المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة) - السلوك لمعرفة دول الملوك - جـ ٦

[المقريزي]

الفصل: ‌(سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة)

(سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَثَمَانمِائَة)

أهلت وَخَلِيفَة الْوَقْت المعتضد بِاللَّه أَبُو الْفَتْح دَاوُد بن المتَوَكل على الله أبي عبد الله مُحَمَّد وسلطان مصر وَالشَّام والحجاز الْملك الْمُؤَيد أَبُو النَّصْر شيخ المحمودي الظَّاهِرِيّ والأمير الْكَبِير ألطنبغا القرمشي وأتابك العساكر الْمقَام الصارمي إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان والدوادار الْأَمِير جقمق وَرَأس نوبَة الْأَمِير ألطنبغا الصَّغِير وأمير سلَاح الْأَمِير قجقار القردمي وأمير مجْلِس الْأَمِير ططر وَكَاتب السِّرّ نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْبَارِزِيّ والوزير وناظر الْخَاص الصاحب بدر الدّين حسن بن نصر الله أحد الْأُمَرَاء مقدمي الألوف والأستادار الْأَمِير أَبُو بكر وناظر الْجَيْش علم الدّين دَاوُد بن الكويز وقضاة الْقُضَاة على حَالهم ونائب الشَّام الْأَمِير تنبك ميق العلاي ونائب حلب الْأَمِير يشبك اليوسفي ونائب طرابلس الْأَمِير سودن القَاضِي ونائب حماة الْأَمِير شاهين الزردكاش ونائب صفد الْأَمِير قرا مُرَاد خجا ونائب الْإسْكَنْدَريَّة نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْعَطَّار. شهر الله الْمحرم الْحَرَام أَوله الْجُمُعَة: فِي ثَانِيه: جلس السُّلْطَان لعرض أجناد الْحلقَة على مَا تقدم وَأنْفق على الْأُمَرَاء نَفَقَة السّفر وَفِي خامسه: قدم مبشرو الْحَاج وأخبروا أَنه لم يرد أحد من حَاج الْعرَاق. وَفِي رَابِع عشره: قرئَ تَقْلِيد الْوَزير الصاحب بدر الدّين حسن بن نصر الله بالجامع المؤيدي وَكَانَت الْعَادة أَن يقْرَأ تَقْلِيد الوزارة بخانكاه سعيد السُّعَدَاء. وَفِي نصفه: ضرب خام الْمقَام الصارمي إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان تجاه مَسْجِد تبر خَارج الْقَاهِرَة. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامن عشره: ركب إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان بكرَة النَّهَار فِي أُمَرَاء الدولة والعساكر وَتَبعهُ طلبه وَطلب الْأَمِير جقمق الدوادار حَتَّى نزل بمخيمه وَخرج بعده الْأُمَرَاء بأطلابهم وهم ططر أَمِير مجْلِس وقجقار القردمي أَمِير سلَاح وأينال الأزعري رَأس نوبَة وجلبان وأركماس الجلباني من مقدمي الألوف وَثَلَاثَة من أُمَرَاء الطبلخاناه وَخَمْسَة عشر من أُمَرَاء العشرات وَمِائَتَيْنِ من المماليك السُّلْطَانِيَّة.

ص: 489

وَفِي عشرينه: نزل السُّلْطَان إِلَى مخيمه على خليج الزَّعْفَرَان ثمَّ سَار إِلَى مخيم وَلَده وَبَات عِنْده ثمَّ ودعه وَركب من الْغَد إِلَى القلعة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي عشرينه: رَحل الْمقَام الصارمي إِلَى جِهَة الْبِلَاد الشامية بِمن مَعَه وَفِي ثَالِث عشرينه: قدم الركب الأول من الْحَاج وَقدم الْمحمل بِبَقِيَّة الْحَاج من عده وَمَعَهُمْ الشريف عجلَان بن نعير أَمِير الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة فِي الْحَدِيد. وَقدم الْأَمِير بكتمر السَّعْدِيّ عَائِدًا من الْيمن بِكِتَاب النَّاصِر أَحْمد بن الْأَشْرَف. وَفِيه شرع السُّلْطَان فِي عمَارَة قبَّة عَظِيمَة بالحوش من قلعة الْجَبَل أنْفق عَلَيْهَا مَالا كَبِيرا. وَفِيه كتب تَقْلِيد الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن باك بن دلغادر باستقراره فِي نِيَابَة السلطنة بقيسارية الرّوم وجهز إِلَيْهِ. وَفِيه خلع على الْأَمِير مقبل الدوادار وَاسْتقر شاد الْعِمَارَة بالجامع المؤيدي عوضا عَن الْأَمِير ططر. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامن عشرينه: نزل السُّلْطَان إِلَى جَامعه بجوار بَاب زويلة واستدعى الْقُضَاة ومشايخ الْعلم ليسألهم عَن إصْلَاح مَا تهدم من أروقة الْمَسْجِد الْحَرَام وتشقق الْكَعْبَة وَعمارَة الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَمن أَيْن تكون النَّفَقَة على ذَلِك. فأجالوا القَوْل فِي هَذَا. وَسَأَلَ قَاضِي الْقُضَاة عَلَاء الدّين عَليّ بن مغلي الْحَنْبَلِيّ قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين الْهَرَوِيّ عَن أَربع مسَائِل وَهُوَ يجِيبه فَيَقُول لَهُ: أَخْطَأت. وَأخذ قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الديري الْحَنَفِيّ فِي الْكَلَام مَعَ الْهَرَوِيّ حَتَّى خرجا إِلَى المسابة. وَعدد الديري قبائح الْهَرَوِيّ من أَنه من أَتبَاع تيمورلنك وَأَنه كَانَ ضَامِن يزدْ وَنَحْو ذَلِك. ثمَّ قَالَ: يَا مَوْلَانَا السُّلْطَان أشهدك عَليّ أَنِّي حجرت عَلَيْهِ أَن لَا يُفْتِي وحكمت بذلك. فنفذ الْحَنْبَلِيّ والمالكي حكمه. فَكَانَ مَجْلِسا فِي غَايَة الْقبْح من إهانة الْهَرَوِيّ وبهدلته ثمَّ انْفَضُّوا على ذَلِك وَقد تبين انحطاط قدره وَبعده عَن الْعلم بالفقه والْحَدِيث. فِي خامسه: اجْتمع المماليك السُّلْطَانِيَّة بالقلعة وهموا أَن يوقعوا بالوزير والأستادار لتأخر عليق خيولهم فَمَا زَالَ الْأُمَرَاء بهم حَتَّى فرقوهم على أَن يصرف لَهُم مَا اسْتحق.

ص: 490

وَفِيه خلع على صدر الدّين أَحْمد بن جمال الدّين مَحْمُود العجمي وَاسْتقر فِي حسبَة الْقَاهِرَة عوضا عَن ابْن شعْبَان. وَفِي يَوْم السبت سابعه: عدى السُّلْطَان النّيل وَنزل بِنَاحِيَة أوسيم وَأقَام بهَا. فَقدمت لَهُ التقادم من الْخُيُول وَالْجمال على الْعَادة. وَفِي سادس عشره: توجه الْأَمِير بدر الدّين حسن بن محب الدّين عبد اللطف الطرابلسي إِلَى طرابلس ليَكُون مُقيما بهَا من جملَة أمرائها. وَفِي ثامن عشره: عَاد السُّلْطَان من أوسيم وَنزل على النّيل بِنَاحِيَة منبابة وَعمل الوقيد فِي لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشره فَمر تِلْكَ اللَّيْلَة من السخف وَإِتْلَاف النفوط مَا يُنكر مثله ثمَّ أصبح مركب الحراقة وَقطع النّيل بكرَة وَصعد القلعة فتعصب المماليك سكان الطباق بقلعة الْحَبل وبقوا يدا وَاحِدَة وامتنعوا من أَخذ الجامكية وطالبوا بِأَن يصرف لَهُم فِي هَذِه الدولة المؤيدية من ابتدائها نَظِير مَا كَانَ يصرف فِي الْأَيَّام الظَّاهِرِيَّة من الْكسْوَة وَاللَّحم وَالسكر وَغَيره فتوقع النَّاس حُدُوث شَرّ وفتنة فَردُّوا وَسكن الشَّرّ. وَفِي هَذَا الشَّهْر: اسْتَقر رقم أَمِير هوارة البحرية وَتوجه وَمَعَهُ الْأَمِير ألطنبغا المرقبي إِلَى الْوَجْه القبلي وَكتب للكشاف والولاة بالركوب مَعَه وطرد هواره فَلَمَّا نزل الْأَمِير ألطنبغا بسفط ميدوم وَقد نزلت هوارة قمن فِي نَحْو أَرْبَعَة آلَاف فَرَكبُوا يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشرينه وطرقوا الْأَمِير ألطنبغا والأمير رقم وقاتلوهم عَامَّة النَّهَار ثمَّ مضوا إِلَى الميمون وَقد قتل من الْفَرِيقَيْنِ نَحْو ثَلَاثَة آلَاف فَأخذ الْعَسْكَر السلطاني مَا تَرَكُوهُ من الأغنام والأبقار وَالْجمال وَالرَّقِيق وَغَيرهَا وَهُوَ شَيْء كثير جدا. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشره: وصل الْمقَام الصارمي إِبْرَاهِيم ابْن السُّلْطَان بِمن مَعَه إِلَى دمشق وَقد تَلَقَّتْهُ النواب والعساكر. وَفِي هَذَا الشَّهْر: فَشَا الْمَوْت بالطاعون فِي إقليمي الشرقية والغربية وَجَمِيع الْوَجْه البحري وابتدأ بِالْقَاهِرَةِ ومصر مُنْذُ حلت الشَّمْس فِي برج الْحمل فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشرَة فبلغت عدَّة من يرد الدِّيوَان من الْأَمْوَات مَا بَين الْعشْرين وَالثَّلَاثِينَ فِي كل يَوْم.

