المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ال‌ ‌مقدمة إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ - السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة

[بريك العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: السرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة

- ‌الفصل الأول: السرايا الا عتراضية

- ‌مقدمه

- ‌أول السرايا

- ‌سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر

- ‌سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ

- ‌سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة

- ‌خبر اعتراض أبي بصير وأصحابة لقافلة أبي العاص

- ‌سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر

- ‌الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة سرايا المغاوير

- ‌مقدمه

- ‌بعث سالم بن عمير إلى عفك

- ‌خبر مقتل المرأة التي كانت تسب النبي صلى لله عليه وسلم

- ‌البعث إلى كعب بن الأشرف

- ‌بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي

- ‌بعث عمرو بن أمية إلى أبي سفيان بن حرب

- ‌البعث إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق

- ‌البعث إلى اليسير بن رزام

- ‌سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة

- ‌الباب الثاني: السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة

- ‌الفصل الأول: السرايا ذات المهمات الخاصة

- ‌السرايا التعقبية

- ‌سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار

- ‌سرية كرز بن جابر لمطاردة المفسدين من الاعراب

- ‌سرية حمزة بن عمرو الأسلمي لمطاردة هبار بن الأسود

- ‌سربة أبي عامر الأشعري إلى أوطاس

- ‌البعوث التعليمية والدعوية

- ‌مقدمة

- ‌ بعث الرجيع

- ‌بعث بئر معونة

- ‌بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة

- ‌سرايا ذات مهمات خاصة

- ‌مقدمه

- ‌سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح

- ‌سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم

- ‌الفصل الثاني: سرايا تحطيم الأوثان

- ‌مقدمه

- ‌بعث خالد بن الوليد إلى العزى

- ‌سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع

- ‌بعث خالد بن الوليد،وأبي سفيان بن حرب إلى اللات

- ‌الخاتمة

الفصل: ال‌ ‌مقدمة إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ

ال‌

‌مقدمة

إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال تعالى {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.

قال ابن خلدون: "إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال2، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعَمَروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع

1سورة هود: 120

2 االأقيال: جمع قيل وهو الملك أو من ملوك حمير، أو هو دون الملك الأعلى.

"اللسان": (مادة: قول) .

ص: 5

وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق"1.

إن تاريخ كل أمة هو سجل حافل بالأحداث والوقائع لهذه الأمة، تظهر فيه عوامل النجاح، وتبرز فيه أسباب الإنتصارات والهزائم، فهو مستشار الخبرات والتجارب الإيجابية والسلبية، يضيء لها طريق المستقبل، فأمة بلا تاريخ أمة بلا مستقبل.

ألا وإن أعظم وأوثق تاريخ عرفته البشرية حتى اليوم هو تاريخ هذه الأمة الإسلامية التي اصطفاها الله عز وجل وفضَّلها على الأمم قاطبة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2 لذلك فالمستقبل لهذه الأمة بحول الله وقوته.

ويمكننا أن نلخص عظمة تاريخ هذه الأمة في ثلاثة أمور:

الأمر الأول: كون كتابها ودستورها القرآن العظيم، كلام الخالق عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قد حوى قصص وتواريخ الأمم السابقة من لدن أبي البشر آدم عليه السلام حتى العهد الذي أُنزل فيه:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} 3.

ثم هو مصدر أساسي من مصادر تاريخ ذلك العهد، عهد النبوة حتى انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: أنه يحكي تاريخ فترات من الزمن هي أفضل فترات هذه الأمة: "خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم"4.

1 ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، "مقدمة تاريخ ابن خلدون"(6) .

2 سورة آل عمران: 110.

3 سورة هود: 100.

4 انظر: الألباني: "صحيح الجامع"(2/624) وقال: صحيح.

ص: 6

الأمر الثالث: اختُص هذا التاريخ بميزة فريدة لم توجد في غيره من تواريخ الأمم الأخرى، ألا وهي خاصية الإسناد المعتمد أساسًا على علم الرجال؛ لأن معظم المؤرخين المسلمين هم في الحقيقة محدِّثون مثل ابن إسحق، وخليفة بن خياط، والطبري، وغيرهم؛ لذلك اهتموا بالإسناد كثيرًا في مروياتهم.

ولكي نعرف مدى أهمية الإسناد وتفرُّد المسلمين بعلم الرجال دون غيرهم من الأمم السابقة، نستمع إلى هذين القولين من رجلين مختلفين، أحدهما عالم مسلم، والآخر مستشرق ألماني.

فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قوله: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما يشاء"1.

ويقول المستشرق الألماني سبرنجر: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"2.

"فمن أراد أن يتسلل خلال بعض الثقوب ليطعن هذا التاريخ فليطعن قبل هذا جميع أخبار الدنيا منذ نشأتها إلى يومنا هذا، وليطعن كل تراث الإنسانية بما في ذلك الكتب المقدسة السابقة على القرآن الكريم، فإن هذا التاريخ الإسلامي الذي بين أيدينا هو أوثق من كل هذا. ومع ما ذكرنا، إنما هو في جملته محكم مترابط كثير وجوه الإسناد، ولا يعيبه ضعف بعض أسانيده، وضعف الراوي لا يعني أنه كذَّاب، بل إن الراوي الذي عرف عنه الكذب قد يصدق أحيانًا. ومن القواعد المعمول بها أن الرواية الضعيفة ترتفع إلى مرتبة الحسن، وأن الحسن يرتفع إلى الصحيح إذا ساندته روايات أخرى ولو كانت ضعيفة في حالتها

1 مقدمة الإمام مسلم في صحيحه (1/40) .

2 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (61) .

ص: 7

المنفردة، وهو ما يعرف بـ (الصحيح لغيره) تمييزًا له عن (الصحيح لذاته) .

ومن أراد أن يطعن هذا التاريخ التليد، وهذا الجهد المشكور في التسجيل فليطعن قبل ذلك أولئك الذين كان عليهم أن يسجلوا كما سجل أسلافنا فلم يفعلوا، ونعني بهم الفرس والروم، فمع هذا البحر الزاخر من المرويات العربية لا نكاد نجد شيئًا يرويه الطرف الآخر، بل أبعد من ذلك كان الرواة المسلمون هم الذين حفظوا لنا أخبار الأكاسرة الفرس قبل الإسلام"1.

إننا بهذا الكلام لا ندَّعي الكمال لتاريخنا، فالكمال الإعجازي صفة لا يمكن سحبها على غير القرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه من بين الكتب المقدسة:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.

بل إن الحديث النبوي وهو يأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي لم يسلم من عبث العابثين، وكذب المفترين، ولكن الله عز وجل قد هيأ له الجهابذة من علماء الإسلام الذين تصدَّوا لهؤلاء فوضعوا القواعد والأساليب التي ساعدت على كشفهم، كان أهمها التاريخ، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:"لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ"3.

وقال حماد بن زيد رحمه الله تعالى: "لم يُستعن على الكذابين بمثل التاريخ"4.

والتاريخ باعتماده على الروايات والرواة مثله مثل الحديث لم يسلم هو الآخر من عبث المتطفلين، يقول ابن خلدون: "إن فحول المؤرخين في الإسلام

1 المصدر السابق.

2 سورة الحجر: 9.

3 انظر ابن الصلاح، المقدمة - الفصل (60) .

4 انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (7/357) .

ص: 8

قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطَّروها في صفحات الدفاتر، وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفَّقوها ووضعوها. واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدَّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترَّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل"1.

"وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا، وهذا ممكن وميسور إذا تولَاّه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع، ويجردها عما لم يقع مكتفيًا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها"2. "لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكَّم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق. وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط"3.

ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئًا

1 ابن خلدون، المقدمة (6) .

2 محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب "العواصم من القواصم" لابن العربي (ص179) حاشية (309) .

3 ابن خلدون، المقدمة (13) .

ص: 9

كبيرا على المؤرخ المعاصر المسلم؛ لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلا ميسورا، كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط، أو الطبري، بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين وطريق سبرهم للروايات وتمييزها"1.

إن عملية نقد الروايات التاريخية وفق منهج المحدثين عملية ليست سهلة "فإن النظر في الرجال، ودراسة الرواة عملية صعبة شاقة ومجهدة ذهنيًّا وبدنيًّا لما تقتضيه من وقت طويل، ومكلفة ماديًّا وماليًّا، فمراجعها من الكتب قليلة الاستعمال، كبيرة الحجم، غالية الثمن، نادرة الوجود"2.

ولكن لابد للمؤرخ المسلم من اقتحام العقبة وتحدي الصعاب إذا أراد لعمله النجاح، ونوى فيه الإخلاص لله عز وجل فإن هذا العمل من أجلّ الأعمال وأفضلها، فحينما يتم تمحيص وسبر الروايات التاريخية وتنقيتها مما علق بها من الشوائب، فإنا نكون قد قمنا بعمل عظيم خدمة لتاريخ أمتنا الإسلامية المجيد، وأنرنا بذلك المستقبل للأجيال القادمة.

"إن للمحدثين مناهج وطرقا في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، والمطلوبُ تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام؛ لأن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون مما يمكن الناقد من معرفة الرواة المتعاقبين الذين نقلوا الخبر أو الرواية خلفا عن سلف. وتُستمد المعلومات عن الرواة من كتب علم الرجال التي تختص ببيان أحوال الرواة.

فمثلا شرط الصحيح من الحديث هو أن يرويه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فشرط الرواية التاريخية الصحيحة

1 الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني، خصائصه وتنظيماته (25) .

2 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (53) .

ص: 10

أن كل رواتها المتعاقبين إلى شاهد العيان متدينون تدينًا صحيحًا، وعندهم ملكة الحفظ والتي تمنع وقوعهم في الأوهام والتخليط، وتؤدي إلى ضبطهم للرواية سواء في صدورهم أو كتبهم، يضاف إلى ذلك أن تكون الرواية متفقة مع الروايات الأخرى التي يرويها رواة يتمتعون بتوثيق أكثر، أما إذا خالفتها فهي شاذة مرجوحة، وكذلك أن لا يكون في الرواية التاريخية علة خفية قادحة بصحتها، كالتدليس الخفي، أو الإرسال الخفي، أو الاضطراب في معلومات المتن. وإذا كانت الروايات التاريخية لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية وفق الشروط المتقدمة، فإنه ينظر إلى تعدد طرقها بجمع ما يتعلق بالمسألة التاريخية الواحدة، فإنها تقوى خاصة عند استحالة اجتماع الذين رووها واتفاقهم على الكذب"1.

ثم ينظر بعد ذلك في الروايات بعد سبرها ونقدها فيتم "اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها، ثم الحسنة، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام. وعند التعارض يقدم الأقوى دائما. أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألاّ تتعلق بجانب عقدي أو شرعي. أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران كتخطيط المدن وريازة الأبنية وشق الترع، أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها"2.

"فإن هذا العلم - علم الرواية والإسناد - قد وضع أساسا ليقاس بمقتضاه ما روي من حديث نسبه رواته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ليجيز ما يثبت نقله عنه. فالأمر يتعلق بإرساء قواعد الدين، وتأصيل أصول الإسلام:

1 أكرم العمري، المجتمع المدني، خصائصه وتنظيماته (24-25) .

2 المصدر السابق، (25-26)(بتصرف) .

ص: 11

عباداته ومعاملاته، وشريعته ومعتقداته. إن هذا وأمثاله من النهج المتشدد إن كان له ما يبرره عند إرساء قواعد الدين فلعله أن يكون تعنتا أن نطبقه بحذافيره على المرويات التاريخية"1.

لذلك فإن "اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيه تعسف؛ لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات ضخمة في تاريخنا. وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيرا ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات، لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثيق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين. إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال والأمم وتقويم دورهم التاريخي"2.

كما "ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية، فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين مثل محمد بن إسحاق، وخليفة بن خياط، والطبري، حيث يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة"3. تلك الأخبار هي في الغالب روايات موقوفة على بعض التابعين مثل عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان، وبعض صغار التابعين مثل الزهري، وعاصم بن عمرو، ومالك بن دينار وغيرهم، هذه الروايات من وجهة النظر الحديثية ضعيفة لا يحتج بها، ولكن من الجدير ذكره أن هؤلاء التابعين كانوا من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية، وتدوينها التدوين الأول، وكان تدوينهم لها إما عن طريق كتب أو وثائق وصلت إليهم عن طريق الصحابة أو تابعين عاصروا الصحابة وأخذوا ذلك عنهم، أو عن طريق روايات شيوخهم

1 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (57) .

2 الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني (30) .

3 المصدر السابق (25) .

ص: 12

من الصحابة.

ونظرًا لأن الاتجاه السائد في ذلك الوقت والاهتمام كان منصبّا على الأحاديث النبوية، لذلك تساهلوا المرويات التاريخية، ولم يولوها جلّ اهتمامهم وعنايتهم كما فعلوا اتجاه الأحاديث النبوية، فكانوا يرسلون غالبية الروايات التاريخية عند روايتها، وربما كان لتأليفهم كتبا في السيرة النبوية فيما بعد دورًا في ذلك حيث كانوا يملون على تلاميذهم ويحدثونهم منها دون ذكر السند.

لذلك أعتقد أنه يمكن التساهل في الروايات التي ترد عن طريقهم ولا سيما وأنهم موثّقون عند أهل الحديث.

"إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية، وقد تبين مدى تغير الصورة التاريخية لفترة من تاريخنا عندما يتناولها بالبحث كتاب مسلمون منصفون، كما حدث في إعادة تقويم الدولة العثمانية وفتح ملفها من جديد. ويبدو لي أن التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخ الأموي والعباسي وما بعدهما من حلقات حتى تاريخنا المعاصر سيكون كبيرا جدّا، وسيكشف عن مدى الزيف والتحريف الذي أصاب تاريخنا.

إنه لا بدَّ من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله وبرسوله وتحس بدور الإسلام وأثره في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا"1.

"والصحوة الإسلامية عليها واجب ضخم تجاه المناهج التعليمية، ومناهج التاريخ بصفة خاصة تعيد صياغتها صياغة إسلامية، باعتبارها هذا جزءا لا ينفصل عن مهمة التربية اللازمة لإعداد الجيل المسلم. والمؤرخون المسلمون مدعوون للقيام بنصيبهم من هذا الجهد الشاق وقد لا يعترف بجهدهم أحد في الوقت

1 الدكتور العمري، المجتمع المدني (30) .

ص: 13

الحاضر بل قد يرميهم المثقفون بالأحجار، ولكنهم بجهدهم يبنون الطريق للمستقبل، والمستقبل للإسلام"1.

