المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة - السيرة النبوية من البداية والنهاية - ت عبد الواحد - جـ ٢

[ابن كثير]

الفصل: ‌ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة

‌ذكر عزم الصّديق على الْهِجْرَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة

قَالَ ابْن إِسْحَق: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ.

فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مُهَاجِرًا، حَتَّى إِذَا سَارَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، لَقِيَهُ

ابْنُ الدَّغِنَةِ (1) ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، أَحَدُ بَنِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُهُ مَالِكٌ.

فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي وَضَيَّقُوا عَلَيَّ.

قَالَ: وَلم؟ وَالله إِنَّكَ لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ وَتُعِينُ عَلَى النَّوَائِبِ وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، ارْجِعْ فَإِنَّكَ فِي جِوَارِي.

فَرَجَعَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ قَامَ مَعَه ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَا يَعْرِضْ لَهُ أحد إِلَّا بِخَير.

قَالَ: فكفوا عَنهُ.

(1) ابْن الدغنة، بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالنُّون مُخَفّفَة مَفْتُوحَة، كَذَا ضَبطه الزرقائى، وَهُوَ ضبط الروَاة، وَأهل اللُّغَة يضبطونه بِالدَّال مُشَدّدَة مَضْمُومَة والغين مَضْمُومَة وَالنُّون مُشَدّدَة مَضْمُومَة وَمعنى الدغنة: المسترخية.

(*)

ص: 63

قَالَتْ: وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى.

قَالَتْ: فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ، يَعْجَبُونَ لما يرَوْنَ من هَيئته.

قَالَ: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى ابْنِ الدَّغِنَّةِ فَقَالُوا: يَا ابْن الدَّغِنَةِ، إِنَّكَ لَمْ تُجِرْ هَذَا الرَّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا، إِنَّهُ رَجُلٌ إِذَا صَلَّى وَقَرَأَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد يرق وَكَانَت لَهُ هَيْئَة، وَنحن نَتَخَوَّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضُعَفَائِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ، فأته فمره أَن يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ.

قَالَتْ: فَمَشَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي لَمْ أُجِرْكَ لِتُؤْذِيَ قَوْمَكَ،

وَقَدْ كَرِهُوا مَكَانَكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ وَتَأَذَّوْا بِذَلِكَ مِنْكَ، فَادْخُلْ بَيْتَكَ فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ.

قَالَ: أَوْ أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ.

قَالَ: فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي.

قَالَ: قَدْ رَددته عَلَيْك.

قَالَ: فَقَامَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدَّ عَلَيَّ جِوَارِي، فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ.

* * * وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ (1) مُتَفَرِّدًا بِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ.

فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (2) فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ (3) قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ علينا يَوْم إِلَّا يأتينا فِيهِ

(1) صَحِيح البُخَارِيّ بَاب هِجْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة 2 / 190 (2) الاصل: قَالَ ابْن هِشَام: وَهُوَ تَحْرِيف وَمَا أثْبته من صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 190 (3) الاصل: أبواي.

وَهُوَ خطأ.

وَمَا أثْبته عَن البُخَارِيّ.

(*)

ص: 64

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً.

فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ (1) لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ (2)، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّي.

فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْف، وَتعين على نَوَائِب الْحق، وَأَنا لَك جَار، فَارْجِع فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ.

فَرَجَعَ، وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلَا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، ويعين على نَوَائِب الْحق؟ ! فَلم يكذب قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ ويصل فِيهَا، ولقرأ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.

فَقَالَ ابْن الدغنة ذَلِك لِأَبِي بَكْرٍ.

فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ.

ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيقْرَأ الْقُرْآن.

فيتقذف (1) نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عينه إِذا قَرَأَ الْقُرْآن.

(1) برك الغماد: مَوضِع وَرَاء مَكَّة بِخمْس لَيَال مِمَّا يلى الْبَحْر.

وَقد حكى فِي الْبَاء الضَّم وَالْكَسْر (2) قَبيلَة تشتهر بِالرَّمْي وَلَهُم مَا يُقَال: قد أنصف القارة من راماها.

(3)

أَي يتدافعون فيقذف بَعضهم بَعْضًا فيتساقطون عَلَيْهِ.

وَرِوَايَة الْمَوَاهِب: " فيتقصف " أَي يزدحم وَرِوَايَة المروزى وَالْمُسْتَمْلِي: فينقذف بالنُّون.

شرح الْمَوَاهِب 1 / 289.

(*)(5 - السِّيرَة - 2)

ص: 65

فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره فأعلن الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتَتِنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فسله أَن يرد عَلَيْك ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ.

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ علمت الذى قد عاقدتك عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْك جوارك وأرضى بجوار الله عزوجل.

ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي هِجْرَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: لَقِيَهُ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ خَرَجَ مِنْ جِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، فَمَرَّ بأبى بكر الْوَلِيد ابْن الْمُغِيرَةِ أَوِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السَّفِيهُ؟ ! فَقَالَ: أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ.

وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ، أَيْ رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ، أَيْ رَبِّ مَا أَحْلَمَكَ! فَصْلٌ كُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ ذَكَرَهَا ابْن إِسْحَق مُعْتَرِضًا بِهَا بَيْنَ تَعَاقُدِ قُرَيْشٍ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَكِتَابَتِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّحِيفَةَ الظَّالِمَةَ وَحَصْرِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الشِّعْبِ، وَبَيْنَ نَقْضِ

ص: 66

الصَّحِيفَةِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا، وَهِيَ أُمُورٌ مُنَاسِبَةٌ لِهَذَا الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى ابْن إِسْحَق.

قَالَ ابْن إِسْحَق: هَذَا وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي مَنْزِلِهِمُ الَّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا.

ثُمَّ إِنَّهُ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ.

وَلَمْ يَبْلُ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بن الْحَارِث بن حبيب بن نصر

ابْن مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هِشَام بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمِّهِ.

وَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصِلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ.

فَكَانَ، فِيمَا بَلَغَنِي، يَأْتِي بِالْبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَيْلًا، قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ فَمَ الشِّعْبِ خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جنبه فَدَخَلَ الشِّعْبَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بُرًّا فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.

ثُمَّ إِنَّهُ مَشَى إِلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ وَتَنْكِحَ النِّسَاءَ، وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ عَلِمْتَ لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إِلَيْهِمْ؟ أَمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، ثُمَّ دَعَوْتَهُ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ مَا أَجَابَكَ إِلَيْهِ أَبَدًا.

قَالَ: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ، فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا.

قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا.

قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا.

قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا ثَالِثًا.

فَذَهَبَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ لَهُ: يَا مُطْعِمُ، أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ

ص: 67

بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقُرَيْشٍ فِيهِ؟ ! أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا.

قَالَ: وَيْحَكَ فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِد.

قَالَ: وَجَدْتَ لَكَ ثَانِيًا.

قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: أَنَا.

قَالَ: أَبْغِنَا ثَالِثًا.

قَالَ قَدْ فَعَلْتُ قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.

قَالَ أَبْغِنَا رَابِعًا.

فَذَهَبَ إِلَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بن هِشَام فَقَالَ نَحْو مَا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: وَهَلْ تَجِدُ أَحَدًا يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَنَا مَعَكَ.

قَالَ:

أَبْغِنَا خَامِسًا.

فَذَهَبَ إِلَى زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، فَكَلَّمَهُ وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقَّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.

ثمَّ سمى الْقَوْم.

فاتعدوا حطم الْحَجُونِ لَيْلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ.

فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا، ثمَّ أقبل النَّاس فَقَالَ: يَا أهل مَكَّة أنأ كل الطَّعَامَ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يَبْتَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ.

قَالَ أَبُو جهل: وَكَانَ فِي نَاحيَة الْمَسْجِد: وَاللَّهِ لَا تُشَقُّ.

قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْت وَالله أكذب، مَا رَضِينَا كتَابَتهَا حِين كُتِبَتْ.

قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا وَلَا نُقِرُّ بِهِ.

ص: 68

قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا وَمِمَّا كتب فِيهَا.

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ.

قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ قُضِيَ بِلَيْلٍ وتشوور فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ.

وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ.

وَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى الصحفة لِيَشُقَّهَا فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ " وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ فُشَلَّتْ يَدُهُ، فِيمَا يَزْعُمُونَ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي

طَالِبٍ: يَا عَمِّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلَّهِ إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ.

فَقَالَ: أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نعم.

قَالَ: فو الله مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ.

ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ ابْنَ أخى قد أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمَّ صَحِيفَتَكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا وَانْزِلُوا عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي.

فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا.

فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ.

ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا.

فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا مُزِّقَتْ وَبَطَلَ مَا فِيهَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَامُوا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ يَمْدَحُهُمْ:

ص: 69

أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيَّنَا صُنْعُ رَبِّنَا * عَلَى نَأْيِهِمْ وَاللَّهُ بِالنَّاسِ أَرْوَدُ (1) فَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مُزِّقَتْ * وَأَنَّ كَلَّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللَّهُ مُفْسَدُ تَرَاوَحَهَا إِفْكٌ وَسِحْرٌ مَجَمَّعٌ * وَلَمْ يُلْفَ سِحْرٌ آخِرَ الدَّهْرِ يَصْعَدُ تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرٍ (2) * فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدَّدُ وَكَانَتْ كِفَاءً وَقْعَةٌ بِأَثِيمَةٍ * لِيُقْطَعَ مِنْهَا سَاعِدٌ وَمُقَلَّدُ (3) وَيَظْعَنَ أَهْلُ الْمَكَّتَيْنِ فَيَهْرُبُوا * فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشَّرِّ تُرْعَدُ وَيُتْرَكَ حَرَّاثٌ يُقَلِّبُ أَمْرَهُ * أيتهم فِيهَا عِنْد ذَاك وينجد فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضَّارِ مَكَّةَ عِزُّهُ * فَعِزَّتُنَا فِي بَطْنِ مَكَّةَ أَتْلَدُ نَشَأْنَا بِهَا وَالنَّاسُ فِيهَا قَلَائِلٌ * فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ خَيْرًا وَنُحْمَدُ

وَنُطْعِمُ حَتَّى يَتْرُكَ النَّاسُ فَضْلَهُمْ * إِذَا جَعَلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تُرْعَدُ جَزَى اللَّهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تجمعُوا * عَلَى مَلَأٍ يَهْدِي لِحَزْمٍ وَيُرْشِدُ قُعُودًا لَدَى حطم الْحَجُونِ كَأَنَّهُمْ * مَقَاوِلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزُّ وَأَمْجَدُ أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ * إِذَا مَا مَشى فِي رَفْرَف الدرْع أحرد (4) جرئ على جلّ (5) الْخُطُوبِ كَأَنَّهُ * شِهَابٌ بِكَفَّيْ قَابِسٍ يَتَوَقَّدُ مِنَ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ * إِذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ يَتَرَبَّدُ طَوِيلُ النِّجَادِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقه * على وَجهه يسقى الْغَمَام ويسعد

(1) بحرينا: أَرَادَ بهم الَّذين بِأَرْض الْحَبَشَة، نسبهم إِلَى الْبَحْر لركوبهم إِيَّاه.