ص: 491

وَفِيه رسم بمرمة قناطر شبين بالجيزية وَكتب تَقْدِير مصروفها خَمْسَة آلَاف دِينَار فرضت على بِلَاد الجيزة. وَقرر على كل فدان مبلغ عشْرين دِرْهَم يُسهم الْفَلاح مِنْهَا بِسِتَّة دَرَاهِم والمقطع بأَرْبعَة عشر. وَلَا يعفي من ذَلِك من انْقَطع رزقه. فجبي المَال من الْبِلَاد على هَذَا. وَفِي تَاسِع عشرينه: كسفت الشَّمْس قبيل الزَّوَال فَاجْتمع النَّاس وَصلى بِالنَّاسِ فِي الْجَامِع الْأَزْهَر الشَّيْخ الْحَافِظ شهَاب الدّين أَبُو الْفَتْح بن حجر الْعَسْقَلَانِي الشَّافِعِي - خطب الْجَامِع - صَلَاة الْكُسُوف. عقيب صَلَاة الظّهْر رَكْعَتَيْنِ ركع فِي كل رَكْعَة ركوعين أَطَالَ فيهمَا الْقِرَاءَة فَقَرَأت فِي قيام الرَّكْعَتَيْنِ نَحوا من سِتَّة أحزاب. وَكَانَ الرُّكُوع نَحوا من الْقيام وَالسُّجُود نَحْو الرُّكُوع فقارب فِي أَرْكَان الصَّلَاة مَا بَينهَا وأذكرني بِصَلَاتِهِ أهل السّلف ثمَّ صعد بعد صلَاته الْمِنْبَر فَخَطب خطبتين وعظ فيهمَا وأنذر وَذكر. وَعم اجْتِمَاع النَّاس جَوَامِع مصر والقاهرة وظواهرها وعد هَذَا من حميد أَفعَال محتسب الْقَاهِرَة صدر الدّين أَحْمد بن جمال الدّين مَحْمُود العجمي فَإِنَّهُ بَث أعوانه قبل أَذَان الظّهْر فَنَادوا فِي الْأَسْوَاق تهيئوا رحمكم الله لصَلَاة الْكُسُوف. فبادر النَّاس للتطهر وَأَقْبلُوا يسعون إِلَى الْجَوَامِع طوائف طوائف مَا بَين رجال وَنسَاء. وهم فِي خشوع وَذكر واستغفار فَدفع الله بذلك عَن النَّاس بلاءاً كثيرا. وَفِي هَذَا الشَّهْر: اتّفق وَقت الْعَصْر من يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع عشره حُدُوث زَلْزَلَة استمرت ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها. لَا تهدأ فَسقط سور الْمَدِينَة وَخرجت عَامَّة دورها بِحَيْثُ لم يبْق بهَا دَار إِلَّا سَقَطت أَو هدم بهَا شَيْء وَانْقطع من جبل قِطْعَة فِي قدر نصف هرم مصر وَسَقَطت إِلَى الأَرْض وتفجرت عدَّة أعين من وَادي الْأَزْرَق وانطمت عدَّة أنهر وَكَانَت الزلزلة تَأتي من جِهَة الْمغرب إِلَى جِهَة الْمشرق وَلها دوِي كركض الْخَيل ثمَّ امتدت الزلزلة بعد ثَلَاثَة أَيَّام مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا تعود كل يَوْم مرّة أَو مرَّتَيْنِ وَثَلَاث وَأَرْبع حَتَّى خرج النَّاس إِلَى الصَّحرَاء ثمَّ تمادت سنة. شهر ربيع الأول أَوله الثُّلَاثَاء: فِيهِ نزل الْمقَام الصارمي تل السُّلْطَان ظَاهر حلب وَقد خرج إِلَيْهِ نَائِب حلب بعسكرها وأتته العربان والتركمان وَدخل حلب فِي ثالثه.

ص: 492

وَفِيه جلس السُّلْطَان لعرض أجناد الْحلقَة على عَادَته. وَفِيه بلغت عدَّة من ورد من الْأَمْوَات بِالْقَاهِرَةِ إِلَى الدِّيوَان نَحْو الْخمسين أَكْثَرهم أَطْفَال وَذَلِكَ سوى المارستان وموتهم بأمراض حادة. وحبة الْمَوْت قل من يمرض مِنْهُم ثَلَاثَة أَيَّام بل كثير مِنْهُم يَمُوت سَاعَة يمرض أَو من يَوْمه. وَفِي رابعه: سَار الْأَمِير أَبُو بكر الأستادار إِلَى الْوَجْه القبلي لأخذ أَمْوَال هوارة. وَفِي ثامنه: استدعى قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الْهَرَوِيّ إِلَى قلعة الْجَبَل وَقد قدم طَائِفَة من بلد الْقُدس والخليل مَعَ الْأَمِير حسن نَائِب الْقُدسِي للشكوى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَخذ فِي أَيَّام نظره من مَال وقف الْخَلِيل قدرا كَبِيرا فندب السُّلْطَان للْقَضَاء بَينهم الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر مفتي دَار الْعدْل وخطيب الْجَامِع الْأَزْهَر فَثَبت فِي جِهَة الْهَرَوِيّ مَال كثير بِحَضْرَة السُّلْطَان فرسم بإمضاء حكم الشَّرْع فِيهِ فَلَمَّا نزل من القلعة وحاذي الْمدرسَة الصالحية بَين القصرين أمره نقيب قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الديري بالنزول ليعتقل بهَا. فَنزل بعد تمنع وَجلسَ قَلِيلا وَركب يُرِيد منزله فَتسَارع إِلَيْهِ الرُّسُل أعوان الْقُضَاة وجذبوا بغلته ليردوه إِلَى الْمدرسَة فتصايحت الْعَامَّة وعطعطوا بِهِ وسبوه ورجموه فَعَاد عوداً قبيحاً وَقد رَحمَه من رَآهُ وَأدْخل فِي دَار وأغلق عَلَيْهِ فَلم يمض غير قَلِيل حَتَّى نزل إِلَيْهِ الطواشي مرجان الْهِنْدِيّ الخازندار وَأخرجه من معتقله وَمضى بِهِ إِلَى دَاره. وَفِيه وَاقع الْأَمِير ألطنبغا المرقبي هوارة بِنَاحِيَة بني عدي وَكَانَ قد توجه فِي طَلَبهمْ إِلَى نَاحيَة الأشمونين وَترك أثقاله بهَا وتبعهم بالعساكر جَرِيدَة حَتَّى أدركهم لَيْلًا فَكَانَت بَينهمَا معركة قتل فِيهَا جمَاعَة وانهزمت هوارة وتشتتوا. وَفِي ثَانِي عشره: جلس الْأَمِير مقبل الدوادار وَالْقَاضِي علم الدّين دَاوُد بن الكوبز نَاظر الْجَيْش بقلعة الْجَبَل لعرض بَقِيَّة أجناد الْحلقَة من غير أَن يحضر السُّلْطَان. وَفِيه رسم السُّلْطَان للشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر أَن يرسم على قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الْهَرَوِيّ ليخرج عَمَّا ثَبت عَلَيْهِ فندب لَهُ أَرْبَعَة من أعوان الْقُضَاة

ص: 493

لَازمه مِنْهُم اثْنَان فِي دَاره أَقَامَا مَعَه فِي مَوضِع مِنْهَا وتوكل اثْنَان ببابي دَاره وَمنع من البروز من دَاره حَتَّى يخرج مِمَّا فِي قبله. وَفِي رَابِع عشره: نزل مرسوم السُّلْطَان إِلَى الْهَرَوِيّ أَن يخرج مِمَّا ثَبت عَلَيْهِ وَيدْفَع إِلَى مستحقي وقف الْخَلِيل مصالحة عَمَّا ثَبت فِي جِهَته لَو عمل حسابه لمُدَّة مُبَاشَرَته مبلغ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار فشرع فِي بيع موجوده إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء نصفه بعث السُّلْطَان من ثقاته أَمِيرا إِلَى بَيت الْهَرَوِيّ فَأخذ مِنْهُ مَا تَحت يَده من المَال الْمَأْخُوذ من أجناد الْحلقَة وَهُوَ ألف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم فُلُوسًا فَلم يُوجد سوى ألف ألف دِرْهَم وَقد تصرف فِي سِتّمائَة ألف دِرْهَم عَنْهَا نَحْو ثَلَاثَة آلَاف دِينَار فشنعت القالة عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ غضب السُّلْطَان مِنْهُ وَبعث قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الديري الْحَنَفِيّ إِلَى نواب الْهَرَوِيّ فَمَنعهُمْ من الحكم بَين النَّاس بمقتضي أَنه ثَبت فسقه وَحكم الْفَاسِق لَا ينفذ وولايته لَا تصح عِنْد الإِمَام الشَّافِعِي وهددهم مَتى حكمُوا بَين النَّاس فانكفوا عَن الحكم. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء غده: صعد بعض الرُّسُل المرسمين على الْهَرَوِيّ إِلَى السُّلْطَان وبلغه - على لِسَان بعض خواصه - أَنه تبين لَهُ ولرفقائه أَن الْهَرَوِيّ تهَيَّأ ليهرب فَبعث عدَّة من الأجناد وَكلهمْ بِهِ فِي دَاره. وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشره: نزل السُّلْطَان إِلَى جَامعه بجوار بَاب زويلة واستدعى شيخ الْإِسْلَام قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين البُلْقِينِيّ فارتجت الْقَاهِرَة وَخرج النَّاس من الرِّجَال وَالنِّسَاء على اخْتِلَاف طبقاتهم لرُؤْيَته فَرحا بِهِ حَتَّى غصت الشوارع فعندما رَآهُ السُّلْطَان قَامَ لَهُ وأجله وَبَالغ فِي إكرامه وأفاض عَلَيْهِ التشريف وشافهه بِولَايَة الْقُضَاة وَتوجه جلال الدّين البُلْقِينِيّ من الْجَامِع إِلَى الْمدرسَة الصالحية فَمر من تَحت الرّبع وَعبر من بَاب زويلة وسلك تَحت شبابيك الْجَامِع وَقد قَامَ السُّلْطَان فِي الشباك ليراه فأبصر من كَثْرَة الْخلق وَشدَّة فَرَحهمْ وعظيم مَا بذلوه وسمحوا بِهِ من الزَّعْفَرَان للخلوق والشموع للوقود مَعَ مجامر الْعود والعنبر ورش مَاء الْورْد وضجيجهم بِالدُّعَاءِ للسُّلْطَان مَا أذهله وَقَوي رغبته فِيهِ وَسَار كَذَلِك حَتَّى أَن بغلته لَا تكَاد أَن تَجِد موضعا لحوافرها حَتَّى نزل بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية وَمَعَهُ أهل الدولة عَن آخِرهم لم توجه إِلَى دَاره فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً واجتماعاً لم يعْهَد لقاض مثله.