{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهيداً} 3.

إن الكتابة في مجال التاريخ أمر مشوق ومحبب للنفس خاصة تاريخ الإسلام الذي يحكي أمجاد المسلمين الأوائل، وما حققوه من انتصارات أبهرت العالم قديما وحديثا.. ألا وإن قمة ذلك التاريخ وأعظم تلك الانتصارات هو ما كان في مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التي كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتواصون بتعلُّمها وتدارسها ودراستها. فهذا الزهري يقول:"في علم المغازي علم الآخرة والدنيا"4.

وقد بلغ من حرصهم على تعليم أولادهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه أنهم جعلوها قرينة القرآن الكريم من حيث أولوية التعليم. يقول زين العابدين علي بن الحسين بن علي: "كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نعلم السورة من القرآن"5، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال:"كان أبي يعلمنا المغازي، ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها"6.

إن علم "التاريخ العسكري من أجدر فروع التاريخ بالدراسة والتعمق،

1 محمد قطب، حول التفسير الإسلامي للتاريخ (276-277) .

2 سورة الروم: (6) .

3 سورة الفتح: (28) .

4 انظر الخطيب، أحمد بن علي البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195) .

5 المصدر السابق.

6 انظر الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195) .

ص: 14

والتحليل والعبرة، فكما أن جميع العلوم تسخر الآن لتكون معطياتها وسائل قتال بيد الجيوش، فالتاريخ العسكري أحد أبرز العلوم التي تعلم كيفية استخدام تلك الوسائل المادية والمعنوية.

يقول بونابرت: من الممكن تعلّم التكتيك والتطورات وعمل المهندسين والمدفعية من الأنظمة والمذكرات، كما نتعلم الهندسة تقريبا، إلا أن معرفة الأجزاء العليا من الحرب لا تكتسب إلاّ بالتجربة، وبدراسة تاريخ الحروب ومعارك كبار القادة"1.

لقد نشأ معي حب التاريخ عامة، والسيرة النبوية خاصة منذ الصغر، فلما طلب مني القسم اختيار موضوع بحث الماجستير، قررت أن أختار موضوعا في السيرة النبوية. ولكن بسبب كثرة من كتب في السيرة قديما وحديثا حتى ملئت في ذلك المجلدات المختلفة الأحجام، لذلك وجدت صعوبة بالغة في اختيار الموضوع المناسب، ومكثت أشهرا وأنا أفكّر وأقلّب الصفحات دون جدوى..

وبعد الاستعانة بالله عز وجل ثم بنصيحة شيخي الفاضل الأستاذ الدكتور/أكرم ضياء العمري حفظه الله الذي وجهني للكتابة النقدية لمرويات السيرة النبوية. وهنا تركزت اتجاهاتي نحو منهج معين بعد شتات، وقصرت المسافة نحو الموضوع المختار بعد طول عناء. ولكن بقيت مشكلة أخيرة وهي: أن زملاءنا الأفاضل في قسم السنة لم يتركوا لنا مجالا واسعا في هذا الاتجاه، حيث إنهم بمجهوداتهم الخيِّرة وبتوجيهات كريمة من أستاذنا الكريم فضيلة الدكتور أكرم العمري، قد غطّوا معظم مرويات السيرة النبوية وخاصّة الغزوات.. وبقيت في حيرة..

1 انظر أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن (6) .

ص: 15

ما هو الموضوع المناسب ولم يطرقه الزملاء، وأخذت أبحث في فهارس كتب السير والمغازي القديمة والحديثة، لعلّي أهتدي إلى الموضوع المناسب.

وهكذا بدأت أعرض على فضيلة رئيس القسم بعض المواضيع حتى وقع اختياري على موضوع السرايا والبعوث النبوية، حيث وجدت من خلال قراءتي واطلاعي على مَن كتب فيها قديما وحديثا أنه لم يفرد لها كتاب مستقل إلاّ ما كان من المدائني الذي ألَّف كتابا فيها أسماه "كتاب سرايا النبي صلى الله عليه وسلم "، وكتابا آخر باسم "كتاب السرايا" ذكرهما ابن النديم1. ومعلوم أن معظم كتب المدائني فقدت.

وجمع أبو تراب الظاهري من الباحثين المعاصرين المرويات الخاصة بالسرايا والبعوث في كتاب أسماه "سرايا النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكرها مؤلفو المغازي ضمنا مع مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: الواقدي، وأحمد بن الحارث الخزَّاز، صاحب كتاب "مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وأزواجه"، ذكر ذلك ابن النديم2.

ومن مؤلفي المغازي المتأخرين الشيخ أحمد بن عبد اللطيف نور صاحب كتاب "غزوات الرسول وسرياته"، وعبد المنعم الهاشمي صاحب كتاب "سرايا الرسول".

وأفرد لها ابن سعد مجلدا خاصًّا من كتابه "الطبقات" بعنوان: ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه.

وكذلك فعل كلٌّ من البيهقي الذي أفرد لها مجلدين من "الدلائل" بعنوان: جماع أبواب مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسراياه.

والشامي مجلدّا أسماه "جماع أبواب سراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم ".

والحلبي الذي أفرد لها بابا من كتاب "السيرة" عنون له: باب سراياه صلى الله عليه وسلم

1 ابن النديم، محمد بن أبي يعقوب الورّاق، الفهرست (3/114) .

2 المصدر السابق (3/117) .

ص: 16

وبعوثه.

وأفرد لها ابن القيم فصلا في كتابه "زاد المعاد" باسم: سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار.

وساقها الذهبي مع المغازي في المجلد الخاص بالمغازي من كتابه الموسوعي "تاريخ الإسلام".

أما ابن هشام فلم يفرد لها أجزاء خاصة من كتاب "السيرة" وإنما ذكرها ضمنا في الجزء الثاني حتى الجزء الرابع، وكذلك فعل بقية من كتب في السيرة النبوية.

أما من ناحية نقد المرويات التي جاءت عن السرايا والبعوث وفق منهج المحدثين فأعتقد أنه لم يتطرق أحد لهذه الناحية ما عدا ما ورد من الروايات عنها في كتب الصحيحين، وما ورد في كتاب الحافظ نور الدين الهيثمي "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، وما ورد في كتب السنن والمسانيد التي حظيت بتخريج أحاديثها من بعض المحققين والعلماء، مثل سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه التي خرّج أحاديثها العلامة الألباني، ومسند الإمام أحمد الذي خرّج أحاديثه كل من البنا، وأحمد الشاكر، وغيرها من كتب الحديث.

ولكن الروايات التي وردت في هذه المصادر عن السرايا والبعوث قليلة جدّا لا تكاد تغطي إلاّ جزءا يسيرا منها، أما الجزء الأكبر فكان في بطون كتب السير والمغازي بلا نقد ولا تخريج غير قليل من المحاولات التي قام بها بعض كتّاب المغازي المتأخرين أمثال: ابن كثير، والذهبي، وابن حجر في تعليقاته على بعض الروايات التاريخية في "الفتح" و"الإصابة" وأيضا كان أكثر ما قام به هؤلاء هو عملية التخريج، أما النقد فكان قليلا،لأن معظم الروايات التي جاءت في كتب السير والمغازي كانت بلا سند، وذلك ما مثَّل صعوبة

ص: 17

بالغة بالنسبة لي عند محاولة نقد هذه الروايات.

لقد كان عملي في نقد هذه الروايات يمثل محاولة طموحة لما هو أفضل في المستقبل إن شاء الله تعالى ولا أستطيع أن أعترف برضائي التام عنها، ولكنها تجربة مفيدة لي على طريق هذا العلم النافع العظيم الذي أفتخر أن أكون أحد طالبيه المتواضعين.

إن كل عمل مخلص لا يخلو من مشاقَّ وصعوبات، تصبح فيما بعد ذكريات جميلة بعد أن تكسب الإنسان خبرة جيدة تفيده في المستقبل. ولقد واجهتني بحمد الله بعض الصعاب والمشاق خلال عملي في هذا البحث، كان أولها عملية اختيار الموضوع، كما أوضحت سابقا، ويا حبذا لو يتم اختيار المواضيع لطلبة الماجستير خاصة بمشاركة الأساتذة في القسم مراعين في توجيهاتهم للطلبة اتجاهاتهم وميولهم التي يمكن أن تتضح خلال السنة التحضيرية، ومن خلال البحوث التي يكلفون بها، وذلك للوصول إلى الموضوعات المهمّة التي لا زالت بحاجة إلى إعادة كتابة أو مزيد بحث.

ومن الصعوبات التي واجهتني ندرة المصادر والمراجع التاريخية التي تسلك عملية النقد وفق مناهج المحدثين، كما أن خلو بعض الروايات التي وردت في كتب المغازي والسير من الأسانيد، مثّل صعوبة بالغة بالنسبة لعملية النقد الإسنادي، لذلك لجأت إلى عملية نقد متون تلك الروايات (النقد الباطني) على ضوء منهج النقد التاريخي قدر الاستطاعة، وإن كانت بضاعتي في هذا المجال قليلة جدّا، نظرا لعدم توفر الخبرة اللازمة لي في مجال البحث والتحليل التي تحتاج إلى دراسة متخصصة متأنية، ولمدة كافية من الزمن، وهو الأمر الذي لم يتح لي خلال دراستي الجامعية ولا خلال السنة التحضيرية.

لذلك أرجو من الله تعالى، ثم من المسئولين في القسم دراسة هذا الأمر

ص: 18

وتخصيص قسم خاص، أو إضافة مواد تختص بعملية النقد الباطني (النقد التاريخي) والنقد الخارجي (نقد الأسانيد وفق منهج المحدثين) ؛ لأننا بحاجة ماسّة وشديدة للمختصين في هذا المجال الهام والنافع إن شاء الله تعالى لكي نركّز جهودنا في عملية تحرير تاريخنا الإسلامي مما شابه واعتراه من الشوائب والتّرهات التي استغلها أعداؤنا الحاقدون، ولعبوا بها كأورق رابحة يلوحون بها في وجوهنا كلما شاءوا.

ومن المصاعب التي واجهتها عدم وجود تراجم لبعض الرواة (جهالة عين) ، أو خلو تراجمهم من الجرح والتعديل الموضح لحال الرواة (جهالة حال) ، "وربما كان ذلك راجعا إلى أن رواياتهم قد اقتصرت على الأخبار دون الحديث، فكانوا يقولون عن أحدهم "إخباري"، ولعلّ في التعبير حطّ من شأنه عن مرتبة المحدّث، وقد نشأ علم الرجال أصلا لخدمة علم الحديث"1.

لذلك لم يهتم بهم مصنفو كتب الرجال فلم يوردوا تراجمهم، أو أوردوها موجزة خالية من الجرح والتعديل، فأصبح الجهل فيهم وفي أحوالهم كثير، يقول السبكي:"والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل"2.

إن وجود الكثير من التناقضات والاضطرابات حول الواقعة الواحدة نتيجة تعدّد النصوص والروايات حولها جعلني أقف محتارا بينها، أيها أرجح؟ أو كيف أجمع بينها؟ وهل يمكن الجمع أم لا؟ وقد كنت أتوقف عند بعض النصوص حوالي الشهر أو الشهرين متأنيًّا لعلِّي أستنبط منه تفسيرا واقعيّا مناسبا أو حكما ما، وكنت أستعين في كثير من الأحيان بآراء النقاد والبارزين في هذا المجال ممَّن سبقني من جهابذة النقاد المسلمين أمثال: ابن القيّم، وابن حجر، والزرقاني، والشامي، وابن كثير، وغيرهم ممَّا أكسبني بعض الخبرة البسيطة في مجال النقد والتحليل.

1 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (58) .

2 السبكي، عبد الوهاب بن علي، قاعدة الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين (59) .

ص: 19

كان مسمى هذا البحث (السرايا والبعوث النبوية - دراسة نقدية تحليلية) ، ولكن بعد أن بدأت العمل بجمع المادة العلمية حول السرايا والبعوث كاملة، فتكوَّنت لديَّ مادة علمية ضخمة عن السرايا والبعوث، بحيث ملأت حوالي تسعة ملفات من الأوراق، وهذه الروايات الضخمة لا يمكن استيعاب نقدها وتحليلها خلال مدة هذا البحث، ويكفي أن أشير إلى أن بعض السرايا مثل سرية (عبد الله بن جحش إلى نخلة) ، أو (البعث إلى كعب بن الأشرف) ، أو (بعث الرجيع) وغيرها من السرايا ذات الروايات المتعددة والكثيرة التي يمكن أن تكون كل واحدة منها بحثا مطولا.

لذلك رأيت بعد مشورة الأستاذ المشرف أن يتم اختصار البحث جغرافيّا بحيث تتم دراسة مرويات السرايا والبعوث حول المدينة ومكة، وهي أهم وأكبر مناطق مسرح عمليات السرايا والبعوث النبوية، حيث يصبح مسمى البحث بعد التعديل (السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة - دراسة نقدية تحليلية) .

وقد بدأت عملي بوضع خطة البحث حيث رتبتها وفق تقسيم موضوعي، صنّفت فيه السرايا والبعوث إلى سرايا اعتراضية، وسرايا المغاوير، وسرايا تحطيم الأوثان، وسرايا تعقبية، وتأديبية، وتحويلية، وبعوث تعليمية، وأخرى دعوية.

هذا وقد اشتملت خطة البحث على: مقدمة، وتمهيد، وبابين كبيرين، يحتوي كل باب على فصلين، يندرج تحت كل فصل عدة عناوين رئيسية، وخاتمة.

أما المقدمة: فقد اشتملت على سبب اختياري لموضوع رسالتي في السيرة النبوية، وفي موضوع السرايا والبعوث النبوية بالذات، ثم المصاعب والمشاق التي تعرضت لها خلال عملي في البحث. كما اشتملت المقدمة على خطة البحث، ومنهجي في العمل، كما حلَّلت بعض المصادر والمراجع التي استقيت منها في هذا البحث. ثمّ شكر وتقدير.

ص: 20

وكان التمهيد: عبارة عن عرض موجز للسرايا والبعوث النبوية، وخلافات أهل المغازي حولها.

وخصصت الباب الأول: للسرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة، ويحتوي على فصلين:

الفصل الأول: السرايا الاعتراضية - ذكرت فيه السرايا الأولى التي انطلقت لتعلن الحرب على قريش، والتي كانت عبارة عن دوريات قتالية لاعتراض القوافل التجارية القرشية.

وفي الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة أو سرايا المغاوير تحدثت فيه عن بعض فرق المغاوير - التي تكونت من بعض الصحابة المتطوعين لتنفيذ بعض المهمات الصعبة التي كلّفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثّلت في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية.