كَمَا قَالَ عليه السلام لاسماء بنت عُمَيْس حِين قدمت من أَرض الْحَبَشَة: " البحرية الحبشية " وأرود: أرْفق.

(2)

القرقر: أَرَادَ الذَّلِيل، والقرقر: الارض الْمَوْطُوءَة الَّتِى لَا تمنع سالكها.

وَيجوز أَن يُرِيد بِهِ: لَيْسَ بذى هزل.

الرَّوْض.

(3)

الْمُقَلّد: الْعُنُق.

(4)

رَفْرَف الدرْع: فضولها.

والاحرد: الذى فِي مَشْيه تثاقل، وَهُوَ من الحرد، وَهُوَ عيب فِي الرجل.

(5)

وتروى: جلى.

(*)

ص: 70

عَظِيمُ الرَّمَادِ سَيِّدٌ وَابْنُ سَيِّدٍ * يَحُضُّ عَلَى مَقْرَى الضُّيُوفِ وَيَحْشُدُ وَيَبْنِي لِأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا * إِذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي الْبِلَادِ وَيَمْهَدُ أَلَظَّ (1) بِهَذَا الصُّلْحِ كُلُّ مُبَرَّأٍ * عَظِيمِ اللِّوَاءِ أَمْرُهُ ثُمَّ يُحْمَدُ قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا * عَلَى مَهَلٍ وَسَائِرُ النَّاسِ رُقَّدُ هُمُ رَجَعُوا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا * وَسُرَّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمَّدُ مَتَى شُرِّكَ الْأَقْوَامُ فِي حل أَمْرِنَا * وَكُنَّا قَدِيمًا قَبْلَهَا نُتَوَدَّدُ وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً * وَنُدْرِكُ مَا شِئْنَا وَلَا نَتَشَدَّدُ

فَيَالَ قُصَيٍّ هَلْ لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ * وَهل لكم فِيمَا يجِئ بِهِ غَدُ فَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ * لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَسْوَدُ اسْمُ جَبَلٍ قُتِلَ بِهِ قَتِيلٌ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَقَالَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ: لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ.

أَيْ يَا أَسْوَدُ لَوْ تَكَلَّمْتَ لَأَبَنْتَ لَنَا عَمَّنْ قَتَلَهُ (2) .

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ شِعْرَ حَسَّانَ يَمْدَحُ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَهُشَامَ بْنَ عَمْرٍو لِقِيَامِهِمَا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ الْفَاجِرَةِ الْغَاشِمَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ هَا هُنَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً اكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَتَى خَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ مِنَ الشِّعْبِ؟ قَالَا: فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، يَعْنِي مِنَ الْبِعْثَةِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.

قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها.

كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى.

(1) ألظ: أَخ وطالب.

(2)

السُّهيْلي: فَقَالَ أَوْلِيَاء الْمَقْتُول هَذِه الْمقَالة فَذَهَبت مثلا.

(*)

ص: 71

فصل وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله بَعْدَ إِبْطَالِ الصَّحِيفَةِ قِصَصًا كَثِيرَةً تَتَضَمَّنُ نَصْبَ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَنْفِيرَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْقَادِمِينَ إِلَى مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِظْهَارَ اللَّهِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، دِلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَتَكْذِيبًا لَهُمْ فِيمَا يَرْمُونَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَيَرْمُونَهُ مِنَ الْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالتَّقَوُّلِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.

* * * فَذَكَرَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ مُرْسَلَةً.

وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي دَوْسٍ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ فَاجْتَمَعَ بِهِ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَحَذَّرُوهُ مِنْ رَسُول الله وَنَهَوْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ أَوْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ.

قَالَ: فو الله مَا زَالُوا بى حَتَّى أَجمعت أَلا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمَهُ، حَتَّى حَشَوْتُ أُذُنِيَّ حِينَ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا (1) فَرَقًا من أَن يبلغنِي شئ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ.

قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ.

قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ.

قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاثُكْلَ أُمِّي! وَاللَّهِ إِنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنَّ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِن كَانَ قبيحا تركته.

(1) الكرسف: الْقطن.

(*)

ص: 72

قَالَ: فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيته [فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ (1) ] دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ قَوْمَكَ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا.

للذى قَالُوا.

قَالَ: فو الله مَا بَرِحُوا بِي يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ.

قَالَ: فَعَرَضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاللَّهِ

مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ.

قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَإِنِّي رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَدَاعِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.

قَالَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً.

قَالَ فَخَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ تُطْلِعُنِي على الْحَاضِر، وَقع بَين عينى نور مِثْلُ الْمِصْبَاحِ.

قَالَ: فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ وجهى فإنى أخْشَى أَن يَظُنُّوا أَنَّهَا (2) مُثْلَةً وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِينَهُمْ.

قَالَ: فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي.

قَالَ: فَجُعِلَ الْحَاضِرُونَ (3) يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النُّورَ فِي رَأْسِ سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ وَأَنَا أَنْهَبِطُ (4) عَلَيْهِمْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، حَتَّى جئتهم فَأَصْبَحت فيهم.

(1) سَقَطت من المطبوعة.

(2)

الاصل: يَظُنُّوا بهَا وَمَا أثْبته من ابْن هِشَام.

(3)

ابْن هِشَام: الْحَاضِر.

(4)

ابْن هِشَام: أهبط.

(*)

ص: 73

فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي.

قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: قُلْتُ أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: إِي بنى فدينك دينى.

فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مِمَّا عَلِمْتُ.

قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وطهر ثِيَابه، ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ.

قَالَ: ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْتُ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكِ وَلَسْتَ مِنِّي.

قَالَتْ: وَلِمَ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي.

قَالَ: قُلْتُ: فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ الْإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

قَالَت: فدينى دينك.

قَالَ: فَقلت فاذهبي إِلَى حمى (1) ذِي الشَّرَى فَتَطَهَّرِي مِنْهُ.

وَكَانَ ذُو الشَّرَى صنما لدوس، وَكَانَ الْحمى حمى حموه حوله، بِهِ وَشَلٌ (2) مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ.

قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَخْشَى عَلَى الصَّبِيَّةِ من ذى الشرى شَيْئا؟ قُلْتُ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ.

قَالَ: فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ.

ثمَّ دَعَوْت دوسا إِلَى الاسلام فأبطأوا عَلَيَّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزِّنَا، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إِلَى قَوْمك فادعهم وارفق بهم ".

(1) وَيُقَال لَهُ أَيْضا: حَنى (2) الوشل: المَاء الْقَلِيل.

(*)

ص: 74

قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قومِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، حَتَّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

ثُمَّ لَمْ أَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ مَكَّة، فَقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْنِي إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتَّى أَحْرِقَهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ الطُّفَيْلُ وَهُوَ يُوقِدُ عَلَيْهِ النَّارَ يَقُولُ: يَا ذَا الْكَفَّيْنِ (1) لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا * مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ فِي فُؤَادِكَا قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ [إِلَى (2) ] رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ مَعَه بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ خَرَجَ الطُّفَيْلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلِّهَا، ثُمَّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَمَامَةِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ.

فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا فَاعْبُرُوهَا لِي، رَأَيْتُ أَنَّ رَأْسِي حُلِقَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَأَنَّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا، وَأَرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَبًا حَثِيثًا ثُمَّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنِّي.

قَالُوا: خَيْرًا.

قَالَ: أَمَّا أَنا وَالله فقد أولتها.

(1) الْكَفَّيْنِ: أَرَادَ الْكَفَّيْنِ بِالتَّشْدِيدِ فَخفف للضَّرُورَة.

وَذكر السُّهيْلي أَنه قد يُخَفف فِي غير الشّعْر، فَإِن صَحَّ هَذَا فَهُوَ تَثْنِيَة كُفْء من كفأت الاناء ثمَّ سهلت الْهمزَة ونقلت حركتها إِلَى الْفَاء كالخبء والخب.

الرَّوْض 1 / 235 (2) من ابْن هِشَام.

(*)

ص: 75

قَالُوا: مَاذَا؟ قَالَ: أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ، وَأَمَّا الطَّائِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَرُوحِي، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي أَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي فَأُغَيَّبُ فِيهَا.

وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إِيَّايَ ثمَّ حَبسه عَنى فإنى أرَاهُ سيجتهد أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي.

فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ اسْتَبَلَّ مِنْهَا، ثُمَّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ زَمَنَ عُمَرَ شَهِيدًا.

رحمه الله.

هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مُرْسَلَةً بِلَا إِسْنَادٍ.

وَلِخَبَرِهِ شَاهِدٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

* * * قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الطُّفَيْلُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدِ اسْتَعْصَتْ، قَالَ:" اللَّهُمَّ اهد دوسا وائت بِهِمْ ".

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقُلْتُ: هَلَكت دوس! فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهد دوسا، وائت بهم ".

إِسْنَاده جَيِّدٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ؟ قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

ص: 76

فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ.

فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا (1) الْمَدِينَةَ، فَمَرِضِ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ فَقَطَعَ بِهَا بِرَاجِمَهُ (2) ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ.

فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فَمَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي لَنْ يُصْلَحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ!

قَالَ: فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ".

رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْبٍ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ، عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ فَمَا رَقَأَ الدَّم حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ الله عزوجل عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ".

فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَاكَ مُشْرِكًا وَهَذَا مُؤْمِنٌ.

وَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ هَذَا الصَّنِيعُ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا فِي دُخُولِهِ النَّارَ، وَإِنْ كَانَ شِرْكُهُ مُسْتَقِلًّا إِلَّا أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى هَذَا لتعتبر أمته.

(1) اجتووا الْمَدِينَة: كَرهُوا الْمقَام بهَا لضجر وسقم.

(2)

المشاقص: جمع مشقص وَهُوَ سهم فِيهِ نصل عريض: والبراجم: مفاصل الاصابع.

(*)

ص: 77

الثَّانِي: قَدْ يَكُونُ هَذَاكَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَهَذَا غَيْرُ عَالِمٍ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ.

الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ ذَاكَ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا بَلْ مُخْطِئًا، الرَّابِعُ: قَدْ يَكُونُ أَرَادَ ذَاكَ بِصَنِيعِهِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ.

الْخَامِسُ: قَدْ يَكُونُ هَذَاكَ قَلِيلَ الْحَسَنَاتِ فَلَمْ تُقَاوِمْ كِبَرَ ذَنْبِهِ الْمَذْكُورِ، فَدَخَلَ النَّارَ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ الْحَسَنَاتِ فَقَاوَمَتِ الذَّنْبَ فَلَمْ يَلِجِ النَّارَ، بَلْ غُفِرَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَكِنْ بَقِيَ الشَّيْنُ فِي يَدِهِ فَقَطْ وَحَسُنَتْ هَيْئَةُ سَائِرِهِ فَغَطَّى الشَّيْنَ مِنْهُ، فَلَمَّا رَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو مُغَطِّيًا يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي لَنْ يُصْلَحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ.

فَلَمَّا قَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ " أَيْ فَأَصْلِحْ مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدًا.

وَالْمُحَقَّقُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَاحِبِ الطُّفَيْلِ ابْن عَمْرو.

قصَّة أعشى بن قيس قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ ابْن وَائِلٍ، عَنْ (1) أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ أَعْشَى بْنَ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ على ابْن بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ يمدح النَّبِي صلى الله عليه وسلم:

(1) ابْن هِشَام: من أهل الْعلم.

(*)

ص: 78

أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةً أَرْمَدَا * وَبَتَّ كَمَا بَات السَّلِيم مسهدا مَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا * تَنَاسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ خُلَّةً (1) مُهْدَدَا وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ * إِذَا أَصْلَحَتْ كَفَّايَ عَادَ فَأَفْسَدَا كُهُولًا وَشُبَّانًا فَقَدْتُ وَثَرْوَةً * فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيفَ تَرَدَّدَا وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ * وَلِيدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَعْتَلِي * مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا (2) أَلَا أيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ * فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا فَإِنْ تَسْأَلِي عَنى فيارب سَائِلٍ * حَفِيٍّ عَنِ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا أَجدت برجليها النَّجَاء (3) وراجعت * يداها خنافا لَيِّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا (4)

وَفِيهَا إِذَا مَا هَجَّرَتْ عَجْرَفِيَّةٌ * إِذَا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظَّهِيرَةِ أَصَيْدَا (5) وَآلَيْتُ لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ * وَلَا مِنْ حَفًى حَتَّى تُلَاقِي مُحَمَّدَا مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ * تُرَاحِي وَتَلْقَى مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ * أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا (6) لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبُّ وَنَائِلٌ * فَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ * نبى الاله حَيْثُ أوصى وأشهدا

(1) وتروى: صُحْبَة.

(2)

العيس المراقيل: الابل المسرعة.

النُّجَيْر وصرخد: بلدان.

(3)

ط: النَّجَاء.

وَهُوَ تَحْرِيف.

(4)

خنفت النَّاقة ببديها فِي السّير إِذا مَالَتْ بهما نشاطا.

(5)

الحرباء: دويبة تسْتَقْبل الشَّمْس برأسها، والاصيد: المائل الْعُنُق، وَالْمَقْصُود حِين تكون الشَّمْس فِي وسط السَّمَاء وَذَلِكَ أحر مَا تكون الرمضاء، يصف نَاقَته بالنشاط وَقُوَّة المشى فِي ذَلِك الْوَقْت.

(6)

رِوَايَة ابْن دُرَيْد فِي الِاشْتِقَاق 1 / 18: نبى يرى مَا لَا ترَوْنَ وَذكره * لعمري غَار فِي الْبِلَاد وأنجدا قَالَ: " وَمن روى: " أغار لعمري " فقد لحن وَأَخْطَأ ".

(*)

ص: 79

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى * وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ * فَتُرْصِدَ لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ أَرَصَدَا فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَقْرَبَنَّهَا * وَلَا تأخذن سَهْما حديدا لتقصدا وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ * وَلَا تَعْبُدِ الْأَوْثَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا وَلَا تَقْرَبَنَّ حُرَّةً (1) كَانَ سِرُّهَا * عَلَيْكَ حَرَامًا فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا (2) وَذَا الرَّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنَّهُ * لِعَاقِبَةٍ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا

وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّةِ (3) وَالضُّحَى * وَلَا تَحْمَدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاحْمَدَا وَلَا تَسْخَرَنَّ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ * وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ أَو قريب مِنْهَا، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُسْلِمَ.

فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ: إِنَّهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا.

فَقَالَ الاعشى: وَالله إِن ذَلِك لامر مالى فِيهِ مِنْ أَرَبٍ.

فَقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ: إِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ.

فَقَالَ الْأَعْشَى: أَمَّا هَذِهِ فو الله إِن فِي نَفسِي مِنْهَا العلالات، وَلَكِنِّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوَّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمَّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ.

فَانْصَرَفَ فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ هِشَامٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ هَا هُنَا، وَهُوَ كَثِيرُ الْمُؤَاخَذَاتِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رحمه الله، وَهَذَا مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ رحمه الله! فَإِنَّ الْخَمْرَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَنِي النَّضِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

(1) وتروى: جَارة.

(2)

تأبد: ترهب، لَان الراهب أبدا أعزب، فَقيل لَهُ متأبد، اشتق من لفظ الابد.

(3)

ابْن هِشَام: العشيات.

(*)

ص: 80

فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَزْمَ الْأَعْشَى عَلَى الْقُدُومِ لِلْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَفِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ * فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا وَكَانَ الْأَنْسَبُ وَالْأَلْيَقُ بِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ يُؤَخِّرَ ذِكْرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى مَا بعد الْهِجْرَة وَلَا يوردها هَا هُنَا.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنَ ابْنِ هِشَامٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ

لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهَا إِلَّا فِي الْمَدِينَة بَعْدَ أُحُدٍ.

وَقَدْ قَالَ: وَقِيلَ إِنَّ الْقَائِلَ لِلْأَعْشَى هُوَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي دَار عتبَة ابْن رَبِيعَةَ.

وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ هُوَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي بِلَادِ قَيْسٍ، وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: وَقَوله: ثمَّ آته فَأُسْلِمُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كُفْرِهِ بِلَا خِلَافٍ وَالله أعلم.

ثمَّ ذكر ابْن إِسْحَاق هَا هُنَا قِصَّةَ الْإِرَاشِيِّ وَكَيْفَ اسْتَعْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي جَهْلٍ فِي ثَمَنِ الْجَمَلِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ أَذَلَّ اللَّهُ أَبَا جَهْلٍ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ حَتَّى أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ، وَمَا كَانَ مِنْ أذية الْمُشْركين عِنْد ذَلِك.

(6 - السِّيرَة - 2)

ص: 81

قصَّة مصارعة ركَانَة وَكَيْفَ أَرَاهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي دَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبى إِسْحَاق بن يسَار قَالَ: كَانَ ركَانَة بن عبد يزِيد ابْن هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَشَدَّ قُرَيْش.

فَخَلا يَوْمًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رُكَانَةُ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ.

قَالَ: إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ لاتبعتك.

فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: " أَفَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ؟ ".

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: " فَقُمْ حَتَّى أُصَارِعَكَ ".

قَالَ: فَقَامَ رُكَانَةُ إِلَيْهِ فَصَارَعَهُ، فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضْجَعَهُ

لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا.

ثُمَّ قَالَ: عُدْ يَا مُحَمَّدُ.

فَعَادَ فَصَرَعَهُ.

فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ، أَتَصْرَعُنِي؟ ! قَالَ:" وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أُرِيكَهُ، إِنِ اتَّقَيْتَ اللَّهَ وَاتَّبَعْتَ أَمْرِي ".

قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: " أَدْعُو لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي ترى فتأتيني ".

قَالَ: فادعها.

فَدَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ! فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا.

قَالَ: فَذَهَبَ رُكَانَةُ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا بَنِي عبد منَاف ساحروا بصاحبكم أهل الارض، فو الله مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ قَطُّ! ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي رَأَى وَالَّذِي صَنَعَ.

هَكَذَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاق هَذِه الْقِصَّة مُرْسلَة بِهَذَا الْبَيَان.

ص: 82

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُكَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رُكَانَةَ صَارَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ.

وَلَا نَعْرِفُ أَبَا الْحَسَنِ وَلَا ابْنَ رُكَانَةَ.

قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ صَارَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عَلَى مِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا وَضَعَ ظَهْرِي إِلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْكَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.

فَقَامَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّ عَلَيْهِ غَنَمَهُ.

وَأَمَّا قِصَّةُ دُعَائِهِ الشَّجَرَةَ فَأَقْبَلَتْ، فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ السِّيرَةِ مِنْ طُرُقٍ جَيِّدَةٍ صَحِيحَةٍ فِي مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْأَشَدَّيْنِ أَنَّهُ صَارَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ قُدُومِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بَعْدَ قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ.

