حاول تفسير طبيعة سلوك الإنسان من خلال غريزة واحدة: هي غريزة السيطرة، والبعض يعزو سلوك الإنسان إلى الشعور بالنقص ومحاولة التعويض1.
والواقع أن هذه التفسيرات الأحادية الاتجاه قد وقعت في انشطار الشخصية، نتيجة قوقعة الغرائز في اتجاه دون الاتجاه الآخر، وأنها أهملت جوانب أخرى، مما يجعل البناء التربوي على هذا الفهم يسير في منأى عن الصواب، وفي منحى نحو الفهم الخاطئ للطبيعة البشرية، مما أدى إلى ظهور نظريات أخلاقية وتربوية خاطئة، كالنظرية النفعية للسلوك الإنساني.
(ب) : القوة الدافعة:
وهي القوة المانعة للمنافي، وجنسها من البغض والكراهة2، وهي ما تسمى بالقوة الغضبية. التي تتولد من بغض الشخص لأمر من الأمور، أو كرهه له.
وهناك من يقسمها إلى قسمين:
1-
بسيط مثل: الخوف والكره.
2-
مركب مثل: الغيرة والدهشة3.
ولو حرم الإنسان هذه القوى الدافعة لتبلد إحساس الإنسان، فلا يغار على عرضه، ولا يدافع عن نفسه، وربما أقصى ما يفعله للدفاع عن النفس
1 أحمد محمد عامر، أصول علم النفس العام، ص (188-193) ، نبيل محمد السمالوطي، الإسلام وقضايا علم النفس، ص (93) .
2 ابن تيمية، الفتاوى (15/430)، انظر: ابن حجر، فتح الباري (10/457) .
3 أحمد محمد عامر، أصول علم النفس العام، ص (209) .
الهروب فقط.
ولهذه القوة الدافعة فوائد عظيمة، إذ يتولد عنها الشجاعة، والبغض في الله، والدفاع عن الإسلام، والدفاع عن العرض، ونحو ذلك.
والتربية الإسلامية تؤكد هذه القوة الدافعة، ولكن توجهها بما يحقق مصلحة الفرد والجماعة، فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يغلظ على الكافرين والمنافقين في حربهم؛ لأن الموقف يتطلب القوة الغضبية الدافعة، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1.
وفي جانب آخر يحث المؤمنين على كظم الغيظ، بل والارتقاء إلى درجة أعلى، وهي العفو، ثم الإحسان، قال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2.
وهذا يعني أن بوسع المرء أن يكظم غيظه ويعفو عمن ظلمه، ويحسن لمن أساء إليه، وهذا يعطي توجيهاً للتربية أن تعمل على إكساب المتربين قدرات سلوكية تمكنهم من الارتقاء إلى الفضائل الخلقية؛ وذلك لقدرة الإنسان على التغير نحو الأحسن والأفضل من خلال قدرته على التحكم في غرائزه.
بعكس التربيات الأخرى التي ترى أن سلوك المرء حتمي كالمدرسة الوضعية التي خرجت بمبادئ موجزها في الآتي3:
1-
السلوك الإجرامي هو في جوهره أمر حتمي.
1 سورة التوبة: آية رقم (73) .
2 سورة آل عمران: آية رقم (134) .
3 نبيل السمالوطي، علم اجتماع العقاب (2/63) .
2-
إذا كانت إرادة الجاني منعدمة، تنعدم بالتالي المسؤولية الجنائية.
3-
وبناء على عدم ثبوت المسؤولية الجنائية، ينعدم الأساس الذي يقوم عليه العقاب.
4-
أن المدرسة الوضعية أحلت المسؤولية الاجتماعية بدلاً من المسؤولية الجنائية؛ وذلك من خلال ما يطلق عليه البدائل العقابية، ومنها أن يقوم المجتمع باستئصال المجرمين، أو إبعادهم أو إصلاحهم من خلال كل الأساليب العلمية الممكنة.