ويقع الباب الثاني: (السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة) في فصلين:

الفصل الأول: جعلته للسرايا ذات المهمات الخاصة، ويشتمل على بعوث مختلفة، منها سرايا تعقّبية، وسرايا تعليمية، وسرية تأديبية، وأخرى تحويلية.

وكان بودي أن أخصص لكل من هذه السرايا فصلا مستقلاّ، ولكن بما أن السريتين الأخيرتين مختلفتان ولا تحتمل كل منهما إفرادها بفصل مستقل، لذلك دمجت الجميع في فصل واحد، ولكنني أفردت كلاًّ منها بمقدمة خاصة بها.

وخصصت الفصل الأخير: (لسرايا تحطيم الأوثان) : تلك السرايا التي انطلقت بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم لتحطّم رموز الوثنية في الجزيرة العربية، فتحدَّثت عن بعثي خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى كل من اللات والعزّى. وبعث

ص: 21

سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة الثالثة الأخرى، ثم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل.

وهذه البعوث التدميرية للأصنام التي تقع ضمن نطاق البحث الجغرافي، وإلاّ هناك بعوث وسرايا أخرى أرسلت لتدمير كل رموز الشرك في أرض الجزيرة العربية.

وقد ضمنت الخاتمة: بأهم النتائج والدراسات التي توصلت إليها في هذا البحث.

هذا هو عرض موجز لكل محتويات هذا البحث، وربما يكون قد فاتني بعض السرايا والبعوث النبوية الواقعة ضمن نطاقه الجغرافي، ولكنني اجتهدت بقدر الاستطاعة في حصرها، ولا يخلو الإنسان من العجز والتقصير؛ فإن الكمال لله وحده، ولا يلام المرء مع اجتهاده.

ص: 22

منهج البحث:

إن المنهج الذي اتبعته في عملية النقد يستند أساسا على محورين أساسيين:

المحور الأول: هو محاولة نقد الأسانيد على ضوء منهج المحدثين، بينما كان

المحور الثاني: هو التحليل منصبّا على المتون حيث تمت مناقشتها ما أمكن وفق المنهج التاريخي.

وفي البداية قمت بإعداد جداول للروايات في المصادر المختلفة لأجل تنسيق وتنظيم عملية النقد والتحليل للروايات المتضاربة، فعملت جدولا للروايات المتشابهة، وآخر للروايات المختلفة، وجدولا للروايات التي فيها معلومات إضافية.

بعد ذلك تم مناقشة وتحليل ومقارنة لهذه الروايات. فالمتشابهة في المضمون والمختلفة الطرق، اعتبرت ذلك دليلا على توثيقها، أما المختلفة فحاولت الجمع بينها أو ترجيح أحدها بعد تحليلها، أما الزوائد والمعلومات الإضافية في بعض الروايات، هذه الزوائد أثبتها وأوضح صاحبها، ومدى قوة زيادته من حيث قوة الراوي لها من عدمه.

ثم ما كان من الروايات في الصحيحين فأثبتها دون نقد؛ وذلك لاتفاق العلماء على صحتها، فقط أشير إلى تخريجها من مظانها، كذلك فعلت بالنسبة للروايات التي حكم عليها النقاد من المحدثين والمؤرخين المشهورين، كابن حجر وابن كثير وغيرهما بالصحة والتحسين أو القبول، غير أنني أنقل أقوالهم حولها ما عدا ما حكم عليه الهيثمي، فإنني أتعقبه خاصة في الروايات المتعلقة بأمور شرعية أو عقدية، نظرا لتساهله في التوثيق، وما عدا ذلك فإنني

ص: 23

ربما أنقل قوله دونما تعليق.

أما الروايات التي خلت من حكم النقاد سواء القدامى منهم أو المعاصرين، فقد درست أسانيدها وسبرتها وفق منهج المحدثين حيث عملت لها شجيرات للرواة لحصر نقاط الضعف أو القوة في الأسانيد أو لمعرفة اختلاف الطرق، ثم ترجمت للرواة من كتب الرجال معتمدا على كتاب "التقريب" لابن حجر، ومن لم أجده في كتاب "التقريب" نظرت إليه في الكتب الأخرى كـ "ميزان الاعتدال" للذهبي، أو "الكامل" لابن عدي، وغيرها من كتب الرجال.

أما بالنسبة لعملية النقد الباطنية (تحليل المتون) فتم بها نقد الروايات الخالية من الإسناد أو التي كان في سندها بعض الضعف، وذلك بمقارنتها مع بعضها، ومناقشة ما جاء فيها من معلومات وفق المنهج التاريخي.

هذا ومما يجدر ذكره أني قوَّيت بعض الروايات الضعيفة حديثيّا لمساندة علم الآثار والحفريات لها، كما ضعّفت بعض الروايات لمخالفتها لأصل من أصول الشريعة. وقد نبهت على بعض الأوهام التي كانت في بعض الروايات من غير تنقيص من قدر العلماء والباحثين الذين اعتمدوها مع الإشارة إلى قلة بضاعتي وضعفي في هذا المجال، مع الدعوة الصادقة لإخواني الباحثين والقرّاء الكرام إلى تنبيهي على الأوهام والأخطاء التي ربما وقعت فيها، فالمؤمن مرآة أخيه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وفي عملية التخريج اتبعت منهجا محددا وهو أنني أقوم بنقد وتخريج روايات الخبر كلاّ على حدة، ثم في نهاية الخبر أذكر تخريجه كاملا وحكم النقاد عليه، ثم أتبع ذلك بحكمي عليه، أما إذا كان الخبر صحيحا مخرجا في الصحيحين أو أحدهما، فإنني أذكر ذلك في بداية كلامي على تخريجه، ثم أخرجه بعد ذلك في بعض الكتب الأخرى وخاصة كتب المغازي. وقد يكون

ص: 24

الخبر الواحد مجزءا ورواية كل جزء تختلف عن الأخرى من حيث القوة والضعف، لذلك فإنني أخرج وأنقد كل جزء منها على حدة، ثم أذكر بعض الشواهد التي قد تكون للخبر كاملا.

بعد ذلك بدأت في عملية الكتابة، وهي لا تختلف صعوبة عن العملية النقدية من حيث إنها كانت على ثلاث مراحل:

ففي المرحلة الأولى: كتبت فيها الروايات بسندها مع ترجمة للرواة في الحاشية.

وفي المرحلة الثانية: حذفت تراجم الرواة من الحاشية بعد أن ازدحم البحث بكثرتها، وأبقيت على أسانيد بعض الروايات مع ذكر آراء النقاد فيها، وكنت قد قسمت البحث أثناء الكتابة الابتدائية على مباحث ومطالب تفصّل أحداث كل سرية على حدة من تاريخ السريَّة، وقوتها، ثم سير الأحداث، وأخيرا النتائج.

أما في المرحلة الثالثة: فقد اعتمدت مبحث سير الأحداث كأساس للكتابة النهائية، لكوني اعتمدت فيه كتابة الأحداث بأسلوبي الخاص بعد أن طعّمت ذلك ببعض النصوص المقتبسة، كما دمجت فيه بقية المباحث والمطالب وحذفت أسانيد الروايات من المتن، وتراجم الرواة من الحاشية، لكنّي أثبتّ الحكم عليها بعد دراستها في الحاشية، وكذلك نقلت الاختلافات وآراء النقاد في كل مسألة في الحاشية مما كان السبب المباشر لكثرتها.

وأتبعت بعض السرايا ببعض الأحكام الفقهية وغيرها المستفادة من الأحداث من بعض الكتب والمصادر التي اعتنت بذلك، مثل "زاد المعاد" لابن القيّم، و"فتح الباري" لابن حجر، وبعض شروح السيرة مثل:"الروض الأنف" للسهيلي، و"سبل الهدى" للشامي، و"شرح المواهب" للزرقاني، وغيرها. وربما ذكرت بعض الأحكام اجتهادا مني كما في بعث معونة، وبعث

ص: 25

عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وغيرها.

وقد خرَّجت الأحاديث الواردة أثناء النصِّ مع الحكم عليها إن لم تكن في الصحيحين أو المصادر الحديثية التي عنيت بالنقد قديما وحديثا وإلاّ عزوتها إليها.

وعرّفت ببعض الأعلام من الصحابة أصحاب السرايا تعريفا دقيقا يشمل الاسم والكنية والوفاة وغير ذلك، وذلك من كتب تراجم الصحابة كـ "الاستيعاب" لابن عبد البر، و"الإصابة" لابن حجر، ومن كتب الطبقات، كطبقات خليفة، وابن سعد.

كما ضبطت الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط في الأعلام أو الأماكن عن كتب المعاجم اللفظية مثل: "اللسان"، و"القاموس"، و"النهاية" وغيرها.

وعملت على تعريف شامل للمواضع والأماكن والبلدان التي وردت في البحث من خلال المعاجم البلدانية القديمة، مثل "معجم ما استعجم" للبكري، و"معجم البلدان" لياقوت، ثم أتبعت ذلك بتعريف حديث لهذه الأماكن من الكتب الجغرافية التاريخية الحديثة أمثال:"معجم السيرة"، و"معالم مكة" للبلادي، و"المجاز" لابن خميس، وغيرها، وذلك لأن بعض المواضع والبلدان قد تغيرت أسماؤها وصفاتها عمّا كانت عليه فترة أحداث هذا البحث، وربما كان ذلك أحد أسباب طول الحواشي، ولكني أردت ربط الماضي بالحاضر حتى تتضح الصورة كاملة أمام القارىء الكريم. كما وقفت على بعض الأماكن التي كانت مسرحا لأحداث بعض السرايا والبعوث، وقمت بتصويرها، ووصفها وصف المشاهدة.

إن كثرة وطول الحواشي في هذه الرسالة كان بسبب أني سقت فيها الروايات الموافقة والمعارضة لما أثبتّه في المتون، ثم قمت بعد ذلك بنقد هذه

ص: 26

الروايات بمقارنتها مع بعضها ومحاولة الجمع بينها إن أمكن ذلك، وفي غالب الأحيان الترجيح فيما بينها مستفيدًا ممَّا قام به النقاد من أهل المغازي المتأخرين أمثال ابن القيم، وابن حجر، والشامي، والزرقاني، ناقلا أقوالهم في أحوال كثيرة، وقد فكرت في جعل هذه الحواشي في ملحق خاص يوضع في آخر الكتاب، ولكني عدلت عن هذه الفكرة لكي أجعل القارىء في الصورة وهو يقرأ في صلب الموضوع بحيث يكون مرتبطا بما يقرؤه؛ لأننا في وقت لا يسمح للقارىء بمراجعة الملاحق والتحقيق في كل هامش على حدة في ملحقه.

وبعد: لقد حاولت بهذه الدراسة المتواضعة نقد الأسانيد وتحليل المتون مستنفذا في ذلك جهدي، ومستفرغا ما يسعه اجتهادي، محاولا تتبع خطى النقاد الذين سبقوني في هذا المجال، وصولا إلى الاختيار بقدر المستطاع من مجموع الروايات المتعددة لكل حادثة، إذ كان الاعتماد أساسا على الروايات التي خرّجت في كتب الصحاح، ونقدت في بعض كتب السنن والمسانيد أو التي حكم عليها النقاد القدامى من المحدثين والمؤرخين أمثال ابن كثير، وابن حجر، والهيثمي، وغيرهم بالصحة أوالتحسين، وبالتالي الاستفادة من مناهجهم في نقد الروايات الأخرى لم يحكموا عليها، مع أنني لم أهمل الروايات الضعيفة حديثيّا، بل استفدت منها في الموضوعات التي لا تتعلق بأمور العقيدة والشريعة، ونحتاج إليها لتكملة الإطار التاريخي للحدث مثل تواريخ السرايا والبعوث، وعدد الجند، ووصف ميادين القتال والمعارك، وعدد القتلى، وغير ذلك ممّا لم يرد ذكره في الروايات الصحيحة أو الحسنة، كما أنني أخذت بهذه الروايات الضعيفة كاملة في بعض السرايا والبعوث التي لم يرد حولها روايات صحيحة أو حسنة، ثم حاولت نقدها بمقارنتها ببعضها وفق منهج المؤرخين.

لقد اجتهدت في هذه المحاولة قدر استطاعتي أن أحرِّر بعض روايات

ص: 27

تاريخنا الإسلامي والخاصة بأهمِّ وأعظم حقبة منه وهي مرحلة السيرة النبوية العطرة، مما لصق بها من بعض الروايات الضعيفة، معتمدًا الروايات الصحيحة والحسنة قدر الإمكان، وإن كان ذلك الأمر لم يتأت لي في كل فصول البحث.

وربما يلاحظ القارىء الكريم أن هناك نقصا في بعض جوانب هذا البحث وتقصيرا في بناء المادة النقدية فيه وخاصة نقد الأسانيد، وإنما كان ذلك لأني حاولت جهدي أن يكون هناك توازن بعض الشيء بين النقد الخارجي (سبر الروايات) والنقد الباطني (نقد المتون) .

وعلى كل حال فهي محاولة مبتدئة تحتاج إلى تشجيع ومرونة عند التقويم، ونقد هادف بنّاء يوجهها نحو الأفضل مستقبلا إن شاء الله تعالى؛ لأن المنهج منهج جديد بالنسبة للروايات التاريخية، ولكن أهدافه نبيلة ويحتاج إلى صبر وتؤدة ورعاية وتوجيه وتشجيع، فالوقت ضروريٌّ وهام لنجاحه واستقراره.

كما قد يلاحظ القارىء - أيضا - تفاوتا في خواتيم السرايا والبعوث من حيث ذكر النتائج والاستنباطات الفقهية وغير ذلك، وكان مرد ذلك أن الروايات والمعلومات التاريخية تتفاوت كثرة وقلة من حيث أهمية الحدث التاريخي ونتائجه وتعلق بعض تلك النتائج ببعض المسائل والأمور الشرعية والعقدية. فمثلا نرى المعلومات التاريخية تكون غزيرة حول سرية مثل سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة نظرا لأهميتها في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني، ونظرا لما تمخَّض عنها من نتائج مهمة حيث حدث فيها أول صدام بين المسلمين والمشركين، وكسب المسلمون فيها المعركة من قتل وأسر وغنيمة، ثم حصل من قريش من بثِّ تلك الدعايات المغرضة ضد المسلمين، ودفاع الله عز وجل عن المؤمنين أصحاب السرية في الآيات التي وضحت صحة وسلامة موقفهم. كل ذلك جعل من هذه السرية محور اهتمام وعناية بالغة من قبل الرواة والإخباريين سواء أهل الحديث أو أهل التفسير أو أهل الفقه، ناهيك عن

ص: 28

أهل المغازي والسير مما كان له أكبر الأثر في كثرة الروايات وتشعبها حول هذه السرية في مختلف الفنون، فإذا نظرنا إلى كتب الفقه وجدنا فيها روايات حولها، وإذا فتشنا كتب التفسير وأسباب النزول والحديث طالعتنا الروايات عنها، فضلا عن كتب المغازي المتعددة.

