الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول السرايا
اختلف أهل المغازي في أول السرايا والبعوث.
فمنهم من جعلها سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه1 وروى ابن إسحاق بلا سند أن راية عبيدة بي الحارث هي"أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين"2 أما غالبية أهل المغازي فقد أجمعوا على أن أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب"3 رضي الله عنه.
1 وقع ذلك في روايتين إحداهما عن زر بن حبيش رواها الطبراني في معجمه، وأخرجها الهيثمي علي بن أبي بكر في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/76) وقال عن إسنادها أنه حسن. قلت: وحيث إن هذه الرواية ليست مما يضمه القسم المطبوع من معاجم الطبراني الثلاثة، فلا نستطيع الحكم على سندها إلى زر، لأن الهيثمي معروف بتساهله في الحكم على رجال السند، وإن صح السند إلى زر فتبقى علة الإرسال.
وقد ذكر مغلطاي أن النيسابوري رواه في كتابه الكبير بسند لا بأس به عن زر. انظر مغلطاي قلج، الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم (15/23) .
والرواية الثانية عن الشعبي أخرجها عنه خليفة بن خياط (تاريخ ص: 62) لكن في سندها جهالة عين تضاف إلى علة الإرسال. وهناك رواية مسندة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في آخرها: "فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير أمر في الإسلام" أخرجها أحمد في المسند انظر البنا أحمد عبد الرحمن، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل (21/25-26) ، وابن أبي شيبة عبد الله، المصنف (14/351-352)، ورواه البزار مختصرًا مسند سعد بن أبي وقاص (لوحة 134) . وقد ذكر البنا عن أبي زرعة: أن هذه الروايات منقطعة. راجع البنا، الفتح (21/26) ولكن البيهقي رواها من وجه آخر موصولة. انظر البيهقي دلائل (3/15) . قلت: إن سلمت الرواية من علة الانقطاع فإنها لا تسلم من ضعف المجالد بن سعيد الذي عليه مدار الروايات كلها، ومن ضعف محمد بن يونس الكديمي في الرواية الموصولة (انظر ابن حجر، تقريب ص: 515-520) .
2 رواها بن إسحاق بلا سند، وأخرجه عنه كل من ابن خياط، تاريخ (61) ، وابن هشام، سيرة (2/591) واللفظ له، والطبري محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (2/404) ، والبيهقي دلائل (3/10) ، وابن سيد الناس عيون الأثر (1/271-272) ، كما أخرج ابن سيد الناس بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية ذكر بعث عبيدة، ثم بعث حمزة بنحو ما ذكر ابن إسحاق عيون الأثر (1/272) ، وذكر ذلك الزبير بن بكار عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز. انظر ابن حجر، فتح الباري (84:7) ، والإصابة (2/34) .
3 قال بذلك عروة بن الزبير في روايتين، الأولى أخرجها البيهقي في الدلائل (3/8) ، والثانية أخرجها ابن سيد الناس في العيون (1/271) ، لكن مدارهما على ابن لهيعة خلط بعد احتراق كتبه. انظر ابن=
وبتحليل الأقوال السابقة نجد أن القول الأول في روايتان مرسلتان في سند إحداهما جهالة عين، أما الرواية الموصولة فإضافة إلى ضعف سندها الموضح سابقًا، ففيها اضطراب في المتن، كما أن الراوى لم ينص صراحة على أنها أول سرية، بل غاية ما ذكره أنه أول أمير أُمِّر وهو أمر محتمل، فربما كان قصده أول أمير يُنصَّبُ رسميًّا بأمر كتابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ماحدث في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية البزار:"أول أمير عُقد له في الإسلام"1 وذلك أمر لم يتعوده الصحابة من قبل حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعين قواد السرايا بأمر شفهي منه، وربما كان لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الرواية معاتبًا إياهم:"لأعين عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش" 2 بالغ الأثر عليهم فامتزج العقاب مع التطلع إلى هذا المنصب أو من يفوز به فعلق في أذهانهم وحفظوه.
أيضًا كيف تكون سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه هي الأولى مع أن هذه السرية التي خرج فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قد سبقتها، فالمفروض أن تكون هي الثانية في الترتيب لا الأولى. وهناك شيء آخر، فمن خلال سياق الرواية يتضح لنا أن إرسال سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه في السنة الأولى بعد السرية التي خرج فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مباشرة. والمعروف عند أهل المغازي أن سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة
=حجر، تقريب (ص:319) .
كما رواه موسى بن عقبة عن الزهري، وأخرجه البيهقي بسند لا بأس به.
وممن قال بذلك أيضًا المدائني علي بن محمد وأخرجه عنه ابن خياط. تاريخ (62) واللفظ له، ورواه أيضًا الواقدي في المغازي (1/9) ، وابن سعد كاتبه في الطبقات (2/7) عن جمع من شيوخهما بلفظ "قالوا" ونقله الأموي في مغازيه، والزرقاني في شرحه على المواهب عن أبي معشر السندي. انظر ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/280) ، والزرقاني شرح المواهب اللدنية (1/390) كما نقل الزرقاني والشامي تصحيح ابن عبد البر لهذا القول. راجع الزرقاني، شرح (1/390) ، والشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (6/12) .
1 ما روى الشيوخ عن سعد (لوحة: 134) البزار، المسند، مسند سعد بن أبي وقاص.
2 رواه أحمد. البنا، الفتح الرباني (21/25-269) .
كانت في السنة الثانية قبل بدر بشهرين تقريبًا وأنها هي السبب في غزوة بدر كما يقول بعض كُتَّاب السير والمغازي1.