وقد وقعت المدرسة الوضعية في حتمية السلوك وإنكارها لإرادة المجرم أو اختياره، كما أنها جعلت المجرم منفعلاً وليس فاعلاً، أي أنه يستجيب للمؤثرات الخارجية كالآلة1.
وهناك من يرى أن السلوك الإجرامي مأخوذ بالوراثة2 وهذه النظريات الخاطئة تقلل من أهمية التربية في إحداث السلوك الإيجابي، وتعطي العقوبة صورة القسوة لشخص مسلوب الإرادة، وهذا ما ينتفي مع منهج التربية الإسلامية التي ترى أن للإنسان قدرة وإرادة ويستطيع أن يتحكم فيها، وللتربية تأثير على ترويض انفعالاته ودوافعه، وبالتالي يجب أن يكون للتربية الدور الفاعل في الإصلاح، ويجب على المنحرف أن يتحمل تبعات سلوكه، مما يجعل العقوبة حقّاً شرعيّاً يجب تطبيقها.
وهذا يؤكد عمق التربية الإسلامية في فهم الطبيعة السلوكية للإنسان، مما تولد عنه أساليب تربوية ملائمة لحقيقة الإنسان وفطرته وطبيعته، وهذا ما افتقرت إليه التربيات الأخرى.
1 المرجع السابق (2/65) .
2 انظر كتاب: السلوك الإجرامي والتفسير الإسلامي، عبد المجيد سيد أحمد منصور،
(1/133-136) .
وهذه القوى الجاذبة والدافعة لو فقدها الإنسان لكان كالحيوان، ولو تركت دون توجيه لأكل الناس بعضهم بعضاً، ولأسرف الإنسان في استغلالها في البطش والملذات، ولجمع صفة الحيوان (الافتراس من الحيوانات المفترسة، والتبلد الإحساسي من الحيوانات الأليفة) .
إذاً لهذه القوتين فوائد عظيمة لا يستطيع الإنسان أن يحقق إنسانيته بدونها، ولا يستطيع أن يحقق العبودية التي أرادها الله تعالى منه بدونها، ولكن نجد أن هاتين القوتين افتقرت لقوة ثالثة تكون سيدة عليهما وضابطة لهما، لها حق القيادة والرئاسة، وأن تكون مفطورة في الإنسان للتفاعل مع القوتين الأخريين، ولابد أن تكون قابلة للتوجيه الخارجي حتى تكتسب صفة العلو والسيطرة. والتي يمكن إيضاحها في الفقرة التالية.
(ج) : القوة الضابطة:
هي تلك القوة التي تسيطر على القوتين السابقتين، وتوجهها التوجيه الصحيح، وتكون عادلة، فلا تئدهما، فيصبح الإنسان عاجزاً لا حراك له، ولا تطلقهما فيصبح الإنسان أنانياً كالحيوان، فيخرج عن إنسانيته.
وهذه القوة لابد وأن تكون مغروسة في الإنسان أصلاً حتى يقبلها، وتتغذى بغذاء خارجي، فتأخذ صفة العلو على القوتين السابقتين، فتتسلم زمام القيادة.
وهذه القوة الضابطة هي القوة الروحية الشرعية. وهي ذات مقدمتين: الأولى سابقة وهي الفطرية، والثانية لاحقة، كما يتضح مما يلي:
1-
فطرية:
لقد بيّن منهج التربية الإسلامية أن الإنسان يولد على الفطرة كما يتضح من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه” 2. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن ربهم “ 3.
وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة الناس4. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع”5. وفي النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل، في الاعتقاد والإرادات، وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة6.
ففي الإنسان قوة فطرية تقتضي قبول الحق واعتقاده، والسير وفق منهجه المتضمن للأوامر والنواهي، فلا يحيد عن ذلك إلا مكابر جاحد للحق والاعتقاد نتيجة أثر الأسرة والمجتمع عليه.