بخلاف سرية أخرى مثل سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار، قصر الاهتمام بها حتى انحصر في عدد من أهل المغازي، فنجد أن ما كتب عنها من روايات وما تضمنته من معلومات تاريخية قليل جدّا بحيث لم تغط كل حلقات الخبر التاريخي، وذلك لأنه لم يحدث في السرية شيء يذكر يؤدي إلى نتائج تاريخية تهم الباحثين. وهكذا الحال بالنسبة لبقية السرايا والبعوث تختلف فيها كمية المعلومات التاريخية حسب أهميتها وأحداثها ونتائجها.

وهذا الأمر يؤدي - أيضا - إلى تفاوت في عملية النقد بين السرايا، فالسرايا التي حظيت باهتمام بالغ من أهل الحديث والتفسير إضافة إلى أهل المغازي مثل سرية عبد الله بن جحش، نجد النقاد يتسابقون في نقدها وتحليلها، بينما لا نجد لهم أثرا يذكر في سرية مثل سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار.

وأعتقد أن ذلك الأمر هو سبب تساهل النقاد من أهل الحديث في عدم نقد الكثير من الروايات والوقائع التاريخية التي ربما اعتقدوا أنها لا تمثل جانبا مهمًّا من حياة الإنسان المسلم مثلما تمثله روايات الأحاديث النبوي ومثلما تمثله وقائع بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى وما نتج عنها من أحكام فقهية وعقدية. والله تعالى أعلم.

وختاما أقول: إني وإن حاولت الكتابة وفق منهج المحدثين لا أدّعي أنني متقن لهذا المنهج عالم بكوامنه، غائص في درره، وحائز على جواهره، بل أنا

ص: 29

قليل البضاعة في هذا المجال، فرحم الله امرءا عرف قدر نفسه.

وإني وإن حاولت الكتابة بأسلوب العسكريين لا أدّعي أنني عسكري حاذق متقن (للأيدلوجيات) العسكرية والخطط الحربية (والتكتيكية) كما أنه لم يدفعني إلى الكتابة على مثل هذا النحو حب التقليد الأعمى، ولكن موضوع البحث دفعني إلى ذلك دفعا، فالفترة الزمنية التي يعالجها هي أعظم فترة في تاريخنا الإسلامي، والرجال الذين يتحدث عنهم هم خير رجال هذه الأمة على الإطلاق، والجانب الذي يخوض فيه من أعظم جوانب حياة الإنسان المسلم وهو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام.

وبما أن القتال لإعلاء كلمة الله هو قمة الأعمال العسكرية لهذه الأمة، كان لابدّ من محاولة الكتابة بأسلوب يتماشى مع ذلك؛ لأضع أمام القارىء الكريم صورة تاريخية قريبة - بقدر الاستطاعة - من الحقيقة التاريخية لذلك العصر الرائع، وتلك الأحداث الجليلة لأولئك الرجال العظام.

وهي محاولة اجتهادية عسى الله أن ينفع بها، ويكتب لها النجاح بعون الله وقدرته.

ص: 30

تحليل المصادر

إن المصادر التي رجعت إليها في هذا البحث كثيرة ومتنوعة، ولذلك رأيت أن أعطي نبذة عن أهمها وأكثرها استيعابًا لموضوع البحث، إذ لا يتسع المقام لتحليل جميع المصادر التي رجعت إليها، كما أن هذه المصادر مشهورة ومعروفة، وسبق أن تناولها النقاد والمحللون قبلي بالتحليل والتقويم. ولذلك سوف أكتفي باستعراض موجز لها موضحًا مدى الاستفادة التي أفدتها منها.

كان أول هذه المصادر وأقدمها مرويات عروة بن الزبير، وتلميذه الزهري، وهذه المرويات متناثرة بين طيات كتب المغازي وغيرها، ولكن كان أجمع هذه الكتب لها والتي استقيت معظم هذه المرويات منه كتاب "دلائل النبوة" لمؤلفه البيهقي.

وكتاب "الدلائل" وضعه مؤلفه في دلائل النبوة وبيان ما جرى عليه أحوال صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه.

وقد شرح البيهقي منهجه في تأليف كتبه، ومنها هذا الكتاب فقال: "وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصحُّ، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة ممَّا يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزًا فيما اعتمد أهل السنة من الآثار.

ومن وقف على تمييزي في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيمها وساعده التوفيق علم صدقي فيما ذكرته"1. وبالطبع فقد وقعت روايات ضعيفة السند وأخرى

1 انظر مقدمة البيهقي كتاب الدلائل (1/47) .

ص: 31

واهية في الكتاب رغم جهد البيهقي النقدي.

"ويعتمد البيهقي أساسًا على الصحيحين، وينقل منهما كثيرًا، ويشير إلى ذلك، ثم ينقل عن أبي داود ولا يشير إلى ذلك، كما ينقل عن مسند الإمام أحمد، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجه، وسنن النسائي الكبرى، وسنن الدارمي، ويأخذ من مستدرك الحاكم، وعن شيخ الحاكم ابن حبان، كما يأخذ عن مغازي ابن عقبة"1 وهنا مربط فرسنا، فهو ربما اطلع على مغازي موسى بن عقبة فنقل منها هذه المرويات. والله أعلم.

وقد حظي كتابه هذا على تقدير العلماء، واتفقت كلمتهم على أنه أشمل كتاب في موضوعه من حيث الدقة والتهذيب والترتيب، فصار مصدرًا أصيلاً، اعتمده العلماء، وصاروا يكثرون النقل منه أو العزو عنه2 "وبالإضافة إلى أن فيه نصوصًا كثيرة لم يسبق نشرها، وأنه نقل من كتب أخرى لم تصل إلينا، فهو خير كتاب صُنف في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته من خلال الأحاديث الصحيحة والأخبار الوثيقة"3.

يقول ابن كثير: ("دلائل النبوة" لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنّف في السيرة والشمائل)4.

والبيهقي: هو الإمام الحافظ العلامة الفقيه الشافعي المشهور، شيخ خراسان، القانت الورع، صاحب التصانيف، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في خسرو جرد من قرى بيهق بنيسابور، كان واحد زمانه في الحفظ والإتقان، وحسن التصنيف، كان فقيهًا محدثًا أصوليًّا من كبار أصحاب الحاكم، ومنه تخرج وجمع أشياء كثيرة

1 انظر مقدمة محقق الدلائل للبيهقي (1/89) .

2 مقدمة المحقق (1/89-90) .

3 المصدر السابق (1/92) .

4 المصدر السابق (1/7) .

ص: 32

نافعة لم يسبق إلى مثلها ولا يدرك فيها، كان من أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي، كان فاضلاً مرضي الطريقة، عاش البيهقي أربعًا وسبعين سنة، وتوفي في عاشر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ودفن ببيهق"1.

وقد كانت معظم مرويات عروة في هذا البحث من طريق ابن لهيعة، وهي في الغالب نسخة معروفة من مغازي عروة من طريق أبي الأسود يتيم عروة، ورواياته على اختصارها إلَاّ أنها غزيرة المعلومات ونستطيع أن نتلمس الدقة وحسن التنظيم خلالها2.

ويقدم لنا الزهري معلومات وفيرة ومنظمة ودقيقة في مروياته، ممَّا يدل على إمامته في شأن المغازي، وقد يخالف بقية أهل المغازي لكنه يجبرك بالحجة والبرهان على صواب رأيه وإن كان مخالفًا لإجماع أهل المغازي، مثل مخالفته لأهل المغازي الذين ذكروا أن أبا العاص إنما اعترضته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الزهري ذكر أن الذين اعترضوا أبا العاص إنما هو أبو جندل وأصحابه مستدلاًّ بالتاريخ الذي وقع فيه الحدث.

وكانت معظم مرويات الزهري في هذا البحث من طريق تلميذه موسى بن عقبة صاحب أوثق المغازي، ممَّا يعطينا الثقة المطلقة في مروياته3.

وقد أفدت من هذه المرويات التي تميَّزت بوجود الإسناد إلى عروة،والزهري، وفي بعض الأحيان يتعداهما الإسناد حتى شاهد العيان، فاستطعت بذلك أن أدرس تلك الأسانيد، وبالتالي أحكم عليها من حيث القوة والضعف.

1 انظر السمعاني عبد الكريم بن محمد، الأنساب (1/438-439) ، وابن خلكان أحمد بن محمد، وفيات الأعيان (1/75-76) ، وابن كثير إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية (12/100) ، والزركلي خير الدين، الأعلام (1/116) .

2 انظر مرويات عروة للأعظمي (60، 62-65) .

3 انظر مرويات موسى بن عقبة، لباقشيش (1/11-14، 23، 35) .

ص: 33

وعروة هو الابن الثاني لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته الزبير بن العوام رضي الله عنه ومع أنه أدرك بعض كبار الصحابة، وبعض أمهات المؤمنين كخالته عائشة رضي الله عنها والتي كانت أهم مصادره،إلا أنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعدُّ في الصحابة. بخلاف أخيه عبد الله الذي كان من صغار الصحابة، ومع ذلك فإنه يعتبر من كبار التابعين وفضلائهم، بل من فقهائهم المعدودين، فهو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين. كان ثقة كثير الحديث عالماً مأمونًا ثبتًا، لم يدخل في شيء من الفتن، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، وهو أوَّل من صنَّف المغازي، قال الزهري: كان عروة بحرًا لا ينزف، ولا تكدَّره الدلاء، أصابته في رجله الأكلة فأرادوا قطعها، فأمرهم أن يقطعوها وهو يصلي، فنشروها وهو قائم يصلي وهو صامت لا يتكلم. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين1.

أما الزهري: فهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، اشتهر بفصاحة اللسان والكرم والسخاء الشديد. اتصف منذ صغره بالجد والاندفاع نحو العلم والوعي العظيم. أخذ علمه من أبناء الصحابة والتابعين الأوائل، وكان أشد الناس تأثرًا به عروة بن الزبير. اشتهر الزهري بالوعي والصدق والأمانة وشدة التدين، كان شديد الحرص على تدوين كل ما كان يسمعه من شيوخه. حظي الزهري باحترام الخلفاء من بني أمية الذين رافقهم بصفة العالم الصادق فلم يرائي أو يتملق، وكان يجهر بالحق عند الحاجة بلا اعتبار للعواقب، قال عنه مالك بن أنس:"ما أدركت بالمدينة فقيهًا محدثًا مثل الزهري". وقال معمر: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قُتل الوليد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه من علم الزهري. توفي رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائة2.

1 انظر خليفة بن خياط، الطبقات (241) ،وابن كثير، البداية والنهاية (5/107-108) .

2 انظر محمد بن سعد، الطبقات الكبرى (2/388-389) ، ومحمد بن حبان البستي، مشاهير علماء الأمصار (66) ، وابن كثير، البداية (9/54-358) .

ص: 34

ومن أهم المصادر وأغناها لي في هذا البحث ولكل من يبحث في علم السيرة والمغازي، سيرة ابن إسحاق، فكل من ألَّف في المغازي بعده فهم عيال عليه، كما ذكر الشافعي1.

حيث كان الاعتماد في هذا البحث على بعض رواياته التي تفاوتت بين القوية الموصولة المسندة وبين الموقوفة على شيوخه، وبين الضعيفة المروية بلا سند، وقد حاولت قدر المستطاع أن أعتمد رواياته الموصولة والتي ربما ترد في بعض المصادر المنقطعة، وتصلها مصادر أخرى، وخاصة مرويات المحدثين عنه كأحمد بن حنبل، وأبي داود، والترمذي، والطبراني، وخليفة بن خياط، والحاكم، والبيهقي، وذلك من طريق ابن بكير عنه.

تنوعت المعلومات التي يقدمها ابن إسحاق في هذا البحث، فنجده أحيانًا يقدم لنا معلومات وافرة عن السرية التي يتحدث عنها من حيث التاريخ، والسبب، والهدف، وقوة السرية، وسير الأحداث فيها، والنتائج، وتارة تكون معلوماته أقل وفرة فلا يشير إلى التاريخ، ولا إلى قوة السرية مثلاً، وأحيانًا يشير إشارات عابرة ومقتطفة وموجزة.

وعلى كل حال فقد لاحظت على رواياته الاعتدال، فنراه يسوق لنا الرواية بتجرد دون أن يصدر عليها أحكامه أو يفرض آراءه، وقد ساعدني هذا النهج في الحد من اندفاعي الشديد نحو التعليق على كل رواية والتخفيف من ذلك قدر المستطاع.

و"يستخدم ابن إسحاق منهجًا لعرض الغزوات الفعلية، يقدم ملخصًا حاويًا للمحتويات في المقدمة ويتبعه خبرًا جماعيًّا مؤلفًا من أقوال أوثق أساتيذه، ثم يكمل هذا الخبر الرئيسي بالأخبار الفردية التي جمعها من المراجع الأخرى

1 انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (1/219) .

ص: 35

والقوائم كثيرة في المغازي أيضًا"1.

وابن إسحاق هو: أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار بن كوثان المديني، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف "إمام في المغازي، لكن مروياته لا ترقى إلى درجة الصحيح، بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث، لأنه مدلس، وتحتوي سيرته على الحسن والضعيف معا"2.

قال عنه الذهبي: صالح الحديث ما له عندي ذنب إلَاّ ما قد حشاه في السيرة من الأشياء المنكرة والمنقطعة3وقد فتَّش أحاديثه ابن عدي فلم يجد فيها ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم كما يخطىء غيره، ولم يتخلف عن الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به4.

اختلف في تاريخ وفاته إلى أقوال، ورجح الخطيب ما رواه علي بن المديني وابن خياط من أنه توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة5.

وسيرة ابن إسحاق لم تصل إلينا كاملة، إنما كان هناك قطعة من السيرة حققها محمد حميد الله، استقيت منها بعض الروايات التي كانت فيها وتتعلق ببعض فصول البحث. وقد كانت معظم روايات ابن إسحاق في هذا البحث مستقاة من سيرة ابن هشام.

إن ابن هشام قد أغنانا عن البحث والتنقيب عن السيرة الأصلية بسيرته المشهورة التي هي في الأصل تهذيب لسيرة ابن إسحاق "فقد كان ابن هشام

1 يوسف هورفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها (86) .

2 الدكتور أكرم العمري،المجتمع المدني (42) .

3 الذهبي، ميزان الاعتدال (3/469) .