ص: 494

وَفِي سادس عشرينه: انتهي عرض أجناد الْحلقَة. وَفِي هَذَا الشَّهْر: تتبع صدر الدّين محتسب الْقَاهِرَة أَمَاكِن الْفساد بِنَفسِهِ وَمَعَهُ وَالِي الْقَاهِرَة فأراق آلافاً من جرار الْخمر وَكسرهَا وَمنع النِّسَاء من النِّيَاحَة على الْأَمْوَات وَمنع من التظاهر بالحشيش وكف البغايا عَن الْوُقُوف لطلب الْفَاحِشَة فِي الْأَسْوَاق ومواضع الريب وألزم الْيَهُود وَالنَّصَارَى بتضييق الأكمام الواسعة وتصغير العمائم حَتَّى لَا تتجاوز عِمَامَة أحدهم سَبْعَة أَذْرع وَأَن يدخلُوا الحمامات بجلاجل فِي أَعْنَاقهم وَأَن تلبس نساوهم أزراً مصبوغة مَا بَين إِزَار أصفر لِلْيَهُودِيَّةِ وَإِزَار أَزْرَق للنصرانية فَاشْتَدَّ قلقهم من ذَلِك وتعصب لَهُم قوم فَعمل بعض مَا ذكر دون بَاقِيه. وَبَلغت عدَّة من ورد الدِّيوَان من الْأَمْوَات فِي هَذَا الشَّهْر بِمَدِينَة بلبيس ألف إِنْسَان وبناحية بردين من الشرقية خَمْسمِائَة نفس وبناحية ديروط من الغربية ثَلَاثَة آلَاف إِنْسَان سوى بَقِيَّة الْقرى وَهِي كَثِيرَة جدا. شهر ربيع الآخر أَوله الْخَمِيس: فِي ثَالِثَة: بلغت عدَّة من يرد الدِّيوَان من الْأَمْوَات بِالْقَاهِرَةِ إِلَى مائَة وَسِتَّة وَتِسْعين سوى المارستان ومصر وَبَقِيَّة الْمَوَاضِع الَّتِي لَا تود الدِّيوَان وَمَا تقصر عَن مائَة أُخْرَى. هَذَا مَعَ شناعة الموتان بالأرياف وخلو عدَّة قرى من أَهلهَا. وَفِي خامسه: خدع قَاضِي الْقُضَاة الْهَرَوِيّ الموكلين بِهِ من الأجناد حَتَّى مكنوه أَن يخرج من دَاره فالتجأ إِلَى بَيت الْأَمِير قطلوبغا التنمي فطار الْخَبَر فِي الْوَقْت إِلَى الْأَمِير مقبل الدوادار وَغَيره بِأَن الْهَرَوِيّ قد هرب وَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَبعث الْأَمِير تَاج الدّين الشويكي أستادار الصُّحْبَة إِلَيْهِ فَأَخذه من بَيت التنمي وَحمله إِلَى القلعة فسجنه بهَا فِي أحد أبراجها وَضرب الدوادار الأجناد الموكلين بِهِ ضربا مبرحاً. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثامنه: نُودي فِي النَّاس من قبل الْمُحْتَسب أَن يَصُومُوا ثَلَاثَة أَيَّام أَخّرهَا يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره لِيخْرجُوا مَعَ السُّلْطَان فيدعوا الله بالصحراء فِي رفع الوباء ثمَّ أُعِيد النداء فِي ثَانِي عشره أَن يَصُومُوا من الْغَد فتناقص عدد الْأَمْوَات

ص: 495

فِيهِ وَأصْبح كثير من النَّاس صياما فصاموا يَوْم الثُّلَاثَاء وَيَوْم الْخَمِيس وَبَطل كثير من الباعة بيع الأقوات فِي أول النَّهَار كَمَا هِيَ الْعَادة فِي أول شهر رَمَضَان. وَفِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس عشره: نُودي فِي النَّاس بالمضي إِلَى الصَّحرَاء من الْغَد وَأَن يخرج الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء ومشايخ الخوانك وصوفيتها وَعَامة النَّاس وَنزل الْوَزير الصاحب بدر الدّين بن نصر الله والأمير التَّاج الأستادار بالصحبة إِلَى تربة الْملك الظَّاهِر برقوق ونصبوا المطابخ بالحوش القبلي مِنْهَا وأحضروا الأغنام والأبقار وَبَاتُوا هُنَاكَ فِي تهيئة الْأَطْعِمَة والأخباز ثمَّ ركب السُّلْطَان بَعْدَمَا صلى صَلَاة الصُّبْح وَنزل من قلعة الْجَبَل وَهُوَ لابس الصُّوف وعَلى كَتفيهِ مئزر صوف مسدل كَهَيئَةِ الصُّوفِيَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة صَغِيرَة جدا لَهَا عذبة مرخاة من بَين لحيته وكتفه الْأَيْسَر وَهُوَ بتخشع وانكسار وفرسه بقماش ساذج لَيْسَ فِيهِ ذهب وَلَا حَرِير وَقد أقبل النَّاس أَفْوَاجًا. وَسَار شيخ الْإِسْلَام قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين البُلْقِينِيّ من منزله مَاشِيا فِي عَالم كَبِير وَسَار مُعظم الْأَعْيَان من مَنَازِلهمْ مَا بَين ماش وراكب حَتَّى وافوا السُّلْطَان بالصحراء قَرِيبا من قبَّة النَّصْر وَمَعَهُمْ الْأَعْلَام والمصاحف وَلَهُم بِذكر الله تَعَالَى أصوات مُرْتَفعَة فَنزل السُّلْطَان عَن فرسه وَقَامَ على قَدَمَيْهِ وَعَن يَمِينه وشماله الْقُضَاة والخليفة وَأهل الْعلم وَمن بَين يَدَيْهِ وَخَلفه طوائف لَا يحصيها إِلَّا خَالِقهَا سُبْحَانَهُ فَبسط يَدَيْهِ ودعا الله وَهُوَ يبكي وينتحب والجم الْغَفِير يرَاهُ ويشهده زَمَانا طَويلا ثمَّ ركب يُرِيد الحوش من التربة الظَّاهِرِيَّة وَالنَّاس فِي قدمه وَبَين يَدَيْهِ حَتَّى نزل وَأكل مَا تهَيَّأ وَذبح بِيَدِهِ قرباناً قربَة إِلَى الله مائَة وَخمسين كَبْشًا سميناً من أَثمَان خَمْسَة دَنَانِير الْوَاحِد ثمَّ ذبح عشر بقرات سمان وجاموستين وجملين وَهُوَ يبكي ودموعه تنحدر - بِحَضْرَة الْمَلأ - على لحيته ثمَّ ترك القرابين على مضاجعها كَمَا هِيَ وَركب إِلَى القلعة فَتَوَلّى الْوَزير والتاج تفرقتها صحاحاً على الْجَوَامِع الْمَشْهُورَة والخوانك وقبة الإِمَام الشَّافِعِي وتربة اللَّيْث بن سعد ومشهد السيدة نفيسة وعدة من الزوايا حملت إِلَيْهَا صحاحاً وَقطع مِنْهَا عدَّة بالحوش فرقت لَحْمًا على الْفُقَرَاء وَفرق من الْخبز النقي يَوْمئِذٍ عدَّة ثَمَانِيَة وَعشْرين ألف رغيف تنَاولهَا الْفُقَرَاء من يَد الْوَزير وَبعث

ص: 496

مِنْهَا إِلَى كل سجن خَمْسمِائَة رغيف وعدة قدور كبار مَمْلُوءَة بِالطَّعَامِ الْكثير اللَّحْم هَذَا وَشَيخ الْإِسْلَام فِي طَائِفَة عَظِيمَة من النَّاس يقرءُون الْقُرْآن وَيدعونَ الله حَيْثُ وقف السُّلْطَان وَشَيخ الحَدِيث النَّبَوِيّ - شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر - فِي صرفية خانكاة بيبرس وَغَيرهم كَذَلِك وَأهل كل جَامع ومشهد وخانكاه كَذَلِك حَتَّى اشْتَدَّ حر النَّهَار انصرفوا وَركب الْوَزير بعدهمْ قبيل نصف النَّهَار إِلَى منزله فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً لم ندرك مثله إِلَّا أَنه بِخِلَاف مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف الصَّالح فقد خرج الإِمَام أَحْمد - عَن شهر بن حَوْشَب - فِي حَدِيث طاعون عمواس أَن أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن هَذَا الوجع رَحْمَة من ربكُم ودعوة نَبِيكُم وَمَوْت الصَّالِحين قبلكُمْ وَأَن أَبَا عُبَيْدَة يسْأَل الله أَن يقسم لنا حظاً مِنْهُ فطعن فَمَاتَ. واستخلف معَاذ بن جبل فَقَامَ خَطِيبًا بعده فَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن هَذَا الوجع رَحْمَة من ربكُم ودعوة نَبِيكُم وَمَوْت الصَّالِحين قبلكُمْ وَأَن معَاذًا يسْأَل الله أَن يقسم لآل معَاذ حَظه مِنْهُ فطعن ابْنه عبد الرَّحْمَن فَمَاتَ. ثمَّ قَامَ فَدَعَا ربه لنَفسِهِ فطعن فِي رَاحَته. وَلَقَد رَأَيْته ينظر إِلَى السَّمَاء ثمَّ يقبل كَفه وَيَقُول: مَا أحب أَن لي بِمَا فِيك شَيْئا من الدُّنْيَا وَمَات. فاستخلف عَمْرو بن الْعَاصِ فَذكر الحَدِيث. فَهَذِهِ أعزّك الله أَفعَال الصَّحَابَة. وَقد عكس أهل زَمَاننَا الْأَمر فصاروا يسْأَلُوا الله رَفعه عَنْهُم. وَمن غَرِيب مَا وَقع فِي هَذَا الطَّاعُون أَن رجلا لَهُ أَرْبَعَة أَوْلَاد أَرَادَ ختانهم وَعمل لَهُم مجتمعاً بَالغ فِي عمل الْأَطْعِمَة وَنَحْوهَا لمن دَعَاهُ يُرِيد بذلك تفريح أَوْلَاده وَأَهله قبل أَن يَأْتِيهم الْمَوْت وَقَدَّمَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا ليختنوا وهم يسقون الْأَوْلَاد الشَّرَاب الْمُذَاب بِالْمَاءِ على الْعَادة فَمَاتَ الْأَرْبَعَة فِي الْحَال عقيب اختتانهم وَالنَّاس حُضُور. فأتهم أباهم الخاتن أَنه سمهم فجرح نَفسه بِالْمُوسَى الَّذِي ختنهم بِهِ ليبرئ نَفسه فَانْقَلَبَ الْفَرح مأتماً وبينما هم فِي ذَلِك إِذْ ظهر أَن الزير الَّذِي عِنْدهم فِيهِ المَاء الَّذِي أخذُوا مِنْهُ ومزجوا بِهِ الشَّرَاب الْأَطْفَال فِيهِ حَيَّة ميتَة. تنوعت الْأَسْبَاب والداء وَاحِد. وَقدم الْخَبَر بحدوث زَلْزَلَة عَظِيمَة بِبِلَاد الرّوم حدثت يَوْم كسف الشَّمْس. خسف مِنْهَا قدر نصف مَدِينَة أرزنكان هلك فِيهَا عَالم كثير وانهدم من مباني الْقُسْطَنْطِينِيَّة شَيْء كثير وَكَانَ ابْن عُثْمَان قد بني فِي برصا قيسارية وعدة حوانيت خسف بهَا