2-
مكتسبة:
وهذه القوة ليست مغروسة بتفاصيلها في فطرة الإنسان، ولكن لديه قوة تقتضي قبولها والبعد عمّا هو ضدها، وبالتالي احتاجت إلى التشريع الذي يكملها، ويصحح اعوجاجها المكتسب من البيئة؛ لأن الإنسان لا يولد عالماً
1 سورة الروم: آية رقم (30) .
2 البخاري (1/424) ، برقم (1385) ، ومسلم (4/2047) ، برقم (22-2658) .
3 مسلم (4/2197) ، برقم (13-2865) .
4 ابن حجر، فتح الباري (3/248) .
5 ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل (8/458) .
6 المرجع السابق (8/458) .
بتفاصيل وعموميات الشريعة، وإنما عنده الاستعداد لإرادتها وقبولها. قال تعالى:
وبالتالي: فإن العامل المكتسب في القوة الضابطة هو التشريع الإلهي الذي اختتمه الله تعالى برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمتضمن للأوامر والنواهي التي تضبط القوة الجاذبة والقوة الدافعة.
ففي مجال القوة الجاذبة جعل الله تعالى في النفوس شهوات تؤزه أزاً لإشباعها، قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} 2. وفي نفس الوقت جاءت الشريعة لتضبط هذه الدوافع الجاذبة، لتسير وفق مصالح الفرد والجماعة، فمقابل شهوة المال أباح الله الملكية الفردية، وما يتحقق بها من عمل وتكسب بالبيع والشراء والسعي في مناكب الأرض، وفق ضوابط تناولها الفقه الإسلامي في كتاب البيوع.
وأمام شهوة النساء ليحصل التكاثر وامتداد التناسل أباح الله تعالى الزواج حتى أربع زوجات، وضبط ذلك بعقود شرعية، وحرم عليه الزنا لحفظ حقوق الجماعة والفرد، ومصالح أخرى عديدة، ويقاس على ذلك بقية القوى الجاذبة.
في حين نجد أن المنهج التربوي غير الإسلامي افتقر لهذا الضابط الثالث، مما نجم عنه الاضطراب والقلق النفسي، بين قوى جاذبة وقوى دافعة، دون وجود القوة الضابطة التي تحكم سير تلك القوتين، وتوجهها التوجيه الذي يحقق مصالحها.
1 سورة النحل: آية رقم (78) .
2 سورة آل عمران: آية رقم (14) .
نتيجة لذلك تضاربت القوى الجاذبة الفردية مع حقوق المجتمع، وتضاربت القوى الدافعة مع مصالح المجتمع وحقوقه، فما استطاع البشر أن يضعوا لأنفسهم تلك القوة الضابطة العادلة المتوافقة مع الفطرة.
والمتأمل في الحراك الاجتماعي برمته، وفي القوانين الاجتماعية يجد أن هناك قوى تدفعه وتجذبه؛ لتؤثر في حراكه الأفقي والرأسي، وكلما كان المجتمع منقاداً للقوة الضابطة كان ذلك الحراك الاجتماعي في نسق يضمن له السير المعتدل، بل حتى في حركة الكواكب يلاحظ الإنسان ذلك، فحركة الأرض وحركة من على الأرض لولا قوة الجاذبة الضابطة لتطايرت المخلوقات من على كوكب الأرض.
وهكذا نجد تميز التربية الإسلامية بقوة الضبط لقوى النفس البشرية، لتسير في خط معتدل يحقق لها التوازن بين مطالب النفس الروحية والمادية، وبين مطالب الفرد ومطالب المجتمع، وهذا ما افتقرت إليه التربيات.
ثانياً: الأصول المرجعية:
تتجاهل الدراسات الغربية الأصول المرجعية؛ لعدة أسباب:
1-
قلة الرصيد العلمي الذي يمكن الانطلاق من خلاله، والمنحصر في كتابات الفلاسفة الإغريقيين: سقراط وأفلاطون وأرسطو.
2-
تحريفهم للكتب السماوية (التوراة - والإنجيل) مما أفقدهم أهم رافد معرفي (الدليل) .
3-
الجهل الذي ساد أوروبا في القرون السابقة للنهضة الحضارية المادية المعاصرة.