إذًا نخلص إلى القول بأن اضطراب المتن علة أخرى تضاف إلى علة السند. وأعتقد والله أعلم أنه لشهرة سرية عبد الله بن جحش وحيازتها على أوليات مهمة في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني جعلها تطغى على أخبار السرايا التي قبلها والتي لم يحدث فيها صدام مسلح، ولم ينزل فيها قرآن، كما حدث في سرية ابن جحش رضي الله عنه لأجل ذلك كله اعتقد البعض أنها أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ربما أنه جعلها الأولى باعتبار أهميتها وما جرى فيها من أحداث. والله تعالى أعلم.
أما القول الثاني فنرى أن مدار رواياته على ابن إسحاق والذي لم يوضح مصدر معلوماته، فإذا علمنا أنه لا يحتج بكلامه عند المحدثين إذا لم يصرح بالتحديث عمن أخذ عنه، فكيف إذا أبهم، ولكن الخبر هنا تاريخي وكان يمكن قبول قوله لولا معارضته لإجماع أهل المغازي.
أما رواية ابن عباس فهي ضعيفة الإسناد بوجود عثمان بن عطاء الخراساني وأبيه فيه2. كما أن رواية الزبير بن بكَّار ضعيفة أيضًا؛ لأنها من رواية إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز3.
وكان القول الثالث عبارة عن شبه إجماع من أهل المغازي كما رأينا، وإن كانت بعض الروايات وردت من طرق لا تخلو من مقال في نظر النقاد من أهل الحديث، ولكنها صالحة للاحتجاج بها تاريخيًّا، فإن ابن لهيعة وإن ضعف بعد ضياع كتبه واحتراقها فإن روايته عن أبي الأسود في الغالب نسخة معروفة لمغازي عروة، مما يخفف من تخوفنا من عدم ضبطه، كما أن موسى بن عقبة
1 انظر ما قاله ابن كثير، البداية والنهاية (2/247) .
2 انظر ابن حجر، تقريب (385، 392) .
3 انظر الذهبي، ميزان الاعتدال (1/56) .
والزهري إمامان في المغازي، ومرسل الزهري ضعيف عند المحثين، لكن الخبر هنا تاريخي ونستأنس لقبوله بإجماع أهل المغازي عليه حيث لم يخالف إلا ابن إسحاق في تقديمه سرية عبيدة، وابن إسحاق على جلالة قدره وتمرسه في فن المغازي إلا أنه هنا قد خالف شيوخه – مصدر معظم معلوماته في المغازي – وكان يمكن أن نعتبر مخالفته لو أنه وضح لنا مصدر معلوماته وثبت لنا أنها تقوى على معارضة الإجماع، والله تعالى أعلم.
هذا وقد حاول بعض أهل المغازي الجمع بين القولين منهم ابن إسحاق نفسه الذي قال: "وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معًا فشبه ذلك على الناس"1.
وقد رد القسطلاني عليه فقال: "وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتهما معًا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية لأمر اقتضاه، والله أعلم"2.
قال الزرقاني معقبًا في شرحه عليه: "فيلتئم القولان"3.
وقال ابن حزم: "وكان بعث حمزة، وبعث عبيدة متقاربين، واختُلف في أيهما أسبق"4.
وبيَّن الحلبي سبب هذا الاختلاف بقوله: "قال بعضهم: ومنشأ الاختلاف أن بعث حمزة، وبعث عبيدة رضي الله تعالى عنهما كانا معًا أي في يوم واحد في محل واحد، أي وشيعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا كما في
1 ابن هشام، سيرة (2/595-596) .
2 القطلاني، المواهب اللدنية (1/75) .
3 المصدر السابق.
4 ابن حزم، جوامع السيرة (101) .
ذخائر العقبي فاشتبه الأمر"1.
إضافة لما سبق فإن من الأمور التي تدعونا إلى الاعتقاد بأن سرية حمزة رضي الله عنه هي الأولى، هو أنه عليه الصلاة والسلام قد اجتهد أن تكون سراياه الأولى من المهاجرين دون الأنصار؛ لأن الأنصار لم يتعهدوا بنصرته خارج المدينة، لذلك نراه يرسل في تلك السرايا المهاجرين، وعلى رأسهم أهل بيته وأقاربه ليكونوا أول من يخوض معمعة القتال والمعارك، ليعطي بذلك القدوة الحسنة.
وبما أن السرية الأولى سيكون لها مردودات إيجابية أو سلبية في حالتي الظفر أو الهزيمة حرص صلى الله عليه وسلم أن يكون قائدها على قدر عظيم من الشجاعة والإقدام وقوة الشكيمة، خاصة إذا علمنا أن قائد القافلة القرشية رجل معروف في قريش بقوة شكيمته وغطرسته حتى إن أبا جهل كان يلقب بأعز البطحاء فكان لا بد له من ند مثله، وقد اتضحت قدرات هذا الند في مكة عندما استطاع وبجرأة أن يضربه وعلى ملأ من قومه وعشيرته ويعلن إسلامه بين أيديهم دون خوف، بل تحداه أن يرد عليه إن استطاع2، وقد دلت هذه الحادثة بما لا يدع مجالاً للشك بأنه فعلاً أعز فتًى في قريش بلا منازع، فكان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه والذي أصبح بعد إسلامه أسد الله وأسد رسوله، هو أول قائد لأول سرية والله تعالى أعلم. ليتحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصبو إليه من نتائج إيجابية بعيدًا عن السلبيات المثبطة، وكان له ما أراد عندما رمى أعز البطحاء بأعز قريش.
والله تعالى أعلم بالصواب وهو من وراء القصد.
1 الحلبي، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (3/137) .
2 انظر قصة إسلام حمزة رضي الله تعالى عنه في ابن هشام، سيرة (3/291-292) .