4 ابن عدي أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال (6/112) .

5 انظر خليفة بن خياط، التاريخ (426) ، والخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (1/234) ، والذهبي محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النبلاء (7/33-54) .

ص: 36

في تهذيبه للسيرة محققًا للنصوص ومنتقدًا لما وقع لابن إسحاق من هفوات، ومتممًا لما فاته من الروايات ذات الصلة بموضوع السيرة، فجاءت سيرته على أكمل الوجوه وأحسنها اختصارًا واستيعابًا للأحداث الأساسية الهامة في حياته صلى الله عليه وسلم1 إن "سعة انتشار ملخص ابن هشام قللت الحاجة إلى الكتاب الأصلي منذ عهد بعيد، فاليعقوبي المتوفى حوالي (300هـ) يستخدم ملخص ابن هشام هذا2.

وابن هشام هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري النحوي، كان مشهورًا بحمل العلم، متقدمًا في علم النسب والنحو واللغة، يحدثنا عنه الذهبي وابن كثير أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة. له بعض الكتب في النسب والنحو، ولكن شهرته كانت بسبب ما قام به من عمل علمي دقيق في تهذيب وتنقيح سيرة ابن إسحاق، حتى ليكاد الناس ينسون معه مؤلفها الأول ابن إسحاق، توفي ابن هشام عام (218هـ)3.

ومن أهم ما اعتمدته من المصادر في هذا البحث: "الطبقات الكبرى" لابن سعد المعروف بكتاب الواقدي، وخاصة الجزء الخاص بالمغازي منها، "وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته، لكن التدقيق يثبن أن ابن سعد مؤلف له منهجه وأنه يكثر النقل عن الواقدي"4 لكن معلوماته أكثر تنظيمًا ودقة، وتكمل الصورة التاريخية للحدث من حيث التاريخ، والسبب، وسير الأحداث، والنتائج.

1 انظر إبراهيم بن إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (26) .

2 يوسف هورفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها (78) .

3 الذهبي، سير أعلام النبلاء (10/428-429) .

4 الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني (48) .

ص: 37

وقد سلم ابن سعد من التناقض والاضطراب الذي ربما وقع فيه شيخه الواقدي، وإن كان هو مصدر معظم مروياته كما قلنا، لكننا نجد الاعتدال سمة أحكامه على الحدث التاريخي، ونجده يسوق رواياته عن جمع شيوخه بلفظ (قالوا) كثيرًا، وأحيانًا يسميهم، كما يلخص في بعض الأحيان الروايات المتعددة للحادثة ويسوقها بأسلوبه الخاص، "إن ابن سعد ليضمن نقاء عرضه، لا يقطع وصفه الرئيس أو قصته الأساسية أبدًا بالإضافات التي جمعها بنفسه، كما يفعل الواقدي، ولكنه يضع هذه المادة المضافة في نهاية القصة الأساسية في كل حالة.

وكمل ابن سعد أخبار الواقدي منهجيًّا في إحدى الخواص، وهي إجابته في كل غزوة عن الأسئلة التالية: من الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما على المدينة في أثناء غيابه؟ ومن حمل اللواء؟ "1.

هذا وقد استفدت من هذا المنهج العلمي في هذا البحث معتمدًا على روايات ابن سعد في الجوانب التي اختص بها وأغفلها الآخرون خاصة الروايات المتعلقة بحملة الألوية في السرايا، وعدد الجند، والإضافات التي جمعها وذيلها نهاية كل سرية وبَعْثٍ ذَكَره.

وابن سعد هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري، الزهري، مولى بني هاشم المشهور بكاتب الواقدي لملازمته إياه، وثقه أهل الحديث. قال ابن خلكان: كان صدوقًا ثقة. وقال ابن حجر: أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، كان كثير العلم كثير الحديث والرواية وكثير الطلب وكثير الكتب، كتب الحديث وغيره من كتب الغريب والفقه، ولكن لم تذكر له غير ثلاث كتب هي: الطبقات الكبرى، والطبقات الصغرى وكتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم توفي ابن سعد سنة ثلاث ومائتين2.

1 انظر يوسف هورفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها (130) .

2 انظر ابن النديم محمد أبي يعقوب، الفهرست (111) ، وابن خلكان، وفيات الأعيان (4/351-352) ، وابن حجر، تهذيب التهذيب (9/182) .

ص: 38

وكان من أهم مصادر البحث الجغرافية "معجم ما استعجم من أسماء المواضع والبلدان" لأبي عبيد البكري، وهو أثر نفيس من صميم التراث الأدبي العلمي، أفدت منه في تحديد الأماكن والمواضع الواردة خلال البحث، وفي ضبطها ضبطًا لغويًّا دقيقًا؛ لأن معجم البكري ليس من المعاجم العامة للبلدان، وإنما هو معجم لغوي جغرافي خاصٌّ بتحقيق أسماء المواضع التي وردت في الشعر العربي، وفي الأحاديث، وفي كتب السير، والتواريخ القديمة، وأيام العرب، ومن أخصّ مزاياه الضبط فإنه لهذا الغرض أُلِّف كما يقول مؤلفه:"فإني لما رأيت ذلك قد استعجم على الناس، أردت أن أفصح عنه بأن أذكر كل موضع مبيَّن البناء، معجم الحروف، حتى لا يدرك فيه لبس ولا تحريف"1.

كما أن المعجم يمتاز بالإيجاز غير المُخلِّ، فهو قليل الحشو والفضول، لم يعتن مؤلفه بتفصيل ووصف دقيق للأماكن من حيث طول البلد وعرضه ودرجة حرارته، وذكر مياهه ونباته وحيوانه، وآثاره وأسواقه، كما ورد في بعض المعاجم الجغرافية البحتة مثل "معجم البلدان" لياقوت. لقد حدَّد البكري غرضه في تقدمته بأنه يقوم على الضبط وتصحيح الأسماء أولاً، لا على جمع الأخبار، لذلك قلَّ تعرضه لكثير ممَّا يتعرض له الجغرافي المتخصص.

إن تميُّزه بهذه الخاصية يرجع إلى تنوع ثقافة مؤلفه، فالبكري لغوي من الطراز الأول في الأفق الأندلسي، تُحدثنا مؤلفاته النادرة أنه امتاز على أهل عصره بثقافته اللغوية العالية، لقد تلقى العلماء المسلمون قديمًا وحديثًا معجم البكري بالقبول ووثقوا صاحبه، ورفعوه مكانًا عليًّا بين اللغويين وأصحاب المعاجم، واعتمدوا عليه في تحقيق المشكلات، خصوصًا علماء المغاربة والأندلسيين من المحدثين والإخباريين، ومن أشهرهم القاضي عياض في "مشارق الأنوار" والسهيلي في "الروض الأنف"، فقد نقلا عنه كثيرًا في

1 انظر البكري عبد الله بن عبد العزيز، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، المقدمة (1/1) .

ص: 39

كتابيهما، أما أصحاب المعاجم اللغوية فمعجم البكري كان عندهم أعظم أصولهم في تحقيق أعلام البلدان العربية وضبطها، وأكثر من انتفع به منهم الفيروز آبادي صاحب "القاموس". والزبيدي صاحب "تاج العروس"، وشيخه محمد الطيب الفاسي صاحب "الحاشية على القاموس"1.

والبكري هو أبو عبيد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد بن أيوب بن عمرو البكري من بكر بن وائل، كان من أسرة تبوأت المناصب في الدولة، فجده أيوب بن عمرو تولى خطة الرد بقرطبة زمن الدولة الأموية والقضاء ببلدة لبة، فلما تغلَّب ملوك الطوائف على الأندلس استقل البكريون بأونبة (ولبة) وشليطش وما بينهما من البلاد في كورة لبة على ساحل البحر المحيط غربي أشبيلية، ودامت إمرة البكريين في تلك الناحية نحو أربعين سنة، وكان آخر البكريين حكمًا بأونبة أبو مصعب عبد العزيز والد أبي عبيد صاحب المعجم. كان أبو عبيد من أهل اللغة والآداب الواسعة، والمعرفة بمعاني الأشعار والغريب والأنساب والأخبار. وللبكري مؤلفات كثيرة أشهرها هذا المعجم، وكتاب "اللآلي في شرح أمالي القالي" وكتاب "المسالك والممالك" وكتاب "النبات". توفي أبو عبيد البكري سنة سبع وثمانين وأربعمائة2.

كان أهم مصدرين لغويين في هذا البحث هما "لسان العرب" لابن منظور، "والقاموس المحيط" للفيروز آبادي. ونظرًا لما امتاز به الأخير من بعض المميزات التي من أهمها وأعظمها فائدة لهذا البحث هو حسن اختصاره، وتمام إيجازه مع أنه خلاصة ستين سفرًا ضخمًا، لذا أردت أن أترجم له ترجمة

1 مقدمة محقق المعجم (1/و-ص) بتصرف.

2 انظر الفتح بن خاقان، قلائد العقبان في محاسن الأعيان (218-219) ، وابن بشكوال خلف بن عبد الملك، الصلة (1/287-288) .

ص: 40

موجزة حيث أفدت من منهجه هذا في التعريف المختصر الموجز للكلمات المبهمة والغريبة التي عرضت خلال هذا البحث.

إن "القاموس المحيط" هو المعجم الذي طار صيته في كل مكان، وشاع ذكره على كل لسان حتى كادت كلمة القاموس تحل محل المعجم؛ إذ حسب كثير من الناس أنهما لفظان مترادفان، وذلك لكثرة تداوله وسعة انتشاره، فقد طبقت شهرته الآفاق، وتلقاه بالقبول العلماء والحذاق وهو جدير بذلك.

لقد تميَّز المعجم بغزارة مواده وسعة استقصائه، كما كان لطريقته الفذّة ومنهجه المحكم في ضبط الألفاظ أكبر الأثر في تميُّزه عن سائر المعاجم اللغوية، وقد اعتنى بذكر أسماء الأشجار والنبات والعقاقير الطبية، مع توضيح فائدتها، وذكر كثير من أسماء الأمراض، وأسماء السيوف، والأفراس والوحوش والأطيار، والأيام والغزوات، فكان دائرة معارف تحفل بأنواع العلوم واللطائف، وأضاف إلى خاصيته كمعجم لغوي بإيراده أسماء الأعلام والبلدان والبقاع وضبطها بالموازين الدقيقة حتى أضحى وكأنه معجم آخر للبلدان وموضحًا للمشتبه من الأعلام1.

وصاحب القاموس هو الإمام اللغوي الشهير أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الفيروز آبادي، كان شيخ عصره في الحديث والنحو، واللغة والتاريخ والفقه. ولد بكازرين بفارس سنة تسع وعشرين وسبعمائة هجرية، وعندما شبَّ تنقل من البلاد الإسلامية في ذلك الوقت عندما كانت البلاد الإسلامية بلا حدود ولا حواجز، ثم استقر به المقام نهاية المطاف في زبيد باليمن، فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول وبالغ في إكرامه، ثم ولاّه قضاء اليمن كله، وقد كان يلقى الإكرام في كل بلد يمر بها، ويوضح لنا ذلك ابن حجر فيقول: "ولم يقدر له قط أنه دخل

1 انظر مقدمة محقق القاموس (5-6) .

ص: 41

بلدًا إلَاّ وأكرمه متوليها، وبالغ في إكرامه"1، كما يذكر ابن حجر أنه كان سريع الحفظ، حاد الذكاء، بحيث كان يحفظ في اليوم مائتي سطر2.

وقد كانت له في كل فن من الفنون الإسلامية مؤلف، فبالإضافة إلى مؤلفاته في اللغة التي كان أشهرها هذا القاموس، فهناك مؤلفات في التفسير والتاريخ والتراجم والحديث والفقه.

ويسوق لنا الخزرجي خبرًا يوضح مدى ما كانت تلقاه تلك المؤلفات من التقدير والإجلال والاحترام من جانب العلماء والفقهاء والقضاة، فيذكر أن بعضًا من كتبه المؤلفة رافقه موكب مهيب إلى باب السلطان الذي أجاز بدوره مصنفه بثلاثة آلاف دينار، توفي الفيروز آبادي ليلة الثلاثاء من شوال سنة سبعة عشر وثمانمائة هجرية في زبيد3.

ومن أهم مصادر البحث الخاصة بجوانب معينة به مثل العملية النقدية، واستخلاص العبر واختلاف العلماء، وترجيح بعض الروايات مع استنباط الأحكام والمسائل الفقهية، ذلكم المؤلف القيم لابن القيِّم "زاد المعاد في هدي خير العباد" "وقد كان ابن القيم غزير العلم قوي البيان مبرزًا في فنون كثيرة، فنهج في الكتابة عن السيرة منهجًا متفردًا يحقق الهدف الأساسي من وراء دراسة السيرة وهو الهدف التربوي الذي يراد منه تحقيق الأسوة والقدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، في السلم وفي الحرب على حد سواء، وكان من منهجه رحمه الله الاقتصار على ما صحًّ عنده من السيرة دون التطويل في سرد جميع ما قيل في السير والمغازي؛ لأن كتابه هذا لم يكن خاصًّا بالسيرة، وإنما هو في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عمومًا، فهو كتاب أحكام ومعاملات

1 ابن حجر: أنباء الغمر بأبناء العمر (7/162) .

2 المصدر السابق.

3 انظر الخزرجي علي بن الحسن، العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية (2/264) وابن حجر، أنباء الغمر (7/162) ، والسخاوي محمد بن عبد الرحمن، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (10/79-86) .

ص: 42

وعبادات، وشمائل وآداب، وطب، وغير ذلك من العلوم المتنوعة، وأضاف إلى هذه المباحث كلها موضوع السيرة النبوية، مبينًا فيها المراحل التي مرَّ بها الإسلام في عهده الأول بأسلوب علمي رائع، هادفًا إلى استخلاص العبرة واستنباط الحكم الشرعي، وحاثًّا على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته.

فجاءت مباحثه في السيرة فريدة في نوعها ذات منهج متميز، لأن كتاب السير والمغازي درجوا على سرد وقائع السيرة وما يتصل بها بأسانيدها ومتونها دون العناية بالجوانب التربوية، كما أنهم في الأعمِّ الأغلب ما كانوا يستنبطون الأحكام الفقهية من السيرة النبوية، فجاء ابن القيم فكتب عن السيرة النبوية بمنهج مختلف عمَّا ألفه الناس في تصنيف مباحث السيرة، وهو منهج الاقتداء به والسير على منواله"1.