4-
الانطلاقة من معتقدات مرجعية فاسدة باطلة منها:
أ - أن الطفل يولد بضمير معين مصحوب بغريزة صارمة هي - الخطيئة
الأصلية - أي أن الطفل أو الإنسان مفطور على الفساد والانحلال؛ ولذلك لا فائدة من التربية الأخلاقية1.
في حين نجد أن المنهج الإسلامي يقرر أن الطفل يولد على الفطرة، وهي الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: “ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” 2.
ب - عزل الدراسات الإنسانية عن الوحي، مما جعلها تدور في حلقة مفرغة، فأعياها ذلك الوصول إلى حقيقة فهم الإنسان، يقول أبرز من كتب عن الإنسان من الغربيين الكسيس كاريل: فإن فقر الخطط الكلاسيكية يعزى إلى الحقيقة - وذلك بالرغم من اتساع مدى أفق معرفتنا - والتي مؤداها أننا لن نفهم أنفسنا؛ لعدم بذلنا جهداً نافذاً كافياً، ومن ثم يجب أن نفعل ما هو أكثر من مجرد النظر إلى ناحية واحدة من نواحي الإنسان في حقبة معينة من تاريخه، وفي أحوال معينة من حياته، يجب أن نفهمه في جميع وجوه نشاطه، ما كان واضحاً منها عادة، أو ما يبقى في حيز الفكر.
فقد صور الكسيس كاريل فقر الدراسات الإنسانية في معرفة الإنسان، ثم يبين أن العلاج محصور في العلم التجريبي فقط، حيث يقول استكمالاً لما سبق. ومثل هذه المعلومات يمكن فقط الحصول عليها بالتأمل الدقيق في حاضر وماضي جميع اكتشافات قوانا العضوية والعقلية، كذا بالفحص التحليلي والتركيبي لبنيتنا وعلاقتنا النفسية والكيميائية والعقلية3.
فهو لم يلتفت للمصادر الدينية البتة، وهذا يعتبر قدحاً في مصداقية النتائج
1 ماجد عرسان الكيلاني، اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، ص (15) .
2 البخاري (1/424) ، برقم (1385) ، واللفظ له، ومسلم (4/2047) .
3 الكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص (51) .
الدراسات الإنسانية. ونتيجة عزل الدراسات الإنسانية عن الوحي، أصبح البحث الاجتماعي الغربي يهتدي بافتراضات تنزل بالدين إلى مستوى النظم الوضعية الكثيرة في المجتمع؛ وبسبب هذه الافتراضات لم يسمح البحث مطلقاً بالنظر في التأثيرات الأعلى من النظم، والأوسع للدين في المجتمع1.
كما أن عدم أصالة الأصول المرجعية جعل الفكر الغربي تجاه الإنسان في حيرة وقلق، حيث لا يستطيع أن يجيب عن الكثير من الأسئلة التربوية التي يمكن أن يجيب عنها منهج التربية الإسلامية. يقول الكسيس كاريل: إننا لا نعرف كيف يمكن أن يزداد الإحساس الأدبي؟ وحتى الآن لا نعرف أي البيئات أكثر صلاحية لإنشاء الرجل المتمدن وتقدمه؟ وكيف نحول دون تدهور الإنسان وانحطاطه في المدنية العصرية؟ 2.
ثالثاً: البواعث والأهداف:
إن للبواعث والأهداف تأثيراً عظيماً وفاعلاً في الاتجاه التربوي وميادينه، والتي يمكن إيضاحها فيما يلي:
1-
البواعث:
يعتبر الباعث من أقوى العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان وتصرفاته، فهو يحفز الإنسان للعمل، ويكسب سلوكه نمطاً معيناً، وبنوع الباعث تتباين التصرفات، فقد تهدف مجموعة من الناس إلى الحصول على المؤهل الجامعي، ولكن الباعث عند أحدهم الكسب المالي، وعند آخر المكانة الاجتماعية، وعند آخر رفع الجهل عن النفس وعن الآخرين. وقد يكون عند آخر ليباهي به الناس.
