الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدعو لها، فتكون خدمتها محل فرح وسعادة وفخر واعتزاز، فعلى النساء أن يتفطن لذلك ويقدرنه قدره.
ومعرفة هذه الحقيقة والعمل بها عن قناعة ورضا تدفع كل واحد منهما أن يقوم بما يجب عليه دون تذمر أو شعور بالجور أو الظلم، لعلم كل منهما أنه كما عليه واجب يلزمه القيام به فإن الآخر كذلك عليه واجب مثل الذي عليه وإن اختلفت الأنواع. فما يجب على أحدهما هو حق للآخر، وبالتالي ينقطع الإدلال والتمنن الذي يكون سببًا لتشتت الأسر وتفرقها، قال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة، آية رقم: 228].
المقصد الثالث: (المتعة)
وهو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعًا إذا أُحسن القيام به وأشدها ضررًا إذا أُهمل، وليس المقصود بالمتعة الفراش فقط بل هو أعم من ذلك، إذ يشمل جميع مناحي الحياة. وهو مطلوب من الزوجين كليهما مع شيء من الاختلاف في بعض ما يجب على كل واحد منهما، حسب ما تقتضيه طبيعة كل واحد منهما.
إن الزوجين حين يعيشان كنفس واحدة يفرح أحدهما لفرح الآخر ويحزن لحزنه ويهتم لهمه ويسعى كل واحد منهما لمتعة الآخر، حينها تُضمن لهما الحياة السعيدة الهانئة. ولكن ليعلم أنه لا يستقيم لهما ذلك إلا بعقد العزم على الحفاظ على هذا الرباط الوثيق بينهما حتى يلتقيا في جنات النعيم
(1)
.
(1)
وفيما يأتي شيء من التفصيل لهذا الإجمال.
تقدم فيما سبق أن المقصد الثالث من مقاصد النكاح بمعناه الأعم هو أوسع هذه المقاصد وأكثرها نفعاً إذا أُحسن القيام به وأشدها ضرراً إذا أُهمل.
ومن آثاره أنه يخدم المقاصد الأخرى إيجابًا وسلبًا، وهو مطلوب من الزوجين جميعًا غير أن الزوجة به أولى وعليه أقدر لما جبلها الله عليه من التراكيب الأنثوية الجذابة، والإشعارات الحلوة الجميلة، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَمْتَعُ مِنَ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، فَكُلُّ مُتَعِ الْحَيَاةِ تَنْعَكِسُ عِنْدَ التَّقَلُّبَاتِ، أَمَّا الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةِ فَتَبْقَى كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّ السَّعَادَةَ بِهَا تزداد مَعَ اِشْتِدَادِ الْأَحْوَالِ وَمَصَاعِبِ الْحَيَاةِ.
بهذا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»
(1)
.
وسنورد فيما يأتي بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المشتملة على تطبيق هذا المقصد لتكون عونًا على فهمه.
وليعلم أننا في هذا الفصل لا نريد منه بيان الحقوق والواجبات وإنما نريد إيضاح مجالات إمتاع كل من الزوجين للآخر فيما يخص الأخلاق الجميلة والآداب الرفيعة وأنه شامل لجميع مناحي الحياة.
1 -
قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [سورة البقرة، آية رقم: 187]، من وسائل إسعاد كل واحد من الزوجين للآخر أن يكون
(1)
صحيح البخاري برقم (3237)، وصحيح مسلم برقم (1436).
لباساً له يستره ويقيه ويتجمل به ويأتي مزيد تفصيل لذلك.
2 -
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [سورة الروم، آية رقم: 21]، فمن أعظم المتع التي يحصل عليها الزوج أن تكون زوجته بمثابة السكن الذي يأوي إليه ويهنأ به وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.
3 -
قال الله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [سورة النساء، آية رقم: 34]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة الصالحة قال:«الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهُ»
(1)
،
إِنَّ القَلَقَ وَالْهَمَّ الَّذِي يُصِيبُ الزَّوْجَ بِسَبَبِ الشُّكُوكِ وَالْوَسَاوِسِ حَالَ غِيَابِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تَزُولُ بِالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ الْعَفِيفَةِ الشَّرِيفَةِ وَيَحُلُّ مَحَلَّهَا الطُّمَأْنِينَةُ وَالرَّاحَةُ.
4 -
قال الله تعالى حاكيًا عن نبي الله موسى وهو يخاطب أهله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)} [سورة القصص، آية: 29].
من الأمور التي تظهر فيها مكانة الزوجة عند زوجها أن يجعلها تشاركه في بعض أموره العامة، فإنها بذلك تشعر بالتقدير والاحترام وأنها ليست من سقط المتاع، فهذا موسى عليه السلام يقول لزوجته:
(1)
مسند الإمام أحمد (12/ 383 - 384) برقم (7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.
سآتيكم منها بخبر، ولم يقل: هذه الأمور تخص الرجال لا شأن لها به، فلينتبه الأزواج إلى ذلك.
5 -
من أعظم المتع التي تنالها الزوجة أن تجد من زوجها الشكر والثناء والاعتراف بالجميل لقاء ما تقوم به من تبعل وحسن معشر، وهؤلاء أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن لما خُيرن بين الدنيا والآخرة فاخترن الله ورسوله كانت مكافأتهن ما أخبر به عز وجل بقوله:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [سورة الأحزاب، آية رقم: 52].