ص: 497

وَبِمَا حولهَا فَهَلَك خلق كثير لم يسلم مِنْهُم أحد. وَأَن الوباء عَم أهل إقريطش والبندقية من بِلَاد الفرنج حَتَّى خلتا وَأَن الفرنج قد اجْتَمعُوا لِحَرْب ابْن عُثْمَان متملك برصا. وَفِي ثَانِي عشرينه: أنزل بالهروي مَعَ معتقله بالبرج مَعَ الْأَمِير التَّاج إِلَى الْمدرسَة الصالحية بَين القصرين وَقد اجْتمع قُضَاة الْقُضَاة الثَّلَاث عِنْد شيخ الْإِسْلَام قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين البُلْقِينِيّ بقاعته مِنْهَا فَأوقف الْهَرَوِيّ تَحت حافة الإيوان وادعي الْأَمِير التَّاج عَلَيْهِ عِنْد الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر - بِحَضْرَة الْقُضَاة - بِمَا ثَبت عَلَيْهِ عِنْده فِي مجْلِس السُّلْطَان فَأجَاب بِأَن مَا ثَبت عَلَيْهِ قد أدّى بعضه وَأَنه يحمل بَاقِيه قَلِيلا قَلِيلا فَطلب التَّاج حكم الله فِيهِ فَأمر بسجنه حَتَّى يودي مَا عَلَيْهِ فَأخْرج بِهِ إِلَى قبَّة الصَّالح فسجن بهَا ووكل بِهِ جمَاعَة يَحْفَظُونَهُ. فَأَقَامَ إِلَى ثامن عشرينه وَنقل من الْقبَّة إِلَى قلعه الْجَبَل من كَثْرَة شكواه بِأَنَّهُ يمر بِهِ من سبّ النَّاس ولعنهم لَهُ مَا لَا يحْتَمل مثله وَأَنه لَا يَأْمَن أَن يفتك النَّاس بِهِ لكراهتهم فِيهِ فعندما صَار بِجَامِع القلعة نقل للتاج أَن الْهَرَوِيّ مَا أَرَادَ بتحوله من الْقبَّة إِلَى القلعة إِلَّا الْقرب من خَواص السُّلْطَان ليتَمَكَّن مِنْهُم حَتَّى يشفعوا لَهُ عِنْد السُّلْطَان فِي خلاصه فبادر وَنَقله من جَامع القلعة إِلَى مَوضِع يشرف على المطبخ السلطاني. وَقدم الْخَبَر برحيل ابْن السُّلْطَان من حلب وَدخل إِلَى مَدِينَة قيسارية الرّوم فِي يَوْم الْخَمِيس تاسعه فَحَضَرَ إِلَيْهِ أكابرها من الْقُضَاة والمشايخ والصوفية وتلقوه فألبسهم الْخلْع وطلع قلعتها فِي يَوْم الْجُمُعَة وخطب فِي جوامعها للسُّلْطَان وَضربت السِّكَّة باسمه. وَأَن شيخ جلبي نَائِب قيسارية تسحب قبل وُصُوله إِلَيْهَا وَأَنه خلع على الْأَمِير مُحَمَّد بك قرمان وَأقرهُ فِي نِيَابَة السلطنة بقيسارية الرّوم فدقت البشائر بقلعة الْجَبَل وَفَرح السُّلْطَان بِأخذ قيسارية فَإِن هَذَا شَيْء لم يتَّفق لملك من مُلُوك التّرْك بِمصْر سوى للظَّاهِر بيبرس ثمَّ انْتقصَ الصُّلْح بَينه وَبَين أَهلهَا.

ص: 498

شهر جُمَادَى الأولى أَوله السبت: فِيهِ بلغت عدَّة من يرد الدِّيوَان من الْأَمْوَات سَبْعَة وَسبعين وَكَانَ عدَّة من مَاتَ بِالْقَاهِرَةِ وَورد اسْمه إِلَى الدِّيوَان من الْعشْرين من صفر إِلَى سلخ شهر ربيع الآخر - أمسه - سَبْعَة آلَاف وسِتمِائَة واثنين وَخمسين: الرِّجَال ألف وَخَمْسَة وَسِتُّونَ رجلا وَالنِّسَاء سِتّمائَة وَتِسْعَة وَسِتُّونَ امْرَأَة وَالصغَار ثَلَاثَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَتِسْعَة وَسِتُّونَ صَغِيرا وَالْعَبِيد خَمْسمِائَة وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ وَالْإِمَاء ألف وثلاثمائة وتسع وَسِتُّونَ وَالنَّصَارَى تِسْعَة وَسِتُّونَ وَالْيَهُود اثْنَان وَثَلَاثُونَ وَذَلِكَ سوى المارستان وَسوى ديوَان مصر وَسوى من لَا يرد اسْمه إِلَى الديوانين وَلَا يقصر ذَلِك عَن تَتِمَّة الْعشْرَة آلَاف. وَمَات بقري الشرقية والغربية مثل ذَلِك وأزيد. وَفِي يَوْم الْأَحَد ثَانِيه: ولد الْأَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان من زَوجته سعادات. وَفِيه رسم بإخلاء حوش الْعَرَب تَحت القلعة مِمَّا يَلِي بَاب القرافة فَأخْرج مِنْهُ عرب آل يسَار بحرمهم وَأَوْلَادهمْ وَوَقع الشُّرُوع فِي عِمَارَته. وَفِي ثالثه: خلع على الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر وَاسْتقر مدرس الشَّافِعِيَّة بالجامع المؤيدي وَاسْتقر الشَّيْخ يحيي بن مُحَمَّد بن أَحْمد العجيسي البجائي المغربي النَّحْوِيّ فِي تدريس الْمَالِكِيَّة وَاسْتقر الشَّيْخ عز الدّين عبد الْعَزِيز بن على بن الْعِزّ الْبَغْدَادِيّ فِي تدريس الْحَنَابِلَة وخلع عَلَيْهِم بِحَضْرَة السُّلْطَان ونزلوا ثَلَاثَتهمْ. وَفِي سادسه: استدعى السُّلْطَان الْأَطِبَّاء وأوقفهم بَين يَدَيْهِ ليختار مِنْهُم من يوليه رئاسة الْأَطِبَّاء فَتكلم سراج الدّين عمر بن مَنْصُور بن عبد الله البهادري الْحَنَفِيّ ونظام الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر بن أبي بكر الْهَمدَانِي الأَصْل الْبَغْدَادِيّ المولد ومولده بهَا فِي شعْبَان سنة سبع وَخمسين وَسَبْعمائة وَقد استدعاه السُّلْطَان من دمشق فَقدم إِلَى الْقَاهِرَة فِي شهر ربيع الآخر وادعي دَعْوَى عريضة فِي علم الطِّبّ والنجامة فَظهر البهادري عَلَيْهِ بِكَثْرَة حفظه واستحضاره وَكَاد يروج لَوْلَا مَا رمي بِهِ عِنْد السُّلْطَان من أَنه لَا يحسن العلاج وَأَنه مَعَ علمه يَده غير مباركة مَا عالج مَرِيضا إِلَّا مَاتَ من مَرضه فانحل السِّلَاح عَنهُ وصرفهم من غير أَن يخْتَار مِنْهُم أحدا. وَفِي سابعه: استدعى بطرك النَّصَارَى وَقد اجْتمع الْقُضَاة ومشايخ الْعلم عِنْد السُّلْطَان فَأوقف على قَدَمَيْهِ ووبخ وقرع وَأنكر عَلَيْهِ مَا بِالْمُسْلِمين من الذل فِي بِلَاد

ص: 499

الْحَبَشَة تَحت حكم الحطي متملكها وهدد بِالْقَتْلِ فَانْتدبَ لَهُ محتسب الْقَاهِرَة صدر الدّين أَحْمد بن العجمي وأسمعه الْمَكْرُوه لَهُ من أجل تهاون النَّصَارَى فِيمَا أمروا بِهِ من الْتِزَام الذلة وَالصغَار فِي ملبسهم وهيأتهم وَطَالَ الْخطاب فِي معنى ذَلِك إِلَى أَن اسْتَقر الْحَال على أَن لَا يُبَاشر أحد من النَّصَارَى فِي ديوَان السُّلْطَان وَلَا عِنْد أحد من الْأُمَرَاء وَلَا يخرج أحد مِنْهُم عَمَّا يلزموا بِهِ من الصغار ثمَّ طلب السُّلْطَان بالإكرام فَضَائِل النَّصْرَانِي كَاتب الْوَزير وَكَانَ قد سجن مُنْذُ أَيَّام فَضَربهُ بالمقارع وشهره بِالْقَاهِرَةِ عُريَانا بَين يَدي الْمُحْتَسب وَهُوَ يُنَادي عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من يُبَاشر من النَّصَارَى فِي ديوَان السُّلْطَان. ثمَّ سجن بعد إشهاره فانكف النَّصَارَى عَن مُبَاشرَة الدِّيوَان ولزموا بُيُوتهم وصغروا عمائهم وضيقوا أكمامهم وألتزم الْيَهُود مثل ذَلِك وامتنعوا جَمِيعهم من ركُوب الْحمير فِي الْقَاهِرَة فَإِذا خَرجُوا من الْقَاهِرَة ركبُوا الْحمير عرضا وأنف جمَاعَة من النَّصَارَى الْكتاب أَن يَفْعَلُوا ذَلِك وبذلوا جهدهمْ فِي السَّعْي فَلَمَّا لم يجابوا إِلَى عودهم إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ تتَابع عدَّة مِنْهُم فِي إِظْهَار الْإِسْلَام وصاروا من ركُوب الْحمير إِلَى ركُوب الْخُيُول المسومة والتعاظم على أَعْيَان أهل الْإِسْلَام والانتقام مِنْهُم بإذلالهم وتعويق معاليمهم ورواتبهم حَتَّى يخضعوا لَهُم ويترددوا إِلَى دُورهمْ ويلحوا فِي السُّؤَال لَهُم وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. وَفِيه قدم الْخَبَر بتوجه ابْن السُّلْطَان من مَدِينَة قيسارية إِلَى جِهَة قونية فِي خَامِس عشر شهر ربيع الآخر بَعْدَمَا مهد أُمُور قيسارية ورتب أحوالها وَنقش اسْم السُّلْطَان على بَابهَا وَأَن الْأَمِير تنبك ميق نَائِب الشَّام لما وصل إِلَى العمق حضر إِلَيْهِ الْأَمِير حَمْزَة ابْن رَمَضَان بجمائعه من التركمان وَتوجه مَعَه هُوَ - وَابْن أرزر - إِلَى قريب المصيصة وَأخذ أذنة وطرسوس. وَفِي ثامنه: عملت عقيقة الْأَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان وخلع على الْأُمَرَاء وأركبوا الْخُيُول بالقماش الذَّهَب على الْعَادة. وَفِيه قدم الْأَمِير ألطنبغا المرقبي حَاجِب الْحجاب والأمير أَبُو بكر الأستادار من الْوَجْه القبلي وخلع عَلَيْهِمَا.