1 إلياس بايونس، علم الاجتماع والواقع الاجتماعي المسلم، ص (57) .
2 الكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص (18-19) .
فبالرغم من أن الفعل والهدف واحد إلا أن اختلاف البواعث غَيَّر القيمة الخلقية لتلك الأهداف بحسب باعثها.
والإسلام اهتم بأمر البواعث اهتماماً كبيراً، ساعياً لتصحيحه والسير به نحو ما ينفع الإنسان، وهو الذي يعبر عنه بالنية، قال صلى الله عليه وسلم: “ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه” 1. وقال صلى الله عليه وسلم: “ومن تعلم العلم ليباهي به العلماء ويجاري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم” 2.
وبواعث الدراسات الغربية ليست ذات نوايا طيبة، بل تحمل في طياتها بواعث خبيثة، فبعد الثورة الفرنسية على الكنيسة التي أعاقت البحث العلمي والفكري، تحت النظام الإقطاعي نجحت أوروبا في نقل العلوم وترجمتها، ورأت أوربا أن العلم الطبيعي هو مفتاح السيطرة على العالم، ومن ثم تتحقق السعادة للإنسان الأوربي.
وبعد التقدم النسبي في هذا المضمار رأى العالم الغربي لإكمال عقد السيطرة على العالم هو فهم الفرد والمجتمع، حتى يمكن السيطرة على فكره ومقدراته وإخضاعه لهيمنتهم، وهذا يتطلب أمرين:
أ - تكثيف الدراسات التربوية والاجتماعية والنفسية على الإنسان، فظهر علم النفس الاقتصادي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الحربي، وعلم النفس التربوي.
ب - إخضاع هذه العلوم للبحث التجريبي قياساً على نجاح التجريب في
1 البخاري (1/13) ، برقم (1) ، ومسلم (3/1515) ، برقم (155-1907) .
2 ابن ماجه (1/96) ، برقم (260) .
العلوم الطبيعية، وبالتالي كفرت بكل ما لا يمكن تجريبه، فكفرت بأنعم الله الغيبية، وظهرت العلمانية والإلحادية1.
بل ومن بواعث الدراسات الغربية الاجتماعية التوصل إلى معرفة كيفية تمزق الشعوب وكيفية تمزيقها.
2-
الأهداف:
يكتنف الهدف من التقدم الذي أحرزته الحضارة الغربية الانحراف الخاطئ والمدمر؛ بسبب المفاهيم الخاطئة التي تسير في منأى عن التشريع الإلهي:
فمن المفاهيم الخاطئة التي أدت إلى انحراف الأهداف، النظرة العدوانية لآيات الله الكونية وحوادثها، فقد أشار فيلب. هـ. فينكس: أن الطبيعة عدو للإنسان، بما يحدث من زلازل وبراكين وحرائق وعواصف، وبالتالي فإن الطبيعة ميدان للقتال، والبقاء فيه للأقوى، وأن قانون الحياة هو الحرب الدائمة، وعن طريق الصراع يزول غير القادرين؛ ولأن الطبيعة عدو للإنسان تقدمت الإنسانية هذا التقدم الكبير، والحضارة هي نتيجة انتصار الإنسان على الطبيعة وقهرها، والثقافة تتعارض مع الطبيعة، والهدف من الكفاح الإنساني أن يخلق دنيا جديدة، معارضة للطبيعة، يعمل فيها الإنسان على هدم كل ما يتصف بالوحشية من قوة وحيوان، أو إخضاعه لقوة الإنسان وعظمة الإنسان2.
فالهدف من التعامل مع الطبيعة هو قهرها باعتبار أنها عدوة للإنسان، وهذه النظرة لها مؤثراتها التربوية على الأهداف، سواء في مجال البحث العلمي، أو في مجال التعامل السلوكي؛ لأن النظرة العدوانية للأشياء تربي في النفس البشرية الكراهية والحقد، والتعامل الصارم الذي لا يقبل الرحمة، إضافة إلى عدم
1 إسماعيل راجي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (24-25) .