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ (1) إِلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبُو فُكَيْهَةَ يَسَارٌ (2) مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَصُهَيْبٌ، وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لبَعض:

(1) الاصل: يجلس وَهُوَ تَحْرِيف لَا يَسْتَقِيم بِهِ الْمَعْنى، وَمَا أثْبته من ابْن هِشَام.

(2)

الاصل: وأبوفكية ويسار.

وَهُوَ خطأ.

وَمَا أثْبته من ابْن هِشَام.

(*)

ص: 83

هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ، أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ وَمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ دُوننَا.

فَأنْزل الله عزوجل فِيهِمْ: " وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شئ، وَمَا من حِسَابك عَلَيْهِم من شئ، فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا.

أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ".

قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى مَبِيعَةِ (2) غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِمَّا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ " إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.

لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أعجمى

وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين (3) ".

ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ حِينَ قَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّه أَبتر.

أَي لَا عَقِبَ لَهُ.

فَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ.

فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ " أَيِ الْمَقْطُوعُ الذِّكْرِ بَعْدَهُ، وَلَوْ خَلَفَ أُلُوفًا مِنَ النَّسْلِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَلَيْسَ الذِّكْرُ وَالصِّيتُ وَلِسَانُ الصِّدْقِ بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَنْسَالِ وَالْعَقِبِ.

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فِي التَّفْسِيرِ.

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

(1) سُورَة الانعام 52 - 54.

(2)

الاصل بيعَة وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.

والمبيعة: مفعلة مثل الْمَعيشَة.

(3)

سُورَة النَّحْل 103.

(*)

ص: 84

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ مَاتَ الْقَاسِمُ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَيَسِيرَ عَلَى النَّجِيبَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ قَوْلِهِ: " وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنَا ملكا لقضى الامر (1) " وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَزَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ: لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْكَ مَلَكٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ عَنْكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَبِي جَهْلِ ابْن هِشَام، فهمزوه واستهزءوا بِهِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ " وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون "(1) .

قُلْتُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى " وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين (1) " وَقَالَ تَعَالَى " إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ (2) ".

قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ:

المستهزءون: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ (3) ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ.

فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى أنمله وَقَالَ: كُفِيتَهُ.

ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، فَأَوْمَأَ إِلَى عُنُقِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ.

ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: كفيته.

(1) سُورَة الانعام (2) سُورَة الْحجر 95.

(3)

سَيَأْتِي أَنه ابْن الطُّلَاطِلَة.

كَمَا فِي ابْن هِشَام وَالرَّوْض.

(*)

ص: 85

ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ فَأَوْمَأَ إِلَى بَطْنِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ.

وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ وَقَالَ: كُفِيتَهُ.

فَأَمَّا الْوَلِيدُ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نبْلًا لَهُ فَأصَاب أنمله فَقَطَعَهَا.

وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ فَمَاتَ مِنْهَا.

وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ.

وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي! قَدْ قُتِلْتُ.

فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا.

وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَمْنَعُونَ عَنِّي قَدْ هَلَكْتُ، هَا هُوَ ذَا الطَّعْنِ بِالشَّوْكِ فِي عَيْنِي.

فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا.

فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَيْنَاهُ.

وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهَا.

وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَوْمًا إِذْ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ حَتَّى امْتَلَأَتْ مِنْهَا فَمَاتَ مِنْهَا.

وَقَالَ غَيْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى حِمَارٍ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ، يَعْنِي شَوْكَةً، فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ.

رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.

* * * وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَمَا حدئنى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ خَمْسَةَ نَفَرٍ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ: الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ، دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ ".

ص: 86

وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاص بن وَائِل، والْحَارث ابْن الطُّلَاطِلَةِ.

وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيهِمْ " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر فَسَوف يعلمُونَ ".

وَذَكَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، فَقَامَ وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنْبِهِ، فَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَرَمَى فِي وَجْهِهِ بِوَرَقَةٍ خَضْرَاءَ فَعَمِيَ.

وَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَشَارَ إِلَى بَطْنه فَاسْتَسْقَى بَاطِنه فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا.

وَمَرَّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِأَسْفَلِ كَعْبِهِ، كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِنِينَ، مِنْ مُرُورِهِ بِرَجُلٍ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ، فَتَعَلَّقَ سَهْمٌ بِإِزَارِهِ فَخَدَشَهُ خَدْشًا يَسِيرًا، فَانْتَقَضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَاتَ.

وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَشَارَ إِلَى أَخْمَصِ رِجْلِهِ فَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ الطَّائِفَ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رِجْلِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ.

وَمَرَّ بِهِ الْحَارِث بن الطلاطل فَأَشَارَ إِلَى رَأسه فامتحض قَيْحًا فَقَتَلَهُ.

* * * ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ الثَّلَاثَةَ وَهُمْ خَالِدٌ وَهِشَامٌ وَالْوَلِيدُ.

فَقَالَ لَهُمْ: أَيْ بَنِيَّ، أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ: دَمِي فِي خُزَاعَةَ فَلَا تُطِلُّوهُ (1) ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُسَبُّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ فَلَا تَدَعُوهُ حَتَّى تَأْخُذُوهُ، وَعُقْرِي (2) عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدَّوْسِيِّ فَلَا يفوتنكم بِهِ.

وَكَانَ

(1) لَا تطلوه: لَا تهدروه.

وفى ابْن هِشَام: فَلَا تطلنه.

(2)

الْعقر بِالضَّمِّ فِي الاصل: دِيَة فرج الْمَرْأَة إِذا غصبت على نَفسهَا، ثمَّ كثر ذَلِك حَتَّى اسْتعْمل فِي الْمهْر.

(*)

ص: 87

أَبُو أُزَيْهِرٍ قَدْ زَوَّجَ الْوَلِيدَ بِنْتًا لَهُ ثُمَّ أَمْسَكَهَا عَنْهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ قَدْ قَبَضَ عُقْرَهَا مِنْهُ، وَهُوَ صَدَاقُهَا.

فَلَمَّا مَاتَ الْوَلِيدُ وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ عَلَى خُزَاعَةَ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ، وَقَالُوا إِنَّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ، فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ، حَتَّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا وَغَلُظَ بَيْنَهُمُ الْأَمْرُ.

ثُمَّ أَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ الْعَقْلِ وَاصْطَلَحُوا وَتَحَاجَزُوا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى أَبِي أُزَيْهِرٍ وَهُوَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ، فَعَمَدَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَجَمَعَ النَّاسَ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَكَانَ أَبُوهُ غَائِبًا، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ غَاظَهُ مَا صَنَعَ ابْنُهُ يَزِيدُ، فَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ وَضَرَبَهُ وَوَدَى أَبَا أُزَيْهِرٍ وَقَالَ لِابْنِهِ: أَعَمَدْتَ إِلَى أَنْ تَقْتُلَ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ؟ ! وَكَتَبَ حسان بن ثَابت قصيدة لَهُ يحض أَبَا سُفْيَانَ فِي دَمِ أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا ظَنَّ حَسَّانُ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا وَقَدْ ذَهَبَ أَشْرَافُنَا يَوْمَ بَدْرٍ.

وَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَشَهِدَ الطَّائِفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ فِي رِبَا أَبِيهِ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ فِي ذَلِكَ " يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بقى من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين (1) " وَمَا بَعْدَهَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي أُزَيْهِرٍ ثَأْرٌ نَعْلَمُهُ حَتَّى حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا أَنَّ ضِرَارَ بْنَ الْخطاب بن مرداس الاسلمي (2) خَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَرْضِ

(1) سُورَة الْبَقَرَة 278.

(2)

فِي ابْن هِشَام: الدوسى.

وَهُوَ ضرار بن الْخطاب بن مرداس بن كَبِير بن عَمْرو بن حبيب بن عَمْرو بن شَيبَان بن محَارب، كَانَ فَارس قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة وَأدْركَ الاسلام، وَكَانَ شَاعِرًا فَارِسًا، وَهُوَ من رجال بنى فهر أَخذ مرباعهم فِي الْجَاهِلِيَّة.

الِاشْتِقَاق 1 / 103.

(*)

ص: 88

دَوْسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ غَيْلَانَ مَوْلَاةٌ لِدَوْسٍ، وَكَانَتْ تَمْشُطُ النِّسَاءَ وَتُجَهِّزُ الْعَرَائِسَ، فَأَرَادَتْ دَوْسٌ قَتْلَهُمْ بِأَبِي أُزَيْهِرٍ، فَقَامَتْ دُونَهُ أُمُّ غَيْلَانَ وَنِسْوَةٌ كُنَّ مَعَهَا حَتَّى مَنَعَتْهُمْ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يُقَالُ إِنَّهَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ دِرْعِهَا وَبَدَنِهَا.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَتَتْهُ أُمُّ غَيْلَانَ وَهِيَ تَرَى أَنَّ ضِرَارًا أَخُوهُ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: لَسْتُ بِأَخِيهِ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ عَرَفْتُ مِنَّتَكِ عَلَيْهِ.

فَأَعْطَاهَا عَلَى أَنَّهَا بَنْتُ سَبِيلٍ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِعَرْضِ الرُّمْحِ وَيَقُولُ: انْجُ يَا بْنَ الْخَطَّابِ لَا أَقْتُلُكَ.

فَكَانَ عُمَرُ يَعْرِفُهَا لَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.

رضي الله عنهما.

فَصْلٌ وَذكر البيهقى هَا هُنَا دُعَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ بِسبع مثل سبع يُوسُفَ.

وَأَوْرَدَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1) مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَالَ: خَمْسٌ مَضَيْنَ، اللِّزَامُ، وَالرُّومُ، وَالدُّخَانُ،

وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا، لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عَنِ الْإِسْلَامِ، قَالَ:" اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كسبع يُوسُف ".

(1) أورد البُخَارِيّ هَذِه الرِّوَايَات فِي تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان وَالدُّخَان فِي صَحِيحه 2 / 347، 361، 362.