ص: 500

وَفِيه نَادِي الْمُحْتَسب فِي شوارع الْقَاهِرَة ومصر بِأَن النَّصَارَى وَالْيَهُود لَا يَمرونَ فِي الْقَاهِرَة إِلَّا مشَاة غير ركاب وَإِذا ركبُوا خَارج الْقَاهِرَة فليركبوا الْحمير عرضا وَلَا يلبسوا إِلَّا عمائم صَغِيرَة الحجم وثياباً ضيقَة الأكمام وَمن دخل مِنْهُم الْحمام فَلْيَكُن فِي عُنُقه جرس وَأَن تلبس نسَاء النَّصَارَى الأزر الزرق وَنسَاء الْيَهُود الأزر الصفر فضاقوا بذلك وَاشْتَدَّ الْأَمر عَلَيْهِم فسعوا فِي إِبْطَاله سعياً كَبِيرا فَلم ينالوا غَرضا وكبست عَلَيْهِم الحمامات وَضرب جمَاعَة مِنْهُم لمُخَالفَته فَامْتنعَ كثير مِنْهُم عَن دُخُول الْحمام وَعَن إِظْهَار النِّسَاء فِي الْأَسْوَاق. وَفِيه أحضر إِلَى السُّلْطَان مَا قدم بِهِ الْأَمِير أَبُو بكر الأستادار من أَمْوَال هوارة وَهُوَ مِائَتَا فرس وَألف جمل وسِتمِائَة رَأس جاموس وَألف وَخَمْسمِائة رَأس بقر وَخَمْسَة عشر ألف رَأس من الْغنم الضَّأْن وَذَلِكَ سوى مَا تفرق فِي الْأَيْدِي وَسوى مَا هلك واستهلك وَهُوَ كثير جدا وَقد اخْتَلَّ بِهَذِهِ النهبات إقليم مصر خللاً فَاحِشا فَإِن الصَّعِيد بِكَمَالِهِ قد أقفر من الْمَوَاشِي وَإِذا أخذت مِنْهُ رميت على أهل الْوَجْه البحري بأغلى الْأَثْمَان فتجحف بهم. وَفِي هَذِه الْأَيَّام: كثر تسخير النَّاس فِي الْعَمَل بحوش الْعَرَب تَحت القلعة وتتبعهم أعوان الْوَالِي فِي الطرفات حَتَّى قل سعي النَّاس فِي الطرقات لَيْلًا. وَفِيه شرع السُّلْطَان فِي حفر صهريج بجوار خانكاه بيبرس. وَفِي ثَالِث عشره: درس الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حجر بالجامع المؤيدي. وَفِيه تشاجر الصاحب بدر الدّين بن نصر الله والأمير أَبُو بكر الأستادار بَين يَدي السُّلْطَان وتفاحشا فَكثر الإرجاف بهما. وَفِي نصفه: رسم أَن لَا يسخر أحد من الْعَامَّة فِي الْعَمَل بحوش الْعَرَب فاعفوا وخلص كثير من الْعِمَامَة. وَفِي تَاسِع عشره: خلع على الْوَزير والأستادار بَعْدَمَا ألتزما أَن يحملا مائَة ألف دِينَار فَلَمَّا نزلا وزعا ذَلِك على من تَحت أَيْدِيهِمَا فعمت هَذِه البلية جمَاعَة كَثِيرَة بِالْقَاهِرَةِ والأرياف. وَفِي ثَالِث عشرينه: لم يشْهد السُّلْطَان الْجُمُعَة لانتقاض ألم رجله وَلزِمَ الْفراش. وَفِي رَابِع عشرينه: وصل مُحَمَّد بن بِشَارَة شيخ بِلَاد صفد فِي الْحَدِيد وَكَانَ قد خرج عَن طَاعَة السُّلْطَان فتطلبه زَمَانا وأزعجه من بِلَاد صفد إِلَى أَن ترامي بِدِمَشْق

ص: 501

على الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن منجك أحد خَواص السُّلْطَان وَقدم عَلَيْهِ فِي سَابِع صفر وَقد بعث إِلَيْهِ بِأَمَان السُّلْطَان وخلع عَلَيْهِ وأنزله فَلَمَّا ظن أَنه أَمن تصرف فِي أشغاله وَركب فِي أرجاء دمشق. فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَات يَوْم قد وقف بسوق الْخَيل - هُوَ وَابْن منجك - إِذْ دَعَاهُ إِلَى الدُّخُول على الْأَمِير نكباي نَائِب الْغَيْبَة بِدِمَشْق فَدخل مَعَه إِلَيْهِ ووقف أَصْحَابه - وهم نَحْو الْعشْرين - على خيولهم خَارج بَاب السَّعَادَة فَمَا هُوَ إِلَّا أَن اسْتَقر بِابْن بِشَارَة الْمجْلس أَشَارَ ابْن منجك إِلَى نكباي بطرفه أَن اقبضه فأحيط بِهِ فَأخذ ليدفع عَن نَفسه وسل سَيْفه فَقبض عَلَيْهِ فسل خنجره وجرح بِهِ من تقدم إِلَيْهِ فتكاثرت السيوف على رَأسه وَأخذ وَقيد وَقبض على الْعشْرين من أَصْحَابه ووسط مِنْهُم أَرْبَعَة عشر واعتقل أَرْبَعَة مَعَ ابْن بِشَارَة ثمَّ حمل محتفظاً بِهِ فاعتقل. وَفِي سَابِع عشره: أَخذ قاع النّيل فجَاء أَرْبَعَة أَذْرع تنقص إِصْبَعَيْنِ. وَنُودِيَ بِزِيَادَة ثَلَاثَة أَصَابِع. وَقدم الْخَبَر بِأَن ابْن السُّلْطَان وصل إِلَى نكدة فِي ثامن عشر شهر ربيع الآخر فَتَلقاهُ أَهلهَا وَقد عَصَتْ عَلَيْهِ قلعتها فَنزل عَلَيْهَا وحصرها وَركب عَلَيْهَا المنجنيق وَعمل النقابون فِيهَا وَأَن مُحَمَّد بن قرمان تسحب من مَدِينَة نكدة فِي مائَة وَعشْرين فَارِسًا هُوَ وَولده مصطفى. وَفِي سلخه: رسم للأمير التَّاج الشويكي أَن يتَوَجَّه إِلَى الْبِلَاد الشامية مبشراً بِوِلَادَة الْأَمِير أَحْمد ابْن السُّلْطَان فَسَار من غده. شهر جُمَادَى الْآخِرَة أَوله الْأَحَد: أهل وَالسُّلْطَان ملازم الْفراش وَقد تزايد ألمه والأسعار مُرْتَفعَة وَالْخبْز يعز وجوده بالأسواق أَحْيَانًا لِكَثْرَة اختزان الغلال طلبا للزِّيَادَة فِي أسعارها. وَفِي خامسه: أفرج عَن شمس الدّين مُحَمَّد الْهَرَوِيّ وَنزل إِلَى دَاره فِي هَيْئَة جميلَة. وَفِي ثَانِي عشره: قدم الْخَبَر بِأَن ابْن السُّلْطَان حاصر قلعة نكدة سَبْعَة وَعشْرين يَوْمًا إِلَى أَن أَخذهَا عنْوَة فِي رَابِع عشر جُمَادَى الأولى وَقبض على من فِيهَا وقيدهم وهم مائَة وَثَلَاثَة عشر رجلا ثمَّ توجه فِي سادس عشره إِلَى مَدِينَة لارندة.

ص: 502

وَفِي سادس عشره: استدعى قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الديري الْحَنَفِيّ - محتسب الْقَاهِرَة - صدر الدّين أَحْمد بن العجمي طلبا مزعجاً لما بلغه أَنه انْتقصَ عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما فأوقفه بَين يَدَيْهِ وَادّعى عَلَيْهِ مُدع أَنه قَالَ: وإيش هُوَ عبد الله بن عَبَّاس بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِمَام أبي حنيفَة رحمه الله فَأمر بِهِ فسجن بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ الْبَيِّنَة بذلك وَكَانَ سَبَب هَذَا أَن السُّلْطَان لما اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض أفتاه بعض الْفُقَهَاء أَن يجمع بَين كل صَلَاتَيْنِ مَا دَامَ مَرِيضا فَلَمَّا فعل ذَلِك أنكرهُ صدر الدّين على مُقْتَضى مذْهبه وَهُوَ الْمَنْع من الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَرَض وَالسّفر وَقَالَ للسُّلْطَان: مذهبك حَنَفِيّ وَلَا يجوز تقليدك غير مَذْهَب أبي حنيفَة فناظره بعض من هُنَاكَ على جَوَاز الْجمع وَأَنه ثَبت فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره وَقد ذهب عبد الله بن عَبَّاس إِلَى الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَر من غير عذر وَاخْتَارَ طَائِفَة من أهل الْعلم الْجمع فِي حَال الْمَرَض فَلم يحسن الرَّد وَقَالَ فِي مُسلم عدَّة أَحَادِيث غير صَحِيحَة وَأخذ فِي تَفْصِيل أبي حنفية بِمَا نسبوه فِيهِ إِلَى غضه من ابْن عَبَّاس وترجيح أبي حنيفَة عَلَيْهِ فشنعوا عَلَيْهِ ذَلِك وَقد حرك مِنْهُم أحقاداً فِي أنفسهم أنتجها جرأته وإقدامه حَتَّى رسم وَفِي سَابِع عشرينه: ركب السُّلْطَان من القلعة يُرِيد النُّزُول بدار ابْن الْبَارِزِيّ على النّيل فَلم يطق حَرَكَة الْفرس لما بِهِ من الْأَلَم فَركب المحفة إِلَى الْبَحْر وَحمل مِنْهَا على الْأَعْنَاق حَتَّى وضع على فرَاشه وَنقل حرمه مَعَه وَنزل الْأُمَرَاء فِي عدَّة من دور النَّاس الَّتِي حوله وَصَارَت الطبلخاناه تدق هُنَاكَ وتمد الأسمطة وتعمل الْخدمَة على مَا جرت بِهِ الْعَادة فِي القلعة وَلم نعهد بِمصْر نَظِير هَذَا. وَفِي تَاسِع عشره: طلب صدر الدّين الْمُحْتَسب من الصالحية إِلَى بَيت ابْن الديري ليعزره فَسَار مَاشِيا وَمَعَهُ من الْعَامَّة خلائق لَا يُحْصى عَددهَا إِلَّا الَّذِي خلقهَا وَقد تعصبوا لَهُ وجهروا بسب من يعاديه ويعانده حَتَّى دخل إِلَى بَيت الديري فأدبه بِمَا اقْتَضَاهُ رَأْيه من غير إِقَامَة بَينه عَلَيْهِ. ثمَّ أفرج عَنهُ فَترك الحكم وَالنَّظَر فِي أَمر الْحِسْبَة إِلَى أَن خلع عَلَيْهِ فِي ثَالِث عشرينه بِبَيْت كَاتب السِّرّ بَين يَدي السُّلْطَان فسر النَّاس بِهِ سُرُورًا كَبِيرا. شهر رَجَب أَوله الثُّلَاثَاء: أهل وَالسُّلْطَان فِي بَيت ابْن الْبَارِزِيّ كَاتب السِّرّ وينتقل مِنْهُ وَهُوَ مَحْمُول على