2 فيلب. هـ. فلسفة التربية، ص (289-292) .
معرفة الحكمة الإلهية من آيات الله الكونية عندما تكون في خدمة الإنسان، وعندما تكون لعقاب الإنسان أو تخويفه ليرجع إلى ربه.
ولكن المنهج الإسلامي يقدم لنا مفهوماً مغايراً تماماً لعلاقة الإنسان بما يحيط به، مما يحقق للإنسان منهجاً تعاملياً راقياً مع المصادر الطبيعية، سواءً استفاد منها الإنسان أو لم يستفد، وتربي فيه إيماناً قوياً بخالقه سبحانه وتعالى، ويتعامل في نفس الوقت مع الأحداث والكوارث معاملة تجلب له توازناً سلوكياً، وتوجهاً خلقياً وتعبدياً مع ربه تعالى، ومع مخلوقاته وآياته المبثوثة في الكون، ومن تلك التوجيهات الربانية في هذا الصدد قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ.وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} 1.
ولذلك فهم علماء المسلمين لما يحدث في الطبيعية من أمور غير معتادة أن ذلك تخويف من الله تعالى للإنسان ليرجع إلى الله عز وجل، ويترك طغيانه وجبروته، يقول ابن قيم الجوزية عن الزلازل: “ فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إليه والندم، كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: أن ربكم يستعتبكم، وقال عمر بن الخطاب وقد زلزلت المدينة، فخطبهم ووعظهم، وقال: لئن عادت لا أساكنكم فيها”2.
فهكذا تحدث التربية الشرعية مفاهيم تربوية لمتغيرات الكون، فتربي في المرء الصلاح والفهم الصحيح بما يُحدث فيه رغبة في سلوك الاستقامة والتعامل البناء وفق أهداف صحيحة.
1 سورة الرعد: آية رقم (12-13) .
2 ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة (1/221) .
رابعاً: الوسائل المنهجية:
لقد فصل الغرب بين الإنسانيات وبين العلوم الاجتماعية؛ وذلك بسبب اعتبارات منهجية، جعلت الدراسات الإنسانية خارج نطاق العلم، بإعفائها من دقة الموضوعية، فأصبحت الإنسانية عرضة لهجمات النسبية، والشك والذاتية، وقد ساعد ذلك على مزيد من التآكل في تأثيرها، وأعجز قوة موادها عن تحديد مجرى الحياة والتاريخ1.
ويتضح ذلك من استعراض الأدوات والتجريب والأصول التاريخية للعلوم التربوية، وأثر ذلك على الوسائل المنهجية:
1-
منهج تفسير الأعلى عن طريق الأدنى:
يقوم المنهج الغربي على معتقدات استسلم لها الكثير منهم، ومن ذلك: الاعتقاد بأن الفرق بين الإنسان والحيوان محصور في درجة التعقيدات، فالإنسان أعقد من الحيوان؛ ولذلك فإن أسلم طريقة لدراسة الإنسان هو بحثه من خلال الأدنى؛ وهو الحيوان، حتى ترتقي إلى ميدان الإنسان؛ ولذلك نجد أن البحوث تركز في دراساتها السلوكية على الحيوان لتعميمها على الإنسان مثل دراسة بافلوف.
ويقول فيلب.?. فينكس عند شرحه للتحليل التلخيصي: “لا يوجد اختلاف في النوع بين الحيوان والإنسان، ولكن هذا الاختلاف هو في درجة التعقيد؛ ولذلك عند فهم الأفراد البشريين لا نفقد شيئاً أساسياً إذا ما درسنا الأشكال الدنيا البسيطة من الحيوان، وهذه هي الطريقة العلمية الأساسية: نحلل المعقد بأنّ ننظر أولاً فيما يشبهه، مما هو أبسط منه؛ ولذلك فأفضل الطرق لدراسة
1 إسماعيل راجي الفاروقي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (30- 31) .