وقد جاءت هذه الدراسة كمحاولة للاقتداء بمنهج ابن القيِّم والاستفادة من آرائه النقدية الفذة خاصة نقده الباطني للمتون بطريقة حكيمة بناءة، ونقاش هادىء رزين ينبىء عن عقلية ناضجة متفتحة وذهن وقَّاد، والاستفادة أيضًا بما استنبطه من المباحث الفقهية والأحكام الشرعية.

ولد شمس الدين أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي في بيت علم وفضل في السابع من صفر سنة إحدى وتسعين في قرية زرع من قرى حوران بدمشق، واشتهر بابن قيِّم الجوزية، نسبة إلى المدرسة التي أنشأها يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي، لأن أباه كان قيِّمًا عليها. وصفه الحافظان ابن كثير وابن حجر بالتعبد وقلة التكلف، وقد لازم ابن تيمية ملازمة تامة منذ عودته من مصر إلى وفاته، وكان واسع المعارف عالمًا بالقرآن والسنة وعلومهما، متبحرًا في ذلك، عارفًا باللغة على اختلافها، كما كان على علم غزير بالفرق الإسلامية، ومعرفة ما وقعت فيه من أخطاء. صنَّف

1 إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (32) .

ص: 43

رحمه الله تصانيف كثيرة بلغت نيفًا وستين كتابًا في مختلف العلوم وكان يهدف من تصنيفاته إلى بيان خصائص أهل السنة والجماعة، وبيان الصراط المستقيم والطريق الوسط بين الغالي فيه والجافي عنه. توفي ابن القيِّم رحمه الله ليلة الخميس في الثالث والعشرين من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق1.

كما أن من أهم المصادر الخاصة بعملية النقد واستنباط الأحكام، بل من أهم مصادر البحث الأساسية إن لم يكن أكبرها وأعظمها غَناء، الديوان الضخم الرائع والموسوعة العلمية وأكبر مرجع في علم الحديث والفقه والجامع لعلوم أخرى مختلفة مثل علم التراجم، وعلوم اللغة العربية، وعلم التاريخ والمغازي والسير (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للحافظ الفذِّ أحمد بن حجر العسقلاني، "وهو من الشهرة والانتشار وذيوع الصيت بمكان عظيم، فهو أوفى شروح صحيح البخاري على الإطلاق، فقد بذل فيه مؤلفه جهودًا علمية ضخمة لم تجتمع لغيره من علماء عصره، وقد أمضى في تأليفه زمنًا طويلاً يقدر بخمسة وعشرين عامًا وهو يتحرى فيه الصواب، ويحقق ويمحِّص ويعرض على علماء عصره، فخرج هذا الكتاب فتحًا جديدًا في علوم الإسلام، وفنون الحديث وسائر المعارف الشرعية، مما لم يسبق له نظير، ولم يأت بعده مثله إلى اليوم، فقد وفق فيه مؤلفه غاية التوفيق، ووصل في تحقيق مسائله غاية التدقيق، فاجتمعت على الإعجاب به والثناء عليه كلمة العلماء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وكان كاسمه "فتح الباري" فهو اسم طابق المسمى"2.

1 انظر صلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي، الوافي بالوافيات (2/270-272) ، وابن حجر، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (4/21-22) ، والشوكاني محمد بن علي، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (2/143-145) .

2 إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (35) .

ص: 44

يقول ابن حجر موضحًا منهجه في هذا السفر العظيم: "أسوق - إن شاء الله - الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم أستخرج ثانيًا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعًا كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك. وثالثًا أصِل ما انقطع من معلقاته وموقوفاته، وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد.

ورابعًا أضبط ما يشكل من جميع ما تقدم أسماءً أو أوصافًا مع إيضاح معاني الألفاظ اللغوية والتنبيه على النكت البيانية ونحو ذلك. وخامسًا أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية، مقتصرًا على الراجح من ذلك متحريًا للواضح دون المستغلق في تلك المسالك، مع الاعتناء بالجمع بين ما ظاهره التعارض مع غيره، والتنصيص على المنسوخ بناسخه، والعام بمخصصه، والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه، والظاهر بمؤوله، والإشارة إلى نكت من القواعد الأصولية، ونبذ من فوائد العربية، ونخب من الخلافات المذهبية بحسب ما اتصل بي من كلام الأئمة واتسع له فهمي من المقاصد المهمة"1.

لقد استفدت استفادة كبيرة من منهج ابن حجر هذا سواء ما كان منه فيما يخصُّ نقل أقوال العلماء المختلفة ومحاولة الترجيح أو الجمع بينها، أو ما يخص العملية النقدية للبحث بشقيها المتنية والإسنادية، وكذلك ضبط ما يشكل من الأسماء والأوصاف والمواضع، وأخيرًا كان من المصادر الأساسية في مجال الاستنباطات والأحكام الفقهية.

1 ابن حجر، هدي الساري، مقدمة فتح الباري (4-5) .

ص: 45

ولا يفوتني بل أجده من الواجب عليَّ أن أنوِّه بصاحب الفضل على ابن حجر في وضعه هذا الكتاب، بل بصاحب الفضل على العلماء وطلبة العلم والمسلمين كافة في حفظ الصحيح المسند من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب أصحِّ كتاب بعد كتاب الله عز وجل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله الذي رصّعت في الثناء عليه كتب الرجال، وتسابق المترجمون في وصف أحواله، وتشرفوا بنشر أقواله وأفعاله، لذلك فسوف أتكلم عنه بشكل مختصر.

لقد التزم البخاري رحمه الله الصحة والدقة والتحري الشديد في وضعه هذا الكتاب العظيم، فلم يورد فيه إلا حديثًا صحيحًا، وهو مستفاد من تسميته إياه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة، وقد بذل في تمحيصه وتدقيقه جهدا جبارًا، فها هو يقول:"صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته فيما بيني وبين الله"1.

ويقول أيضا: "صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته"2.

ولكي نعرف قيمة هذا الكتاب نستمع إلى هذه القصة. يقول أبو زيد المروزي: "كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي، فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل"3.

1 هدي الساري (489) .

2 المصدر السابق.

3 المصدر السابق.

ص: 46

هذا وقد اعتمدت ما ورد فيه من روايات خاصَّة بهذا البحث باعتبارها أصح الروايات على الإطلاق، ورجحتها على بعض الروايات الأخرى التي نقلت أحداث البحث.

والبخاري: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي. ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى. مات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه. أُلهم حفظ الحديث وهو في الكتاب، فلما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وعرف كلام أهل الرأي، فلما طعن في ثماني عشرة بدأ في التصنيف فصنَّف كتاب "قضايا الصحابة والتابعين" وكتاب "التاريخ". تنقل بين الشام ومصر والحجاز والعراق في طلب العلم، وكان ممَّا ساعده في قوة التحصيل أنه كان لا يكتب أثناء مجالسة العلماء، وذلك بسبب ما أوتي من قوة الحفظ حيث كان يكتب بعد ذلك من حفظه،يقول محمد بن حمدويه: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف غير صحيح"1. وقد عرف فيه معاصروه من شيوخه وزملائه ذلك النبوغ المبكر والذكاء الحاد وصدق السريرة وقوة الإيمان بالله، فأثنوا عليه الثناء الجميل الذي يطول ذكره، لكني سأذكر بعض ما قيل فيه.

قال الحافظ رجاء بن رجاء: هو آية من آيات الله تمشي على وجه الأرض. وكان أبو بكر بن أبي شيبة يسميه البازل يعني الكامل. وكان عبد الله بن المنير أحد شيوخه يكتب عنه ويقول: أنا من تلامذته، وقال فيه أبو حاتم الرازي: لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه. وسئل الدارمي عن حديث وقيل له: إن البخاري صححه، فقال: محمد بن إسماعيل أبصر مني، وهو أكيس خلق الله، عقل عن الله ما أمر به

1 انظر ابن حجر، هدي الساري (487) .

ص: 47

ونهى عنه من كتابه وعلى لسان نبيه، إذا قرأ محمد القرآن شغل قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله من حرامه. وقال أبو سهل محمود بن النضر الفقيه: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم وقال صالح بن محمد جزرة: كنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفا. وقال سليم بن مجاهد: ما رأيت منذ ستين سنة أحدًا أفقه ولا أورع من محمد بن إسماعيل.

وكلام الأئمة في الثناء عليه كثير لا يتسع له المقام، وأختم ذلك بقول ابن حجر:"ولو قلت أني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لفعلت.. ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحر لا ساحل له". توفي البخاري رحمه الله ليلة السبت، ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين1.

كما كان لكتاب ابن حجر الآخر القيِّم في بابه "تقريب التهذيب" أهمية بالغة في عملية النقد الإسنادية من حيث الحكم على الرواة ومعرفة أحوالهم وطبقاتهم، وهذا الكتاب خلاصة تجارب طويلة وممارسة عظيمة لعلم الرجال، قام بها ابن حجر الحافظ الحجة، والخبير المقدم في المسالك العلمية، و"التقريب" المذكور اختصار "لتهذيب التهذيب"2 وضعه استجابة لطلب بعض طلبة العلم الذي التمس منه أن يجرد له الأسماء خاصة. فأجابه ابن حجر إلى ذلك موضحًا منهجه فيه بقوله: "رأيت أن أجيبه إلى مسألته وأسعفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة، وهي أني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة وأخلص إشارة بحيث لا تزيد كل ترجمته على سطر واحد غالبًا، بجمع اسم الرجل واسم أبيه وجده، ومنتهى أشهر

1 انظر ابن حجر، هدي الساري (485-493) .

2 إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (37) .

ص: 48

نسبته ونسبه، وكنيته ولقبه مع ضبط ما يشكل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثمَّ التعريف بعصر كل راو منهم بحيث يكون قائمًا مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه إلَاّ من لا يؤمن لبسه"1.

وقد رجعت إلى هذا الكتاب وأفدت منه في تراجم معظم رواة البحث، وبالتالي الحكم على كل راو ومعرفة طبقته، وقد أفدت كثيرًا من منهجه في الحكم على الرواة بدقة وباختصار غير مخلٍّ.

ولد قاضي القضاة، وإمام الحفاظ في زمانه أحمد بن علي بن محمد بن شهاب الدين بن حجر العسقلاني المصري المولد والنشأة، الشافعي المذهب في الثامن من شهر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بالقاهرة، واشتهرت أسرته بالعلم والفضل والأدب، فأبوه نور الدين عليٌّ كان عالمًا يصدر الفتاوى ويقوم بالتدريس، وكانت له بالفقه عناية وبالأدب اهتمام، وعمّ أبيه فخر الدين عثمان بن محمد بن عليّ، كان فقيه الشافعية في زمانه. ونشأ ابن حجر يتيمًا، وقد وهبه الله قوة الذكاء وسرعة الفهم، وتوقُّد الحافظة، فكان يحفظ في كل يوم نصف جزءٍ من القرآن الكريم. ونظر ابن حجر منذ صباه في كتب التواريخ حتى مَهَر، وقد أعانه هذا على معرفة الرجال وأحوال الرواة، فصنَّف هذه الكتب القيمة في تراجم الرجال وأعيان الزمان: كـ "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، و"الإصابة في تمييز الصحابة"، و"تهذيب التهذيب" وغيرها.

وللأدب كذلك نصيب من عناية ابن حجر فاهتم به وكان شاعرًا، وحبب الله إليه الحديث فشغف به وأقبل عليه، ووقف حياته على دراسته وأكثر الرحلة في طلبه، اتصل بشيوخ عصره، وكان أظهرهم زين الدين العراقي، ونور الدين الهيثمي، فقضى معهما عشرة أعوام كانت خيرًا له ونفعًا. طلب الحديث في

1 انظر مقدمة كتاب تقريب التهذيب، طبعة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة (1/3-4) .

ص: 49

أماكن كثيرة فسمع بالحجاز وهو صغير، وتوجه إلى اليمن فلقي كثيرًا من العلماء والحفاظ الذبن اغتبطوا بوفادته وسروا بقدومه، ثم سار إلى مكة فأدَّى فريضة الحج ثم عاد إلى مصر.

وقد تصدَّى ابن حجر للتأليف والتصنيف منذ عهد مبكر من حياته، وقد أكثر من التآليف الجليلة والتصانيف المفيدة، زادت على مائة وخمسين تصنيفًا، كما تصدَّى للإقراء والتدريس في عدة مدارس بالقاهرة. ثمَّ تولى مناصب القضاء فكان قاضي القضاة بالديار المصرية، أكثر من اثنين وعشرين سنة.

توفي ابن حجر رحمه الله سنة اثنين وخمسين وثمانمائة1.

ولقد كان لبعض الدراسات الحديثة والخاصة بعمليتي النقد بشقيها الخارجي (سبر الروايات وفق مناهج المحدثين) والباطني (نقد المتون على ضوء المنهج التاريخي) والتي سبقت هذه الدراسة الأثر الحميد في توجيهها.

فقد استفدت من كتاب الدكتور: أكرم العمري - القيِّم - (المجتمع المدني) بقسميه، وكتاب الأستاذ /أحمد عادل كمال (الطريق إلى دمشق) وكتاب الدكتور /عماد الدين خليل (دراسة في السيرة)، ومن بعض الرسائل الجامعية التي درست مرويات السيرة النبوية وفق منهج المحدثين مثل:(مرويات غزوة بني المصطلق) للشيخ إبراهيم بن إبراهيم قريبي، و (مرويات غزوة الحديبية) للحافظ الحكمي، و (مرويات موسى بن عقبة) للشيخ محمد باقشيش، كما استفدت من المنهج الأكاديمي العسكري الذي عرضه اللواء الركن /محمود شيت خطاب في كتابه (الرسول القائد) .

هذا ولا يسعني في الختام - بعد أن منَّ الله عليَّ بإتمام هذا العمل الذي أرجو أن يكون خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون في ميزان حسناتي يوم القيامة

1 السخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/46-451، 62، 64، 67، 85، 86، 92) وانظر مقدمة المحقق للكتاب نفسه (ز، ح، ط، ي، ك، ل) .

ص: 50

إن شاء الله إلَاّ أن أحمد الله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، وأشكره شكرًا وافيًا جزيلاً على إنعامه وفضله وإحسانه. وأشكر من خلقه اعترافًا بفضلهم عليَّ، إذ "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"1 كلاًّ من أستاذي فضيلة الدكتور /أكرم ضياء العمري حفظه الله تعالى المشرف على هذه الرسالة والذي تولاني بفضله وكرمه ورعايته، ونفعني الله به وبعلمه، وأعانني كثيرًا بملاحظاته وتوجيهاته السديدة، حيث لم يبخل عليَّ بوقته الثمين، فكان يستقبلني في منزله المبارك بكل ترحاب وسعة صدر، فجزاه الله عني خيرًا، وأمدَّ في عمره، ونفع بعلمه السديد.

كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلامية بما أتاحوه لطلبة العلم الوافدين عليها من شرق الأرض وغربها، من فرص مواتية لتلقي العلم الشرعي النافع السديد، والنهل من ينابيع المعرفة الصافية المستقاة من الكتاب والسنة.

وأخص بالشكر منهم رئيس الجامعة فضيلة الدكتور /عبد الله بن صالح العبيد حفظه الله.

وأشكر أيضًا الأستاذين الفاضلين الأستاذ الدكتور /علي بن محمد عودة، والأستاذ الدكتور /محمد ضيف الله البطاينة. أعضاء لجنة مناقشة هذه الرسالة حيث إنني استفدت من ملاحظاتهما وتوجيهاتهما القيمة.

كما أتوجه بالشكر لكل من أعانني على إخراج هذا البحث من موظفي المكتبة المركزية ومكتبة الدراسات العليا، وإلى عميد كلية البحار بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والدكتور محمد موسى العامودي الذي أعارني بعض المذكرات والمراجع استفدت منها في البحث، وأيضًا الدكتور محمد أسامة عبد الظاهر من مستوصف الجامعة الإسلامية الذي أعارني بعض الكتب الطبية فجزاهم الله عني كل خير.

كما أشكر أهل قرية الشامية بمنطقة عسفان لما لاقيته منهم من كرم الضيافة

1 الألباني، صحيح سنن الترمذي (3/913) وقال عنه صحيح.

ص: 51

وحسن الاستقبال أثناء وقوفي على موقع سرية الرجيع القريب من قريتهم، وأخص بالشكر منهم مؤذن مسجد القرية وأبناءه، والإمام وغيرهم من شباب القرية الذين لا تحضرني أسماؤهم الآن وكانوا خير عون لي.

وختامًا أرجو من الله العلي القدير أن يجد هذا العمل القبول في السماء والأرض، إنه على ذلك لقدير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 52

"جرت عادة المحدثين وأهل السير، واصطلاحاتهم غالبًا أن يسمُّوا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضًا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثًا"1.

"وربما سمَّوا بعض السرايا غزوة كما في مؤتة، حيث قالوا: غزوة مؤتة، وكما في سرية الرجيع حيث عبَّر عنها السيوطي في "الخصائص" بغزوة الرجيع، وعن سرية سيف البحر بغزوة سيف البحر، وربما سمَّوا الواحد سرية وهو في الأصل كثير، وربما سمّوا الاثنين فأكثر بعثًا، ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع"2.

ولكن ابن حجر ذكر أن ما افترق من السرية يسمَّى بعثًا3.

وأخرج البيهقي عن مجاهد قال: قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وخباب سرية، وبعث دحية سرية وحده4، وقال الشافعي رحمه الله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ورجلاً من الأنصار سرية وحدهما، وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده5.

وقال ابن القيم: وكان يبعث بالسرية فرسانًا تارة ورجالاً أخرى6.

وذكر الحلبي أنه من ظاهر كلام أهل المغازي أنهم لا يفرقون بين كون إرسال تلك السرايا والبعوث للقتال، أو لغير القتال كتجسس الأخبار، أو تعليمهم الشرائع، كما في بئر معونة والرجيع، أو حتى للتجارة كما في سرية

1 ازرقاني، شرح المواهب اللدنية للقسطلاني (1/387) .

2 الحلبي، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (3/134) .

3 ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (8/65) .

4 البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، السنن الكبرى (9/100) .

5 المصدر السابق، وانظر سرية عبد الله بن أنيس، وسرية عمرو بن أمية إلى أبي سفيان من السرايا ذات المهام الصعبة من هذا البحث (ص 147-159) .

6 ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، زاد المعاد في هدي خير العباد (2/103) .

ص: 54

زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه حيث ذهب مع جماعة بالتجارة للشام فلقيه بنو فزارة فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم1.

وقد اختُلِفَ في السرية معنى، وعددًا، فقال في اللسان:"السرية من سرايا الجيوش، فإنها فعيلة بمعنى فاعلة، سميت سرية لأنها تسري ليلاً في خفية لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا أو يمتنعوا، يقال: سرَّى قائد الجيش سرية إلى العدو، إذا جرَّدها وبعثها إليهم وهو التسرية"2.

ونقل المسعودي3 عن بعض ذوي المعرفة بسياسة الحروب أنها هي التي تخرج بالليل، فأما التي تخرج بالنهار فتسمى السوارب، وذلك قوله عز وجل {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} 4.

أما ابن الأثير فذكر أن: "السرية: الطائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو وجمعها السرايا، سُمُّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَّري النفيس، وقيل: سمُّوا بذلك لأنهم ينفذون سرًّا وخفية، وليس بالوجه لأن لام السَّر راء وهذه ياء. وفي الحديث: يرد متسريهم على قاعدهم. المتسري: الذي يخرج في السرية، ومعنى الحديث: أن الإمام أو أمير الجيش يبعثهم وهو خارج إلى بلاد العدو، فإذا غنموا شيئًا كان بينهم وبين الجيش عامة، لأنهم ردء لهم وفئة، فأما إذا بعثهم وهو مقيم، فإن القاعدين لا يشاركونهم في المغنم"5.

واتفق أصحاب اللسان، والقاموس، وتهذيب الألفاظ، على أن السرية ما بين خمسة أنفس إلى ثلثمائة6.

1 الحلبي، السيرة الحلبية (3/134) .

2 ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي، لسان العرب (مادة: سرا) .

3 المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: التنبيه والأشراف (ص 279) .

4 سورة الرعد: (10) .

5 ابن الأثير، أبو السعادات المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/362) .

6 انظر اللسان، والقاموس، مادة (سرا) ، وانظر أبا زكريا يحي بن علي الخطيب، كنز الحفاظ في كتاب تهذيب الألفاظ لابن السكيت (ص 50) .

ص: 55

وقد خالفهم صاحب "فقه اللغة" فذكر أن السرية من خمسين إلى أربعمائة1، وذكر ابن حجر قولاً آخر وهي: أنها من مائة إلى خمسمائة2.

ثم نقل عن هؤلاء أقوالاً مختلفة في تعداد الجيوش ومسمياتها، فذكر في "فقه اللغة": أن أقل العساكر الجريدة (وهي قطعة جردت من سائرها لوجه) ، ثم السرية، ثم الكتيبة وهي من أربعمائة إلى الألف، ثمَّ الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل ثمَّ الخميس وهو من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفًِا، والعسكر يجمعها3.

وفي "تهذيب الألفاظ": الخميس ما زاد على السرية، والهضَّاء: الكثير من الخيل، والهضَّاء: الجماعة من الناس4.

ومما نقله المسعودي: "أن ما زاد على الخمسمائة إلى دون الثمانمائة فهي المناسر، وما بلغ الثمانمائة فهو جيش وهو أقل الجيوش، وما زاد على الثمانمائة إلى دون الألف فهو الخشخاش، وما بلغ الألف فهو الجيش الآن لم يبلغ، وما بلغ الأربعة آلاف فهو الجيش الجحفل، وما بلغ اثني عشر ألفًا فهو الجيش الجرَّار، وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها فما كان دون الأربعين فهي الجرائد، وما كان من الأربعين إلى دون الثلثمائة فهي المقانب، وما كان من الثلثمائة إلى دون الخمسمائة فهي الجمرات، وكانوا يسمون الأربعين رجلاً إذا وجهوا العصبة، وقد رأى قوم أن المقنب مثل المنسر وأن كل واحد منهما ما بين الثلاثين رجلاً إلى الأربعين، واستشهدوا على تقاربهما بقول الشاعر:

1 انظر الثعالبي، إسماعيل: فقه اللغة وسرُّ العربية (ص 219-220) .

2 ابن حجر (فتح 8/56) .

3 الثعالبي، فقه اللغة (ص 219-220) .

4 الخطيب، يحي بن علي التبريزي، تهذيب الألفاظ (ص 50) .

ص: 56

وإذا تواكلت المقانب لم يزل

بالثغر منَّا منسر وعظيم

وأن الكتيبة ما جمع فلم ينتشر، وأن الحظيرة النفر الذين يغزى بهم العشرة فمن دونهم، والنقيضة جماعة يغزى بهم ليسوا الجيش، وأن الأرعن الجيش الكثير الذي له رعن الجبل، والخميس الجيش العظيم، والجرار الذي لا يسير إلَاّ زحفًا لكثرته، والجرَّار أكثر ما يكون من الجيوش العظمى"1.

وقد وافقه في بعض ذلك ابن حجر، إلا أنه زاد "ما بين الخمسمائة إلى الثمانمائة يسمى هيضلة"2.

هذا وقد روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، وما هُزم قوم بلغوا اثنا عشر ألفًا من قلة"3.

هذا وقد اختلف أهل العلم من أصحاب المغازي وغيرهم في عدد السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم منذ إعلان الحرب على قريش حتى توفاه الله عز وجل فكانت عن ابن إسحاق في ذلك ثلاث روايات: رواية نقلها الطبري والمسعودي، ذكرا فيها عنه أن عددها كان خمسة وثلاثين سرية وبعثًا4، بينما ذكر ابن هشام في روايته عنه أنها كانت ثمانية وثلاثين بعثًا وسرية، أورد منها سبعة وعشرين فقط5.

أما ابن حجر فذكر أنه عدَّ ستًّا وثلاثين سرية وبعثًا6.

وكذلك الواقدي كانت عنه روايتان متقاربتان، حيث ذكر المسعودي،

1 المسعودي، التنبيه والأشراف (ص 280) .

2 ابن حجر، فتح (8/56) .

3 انظر الألباني، صحيح سنن أبي داود (2/495) وصححه الألباني.

4 انظر الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك (3/154) ، والمسعودي، التنبيه والأشراف (ص 278) .

5 انظر الحميري عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية (4/609-611-612-621) .

6 ابن حجر، فتح (7/281) .

ص: 57

وابن حجر عنه أنها كانت ثمانية وأربعين1، وذكرها هو في المغازي سبعة وأربعين سرية وبعثًا2، وقد وافقه في ذلك كاتبه ابن سعد في روايته عن جمع شيوخه منهم الواقدي3.

وعدَّ خليفة بن خياط في كتابه "التاريخ" إحدى وثلاثين سرية4.

وأورد العامري ثلاثة أقوال: الأول: أنها كانت ستًّا وخمسين سرية، وقيل: خمسون. وقيل: ثمانية وثلاثون5.

وحكى ابن الجوزي: ستًّا وخمسين سرية6.

أما المسعودي فكانت عنه عدّة روايات، حيث رتب في كتابه "التنبيه والأشراف" ثلاثًا وسبعين سرية وبعثًا، ونقل عن بعضهم أنها ست وستون، وعن آخرين: نيف وخمسين7، ونقل عنه ابن حجر، والشامي: أنه عدَّ ستين بعثًا وسرية8.

واختلف ابن حجر والشامي في نقلهم عن أبي الفضل العراقي، فذكر ابن حجر أنه بلغها في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، بينما ذكر الشامي أنه أبلغها إلى الستين فقط9.

وروى الحاكم عن الثقة من أصحابه ببخارى أنه قرأ في كتاب محمد بن

1 انظر المسعودي، التنبيه والأشراف (ص 278) ، وابن حجر، فتح (7/281) .

2 الواقدي محمد بن عمر، المغازي (1/7) .

3 محمد بن سعد البصري، الطبقات الكبرى (2/5-6) .

4 انظر العصفري، خليفة بن خياط، التاريخ (61-63، 74-76 -77-79-85-87-88-92) .

5 انظر العامري، يحي بن أبي بكر، بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل (2/173) .

6 انظر ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، الوفا بأحوال المصطفى (279) .

7 انظر المسعودي، التنبيه والأشراف (278) .

8 انظر ابن حجر، فتح (8/154) ، والشامي، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (6/9-10) .

9 قال ابن حجر، وبلغها شيخنا في نظم السيرة زيادة على السبعين. ابن حجر، فتح (8/154) وقال الشامي، ونقل المسعودي عن بعضهم أنها ستون، وعلى ذلك جرى الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى في ألفية السيرة، سبل (6/10) .

قلت: ما نقله ابن حجر هو الراجح؛ لأنه تلميذ العراقي، وهو أعرف به من الشامي.

ص: 58

نصر السرايا والبعوث دون الحروب نيفًا وسبعين1.

وقد انفرد الحاكم بجعل البعوث والسرايا زيادة على المائة2، قال العراقي: ولم أجد هذا القول لأحد سواه، وقال الحافظ ابن حجر:

لعله أراد ضم المغازي إليها3.

وقال الشامي: "والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين"4.

وذكر مغلطاي: أن مجموع الغزوات والسرايا مائة5. قال ابن حجر: وهو كما قال6.

هذا بالنسبة لأهل المغازي، أما غيرهم من أهل العلم، فقد روى ابن كثير تعليقًا عن بريدة7، والإمام أحمد بن حنبل بسند جيد8، والحاكم، كلاهما عن قتادة9، وعبد الرزاق بسند ضعيف10، عن مقسم11: أنها كانت أربعًا وعشرين سرية.

1 نقل ذلك الحاكم في كتابه "الإكليل" المفقود، ورواه عنه كلٌّ من ابن حجر، فتح (8/154) ، والشامي، سبل (6/11) .

2 انظر الشامي، سبل (6/11) ، وابن حجر (8/154) .

3 المصدرين السابقين.

4 الشامي، سبل (6/12) .

5 انظر علاء الدين مغلطاي قلج التركي، الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم (23/23) .

6 ابن حجر، فتح (8/154) .

7 هو بريدة بن الحصيب - بمهملتين، مصغرًا – أبو سهل الأسلمي، صحابي أسلم قبل بدر، مات سنة ثلاث وستين. ابن حجر، تقريب التهذيب (121) .

وانظر ابن كثير إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية (3/240) .

8 أخرجه ابن كثير، البداية والنهاية (3/241) .

9 أخرجه ابن كثير، البداية والنهاية (3/241) .

10 لأن في سنده عثمان الجزري، قال عنه ابن حجر، فيه ضعف.

انظر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف (5/295) ، وانظر ابن حجر، تقريب (386) .

11 هو: مقسم - بكسر أوله – ابن بحرة – بضم الموحدة وسكون الجيم – ويقال: نجدة – بفتح النون وبدال – أبو القاسم، مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس، للزومه له، صدوق وكان يرسل، وما له في البخاري سوى حديث واحد. ابن حجر، تقريب (545) .

ص: 59

كما روى الذهبي تعليقًا عن قتادة قال: جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون1.