ص: 503

الْأَعْنَاق تَارَة إِلَى الْحمام الَّتِي بالحكر وَتارَة حَتَّى يوضع بالحراقة ويسير فِيهَا على النّيل إِلَى رِبَاط الْآثَار النَّبَوِيَّة ثمَّ يحمل من الحراقة إِلَى الرِّبَاط وَتارَة يسير فِيهَا إِلَى الْقصر من بَحر منبابة. وَتارَة يُقيم بالحراقة وَهِي ووافى أول مسرى والنيل على عشر أَذْرع وَسِتَّة عشر إصبعاً والقمح من مِائَتَيْنِ وَخمسين درهما الأردب إِلَى دونهَا وَالشعِير بِمِائَة وَثَمَانِينَ الأردب فَمَا دونهَا. وَالشعِير والفول بِمِائَة وَسبعين وَمَا دونهَا كل أردب. وَفِي ثَانِي عشره: قدم الْخَبَر بِأَن ابْن السُّلْطَان لما تسلم نكدة استناب بهَا على باك ابْن قرمان ثمَّ توجه بالعساكر إِلَى مَدِينَة أركلي ومدينة لارندة فِي سادس عشر جُمَادَى الأولى فوصل إِلَى أركلي فِي ثامن عشره ثمَّ سَار مِنْهَا إِلَى لارندة فَقَدمهَا فِي ثامن عشرينه. وَبعث الْأَمِير يشبك اليوسفي نَائِب حلب فأوقع بطَائفَة من التراكمين وَأخذ أغنامهم وجمالهم وخيولهم وموجودهم. وَعَاد فَبعث الْأَمِير ططر والأمير سودن القَاضِي نَائِب طرابلس والأمير شاهين الزردكاش نَائِب حماة والأمير مُرَاد خجا نَائِب صفد والأمير أينال الأزعري والأمير جلبان رَأس نوبَة وَجَمَاعَة من التركمان فكبسوا على مُحَمَّد بن قرمان بجبال لارندة فِي لَيْلَة الْجُمُعَة سادس جُمَادَى الْآخِرَة ففر مِنْهُم وَأخذ جَمِيع مَا فِي وطاقه من خيل وجمال وأغنام وأثقال وعادوا. فَتوجه يُرِيد حلب فِي تاسعه فَجهز السُّلْطَان إِلَيْهِ سِتَّة آلَاف دِينَار ليفرقها على الْأُمَرَاء وَيُقِيم بحلب لعمارة سورها. وَفِي رَابِع عشره: تحول السُّلْطَان من بَيت ابْن الْبَارِزِيّ إِلَى بَيت نور الدّين الخروبي التَّاجِر بساحل الجيزة تجاه المقياس. وَكَانَ فِي مُدَّة إِقَامَته بِبَيْت ابْن الْبَارِزِيّ قد أحضر الحراريق من سَاحل مصر إِلَى سَاحل بولاق وزينت بأفخر زِينَة وأحسنها. وَصَارَ السُّلْطَان يركب فِي الحراقة الذهبية وَبَقِيَّة الحراريق سائرة مَعَه مقلعة ومنحدرة وتلعب بَين يَدَيْهِ أَحْيَانًا. وَالنَّاس على اخْتِلَاف طبقاتهم مجتمعون للتفرج فَلَا يُنكر على أحد مِنْهُم ثمَّ تقدم إِلَى المماليك السُّلْطَانِيَّة بلعب الرمْح بكر الْأَيَّام على شاطئ النّيل وَهُوَ يشاهدها وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ لَا ينْهض أَن يقوم بل يحمل على الْأَعْنَاق فمرت للنَّاس ببولاق فِي تِلْكَ الْأَيَّام والليالي أَوْقَات لم نسْمع بِمِثْلِهَا. وَلم يكن فِيهَا - بِحَمْد الله -

ص: 504

شَيْء مِمَّا يُنكر كالخمور وَنَحْوهَا لإعراض السُّلْطَان عَنْهَا. فَلَمَّا نزل بالخروبية أرست الحراريق بساحل مصر - كَمَا هِيَ عَادَتهَا - إِلَى أَن كَانَ يَوْم الْوَفَاء فِي سادس عشره ركب السُّلْطَان من الخروبية فِي الحراقة على النّيل إِلَى المقياس ثمَّ إِلَى الخليج حَتَّى فتح على الْعَادة. وَتوجه على فرسه فِي الموكب إِلَى القلعة فَكَانَت غيبته عَنْهَا فِي تنزهه ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَبلغ مِقْدَار مَا حمله الْأَمِير أَبُو بكر الأستادار إِلَى السُّلْطَان مُنْذُ بَاشر إِلَى آخر هَذَا الشَّهْر مائَة ألف دِينَار وَسِتَّة وَعشْرين ألف دِينَار كلهَا من مظالم الْعباد مَا مِنْهَا دِينَار إِلَّا وَتلف بِأَخْذِهِ عشرَة وتخرب بجبايته من أَرض مصر مَا يعجز الْقَوْم عَن عِمَارَته. وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ. وَقدم الْخَبَر بوصول ابْن السُّلْطَان إِلَى حلب فِي ثَالِث رَجَب وَأَن الْأَمِير تنبك ميق العلائي نَائِب الشَّام وَاقع مصطفى بن مُحَمَّد بن قرمان وَإِبْرَاهِيم بن رَمَضَان على أُذُنه فانهزما مِنْهُ وَأَن يشبك الدوادار - الفار من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة - أَقَامَ بِبَغْدَاد عِنْد شاه مُحَمَّد بن قرا يُوسُف مُنْذُ قدم عَلَيْهِ ثمَّ فر مِنْهُ وَلحق بقرًا يُوسُف لما بَينه وَبَين ابْنه شاه مُحَمَّد من التنكر. وَقدم الْخَبَر من الْإسْكَنْدَريَّة بتجمع الْعَامَّة فِي سادس عشرينه وَأَنَّهُمْ أخذُوا السِّلَاح والأحجار وكسروا للفرنج ثلثمِائة بنية خمر ثمنهَا عِنْدهم أَرْبَعَة آلَاف دِينَار. ثمَّ مالوا على جَمِيع بُيُوتهم ومخازنهم فأراقوا مَا فِيهَا من الْخمر ونهبوها. وتعرضوا لنهب بيُوت القزازين وأراقوا مَا وجدوا فِيهَا من الْخمر فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً. وَلم يعلم لهَذِهِ الْفِتْنَة سَبَب. شهر شعْبَان. أَوله الْأَرْبَعَاء. فِي ثامنه: كَانَ نوروز القبط. والنيل على ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا تنقص إصبعا فَلَمَّا فتح بَحر أبي المنجا فَقص النّيل عشر أَصَابِع. وَارْتَفَعت الأسعار فَبلغ الْقَمْح ثَلَاثمِائَة دِرْهَم الأردب وَزَاد سعر اللَّحْم وَغَيره. وَسَببه قلَّة الغلال بِالْوَجْهِ القبلي من خسة وُقُوعهَا بعد حصادها ثمَّ كَثْرَة قطاع الطَّرِيق فِي النّيل وَأَخذهم المراكب الموسقة بالغلال وَنَحْوهَا مَعَ كَثْرَة مَا حمل من الغلال إِلَى الْحجاز لشدَّة الغلاء بِهِ وشره أهل الدولة وأتباعهم فِي الْفَوَائِد واختزانهم الغلال طلبا للزِّيَادَة فِي أسعارها.

ص: 505

فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْخَمِيس سادس عشره: نُودي على النّيل بِزِيَادَة إِصْبَعَيْنِ بعد رد النَّقْص فسكن بعض قلق النَّاس وتيسر وجود الأخباز بالأسواق. وَفِي عشرينه: قدم الْأَمِير التَّاج الشويكي من الشَّام. وَفِيه تزايد ألم السُّلْطَان وَلم يحمل إِلَى الْقصر وَاسْتمرّ بِهِ الْمَرَض وَاشْتَدَّ. وَفِي ثَالِث عشرينه: خلع على الْأَمِير التَّاج وَاسْتقر أَمِير الْحَاج. وَفِي خَامِس عشرينه: برز مرسوم السُّلْطَان أَلا يصرف لأحد من غلْمَان البيوتات السُّلْطَانِيَّة وَلَا غلْمَان الْأُمَرَاء جراية من الْخبز. ورسم لجَمِيع مباشري الْأُمَرَاء بذلك فألتزموه. وَكَانَ يصرف قَدِيما مستمراً عَادَة لكل غُلَام رغيفان فِي الْيَوْم. ورسم أَيْضا أَن تكون جامكية السايس على الفرسين ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فِي الشَّهْر وجامكية على الفرسين والبغل ثَلَاثمِائَة وَخمسين من غير جراية خبز. وَفِيه ابْتَدَأَ نقص النّيل وَهُوَ ثامن عشر توت وَقد انْتَهَت زِيَادَته إِلَى ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَنصف. وَفِي سَابِع عشرينه: ركب السُّلْطَان سحرًا وَمَعَهُ الْأُمَرَاء والمماليك ووقف بهم تَحت قبَّة النَّصْر. وَقد بعث أَرْبَعِينَ فرسا إِلَى بركَة الْحجَّاج فأجريت مِنْهَا وأتته ضحى النَّهَار فَعَاد من موقفه بقبة النَّصْر إِلَى تربة الظَّاهِر برقوق ووقف قَرِيبا مِنْهَا دون سَاعَة. ثمَّ بعث المماليك والجنائب والشطفة إِلَى القلعة وَتوجه إِلَى خليج الزَّعْفَرَان فَنزل بخاصته ثمَّ عَاد من آخر النَّهَار إِلَى القلعة. وَفِي سلخه: ركب أَيْضا إِلَى بركَة الْحَبَش وسابق بالهجن. وَنظر فِي عليق الْجمال واستكثره فرسم أَن يصرف نصف عليقة لكل جمل. وَفِي هَذَا الشَّهْر: سرق الفرنج البنادقة من الْإسْكَنْدَريَّة رَأس مرقص الإنجيلي - أحد من كتب الْإِنْجِيل - فَغَضب اليعاقبة من النَّصَارَى وأكبروا ذَلِك وعدوه وَهنا فِي دينهم. وَذَلِكَ أَنهم لَا يولون بطركاً إِلَّا ويمضي إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وتوضع هَذِه الرَّأْس فِي