السلوك الإنساني نجدها فيما يجري من بحث على الحيوانات الدنيا”1.
والحقيقة أن الاستفادة من التجارب على الحيوان يمكن أن تكون في المجالات العضوية الطبية، ولكن في المجال السلوكي يصعب ذلك للمفارقات الكبيرة بين الإنسان والحيوان، من حيث العقل، والتفكير، والإرادة والملكات المتعددة عند الإنسان، وإن كان هناك خط مشترك بين الجنسين في النمو والتوالد والحركة، ولكن ذلك لا يعطينا الحق المطلق في تطبيق التجريب السلوكي، بل إذا كنا نؤمن بأن ما يمكن أن يجرب على بيئة اجتماعية إنسانية، قد يعطينا نتائج متباينة لو طبقت نفس التجربة على بيئة إنسانية أخرى، لعوامل التأثير المختلفة، مثل: الدين، المفاهيم، والأهداف، والتقاليد، فكيف يمكن أن توضع نتائج تجريبية على الحيوان لتطبق على الإنسان؟.
2-
التجريب في الدراسات الإنسانية:
إن العلوم الطبيعية يمكن ملاحظتها بالحواس، ويمكن فصل مكوناتها عن بعضها، كما يمكن قياسها بالحواس أو بالمقاييس المادية، وهذا دعا الغربيين إلى تعميم التجريب على كل مجالات المعرفة، فاعتقد الغربيون أن ما كان ممكناً في العلوم الطبيعية يمكن أن يطبق في العلوم الاجتماعية والتربوية، فأخضع الإنسان للتجريب بهدف فهم السلوك البشري وبالتالي يمكن توجيه حركته، ومن ثم إخضاع المجتمع للسيطرة والتوجيه، والحقيقة “أن مادة السلوك الإنساني على عكس مادة العلم الطبيعي ليست ميتة، بل حية، إنها ليست عديمة التأثر بمواقف الملاحظ وأهوائه، إنها لا تكشف عن نفسها على ما هي عليه في الواقع لكل باحث أو لكل الباحثين، فمواقف الناس ومشاعرهم وأحكامهم وآمالهم، تميل
1 فيلب. هـ. فينكس، فلسفة التربية، ص (698) .
إلى أن لا تكشف عن نفسها لمن يلاحظها دون تعاطف معها”1.
فالموظف يعمل، وقد يجتهد ويتفانى في مهنته، ولكن ما هو سرّ اجتهاده؟ للترقية، لزيادة الراتب، الإخلاص لله تعالى فيما أوكل إليه..؟ أسئلة كثيرة لا يستطيع العلم التجريبي أن يكتشفها ويجيب عنها، بل ربما يُظهر الموظف تفسيراً لجهده معلناً بأنه للإخلاص فقط، ولكن يخفي أمراً آخر، وهو الحصول على مركز معين مثلاً. فكيف يكشف لنا العلم التجريبي هذه الزوايا في السلوك البشري؟.
ولكن يمكن للعلم التجريبي أن ينجح في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية إذا كان في ضوء المنهج الإسلامي، فالموظف الذي ذُكر آنفاً حسب البحث التجريبي العلمي الغربي لا يستطيع أن يجيب عن التساؤل السابق، ولكن لو سار في ظل المنهج الإسلامي لأجاب إجابة عالية في درجة الصحة؛ وذلك بأن يُنظر إلى السلوك العام لهذا الموظف من حيث استقامته ومنهج تعامله مع الآخرين، ودرجة تدينه وورعه عبر سجله الوظيفي الملاحظ غير المكتوب. فهذا يعطينا مؤشراً نسترشد به ولا نحكم به قطعاً على هذا الموظف.
لم يدرك المشتغلون بالعلوم الإنسانية من الغربيين أن تركيبة الإنسان لا يمكن ملاحظة كل جزئياتها؛ لأن ليس كل عناصر التركيبة البشرية مادية خالصة يمكن قياسها.
فهناك نمط من المعنويات والمشاعر والروحانيات التي لا يمكن دراستها دراسة تجريبية معملية، كما هو في المواد الطبيعية أو العلوم الطبيعية المادية.