6 -
من أفضل وأحسن ما يهنأ به الزوج أن تكون زوجته حافظة لبصرها فإنها إذا كانت كذلك فهي لما سواه أحفظ، قال الله تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [سورة النور، آية رقم: 31]، فقد وصف الله نساء أهل الجنة، فقال تعالى:{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [سورة الرحمن، آية رقم: 56]، كذلك فإن الزوجة تجد السعادة والراحة حين ترى زوجها حافظًا لبصره امتثالًا لقوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [سورة النور، آية رقم: 30]، لعلمها أنه إذا حفظ بصره فإنه لما سواه أحفظ.
7 -
من أعظم ما يتمتع به الزوجان أن يرى كل منهما في الآخر هذا الخلق الجميل الذي هو شعبة من الإيمان وهو خلق الحياء، فإن الحياء إذا وجد لا يرقى معه شيء من الأخلاق الذميمة والصفات السقيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»
(1)
. وفي التنزيل المبارك يقص علينا ربنا عز وجل قصة البنتين الصالحتين، فقد ذكر أعظم ما تحليا به وهو الحياء الذي
(1)
صحيح مسلم برقم (37)، وأخرجه البخاري برقم (6117) بمعناه.
منعهما من مخالطة الرجال مع شدة الحاجة إلى سقي غنمهما، قال الله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [سورة القصص، الآيتان: 23 - 24].
8 -
إن مما يجمل المرأة ويرفع منزلتها في عيون الناس - ولاسيما الزوج- أن يكون الحياء حاكمًا على جميع تصرفاتها وحركاتها وسكناتها حتى في مشيها، وقد ذكر الله ذلك عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح على سبيل الثناء والمدح، فقال تعالى:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [سورة القصص، آية رقم: 25].
9 -
من أعظم النعم على الرجل أن يرزقه الله زوجة عاقلة حصيفة شديدة الملاحظة لما فيه الخير، عارفة بالفضائل ومحاسن الصفات، قال الله تعالى عن المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [سورة القصص، آية رقم: 26].
10 -
قال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [سورة الأحزاب، آية رقم: 32].
من الأمور التي ترفع مكانة المرأة وتعلي منزلتها عند زوجها بل عند الناس جميعًا؛ أن تكون تصرفاتها قاطعة لأطماع أصحاب الهوى والفجور، فإذا اضطرت إلى الكلام مع الرجال كان كلامها غير رقيق ولا لين وأن
تتجنب فيه الألفاظ والعبارات التي لا تنبغي إلا مع الأزواج {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [سورة الأحزاب، آية رقم: 32].
11 -
إن إدخال السرور على النفوس مما يسعى إليه كل أحد وهو من نعيم أهل الجنة، ولذلك ينبغي للزوجين إدخال السرور على بعضهما وهذه صفة المرأة الصالحة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَ»
(1)
.
12 -
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية، فقال لأصحابه:«تَقَدَّمُوا» ، فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ:«تَعَالَيْ أُسَابِقُكِ» ، فَسَبَقْتُهُ، فَلَبِثْنَا حَتَّى إِذَا رَهِقَنِي اللَّحْمُ سَابَقَنِي فَسَبَقَنِي، فَقَالَ:«هَذِهِ بِتِيكِ»
(2)
.
13 -
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَشْرَبُ مِنَ الْإِنَاءِ، فَيَأْخَذُهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَمَهُ حَيْثُ كَانَ فَمِي، وَأَنَا حَائِضٌ
(3)
.
14 -
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ،
(1)
(12/ 383) برقم (7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.
(2)
(40/ 145) برقم (24119)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3)
(41/ 427) برقم (24954)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ عليه السلام فَقَالَ:«دَعْهُمَا» ، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا قَالَ:«تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ:«دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ:«حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«فَاذْهَبِي»
(1)
.
15 -
ضَرَبَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها أَرَوْعَ الْأَمْثَالِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَنَذكُرُ بَعْضَ مَوَاقِفِهَا وَمَوَاقِفِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَعَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مِثَالًا يُحْتَذَى لِكُلِّ زَوْجَيْنِ يُرِيدَانِ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُمَا مَعَ بَعْضِهِمَا حَيَاةً سَعِيدَةً طِيبَةً.
روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وجاء في آخر الحديث، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال:«زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ:«أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي» ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ:«لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ
(1)
صحيح البخاري برقم (949)، وصحيح مسلم برقم (892) واللفظ له.
امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاء اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» ، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ
(1)
.
فوقوفها مع النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتها له وتبشيرها من أعظم مواقف امرأة مع زوجها، مع الإحاطة والعلم بأن هذا كله وقع قبل إسلامها، وقد كافأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار هذه المواقف النبيلة، فكان صلى الله عليه وسلم يردد:«إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ»
(2)
، و «إِنِّي رُزِقْتُ حُبَّهَا»
(3)
(4)
.
وكان صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها رضي الله عنها يذكر لها هذه الفضائل العظيمة حتى قالت
(1)
صحيح البخاري برقم (3)، وصحيح مسلم برقم (160).
(2)
صحيح البخاري برقم (3818)، وصحيح مسلم برقم (2434) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
صحيح مسلم برقم (2435) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
مسند الإمام أحمد (41/ 356) برقم (24864)، وقال محققوه: حديث صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها.
عائشة رضي الله عنها: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة
(1)
.
وقد نالت رضي الله عنها بحسن عشرتها ما لم ينله أحد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عليها السلام مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ
(2)
.
والقصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب اختلاط الأصوات، والنصب: التعب، قال السهيلي: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يومًا من الدهر، فلم تصخب عليه يومًا ولا آذته أبدًا
(3)
.
هذه بعض مواقفها رضي الله عنها وأرضاها ختمنا بها هذا الفصل والمسك خير ختام.
* * *
(1)
صحيح البخاري برقم (3818) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
صحيح البخاري برقم (3820)، وصحيح مسلم برقم (2432).
(3)
البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (4/ 317).