ص: 506

حجره زعماً مِنْهُم أَن البطركية لَا تتمّ بِدُونِ ذَلِك وَقد اقتصصت فِي تَارِيخ مصر الْكَبِير المقفي أَخْبَار المرقص هَذَا فَانْظُرْهُ فِي حرف الْمِيم تَجدهُ. شهر رَمَضَان أَوله الْخَمِيس. أهل هَذَا الشَّهْر وَالنَّاس فِي قلق لنَقص النّيل قبل أَوَانه. وأسعار الغلال مُرْتَفعَة. وَالسُّلْطَان بِحَالهِ من الْمَرَض إِلَّا أَنه تناقص. وَقدم الْخَبَر بِأَن ابْن السُّلْطَان رَحل من حلب فِي رَابِع عشْرين شهر شعْبَان. وَأَن مُحَمَّد بن قرمان وَولده مصطفى وَإِبْرَاهِيم بن رَمَضَان وصلوا إِلَى قيسارية فِي سادس عشر شعْبَان وحصروا الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن دلغادر نائبها فَقَاتلهُمْ وكسرهم وَنهب مَا مَعَهم. وَقتل مصطفى وحملت رَأسه وَقبض على أَبِيه مُحَمَّد بن قرمان فسجن. وَقدم رَأس مصطفى بن مُحَمَّد بك بن قرمان إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْجُمُعَة سادس عشر شهر رَمَضَان وطيف بِهِ ثمَّ علق على بَاب النَّصْر. وَكَانَت الْعَادة أَن تعلق الرُّءُوس على بَاب زويلة. فَلَمَّا أنشأ السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد الْجَامِع بجوار بَاب زويلة منع من تَعْلِيق الرُّءُوس هُنَاكَ فعلقت على بَاب النَّصْر. ودقت البشائر عِنْد قدوم الرَّأْس. وَكَانَ من خَبره أَن الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بك بن عَليّ بك بن قرمان اقتتل مَعَ الْأَمِير نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن دلغادر نَائِب مَدِينَة أبلستين فكاده ابْن دلغادر بِأَن تَأَخّر عَن بيوته فنهبها أبن قرمان. فَرد عَلَيْهِ ابْن دلغادر وَقتل ابْنه الْأَمِير مصطفى بَعْدَمَا عورت عينه ففر نَاصِر الدّين إِلَى مغارة وَمَعَهُ بعض من يَثِق بِهِ فَدلَّ عَلَيْهِ رجل نَصْرَانِيّ. فَأَخذه ابْن دلغادر وَبعث بِهِ وبرأس ابْنه مصطفى. وَمر إِبْرَاهِيم بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن قرمان إِلَى بِلَاده. وَفِيه قدم الْخَبَر بمسير ابْن السُّلْطَان من حلب وقدومه دمشق فِي خامسه. وَفِي سَابِع عشرينه: ركب السُّلْطَان إِلَى لِقَاء وَلَده وَقد وصل قطيا. فاصطاد ببركة الْحَاج وَمضى إِلَى بلبيس. فَقدم الْخَبَر بنزول الابْن الصالحية. فَتقدم الْأُمَرَاء وَأهل الدولة فوافوه بالخطارة. فَلَمَّا عاين ابْن الْبَارِزِيّ كَاتب السِّرّ نزل لَهُ وتعانقا. وَلم ينزل لأحد من الْأُمَرَاء غَيره لما يعلم من تمكنه عِنْد أَبِيه. ثمَّ عَادوا مَعَه إِلَى العكرشة وَالسُّلْطَان على فرسه. فَنزل الْأُمَرَاء وقبلوا الأَرْض. ثمَّ نزل الْمقَام الصارمي وَقبل

ص: 507

الأَرْض. ثمَّ قَامَ وَمَشى حَتَّى قبل الركاب فبكي السُّلْطَان من فرحه بِهِ وبكي النَّاس لبكائه فَكَانَت سَاعَة عَظِيمَة. ثمَّ سَارُوا بموكبيهما إِلَى الْمنزلَة من سرياقوس وباتا بهَا لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشرينه. وَتَقَدَّمت الآطلاب والأثقال وزين الدّين عبد الباسط بن خَلِيل بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي نَاظر الخزانة. ودخلوا الْقَاهِرَة. وَركب السُّلْطَان آخر اللَّيْل وَرمي الطير بِالْبركَةِ. فَقدم الْخَبَر بكرَة يَوْم الْخَمِيس بوصول الْأَمِير تنبك ميق نَائِب الشَّام. وَكَانَ قد طلب فَوَافى ضحى فَركب فِي الموكب. وَدخل السُّلْطَان من بَاب النَّصْر وشق الْقَاهِرَة وَقد زينت والأمراء قد لبسوا التشاريف الجليلة. وأركبوا الْخُيُول المسومة بقماش الذَّهَب وَالْمقَام الصارمي بتشريف عَظِيم وَخَلفه الأسرى الَّذين أخذُوا من قلعة نكدة وَغَيرهَا فِي الأغلال والقيود وهم نَحْو الْمِائَتَيْنِ كلهم مشَاة إِلَّا أَرْبَعَة فَإِنَّهُم على خُيُول مِنْهُم نَائِب نكدة وَثَلَاثَة من أُمَرَاء ابْن قرمان وَكلهمْ فِي الْحَدِيد. وَمضى حَتَّى صعد القلعة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً أذن بِانْقِضَاء الْأَمر فَإِنَّهَا غَايَة لم ينلها أحد من مُلُوك مصر وَعند التناهي يقصر المتطلول. شهر شَوَّال أَوله السبت. فِيهِ صلى السُّلْطَان الْعِيد بِالْقصرِ لعَجزه عَن الْمُضِيّ إِلَى الْجَامِع من شدَّة ألم رجله وامتناعه من النهوض على قَدَمَيْهِ. وَصلى بِهِ وخطب قَاضِي الْقُضَاة جلال الدّين البُلْقِينِيّ على عَادَته ثمَّ أنْشد تَقِيّ الدّين أَبُو بكر بن حجَّة الْحَمَوِيّ - على عَادَته - قصيداً أبدع فِيهَا مَا شَاءَ. وَفِي ثالثه: خلع على الْأَمِير جقمق الدوادار وَاسْتقر فِي نِيَابَة الشَّام عوضا عَن الْأَمِير تنبك ميق. وخلع الْأَمِير مقبل الدوادار الثَّانِي وَاسْتقر دواداراً كَبِيرا عوضا عَن جقمق. وأنعم بإقطاع جقمق وإمرته على الْأَمِير تنبك ميق العلاي. وَفِي رَابِع عشره: خلع على الْأَمِير قطلوبغا التنمي أحد أُمَرَاء الألوف وَاسْتقر فِي نِيَابَة صفد عوضا عَن الْأَمِير مُرَاد خجا. ورسم بِنَفْي مُرَاد خجا إِلَى الْقُدس. وأنعم بإقطاع التنمي على الْأَمِير جلبان أَمِير أخور ثَانِي. وَفِي سَابِع عشره: رَحل الْأَمِير جقمق سائراً إِلَى دمشق بَعْدَمَا خَلفه كَاتب السِّرّ

ص: 508

نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْبَارِزِيّ على الْعَادة فأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش ذهب كَمَا جرت بِهِ الْعَادة. وَفِي عشرينه: برز الْأَمِير التَّاج بالمحمل إِلَى الريدانية ظَاهر الْقَاهِرَة بَعْدَمَا خلع عَلَيْهِ خلعة سنية. وتتابع خُرُوج الْحَاج. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشرينه: نزل السُّلْطَان إِلَى جَامعه وَقد هيئت المطاعم والمشارب فَمد سماط عَظِيم وملئت الْبركَة الَّتِي بصحنه سكرا قد أذيب بِالْمَاءِ وأحضرت الحلاوات لإجلاس قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين مُحَمَّد الديري الْحَنَفِيّ على سجادة مشيخة الصُّوفِيَّة وتدريس الْحَنَفِيَّة وخطابة القَاضِي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْبَارِزِيّ كَاتب السِّرّ. فَعرض السُّلْطَان الْفُقَهَاء وَقرر مِنْهُم عِنْد المدرسين السَّبْعَة من اخْتَار ثمَّ أكل على السماط وتناهبه النَّاس وَشَرِبُوا السكر الْمُذَاب وأكلوا الْحَلْوَى. ثمَّ استدعي الديري وألبس خلعة وَاسْتقر فِي المشيخة وتدريس الْحَنَفِيَّة. وَجلسَ بالمحراب وَالسُّلْطَان وَولده عَن يسَاره والقضاة عَن يَمِينه ويليهم مَشَايِخ الْعلم وأمراء الدولة فَألْقى درساً تجاذب فِيهِ أهل الْعلم أذيال المناظرة حَتَّى قرب وَقت الصَّلَاة ثمَّ انْفَضُّوا. فَلَمَّا حَان وَقت الصَّلَاة صعد ابْن الْبَارِزِيّ الْمِنْبَر وخطب خطْبَة من إنشائه بلغ فِيهَا الْغَايَة من البلاغة ثمَّ نزل فصلى. فَلَمَّا انْقَضتْ الصَّلَاة خلع عَلَيْهِ وَاسْتقر فِي الخطابة وخزانة الْكتب. ثمَّ ركب السُّلْطَان وعدى النّيل إِلَى الجيزة فَأَقَامَ إِلَى يَوْم الْأَحَد ثَالِث عشرينه وَعَاد إِلَى القلعة. وَفِيه رَحل ركب الْحَاج الأول من بركَة الْحَاج ورحل التَّاج بالمحمل من الْغَد. وَفِيه سرح السُّلْطَان إِلَى نَاحيَة شيبين الْقصر وَعَاد إِلَى القلعة من الْغَد. وَقدم الْخَبَر أَن الغلاء اشْتَدَّ بِمَكَّة فعدمت بهَا الأقوات وأكلت القطط وَالْكلاب حَتَّى نفدت فَأكل بعض النَّاس الْآدَمِيّين وَكثر الْخَوْف مِنْهُم حَتَّى امْتنع الْكثير من البروز إِلَى ظَاهر مَكَّة خشيَة أَن يؤكلوا. شهر ذِي الْقعدَة أَوله الْأَحَد: فِيهِ ركب السُّلْطَان للصَّيْد.

ص: 509

وَفِي ثالثه: سَار الْأَمِير الْكَبِير ألطنبغا القرمشي والأمير طوغان أَمِير أخور لِلْحَجِّ على الرَّوَاحِل. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سادسه: خلع على زين الدّين عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن التفهني وَاسْتقر فِي وَظِيفَة قَضَاء الْقُضَاة الْحَنَفِيَّة عوضا عَن شمس الدّين مُحَمَّد بن الديري المستقر فِي مشيخة الْجَامِع المؤيدي. وَكَانَ لَهُ من حادي عشْرين شَوَّال قد انجمع عَن الحكم بَين النَّاس ونوابه تقضي. وَفِيه عدى السُّلْطَان النّيل يُرِيد سرحة الْبحيرَة. وَجعل نَائِب الْغَيْبَة الْأَمِير أينال الأزعري. وَفِي هَذَا الشَّهْر: تزايد سعر الغلال فَبلغ الْقَمْح إِلَى ثَلَاثمِائَة وَخمسين درهما