كما أن هذه الجوانب غير المادية في الإنسان تتغير في الفرد الواحد، وتختلف من مجتمع لآخر أيضاً، بل الدين والعادات والهوى له أثر كبير في
1 إسماعيل راجي الفاروقي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (27) .
تكوينها وتغيرها، وهذا يُكَوِّن عجزاً معملياً للقياس الكمي التجريبي، وتبعاً لذلك قدم الغرب نظريات يعتريها الخطأ، فباتت غير عملية في فهم السلوك البشري، ولم تثبت جدواها.
فالمنافقون عاشوا مع المسلمين في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعرفهم الصحابة من خلال سلوكياتهم إلا مَنْ بينهم المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فالإنسان قد يتقمص مشاعر ومسالك سلوكية ويبطن غير ذلك فكيف تقاس هذه المشاعر وتخضع للتجريب كما هو حال المنافقين؟.
إن المشاعر الإنسانية لمجموعة من البشر قد تكون متقاربة لدرجة الاتحاد، فتكون متماثلة في درجة الصدق أو الإيثار كما هو حال الأنصار الذين وصف الله تعالى لنا مشاعرهم وأفعالهم - قال تعالى:
ومن مشاعر الكفار اختلاف قلوبهم مع أن ظاهرهم الاجتماع والاتحاد، قال تعالى:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 2. فحسب المقاييس البشرية الظاهرية أنهم كتلة واحدة، والحقيقة خلاف ذلك تماماً.
فكيف يمكن قياس مثل هذه المشاعر بالمقاييس التجريبية؟ وقد تبيّن أن مظاهر الكفار خلاف مشاعرهم، وبالتالي يمكن القول لولا أن الله تعالى علمنا هذه الحقيقة كيف نتوصل إليها؟.
1 سورة الحشر: آية رقم (9) .
2 سورة الحشر: آية رقم (14) .
ويمكن القول: إن التربية في البيئة الواحدة تُكَوِّن عناصر ومشاعر متشابهة ومتناسقة لدرجة الاتحاد، وهذا ما حصل في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فتكونت منهم مشاعر متشابهة نتيجة وحدة العقيدة وسلامتها، ومتانة التربية، ولكن تظل الفروق الفردية موجودة بما لا يحدث تصدعاً في البيئة الاجتماعية، فتجد الرجل يتصدق بماله وآخر بأكثر ماله، وآخر بنصفه وأقله.
3-
الأساس التاريخي للعلوم التربوية والاجتماعية:
من خلال الاستقراء يتضح أن الدراسات الغربية في مجال التربية نشأت منذ العصر اليوناني القديم على يد سقراط، وأرسطو، وأفلاطون، واتصفت بصفتين:
أ - قلتها ونضوب معلوماتها.
ب - عدم مصداقيتها وجدليتها.
أي أنها تعالج القضايا التربوية بأسلوب فلسفي جدلي غير قطعي الدلالة، مع افتقاره إلى صحة المنهجية وسلامتها، وإلى الأصول المرجعية الصحيحة.
ولم يضف الخلف الغربيون إلى أسلافهم اليونانيين جديداً، بحيث تنقل تلك الاتجاهات الفلسفية إلى علوم قطعية، ذات قوانين وضوابط، وبالتالي فإن هذا الميدان لم يزل حتى اليوم يكتنف أكثره الفقر العلمي، وضعف المصداقية لأبحاثه ودراساته الإنسانية.
“وأما فروع المعرفة التي يسميها الغرب العلوم الاجتماعية لا يكاد عمرها يتجاوز القرن الواحد، وفي كثير من الجامعات تضم هذه العلوم خمسة فروع هي: علم الاجتماع، وعلم الإنسان، وعلوم السياسة والاقتصاد، والتاريخ، وعلم النفس”1.
1 إسماعيل راجي الفاروقي، إضفاء الصبغة الإسلامية على العلوم الاجتماعية، ص (23) .