قال المسعودي: "وأرى أن السبب الذي أوجب هذا التنازع المتفاوت في أعداد هذه السرايا أن منهم من يعتدُّ بسرايا لا يعتد بها آخرون، وذلك أنه كانت سرايا في جملة مغازٍ فأفردها بعضهم واعتد بها، وبعض جعلها في جملة تلك المغازي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجَّه في كثير من غزواته سرايا إلى ما يلي البلاد التي حلَّها بعد عزيمة المشركين بخيبر في الطلب على ما قدمنا، ووجه بعد فتح مكة سرايا لهدم الأصنام التي حول مكة فوقع هذا التنازع لأجل ذلك"2.

وأضيف إلى ما قاله المسعودي: أن السرايا والبعوث النبوية لو حصرت كلها لفاق عددها العدد الذي ذكره أهل المغازي وغيرهم بكثير، وذلك أنه كانت هنالك سرايا وبعوث لأغراض غير قتالية، فكانت هناك سرايا وبعوث لجباية الزكاة، وأخرى لتنفيذ الحدود، وبعوث قضائية، وأخرى تعليمية، ودعوية، وغير ذلك، والكثير من السرايا المبهمة المنثورة بين طيات كتب الحديث وكتب معاجم الصحابة، ومعاجم البلدان، والمعاجم اللغوية وغيرها.

إن ورود الكثير من أخبار هذه السرايا عرضًا في سياق الأحداث، وبإشارات مختصرة، بل وخاطفة في بعض الأحيان، وورود بعضها ضمن بعض الكتب والمصادر غير المتخصصة بالمغازي ككتب الفقه والتفسير، وأسباب النزول، وكتب الأدب وغيرها، كل ذلك أدى إلى هذا التنازع والاختلاف في عدد السرايا والبعوث النبوية.

1 الذهبي محمد بن أحمد بن عثمان، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام – قسم المغازي (74) .

2 المسعودي، التنبيه والأشراف (278، 279) .

ص: 60

من جهة أخرى كان هذا النشاط المتدفق من السرايا والبعوث على شكل موجات متعاقبة من جند الإسلام الأوائل دلالة قاطعة على أن دولة الإسلام في المدينة وبقيادة النبي القائد صلى الله عليه وسلم كانت مثل خلية النحل لا تهدأ ولا تكل، عمل دءوب متواصل لتبليغ دعوة الحق إلى الناس جميعًا، وهؤلاء الرجال الأفذاذ جنود الحق الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم، والذين كانوا يتسابقون في الخروج تطوعًا وعن طيب خاطر، جنودًا بواسل في هذه السرايا والبعوث غير آبهين بالمشاق والمصاعب والمخاطر، بل كانوا يتحرَّقون لملاقاتها وقهرها طمعًا في الأجر وإعلاء لكلمة الله عز وجل.

كما أن هذه السرايا كانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية، ومناورات حية لجند الإسلام، استعدادًا للغزوات الكبرى التي كانوا يخوضون غمارها مع قائدهم الأعلى المصطفى صلى الله عليه وسلم من حين لآخر.

إننا نرى وبوضوح كامل كيف كان معظم الصحابة رضوان الله عليهم مشاركين ضمن هذه السرايا والبعوث قوادًا تارة، وجنودًا عاديين أخرى، فكان ذلك من الخطط (والاستراتيجيات) بعيدة المدى التي كان يعدُّها النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيت دعائم الدولة الإسلامية، وإعدادًا منظمًا ودقيقًا لجيوش الفتوحات الإسلامية التي ما فتىء عليه الصلاة والسلام يبشر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات السلم والحرب والخوف والأمن.

إنه بنظرة فاحصة في قوَّاد وجنود تلك السرايا والبعوث تطالعنا أسماء لمعت كثيرًا في تاريخ الفتح الإسلامي فيما بعد. مثل قائد فتوحات الشام، أمين الأمة، أبي عبيدة بن الجراح، وسعد القادسية وفاتح المدائن، وسيف الله المسلول أسد العرب خالد بن الوليد، وأرطبون العرب فاتح مصر عمرو بن العاص، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

ص: 61

إذا كانت تلك السرايا بمثابة تدريب عملي حي نابض، بل يمكن اعتبارها بلا مبالغة دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها فيما بعد.

إن هذا الكم الوافر من السرايا والبعوث، والطرق التي كانت تتمُّ بها تنقلاتها المسيرية نحو أهدافها، يدل على أن الجندي المسلم في ذلك الوقت كان يتمتع بلياقة بدنية هائلة مع خفة حركة تشحذها روح إيمانية لتضيف إليها العزم والتصميم اللذين يمثلان الروح المعنوية اللازمة، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية للانتصارات المتوالية التي كان يحققها جند الإسلام في كل معركة، ولا شكَّ أن تلك اللياقة القوية لم تأت من فراغ، أو أنها كانت محض صدفة، فالمتتبع للحياة اليومية التي كان يعيشها جند الإسلام الأوائل، يستطيع أن يعرف لماذا كانوا يتمتعون بتلك اللياقة العالية على الرغم من أنهم لم يكونوا جنودًا نظاميين يخضعون بتدريبات عنيفة، وينتظمون في معسكرات إلزامية في مؤسسات عسكرية نظامية كما هو الحال في عالمنا المعاصر.

ولكن بالنظر في حياتهم وتحركاتهم خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية يرى أنها كانت عبارة عن تدريب مستمر، فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكرًا مع صلاة الفجر تؤدى جماعة مع قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان دائمًا ما يحثهم على أداء هذه الصلاة جماعة وفي وقتها موضحًا لهم ولأمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، وإلَاّ أصبح خبيث النفس كسلان"1.

ثم ينطلق كل منهم إلى عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية، حتى إذا ما صلَّوا الصلاة الآخرة (صلاة العشاء) ناموا تطبيقًا لأمر القائد الأعلى،

1 أخرجه مسلم، انظر الألباني، مختصر صحيح مسلم (106) .

ص: 62

حتى إذا ما أخذوا قسطًا وافرًا من النوم أوَّل الليل إلى الثلث الأخير منه، قام معظمهم لأداء صلاة التهجد التي تملأ قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيدًا من النشاط لأدائها في وقت يكون الجسم فيه مرتاحًا. فبالإضافة إلى أن حركات الصلاة حركات تدريبية رياضية لكل أعضاء الجسم، فإن في الروحانية المتمثلة في اتصال العبد مع خالقه عز وجل في خشوع وطمأنينة، رياضة إضافية للنفس تملؤها إيمانًا ويقينًا، هذا بالإضافة إلى الاستعداد الدائم واليقظة التامَّة امتثالاً لقوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 1.

فكانوا دائمًا يقومون بنشاطات تدريبية مركَّزة تتمثَّل في ركوب الخيل، والسبق، والرماية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحثُّهم على فعل ذلك، بل ويشاركهم فيه، معطيًا من نفسه القدوة، فكان يبزُّ الشباب من الصحابة قوة ومهارة ونشاطًا وحيوية، فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على ناس يتنضَّلون2، فقال: حسن هذا اللهم – مرتين أو ثلاثًا – ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا: لا والله لا نرمي معه وأنت معه يا رسول الله إذًا ينضلنا. فقال: ارموا وأنا معكم جميعًا، فقال: لقد رموا عامة يومهم ذلك ثمَّ تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضًا"3.

وكان صلى الله عليه وسلم يركِّز على تعلم الرماية كثيرًا موضِّحًا أنها خير ما يعدُّ من قوة استعدادية للكفار، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"4.

1 سورة الأنفال: (60) .

2 التناضل،الترامي للسبق.

3 أخرجه أحمد، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح. ووافقه الذهبي.

انظر البنا، الفتح الرباني (13/128) ، والحاكم، المستدرك (2/103-104) .

4 أخرجه مسلم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (13/64) .

ص: 63

بل وكان عليه الصلاة والسلام يشجعهم على الصناعة الحربية المتمثلة في ذلك الوقت بصناعة الأسهم، وأن الأجر الذي غايته الجنة ينسحب على صاحبها والمتنبل بها، فيروي لنا عقبة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:"إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومتنبله، والرامي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا، وليس من اللهو إلَاّ ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن عُلِّم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها"1.

فما أروعه من عصر تمسك فيه الصحابة بالتعاليم القرآنية الربانية، وعضّوا عليها بالنواجذ، وقاموا بتطبيقاتها حرفيًّا في شتى شئون حياتهم، فعزوا واستعلوا على أمم الأرض، شرقًا وغربًا، رغم قلتهم وبساطتهم. وحين ابتعد المسلمون عن تلك التعاليم وألقوا بها وراء ظهورهم ركبهم الذُلُّ والصغار، وتداعت عليهم الأمم من أقطارها بعد أن أصبحوا غثاءً كغثاء السيل.

إن المهمات والأهداف التي أُوكلت للسرايا والبعوث النبوية، كانت تتفاوت تبعًا لاختلاف الظروف المحيطة والحادثة، فكانت السرايا الأولى في معظمها عبارة عن دوريات استطلاعية واستكشافية وجسِّ نبض، ثمَّ تطوَّرت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل القرشية، وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة، وعندما قويت شوكة المسلمين بعدها، أصبحت مهمَّة بعض السرايا والبعوث تنصب في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية المندسين في صفوفها مثل كعب بن الأشرف، والعصماء بنت مروان، وأبي عفك، فكان في قتل كعب ردعًا لليهود، وقتل العصماء وأبي عفك ردعًا للمشركين والمنافقين في المدينة.

وعندما انقلبت الأمور (الاستراتيجية) لغير صالح المسلمين بعد أحد،

1 أخرجه أحمد، والحاكم وقال: صحيح. ووافقه الذهبي. انظر البنا، الفتح (13/129) ، والحاكم، المستدرك (2/104) .

ص: 64

وعندما طمع الأعراب في خيرات المدينة، واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية كما في الرجيع وبئر معونة، غيَّر تبعًا لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (استراتيجيته) العسكرية، فانتقل بالسرايا من قريش إلى الأعراب لتأديبهم وردعهم، ولكن بطريقة صارمة وسريعة ومباغته.

وكان أهم ما يميَّز تلك السرايا هو الهجوم التعرضي، وذلك بأن يتم فيها مهاجمة الأعراب قبل تحشُّدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين.

وهكذا ظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف النبي صلى الله عليه وسلم القريبة والبعيدة المدى، فمن دوريات قتالية، إلى سرايا تعقبية، وأخرى تمويهية، حتى إذا ما توطَّد الأمر للمسلمين بعد فتح مكة، اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة كل ما يمتُّ للوثنية بصلة، فبعث السرايا والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية، فانطلقت السرايا لتحطيم العزى، ومناة، واللات وسواع، وذا الخلصة، وغيرها من الأصنام والطواغيت الوثنية.

ثم انطلقت السرايا الدعوية إلى كافة أرجاء الجزيرة العربية، تدعو إلى عبادة الله وحده وتزيل من طريق الدعوة كل العراقيل والقوى التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية وهي خاضعة للضبط العسكري النبوي، منفذة لكل الأوامر النبوية العليا، والتي يمكن اعتبارها قمة أهداف وممارسات الحرب الفروسية المشرفة التي لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل ولا من بعد، والتي هي أحد دعائم الدعوة الإسلامية، بل أحد أهمِّ الأسباب التي دعت معظم سكان المناطق التي كانت تمرُّ بها هذه السرايا النبوية، ثمَّ الجيوش الراشدية الفاتحة بعد ذلك إلى الدخول طواعية وبحب غامر ورغبة ملحة في الإسلام.

لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحللين على اختلاف مشاربهم ودياناتهم، ولكن المحلِّل المنصف المتجرد ستزول دهشته حتمًا عندما يقرأ تلك التعاليم والوصايا النبوية لقوَّاد وجنود السرايا

ص: 65

والبعوث والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية، وأصبح الذين شاركوا بالأمس في السرايا والبعوث مشاركين اليوم على رأس تلك الجيوش الفاتحة مقتدين نفس النهج، سائرين على نفس الطريق الذي رسمه لهم قائد الأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تلك الأوامر والتعاليم النبوية صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء وقادة جيوش الفتوح فيما بعد.

والآن ما هي تلك الوصايا؟

عن بريدة رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل لله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغُلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما للمهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلَاّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"1.

1 رواه مسلم، الصحيح (4/8-9) .

ص: 66

وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: "انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلُّوا وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين"1.

وعن أبي موسى رضي لله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا"2.

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا أو سرية يقول: إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا"3.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع"4.

وعن عبد الرحمن بن عائذ رحمه الله تعالى قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: تألفوا الناس وتأتوهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم إلى الإسلام؛ فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلَاّ تأتوني بهم مسلمين أحبُّ إليَّ من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم"5.

وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتمنى ألا يتخلف عن أي سرية أو بعث يبعثه للجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، ولكنه كان يفعل ذلك اضطرارًا لدرء المشقة عن المسلمين، وها هو يعتذر عن ذلك، موضحًا حكمة بعوثه وسراياه فيقول: "والذي نفسي بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة

1 رواه أبو داود. انظر شمس الحق العظيم آبادي، عون المعبود شرح سنن أبي داود (7/274) .

2 رواه مسلم، الصحيح (4/9) .

3 رواه الترمذي انظر المباركفوري، تحفة الأحوذي (5/155) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

4 رواه أحمد. انظر البنا، الفتح الرباني (14/52) .

5 انظر الشامي، سبل (6/17) .

ص: 67

فيتبعوني، ويشق أن يقعدوا بعدي، والذي نفسي بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثُم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" 1.

فيا لروعة هذا الاعتذار وسُموِّه، والذي يوضح بطريق غير مباشر، المنزلة العظيمة للشهيد عند الله عز وجل لدرجة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقتل شهيدًا في سبيل الله عدة مرات.

1 رراه البخاري: الصحيح (3/203) .

ص: 68

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الأول

"السرايا والبعوث داخل وخارج المدينة النبوية"

ويشتمل على فصلين:

1 – الفصل الأول: السرايا الاعتراضية.

2 – الفصل الثاني: السرايا ذات المهمات الصعبة.

ص: 69

الفصل الأول

السرايا الاعتراضية

وتشمل:

1-

مقدمة.

2-

أول السرايا.

3-

سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر.

4-

سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ.

5-

سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة.

6-

سرية زيد بن حارثة إلى العيص أو خبر اعتراض أبي بصير وأصحابه لقافلة أبي العاص.

7-

سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر (الخبط) .

ص: 71

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

[الحج: (40) ]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن الله أمرني أن أحرِّق قريشًا، فقلت: ربِّ إذًا يثلعوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نُغزِك، وأنفق فستنفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك".

الألباني مختصر صحيح مسلم (ص 523)

ص: 72