وهى مُخْتَلفَة عَمَّا هُنَا (*)

ص: 89

قَالَ: فَأَصَابَتْهُمْ سنة حَتَّى حصت (1) كل شئ، حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَةَ، وَحَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ دَعَا فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ " إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون " قَالَ فَعَادُوا فَكَفَرُوا فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ قَالَ فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، قَالَ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ لَا يُكْشَفُ عَنْهُمْ " يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون " قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من النَّاس إدبارا قَالَ: " اللَّهُمَّ سبع كَسَبْعِ يُوسُفَ " فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ.

فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسُقُوا الْغَيْثَ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا فَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ، فَقَالَ:" اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا " فانجذب السَّحَاب عَنْ رَأْسِهِ فَسُقِيَ النَّاسُ حَوْلَهُمْ.

قَالَ: لَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ " إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائدون " وَآيَةُ الرُّومِ، وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَ بَدْرٍ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُرِيدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى وَالدُّخَانَ وَآيَةَ اللِّزَامِ كُلُّهَا حصلت ببدر.

(1) الاصل: فحصت.

وَهُوَ تَحْرِيف والتصويب من البُخَارِيّ 2 / 262 وَلَفظ البُخَارِيّ: فَأَصَابَتْهُمْ سنة حصت كل شئ.

وحصت: أهلكت.

والحص: حلق الشّعْر.

(*)

ص: 90

قَالَ: وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ جَاءَ: أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغِيثُ مِنَ الْجُوعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا حَتَّى أَكَلُوا العهن، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " قَالَ: فَدَعَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَة، وَلَعَلَّه كَانَ مرَّتَيْنِ.

وَالله أعلم.

فَصْلٌ ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ قِصَّةَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى " الم.

غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.

فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم ".

ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حبيب بن أَبى عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ على فَارس لانهم أهل كتاب، وَكَانَ الْمُشْركين يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" أَمَا إِنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ " فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، إِنْ ظَهَرُوا كَانَ لَكَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا.

فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَلا جعلته أَدَاة ".

قَالَ: دون الْعشْر.

فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَدْ أَوْرَدْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّفْسِيرِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُبَاحِثَ - أَيِ الْمُرَاهِنَ - لِأَبِي بَكْرٍ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَّ الرَّهْنَ كَانَ عَلَى خَمْسِ قَلَائِصَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِلَى مُدَّةٍ، فَزَادَ

ص: 91

فِيهَا الصِّدِّيقُ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الرَّهْنِ.

وَأَنَّ غَلَبَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.

قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ، وَظُهُورَهُمْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ.

كُلُّ ذَلِكَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً!

ص: 92

فَصْلٌ فِي الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثمَّ عروجه من هُنَاكَ إِلَى السَّمَوَات، وَمَا رَأَى هُنَالِكَ مِنَ الْآيَاتِ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ الْإِسْرَاءِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أُسَرِي بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ.

قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ.

ثمَّ روى الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ.

أَنَّهُ قَالَ: فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمْسُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، قَبْلَ مُهَاجَرِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا.

فَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ يَكُونُ الْإِسْرَاءُ فِي شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَعَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ

يَكُونُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان، عَن سعيد بن ميناء، عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفِيلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَفِيه بعث، وَفِيه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء، وَفِيهِ هَاجَرَ، وَفِيهِ مَاتَ.

فِيهِ انْقِطَاعٌ.

وَقَدِ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي سِيرَتِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، ذَكَرْنَاهُ فِي فَضَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ، أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ وَالله أعلم.

ص: 93

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَهِيَ لَيْلَةُ الرَّغَائِبِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ الْمَشْهُورَةُ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَنْشُدُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ عُرِّجَ بِالنَّبِيِّ * لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَ رَجَبِ وَهَذَا الشِّعْرُ عَلَيْهِ رَكَاكَةٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِشْهَادًا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ مُسْتَقْصَاةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ".

فَلْتُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ من الاسانيد والعزو، وَالْكَلَام عَلَيْهِ وَمَعَهَا.

فَفِيهَا مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ.

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

* * * وَلْنَذْكُرْ مُلَخَّصَ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ رحمه الله: فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفُصُولِ.

ثُمَّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى،

وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إِيلِيَاءَ، وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ فِي قُرَيْشٍ وَفِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا.

قَالَ: وَكَانَ مِنَ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلٌّ يُحَدِّثُ عَنْهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ لِي مِنْ أَمْرِهِ.

وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ صلى الله عليه وسلم وَمَا ذُكِرَ لِي مِنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الله

ص: 94

وَقدرته (1) وَسُلْطَانِهِ، فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَلَى يَقِينٍ.

فَأُسْرِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ، لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ، حَتَّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وَقُدْرَتِهِ الَّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ.

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا بَلَغَنِي يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِالْبُرَاقِ، وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الانبياء قبله، تضع حافرها فِي مَوضِع مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَحُمِلَ عَلَيْهَا.

ثُمَّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ.

ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ مِنْ لَبَنٍ وَخَمْرٍ وَمَاءٍ.

فَذَكَرَ أَنَّهُ شَرِبَ إِنَاءَ اللَّبَنِ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ.

* * * وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيَاقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا أَنَّ جِبْرِيلَ أَيْقَظَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَرْكَبَهُ، الْبُرَاقَ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحمار، وفى

فخديه جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ حَافِرَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُهُ.

قُلْتُ: وَفِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ رُكُوبَ الْبُرَاقِ شَمَسَ بِهِ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ثُمَّ قَالَ

(1) ابْن هِشَام: فِي قدرته (*)

ص: 95

أَلا تستحى يَا براق مِمَّا تصنع! فو الله مَا رَكِبَكَ عَبْدٌ لِلَّهِ قَبِلَ مُحَمَّدٍ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.

قَالَ: فَاسْتَحَى حَتَّى ارْفَضَّ عَرَقًا، ثُمَّ قَرَّ حَتَّى رَكِبْتُهُ.

قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَضَى مَعَهُ جِبْرِيلُ، حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهِمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِيَارَهُ إِنَاءَ اللَّبَنِ عَلَى إِنَاءِ الْخَمْرِ، وَقَوْلَ جِبْرِيلَ لَهُ: هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْخَمْرُ.

قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ، فَأَصْبَحَ يُخْبِرُ قُرَيْشًا بِذَلِكَ.

فَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَّبَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ إِسْلَامِهَا.

وَبَادَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَقَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِي خبر السَّمَاء بكرَة وعيشة، أَفَلَا أُصَدِّقُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ! وَذَكَرَ أَنَّ الصِّدِّيقَ سَأَلَهُ عَنْ صِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَكَرَهَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ.

قَالَ الْحسن: وَأنزل الله فِي ذَلِكَ " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للنَّاس " الْآيَةَ.

* * * وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مِنْ بَيْتِي، نَامَ عِنْدِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا

ص: 96

كَانَ قبيل الْفجْر أهبنا (1) فَلَمَّا كَانَ الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، قَالَ:" يَا أُمَّ هَانِئٍ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي هَذَا الْوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ قَدْ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ ".

ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ، فَأَخَذْتُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا الحَدِيث النَّاس فيكذبونك ويؤذونك.

قَالَ: " وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّهُمُوهُ ".

فَأَخْبَرَهُمْ فَكَذَّبُوهُ.

فَقَالَ: وَآيَةُ ذَلِكَ أَنِّي مَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ، فَنَدَّ لَهُمْ بعير فدللتهم عَلَيْهِ وَأَنا مُتَوَجّه إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِضَجْنَانَ (2) مَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ، فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ نِيَامًا وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطُّوا عَلَيْهِ بشئ، فَكَشَفْتُ غِطَاءَهُ وَشَرِبْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ عِيرَهُمْ تصوب الْآنَ مِنْ ثَنِيَّةِ التَّنْعِيمِ الْبَيْضَاءِ، يَقَدَمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ.

قَالَ: فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ الثَّنِيَّةَ فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوَّلُ مِنَ الْجَمَلِ الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ وَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْإِنَاءِ وَعَنِ الْبَعِيرِ، فَأَخْبَرُوهُمْ كَمَا ذَكَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، أَنَّ الشَّمْسَ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ ذَلِكَ الْعِيرُ، فَدَعَا الله عزوجل فَحَبَسَهَا حَتَّى قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ لَهُمْ.

قَالَ: فَلَمْ تَحْتَبِسِ الشَّمْسُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَعَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ.

رَوَاهُ البيهيقى.

* * *

(1) أهبنا: أيقظنا.

(2)

ضجنَان: جبل بِنَاحِيَة نهامة.

وفى الاصل: صحنان محرفة.

(*)(7 - السِّيرَة - 2)

ص: 97

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ، وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إِلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إِذَا حُضِرَ.

فَأَصْعَدَنِي فِيهِ صَاحِبِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ بَابُ الْحفظَة عَلَيْهِ بريد (1) مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، تَحْتَ يَدِهِ اثْنَا عشر ألف ملك، تَحت يَد كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكَ.

قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ:" وَمَا يَعْلَمُ جنود رَبك إِلَّا هُوَ ".

ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُطَوَّلٌ جِدًّا، وَقَدْ سُقْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ بِكَمَالِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَحَادِيثِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

وَكَذَا فِي سِيَاقِ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ شريك بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْحِجْرِ.

وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا هُنَاكَ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ: " وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ " وَالْجَوَابُ أَنَّ مَجِيئَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يكن فِيهَا شئ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ لَيْلَةً أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ:" وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ " بَلْ جَاءَهُ بَعْدَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.

فَكَانَ الْإِسْرَاءُ قَطْعًا بَعْدَ الْإِيحَاءِ، إِمَّا بِقَلِيلٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ، أَوْ بِكَثِيرٍ نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ كَمَا زَعَمَهُ آخَرُونَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ.

وَغُسِلَ صَدْرُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ غَسْلًا ثَانِيًا، أَو ثَالِثا على قَول، أَنه مَطْلُوب إِلَى الملا الاعلى والحضرة الالهية.

(1) ابْن هِشَام: ملك من الْمَلَائِكَة.

(*)

ص: 98

ثُمَّ رَكِبَ الْبُرَاقَ رِفْعَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا، فَلَمَّا جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ رَبَطَهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.

وَأَنْكَرَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه دُخُولَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَبْطَهُ الدَّابَّةَ وَصَلَاتَهُ فِيهِ.

وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالنَّصُّ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اجْتِمَاعِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَصَلَاتِهِ بِهِمْ: أَكَانَ قَبْلَ عُرُوجِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنْهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السِّيَاقَاتِ وَهُوَ أَنْسَبُ.

كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقِيلَ: إِنَّ صَلَاتَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ.

وَهَكَذَا تَخَيُّرُهُ مِنَ الْآنِيَةِ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ، هَلْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ أَوْ فِي السَّمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ نُصِبَ لَهُ الْمِعْرَاجُ وَهُوَ السُّلَّمُ فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ الصُّعُودُ عَلَى الْبُرَاقِ كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ كَانَ الْبُرَاقُ مَرْبُوطًا عَلَى بَابِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إِلَى مَكَّةَ.

فَصَعِدَ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ فِي الْمِعْرَاجِ، حَتَّى جَاوَزَ السَّابِعَةَ، وَكُلَّمَا جَاءَ سَمَاءً تَلَقَّتْهُ مِنْهَا مُقَرَّبُوهَا وَمَنْ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ.

وَذَكَرَ أَعْيَانَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، كَآدَمَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَحْيَى وَعِيسَى فِي الثَّانِيَةِ وَإِدْرِيسَ فِي الرَّابِعَةِ، وَمُوسَى فِي السَّادِسَةِ (1) عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ مُسْنِدًا

ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ صَلَاةً وَطَوَافًا ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

(1) لم يذكر الْمُؤلف من رأى فِي الثَّالِثَة وَالْخَامِسَة.

(*)

ص: 99

ثُمَّ جَاوَزَ مَرَاتِبَهُمْ كُلَّهُمْ، حَتَّى ظَهَرَ لِمُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ وَرُفِعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَنَبْقُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَغَشِيَهَا عِنْد ذَلِك أُمُور عَظِيمَة وألوان مُتَعَدِّدَةٌ بَاهِرَةٌ، وَرَكِبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلَ الْغِرْبَانِ عَلَى الشَّجَرَة كَثْرَةً، وَفَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَغَشِيَهَا مِنْ نُورِ الرَّبِّ جل جلاله.

* * * وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيلَ عليه السلام، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ كُلِّ جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى.

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى.

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى.

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغى " أَيْ مَا زَاغَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي حُدَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.

وَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ الْعَظِيمُ وَالْأَدَبُ الْكَرِيمُ.

وَهَذِهِ الرُّؤْيَا الثَّانِيَةُ لِجِبْرِيلَ عليه السلام عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

وَالْأُولَى هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى.

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى.

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى.

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.

فَأَوْحَى إِلَى عَبده مَا أوحى " وَكَانَ ذَلِكَ بِالْأَبْطَحِ، تَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.

هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفْسِيرِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ رضي الله عنهم.

فَأَمَّا قَوْلُ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: " ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ

فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى " فَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي فَأَقْحَمَهُ فِي الْحَدِيثِ (1) وَالله أعلم.

(1) قَالَ السُّهيْلي: " وَهَذَا مَعَ صِحَة نَقله لَا يكَاد أحد من الْمُفَسّرين يذكرهُ، لِاسْتِحَالَة ظَاهِرَة أَو للغفلة عَن مَوْضِعه.

وَلَا اسْتِحَالَة فِيهِ " انْظُر رَأْيه فِي الرَّوْض 1 / 249 (*)

ص: 100

وَإِن كَانَ مَحْفُوظًا فَلَيْسَ بتفسير الْآيَة الْكَرِيمَة، بل هُوَ شئ آخَرُ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفَرَضَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَى عَبده مُحَمَّد صلى الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أُمَّتِهِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَتَئِذٍ، خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ ربه عزوجل حَتَّى وَضعهَا الرب، جلّ جلاه وَله الْحَمد الْمِنَّة، إِلَى خَمْسٍ، وَقَالَ:" هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ".

فَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ الرب عزوجل لَيْلَتَئِذٍ.

وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَالْمُطْبِقِينَ عَلَى هَذَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّؤْيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ.

قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ.

وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ الرُّؤْيَةَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ.

وَمِمَّنْ أَطْلَقَ الرُّؤْيَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضى الله عَنْهُمَا.

صرح بَعْضُهُمْ بِالرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنَيْنِ.

وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبَالَغَ فِيهِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ عَنْهُ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ " رَأَيْتُ نُورًا ".

قَالُوا: وَلَمْ يكن رُؤْيَةُ الْبَاقِي بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ.

وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى فِيمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الالهية: يَا مُوسَى إِنَّه لايرانى حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ.

وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 101

ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيت الْمُقَدّس.

الظَّاهِر أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ هَبَطُوا مَعَهُ تَكْرِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْوَافِدِينَ، لَا يَجْتَمِعُونَ بِأَحَدٍ قَبْلَ الَّذِي طُلِبُوا إِلَيْهِ.

وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا مَرَّ على وَاحِد مِنْهُم يَقُول لَهُ جِبْرِيل عِنْدَمَا يتَقَدَّم ذَاكَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ: هَذَا فُلَانٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ.

فَلَوْ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِمْ قَبْلَ صُعُودِهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعَرُّفٍ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: " فَلَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ: أَمَمْتُهُمْ " وَلَمْ يَحِنْ وَقْتٌ إِذْ ذَاكَ إِلَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ، فَتَقَدَّمَهُمْ إِمَامًا بِهِمْ عَنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ، فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عزوجل.

فَاسْتَفَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ، حَيْثُ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَحَلَّتَهُمْ وَدَارَ إِقَامَتِهِمْ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ، فَأصْبح بهَا وَهُوَ فِي غَايَة الثَّبَات السكينَة وَالْوَقَارِ.

* * * وَقَدْ عَايَنَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَوْ رَآهَا أَوْ بَعْضَهَا غَيْرُهُ لَأَصْبَحَ مُنْدَهِشًا أَوْ طَائِشَ الْعَقْلِ.

وَلَكِنَّهُ صلى الله وَسَلَّمَ أَصْبَحَ وَاجِمًا، أَيْ سَاكِنًا، يَخْشَى إِنْ بَدَأَ فَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِمَا رَأَى أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ.

فَتَلْطَّفَ بِإِخْبَارِهِمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ جَالِسٌ وَاجِمٌ.

فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ خَبَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟

ص: 102

فَقَالَ: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ لَكَ لِتُخْبِرَهُمْ، أَتُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

فَأَرَادَ أَبُو جَهْلٍ جَمْعَ قُرَيْشٍ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمْعَهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ ذَلِكَ وَيُبَلِّغَهُمْ.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هيا معشر قُرَيْش، وَقد اجْتَمعُوا مِنْ أَنْدِيَتِهِمْ.

فَقَالَ: أَخْبِرْ قَوْمَكَ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ.

فَقَصَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، وَأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَصَلَّى فِيهِ.

فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَبَيْنَ مُصَفِّرٍ تَكْذِيبًا لَهُ وَاسْتِبْعَادًا لِخَبَرِهِ، وَطَارَ الْخَبَرُ بِمَكَّةَ.

وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَقُولُهُ.

فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَهُ فَلَقَدْ صَدَقَ.

ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَوْلَهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ، فَاسْتَعْلَمَهُ عَنْ صِفَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ وَيَعْلَمُوا صِدْقَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ.

وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ.

قَالَ: فَجَعَلْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، فَالْتبسَ على بعض الشئ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ

الْمَقْدِسِ، حَتَّى جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ وَأَنْعَتُهُ لَهُمْ.

فَقَالَ: أَمَّا الصِّفَةُ فَقَدْ أَصَابَ.

ص: 103

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِمُرُورِهِ بِعِيرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ شُرْبِهِ مَاءَهُمْ.

فَأَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَاسْتَنَارَتْ لَهُمُ الْمَحَجَّةُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّهِ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.

كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للنَّاس " أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ وَامْتِحَانًا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مِنْ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ مِنْ رُكُوبِهِ وَصُعُودِهِ فِي الْمِعْرَاجِ وَغير ذَلِك.

وَلِهَذَا قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لنريه " وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا.

وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا بَادَرَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَالِاسْتِبْعَادِ لَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ أَمْرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ: " ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ " مَعْدُودٌ فِي غَلَطَاتِ شَرِيكٍ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ يُسَمَّى يَقَظَةً.

كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ فَكَذَّبُوهُ، قَالَ:" فَرَجَعْتُ مَهْمُومًا فَلَمِ اسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ".

وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ حِينَ جَاءَ بِابْنِهِ إِلَى رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحَنِّكَهُ

فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 104

بِالْحَدِيثِ مَعَ النَّاسِ، فَرَفَعَ أَبُو أُسَيْدٍ ابْنَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَجِدِ الصَّبِيَّ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا رُفِعَ فَسَمَّاهُ الْمُنْذِرَ.

وَهَذَا الْحَمْلُ أَحْسَنُ مِنَ التَّغْلِيطِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * * وَقَدْ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ.

قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا، لِقَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للنَّاس " وَكَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام " يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أذبحك " وفى الحَدِيث: " تنام عيناى (1) وَقَلْبِي يَقْظَانُ ".

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى أَي حَالَة كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانَ (2) ، كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ.

* * * قُلْتُ: وَقَدْ تَوَقَّفَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ وَجَوَّزَ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُتَمَارَى أَنَّهُ كَانَ يَقْظَانَ لَا مَحَالَةَ، لِمَا تَقَدَّمَ.

وَلَيْسَ مُقْتَضَى كَلَامِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ جَسَدَهُ صلى الله عليه وسلم مَا فُقِدَ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ، أَنْ يكون مَنَامًا كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، بَلْ قَدْ يكون وَقع

(1) الاصل: عينى: وَمَا أثْبته من ابْن هِشَام.

(2)

ط: يقظانا.

وَهُوَ خطأ (*)

ص: 105

الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ يَقْظَانُ لَا نَائِمٌ، وَركب الْبراق وَجَاء بَيت الْمُقَدّس وَصعد السَّمَوَات وَعَايَنَ مَا عَايَنَ حَقِيقَةً وَيَقَظَةً لَا مَنَامًا.