ص: 510

الأردب وَالشعِير إِلَى مِائَتَيْنِ وَخمسين والفول إِلَى مِائَتَيْنِ وَعشرَة. وَذَلِكَ أَن فصل الخريف مضى وَلم يَقع مطر بِالْوَجْهِ البحري فَلم ينجب الزَّرْع وأتلفت الدودة كثيرا من البرسيم المزروع حَتَّى أَنه تلف بهَا من نَاحيَة طهرمس وقرية بجانبها ألف وسِتمِائَة فدان. وَتلف بعض الْقَمْح أَيْضا. هَذَا وَقد شَمل الخراب قرى أَرض مصر. وَمَعَ ذَلِك فالأحوال متوقفة والأسواق كاسدة والمكاسب قَليلَة والشكاية عَامَّة لَا تكَاد تَجِد أحدا إِلَّا ويشكو سوء زَمَانه. وَقد فَشَتْ الْأَمْرَاض من الحميات وَبلغ عدد من يرد الدِّيوَان من الْأَمْوَات نَحْو الثَّلَاثِينَ فِي الْيَوْم. وَالظُّلم كثير لَا يتْركهُ إِلَّا من عجز عَنهُ. وَالْعَمَل بمعاصي الله مُسْتَمر. وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور. وَفِي هَذَا الشَّهْر: قدم مهنا بن عِيسَى وَولي إمرة جرم عوضا عَن عَليّ بن أبي بكر بعد قَتله. وَعَاد إِلَى أرضه. وَكَانَ لبسه من المخيم السلطاني. شهر ذِي الْحجَّة أَوله الثُّلَاثَاء: أهل وَالسُّلْطَان بعسكره نَازل على تروجة. وَفِيه منع صدر الدّين بن العجمي محتسب الْقَاهِرَة النِّسَاء من عبور الْجَامِع الحاكمي والمرور فِيهِ. وألزم النَّاس كَافَّة أَلا يمروا فِيهِ بنعالهم فامتثل ذَلِك واستمره وتطهر الْمَسْجِد - وَللَّه الْحَمد - من قبائح كَانَت بِهِ بَين النِّسَاء وَالرِّجَال وَمن لعب الصّبيان فِيهِ بِحَيْثُ كَانَ لَا يشبه الْمَسَاجِد فصانه الله بِهَذَا وَرَفعه. وَفِي خامسه: وَردت هَدِيَّة الْأَمِير عَليّ باك بن قرمان - نَائِب السلطنة بنكدة ولارندة ولؤلؤة. وَقدم الْخَبَر بِقَبض الْأَمِير جقمق نَائِب الشَّام على نكباي الْحَاجِب بِدِمَشْق واعتقاله. وانْتهى السُّلْطَان فِي مسيره إِلَى مريوط. وَعَاد فأدركه الْأَضْحَى بِمَنْزِلَة الطرانة. وَصلى بِهِ الْعِيد وخطب نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْبَارِزِيّ كَاتب السِّرّ. وارتحل من الْغَد فَنزل منبابة بكرَة الْأَحَد ثَالِث عشره. وعدى النّيل من الْغَد إِلَى بَيت كَاتب السِّرّ المطل على النّيل وَبَات بِهِ. وَدخل الْحمام الَّتِي أَنْشَأَهَا كَاتب السِّرّ إِلَى جَانب دَاره وَهِي بديعة الزي. ثمَّ عَاد فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع عشره إِلَى القلعة وخلع على الْأُمَرَاء والمباشرين خلعهم على الْعَادة.

ص: 511

وَفِي ثامن عشره: قرئَ تَقْلِيد قَاضِي الْقُضَاة زين الدّين عبد الرَّحْمَن التفهني الْحَنَفِيّ بالجامع المؤيدي على مَا اسْتَقر عَلَيْهِ الْحَال. وَحضر عِنْده الْقُضَاة والأعيان على الْعَادة. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشره: صلى السُّلْطَان الْجُمُعَة بالجامع المؤيدي وخطب بِهِ كَاتب السِّرّ نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن الْبَارِزِيّ وَصلى. ثمَّ أكل طَعَاما أعده لَهُ شيخ الشُّيُوخ شمس الدّين مُحَمَّد الديري وَركب إِلَى الصَّيْد وَفِي سَابِع عشرينه: وصل الْأَمِير بكتمر السَّعْدِيّ وَقد قدم بالأمير شمس الدّين مُحَمَّد باك بن الْأَمِير عَلَاء الدّين على باك بن قرمان صَاحب قيسارية وقونية ونكدة ولارندة وَغَيرهَا من الْبِلَاد القرمانية وَهُوَ مُقَيّد محتفظ بِهِ فَأنْزل فِي دَار الْأَمِير مقبل الدوادار ووكل بِهِ. وَفِي هَذَا الشَّهْر: زلزلت مَدِينَة اصطنبول وعدة مَوَاضِع هُنَاكَ حَتَّى كثر اضْطِرَاب الْبَحْر وتزايد تزايداً غير الْمَعْهُود. الْأَمِير سيف الدّين كزل الأرغون شاوي نَائِب الكرك بَعْدَمَا عزل وأنعم عَلَيْهِ بإمرة طبلخاناة بِدِمَشْق. فَمَاتَ فِي خَامِس عشْرين الْمحرم قبل توجهه من مرض طَال بِهِ مُدَّة.

ص: 512

وَمَات الْأَمِير شرف الدّين يحيى بن بركَة بن مُحَمَّد بن لاقي الدِّمَشْقِي فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء حادي عشر صفر قَرِيبا من غَزَّة فَحمل وَدفن بغزة يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشره. وَكَانَ أَبوهُ من أُمَرَاء دمشق وَنَشَأ بهَا فِي نعْمَة وَصَارَ من أمرائها. وَقدم الْقَاهِرَة مرَارًا آخرهَا فِي خدمَة السُّلْطَان الْملك الْمُؤَيد وَصَارَ من أَعْيَان الدولة بِالْقَاهِرَةِ. وَاسْتقر مهمنداراً وأستادار النواحي الَّتِي أفردها السُّلْطَان لعمل غذائه وعشائه. فَعرف بأستادار الْحَلَال إِلَى أَن تنكر عَلَيْهِ الْأَمِير جقمق الدوادار بِسَبَب كَلَام نَقله عَنهُ للسُّلْطَان لبين الْأَمر بِخِلَافِهِ فرسم السُّلْطَان بنفيه من الْقَاهِرَة وَولي الْأَمِير خرز مهمندار عوضه وَأخرج من الْقَاهِرَة على حمَار فَمَاتَ - كَمَا ذكر - غَرِيبا طريداً. وَمَات إِبْرَاهِيم بن خَلِيل بن علوة برهَان الدّين بن غرس الدّين الإسكندري رَئِيس الْأَطِبَّاء ابْن رئيسها فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ آخر صفر وَكَانَ عَارِفًا بالطب. وَمَات الشَّيْخ مُحَمَّد بن مَحْمُود الصُّوفِي أحد طلبة الْحَنَفِيَّة وفضلائهم فِي ثامن عشْرين شهر ربيع الأول. وَكَانَ لَا يكترث بملبس وَلَا زِيّ بل يطْرَح التَّكَلُّف ومتهم بحشيشة الْفُقَرَاء. وَمَات أخي نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين عَليّ بن محيي الدّين عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم المقريزي يَوْم السبت ثَالِث شهر ربيع الآخر. ومولده يَوْم الْأَحَد ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَسَبْعمائة. وَمَات الْأَمِير شهَاب الدّين أَحْمد ابْن كَاتب السِّرّ نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن الْبَارِزِيّ الْحَمَوِيّ. يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع عشر ربيع الآخر وَصلى عَلَيْهِ السُّلْطَان. وَمَات مجد الدّين فضل الله بن الْوَزير فَخر الدّين عبد الرَّحْمَن بن عبد الرَّزَّاق بن إِبْرَاهِيم بن مكانس فِي يَوْم الْأَحَد خَامِس عشْرين ربيع الآخر. ومولده فِي رَابِع عشر شهر شعْبَان سنة سبع - أَو تسع - وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة على الشَّك مِنْهُ. وَكَانَ يَقُول الشّعْر ويترسل كتب فِي الْإِنْشَاء مُدَّة. وَمَات الخواجا نظام الدّين مَسْعُود بن مَحْمُود الكججاني العجمي نَاظر الْأَوْقَاف فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشر جُمَادَى الأولى وَكَانَ قدم إِلَى دمشق فِي زِيّ فُقَرَاء الْعَجم

ص: 513

المتصوفة وَأقَام بهَا وَصَارَ يَلِي الْمدرسَة الكججانية الَّتِي بالشرف الْأَعْلَى خَارج دمشق. فَلَمَّا قدمهَا الطاغية تيمورلنك اتَّصل بِهِ فَبَعثه فِي الرسَالَة إِلَى الْقَاهِرَة وَعَاد إِلَيْهِ وَقد أثرى وَحسنت حَاله فَلم يجد مِنْهُ إقبالاً وتنكر لَهُ فَعَاد إِلَى دمشق وَتوجه إِلَى بِلَاد الرّوم واتصل بالأمير مُحَمَّد باك بن قرمان وَأقَام عِنْده. ثمَّ قدم الْقَاهِرَة فِي الْأَيَّام المؤيدية. واتصل بالسلطان فولاه نظر الْأَوْقَاف فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَقد تزيا بزِي الأجناد وَصَارَ يُخَاطب بالأمير فَسَاءَتْ سيرته وقبحت الأحدوثة عَنهُ بِأَخْذِهِ الْأَمْوَال حَتَّى ولي الْهَرَوِيّ الْقَضَاء أَخذ مِنْهُ مَالا وكف يَده عَن الْأَوْقَاف فشق عَلَيْهِ ذَلِك وَأطلق لِسَانه فِي الْهَرَوِيّ ورماه بعظائم. وَوضع مِنْهُ بعد مَا كَانَ مبالغ فِي إطرائه ويتجاوز الْحَد فِي تَعْظِيمه. وَمَات على ذَلِك بعد مرض طَوِيل. وَمَات عز الدّين عبد الْعَزِيز بن أبي بكر بن مظفر بن نصير البُلْقِينِيّ أحد خلفاء الحكم بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث عشْرين جُمَادَى الأولى. كَانَ فَقِيها شافعياً. عَارِفًا بالفقه وَالْأُصُول والعربية رضى الْخلق نَاب فِي الحكم من سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسبع مائَة. وَمَات عَليّ بن أَمِير جرم بِبِلَاد الْمُقَدّس فِي وقْعَة بَينه وَبَين مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر شيخ جبل نابلس فِي رَابِع عشر شَوَّال. وَكَانَ كثير الْفساد. وَقتل أَيْضا صَدَقَة بن رَمَضَان أحد أُمَرَاء التركمان قَرِيبا من سيس فِي شَوَّال. وَقتل بِالْقَاهِرَةِ مُحَمَّد بن بِشَارَة شيخ جبال صفد فِي يَوْم السبت آخر شَوَّال. وَمَات الْأَمِير سودن القَاضِي نَائِب طرابلس فِي رَابِع عشر ذِي الْقعدَة وَمَات الْأَمِير أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان فِي عَاشر ذِي الْحجَّة. وَدفن بالجامع المؤيدي. وَمَات خصر بن مُوسَى شيخ عربان الْبحيرَة فِي يَوْم عيد الْفطر. وَسطه الْأَمِير طوغان التاجي نَائِب الْبحيرَة. وَمَات أَحْمد بن بدر شيخ عربان الْبحيرَة فِي تَاسِع شعْبَان.

ص: 514

وَمَات بالنحريرية الشَّيْخ المعتقد أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد ابْن الشَّيْخ كَمَال الدّين عبد الْوَهَّاب فِي الْمحرم.

ص: 515