لَعَلَّ هَذَا مُرَادُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، وَمُرَادُ مَنْ تَابَعَهَا عَلَى ذَلِكَ، لَا مَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَنَامَ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ مَنَامٍ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ طِبْقَ مَا وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ، أَنَّهُ رَأَى مِثْلَ مَا وَقَعَ لَهُ يَقَظَةً مَنَامًا قَبْلَهُ، ليَكُون ذَلِك من بَاب الارهاص والتوطئة والتثبت وَالْإِينَاسِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ هَلْ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ كُلٌّ فِي لَيْلَةٍ عَلَى حِدَةٍ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْمِعْرَاجَ فِي الْمَنَامِ.

وَقَدْ حَكَى الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ (1) فِي شَرْحِهِ الْبُخَارِيَّ عَنْ طَائِفَة أَنهم ذَهَبُوا إِلَى أَن الاسراء [وَقع] مرَّتَيْنِ، مَرَّةٌ بِرُوحِهِ مَنَامًا، وَمَرَّةٌ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً.

وَقَدْ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيه.

قَالَ السُّهيْلي: وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَحَادِيثَ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ: وَذَلِكَ فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ:" ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ " وَهَذَا مَنَامٌ.

وَدَلَّ غَيْرُهُ عَلَى الْيَقَظَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي تَعَدُّدَ الْإِسْرَاءِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا أَرْبَعُ إِسْرَاءَاتٍ.

وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ بَعْضَهَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ.

وَقَدْ حَاوَلَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رحمه الله أَن يوفق بَين اخْتِلَاف مَا وَقع

(1) الذى فِي السُّهيْلي: " وَرَأَيْت الْمُهلب فِي شرح البُخَارِيّ " وَلَيْسَ هُوَ الْمُهلب بن أَبى صفرَة الازدي أَمِير خرسان (*)

ص: 106

فِي رِوَايَات حَدِيث الاسراء بِالْجمعِ المتعدد، فَجَعَلَ ثَلَاثَ إِسْرَاءَاتٍ مَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَطْ عَلَى الْبُرَاقِ، وَمَرَّةً مِنْ مَكَّة إِلَى السَّمَاء عَلَى الْبُرَاقِ أَيْضًا لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَمَرَّةً مِنْ مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِلَى السَّمَوَات.

فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ صِفَاتٍ.

وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِيمَا جَمَعْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ".

وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَمَلَهُ أَنَّ التَّقْسِيمَ انْحَصَرَ فِي ثَلَاثِ صِفَاتٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى السَّمَوَات، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحَصْرِ الْعَقْلِيِّ الْوُقُوعُ كَذَلِكَ فِي الْخَارِجِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * * وَالْعَجَبُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيَّ رحمه الله ذَكَرَ الْإِسْرَاءَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَوْتَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَافَقَ ابْنَ إِسْحَاقَ فِي ذِكْرِهِ الْمِعْرَاجَ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ فِي ذِكْرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ.

وَابْنُ إِسْحَاقَ أَخَّرَ ذِكْرَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْإِسْرَاءِ.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فَرَّقَ بَين الاسراء وَبَين الْمِعْرَاج، فبوب لكل وَاحِد مِنْهُمَا بَابًا عَلَى حِدَةٍ.

فَقَالَ: " بَابُ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ " وَقَوْلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى " سُبْحَانَ الَّذِي أسرى

بِعَبْدِهِ لَيْلًا " حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي

ص: 107

أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ كُنْتُ (1) فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللَّهُ لى بَيت الْمُقَدّس، فطفقت أحدثهم (2) عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ ".

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ بِهِ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.

* * * ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ، مُضْطَجِعًا (3) إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ، قَالَ (4) : وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ، مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ، فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي، مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: من نقرة (5) نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ.

" فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْل وَفَوق الْحمار أَبيض ".

فَقَالَ الْجَارُودُ: وَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ.

" يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ.

فَحملت عَلَيْهِ، فَانْطَلق بى جِبْرَائِيل حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيل.

قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنعم المجئ جَاءَ.

(1) البُخَارِيّ: قُمْت.

(2)

البُخَارِيّ: أخْبرهُم.

(3)

الاصل: مضجعا.

وَمَا أثْبته من البُخَارِيّ.

(4)

الاصل: فَقَالَ وسمعته.

مَا أثْبته من صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 187 (5) البُخَارِيّ: ثغرة.

وهى بِمَعْنى نقرة.

(*)

ص: 108

فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ.

فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَة، فَاسْتَفْتَحَ قيل من هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيل.

قيل: من ومعك؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ [قَالَ: نعم.

] قيل: مرْحَبًا بِهِ فَنعم المجئ جَاءَ.

فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ.

قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسلم عَلَيْهِمَا.

فَسلمت عَلَيْهِمَا فَرَدَّا ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرَائِيل قيل: من هَذَا؟ قَالَ: حبرائيل.

قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ.

فَنعم المجئ جَاءَ.

فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ.

فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ قيل: من هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيل.

قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ، فَنعم المجئ جَاءَ.

فَلَمَّا خلصت إِذا إِدْرِيسُ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ.

فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيل.

قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنعم المجئ جَاءَ.

فَلَمَّا خلصت إِذا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ.

فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ والنبى الصَّالح.

ص: 109

ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ فَقيل: من هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيل.

قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنعم المجئ جَاءَ.

فَلَمَّا خلصت إِذا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.

ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرَائِيل قيل: من هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَائِيل.

قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنعم المجئ جَاءَ.

فَلَمَّا خلصت إِذا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسلمت فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ والنبى الصَّالح.

ثمَّ رفعت إِلَى سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، ونهران باطنان.

فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرَائِيل؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ.

ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لبن وإناء من عسل، فَأخذت اللَّبن.

قَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.

ثُمَّ فرض على الصَّلَوَات، خَمْسُونَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى

فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خمسين

ص: 110

صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا.

فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا.

فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا.

فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ مِثْلَهُ.

فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.

فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أمرت؟ فَقلت: بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ.

قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ".

* * * هَكَذَا رَوَى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هَهُنَا.

وَقَدْ رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ.

وَرُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.

وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ.

وَمِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي التَّفْسِيرِ.

وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَحْذِفُ بَعْضَ

الْخَبَرِ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوْ يَنْسَاهُ أَوْ يَذْكُرُ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ، أَوْ يَبْسُطُ تَارَةً فَيَسُوقُهُ كُلَّهُ، وَتارَة يحذف عَن مخاطبه بِمَا هُوَ الانفع عِنْده.

ص: 111

وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ رِوَايَةٍ إِسْرَاءً عَلَى حِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ فَقَدْ أَبْعَدَ جِدًّا.

وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ السِّيَاقَاتِ فِيهَا السَّلَامُ عَلَى الانبياء، وفى كل مِنْهَا يعرفهُ بِهِمْ، وَفِي كُلِّهَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى تَعَدُّدُ ذَلِكَ؟ ! هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالِاسْتِحَالَةِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً للنَّاس ".

قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

" وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ " قَالَ: هِيَ شَجَرَة الزقوم.

فَصْلٌ وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ جَاءَهُ جِبْرَائِيل عِنْدَ الزَّوَالِ، فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتَهَا.

وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابه فَاجْتمعُوا، وَصلى بِهِ جِبْرَائِيل فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْغَدِ وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْتَدِي بجبرائيل، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِر:" أمنى جِبْرَائِيل عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ ".

فَبين لَهُ الْوَقْتَيْنِ الاول وَالْآخر، فهما وَمَا بَيْنَهُمَا الْوَقْتُ الْمُوَسَّعُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَوْسِعَةً فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ.

وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبُرَيْدَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَكُلُّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.

وَمَوْضِعُ بَسْطِ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " الْأَحْكَامِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

فَأَمَّا مَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَنْ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ

قَالَتْ: " فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ ".

ص: 112

وَكَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا.

وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَكَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا "(1) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ أَرْبَعًا، كَمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا مِنْ صِلَاتِهِ عليه السلام صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ: الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا.

قُلْتُ: فَلَعَلَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ تَكُونُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا فُرِضَتِ الْخَمْسُ فُرِضَتْ حَضَرًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَرُخِّصَ فِي السَّفَرِ أَنَّ يُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ قَدِيمًا، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى إِشْكَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ [فِي] انْشِقَاقِ الْقَمَرِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجعل الله لَهُ آيَة على صَدَقَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، حَيْثُ كَانَ ذَلِك وَقت إِشَارَتِهِ الْكَرِيمَةِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وكل أَمر مُسْتَقر "(2) .

(1) سُورَة النِّسَاء 101 (2) سُورَة الْقَمَر 1 - 3 (*)(8 - السِّيرَة - 2)

ص: 113

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ مَنْ أَحَاطَ بِهَا وَنَظَرَ فِيهَا.

وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، فَذَكَرْنَا الطُّرُقَ وَالْأَلْفَاظَ مُحَرَّرَةً، وَنحن نشيرها هُنَا إِلَى أَطْرَافٍ مِنْ طُرُقِهَا وَنَعْزُوهَا إِلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ.

وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

أَمَّا أَنَسٌ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ.

فَقَالَ: " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر ".

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.

وَهَذَا مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَنِ الْجَمِيعِ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ.

زَاد البُخَارِيّ: وَسَعِيد ابْن أَبِي عَرُوبَةَ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: وَشُعْبَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا.

لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

وَأَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، [عَنْ أَبِيهِ] .

قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ،

ص: 114

وَفِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ.

فَقَالُوا: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ سَحَرَنَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ حُصَيْنٍ بِهِ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَهُشَيْمٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِهِ، فَزَادَ رَجُلًا فِي الْإِسْنَادِ.

* * * وَأَمَّا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فروى أَبُو نعيم فِي " الدَّلَائِل "(1) من طَرِيق عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ.

قَالَ: خَطَبَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِالْمَدَائِنِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر " أَلَا وَإِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، أَلَا وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ.

فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْجُمُعَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ مِثْلَهُ وَزَادَ: أَلَا وَإِنَّ السَّابِقَ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُمُعَة.

فَلَمَّا كُنَّا فِي الطَّرِيقِ قُلْتُ لِأَبِي: مَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ - " غَدًا السِّبَاقُ " قَالَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجنَّة.

أما ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ (2) ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1) لَيْسَ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة المطبوع.

وفيهَا رِوَايَات أُخْرَى عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس 233 - 236.

(2)

الاصل: ابْن كثير.

وَهُوَ تَحْرِيف وَمَا أثْبته عَن صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 269 بَاب التَّفْسِير.

(*)

ص: 115

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بَكْرٍ، وَهُوَ ابْن نصر، عَن جَعْفَر قَوْلُهُ:" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر ".

قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ، كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، انْشَقَّ الْقَمَرُ حَتَّى رَأَوْا شِقَّيْهِ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَهُوَ مِنْ مُرْسَلَاتِهِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سُهَيْل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَعَنْ مُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر ".

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ ابْن عبد يَغُوث، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ [بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى](1) ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ [كثير](1) .

فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ نِصْفًا على أَبى قبيس ونصقا عَلَى قُعَيْقِعَانَ.

فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُوا؟ " قَالُوا: نَعَمْ.

وَكَانَت لَيْلَة بدر، فَسَأَلَ الله عزوجل أَنْ يُعْطِيَهُ مَا سَأَلُوا، فَأَمْسَى الْقَمَرُ قَدْ سلب (2) نِصْفًا عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفًا عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي: يَا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ وَالْأَرْقَمَ بن الْأَرْقَمِ اشْهَدُوا.

ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَحَدَّثَنَا (3) سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ، عَن الْهَيْثَم بن العمان، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: انْتَهَى أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: هَلْ مِنْ آيَةٍ

نَعْرِفُ بهَا أَنَّك رَسُول الله.

(1) من دَلَائِل النُّبُوَّة 234.

(2)

دَلَائِل النُّبُوَّة: قد مثل نصفا.

(3)

لَيْسَ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة المطبوع.

(*)

ص: 116

فهبط جِبْرَائِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يحتفلوا هَذِه اللَّيْلَة فسيروا آيَةً إِنِ انْتَفَعُوا بِهَا.

فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمقالة جِبْرَائِيل، فَخَرَجُوا لَيْلَةَ الشَّقِّ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا عَلَى الصَّفَا وَنِصْفًا عَلَى الْمَرْوَةِ فَنَظَرُوا، ثُمَّ قَالُوا بِأَبْصَارِهِمْ فَمَسَحُوهَا، ثُمَّ أَعَادُوا النَّظَرَ فَنَظَرُوا، ثُمَّ مَسَحُوا أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا إِلَّا سحر رَاهِب.

فَأنْزل الله: " اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر ".

ثمَّ روى الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ: جَاءَتْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَرِنَا آيَةً حَتَّى نُؤْمِنَ بِهَا.

فَسَأَلَ ربه، فَأَرَاهُم الْقَمَر قد انْشَقَّ بجزئين، أَحَدُهُمَا عَلَى الصَّفَا وَالْآخَرُ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ثمَّ غَابَ.

فَقَالُوا: هَذَا سحر مفترى.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عَمْرو الرزاز، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ: كَسَفَ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: سَحَرَ الْقَمَرَ فَنَزَلَتْ: " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سحر مُسْتَمر ".

وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَسَفَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَعَلَّهُ حَصَلَ لَهُ انْشِقَاقٌ فِي لَيْلَةِ كُسُوفِهِ، وَلِهَذَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أهل الْأَرْضِ، وَمَعَ هَذَا قَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِقَاعِ

الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُرِّخَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَبُنِيَ بِنَاءٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأُرِّخَ بِلَيْلَةِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ.

ص: 117

وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ ابْن الْحَسَنِ الْقَاضِي، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ.

قَالَ مُسْلِمٌ: كَرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِقَّتَيْنِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اشْهَدُوا.

وَهَكَذَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، بِهِ.

وَمِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَن عبد الله بن سَمُرَة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" اشْهَدُوا " وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ.

لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (1) .

ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ أَبُو الضَّحَّاك، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه.

وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدِيثَ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ.

فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السُّفَّارُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يسطيع أَن يسحر النَّاس كلهم.

(1) لَيْسَ بِلَفْظ البُخَارِيّ.

(*)

ص: 118

قَالَ: فَجَاءَ السُّفَّارُ فَقَالُوا ذَلِكَ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ.

فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ: هَذَا سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، انْظُرُوا السُّفَّارَ، فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ.

قَالَ: فَسُئِلَ السُّفَّارُ قَالَ، وَقَدِمُوا مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ، فَقَالُوا: رَأينَا.

وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث جَابر، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَلَ بَيْنَ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ عَنْ سِمَاكٍ بِهِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْوَادِعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.

قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بمنى وَانْشَقَّ الْقَمَر حَتَّى صَار فرْقَتَيْن، فِرْقَةٌ خَلْفَ الْجَبَلِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اشْهَدُوا، اشْهَدُوا ".

وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا

ص: 119

آدم بن أَبى إِيَاس، حَدثنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَن عتبَة، عَن عبد الله ابْن عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَ شِقَّيْهِ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي بِمِنًى وَنَحْنُ بِمَكَّةَ.

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن إِسْحَاق، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن حَاتِم، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ فَرَأَيْتُهُ فِرْقَتَيْنِ.

ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، حَدثنَا مُوسَى بن عُمَيْر، عَن مَنْصُور ابْن الْمُعْتَمِرِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: رَأَيْتُ الْقَمَرَ وَاللَّهِ مُنْشَقًّا بِاثْنَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حِرَاءُ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةٌ ذَهَبَتْ، وَفِلْقَةٌ بَقِيَتْ.

قَالَ ابْن مَسْعُود: لقد رَأَيْت جبل حراء بَين فلقتى الْقَمَر، فَذهب فِلْقَةٌ، فَتَعَجَّبَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ مَصْنُوعٌ سَيَذْهَبُ.

وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عيله وَسلم لابي بكر: " فاشهد يَا أَبَا بَكْرٍ ".

وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَحَرَ الْقَمَرَ حَتَّى انْشَقَّ.

* * * فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَوِيَّةُ الْأَسَانِيدِ تُفِيدُ الْقَطْعَ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا وَعَرَفَ عَدَالَةَ رِجَالِهَا.

وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْقُصَّاصِ مِنْ أَنَّ الْقَمَرَ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ فِي كُمِّ النَّبِي

ص: 120

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنَ الْكُمِّ الْآخَرِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى لَيْسَ بِصَحِيحٍ.

وَالْقَمَرُ حِينَ انْشَقَّ لَمْ يُزَايِلِ السَّمَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ حِينَ أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْشَقَّ عَنْ إِشَارَتِهِ فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَسَارَتْ وَاحِدَةٌ حَتَّى صَارَتْ مِنْ وَرَاءِ حِرَاءَ، وَنَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ.

كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ.

وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: " فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ " فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ فِرْقَتَيْنِ.

وَاللَّهُ أعلم.

ص: 121

فَصْلٌ فِي وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَقِيلَ: بَلْ هِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهُ.

وَالْمَشْهُور الاول.

وَهَذَانِ المشفقان، هَذَا فِي الظَّاهِرِ، وَهَذِهِ فِي الْبَاطِنِ، هَذَاكَ كَافِرٌ، وَهَذِهِ مُؤْمِنَةٌ صِدِّيقَةٌ رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ.

فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الِابْتِلَاء يَسْكُنُ إِلَيْهَا (1) ، وَبِهُلْكِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ، وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ.

وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.

فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتَّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَنَثَرَ عَلَى

رَأْسِهِ تُرَابًا.

فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَدخل رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاته تَغْسِلُهُ وَتَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1) ابْن هِشَام: وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ يَسْكُنُ إِلَيْهَا (*)

ص: 122

يَقُولُ: " لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانع أَبَاك " وَيَقُول بَين ذَلِك: " مَا نَالَتْ منى (1) قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ".

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَبْلَ ذَلِكَ: أَنَّ أَحَدَهُمْ رُبَّمَا طَرَحَ الْأَذَى فِي بُرْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نُصِبَتْ لَهُ.

قَالَ: فَكَانَ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، كَمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عبد الله عَن عُرْوَة، يخرج بذلك الشئ على الْعود فيقذفه على بَابه ثمَّ يَقُول " يَا بني عبد منَاف أَي جوَار هَذَا؟ ! " ثمَّ يلقيه فِي الطَّرِيق.

* * * قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَلما اشْتَكَى أَبُو طَالب، وَبلغ قُرَيْش ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا أَمْرَنَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الله بن معيد، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَكَلَّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ،.

فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ فَادْعُهُ فَخُذْ لَنَا مِنْهُ

وَخُذْ لَهُ مِنَّا لِيَكُفَّ عَنَّا وَلِنَكُفَّ عَنْهُ، وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا وَلِنَدَعَهُ وَدِينَهُ.

فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالب فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا بن أخى، هَؤُلَاءِ أَشْرَاف قَوْمك قد اجْتَمعُوا إِلَيْك ليعطوك وليأخذوا مِنْك.

(1) الاصلى: مَا نالتنى.

وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.

(*)

ص: 123

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَم، كلمة وَاحِدَة تعطونها تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ ".

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيكَ وَعَشْرَ كَلَمَّاتٍ.

قَالَ: " تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبدُونَ من دونه ".

فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ.

ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ.

ثُمَّ تَفَرَّقُوا.

قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالب: وَالله يَا بن أَخِي مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا.

قَالَ: فَطَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ:" أَيْ عَمِّ فَأَنْتَ فَقُلْهَا أستحل لَك بهَا الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة ".

فَلَمَّا رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا بن أَخِي وَاللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السُّبَّةِ عَلَيْكَ وَعَلَى بَنِي أَبِيكَ مِنْ بَعْدِي، وَأَنْ تَظُنَّ قُرَيْشٌ أَنِّي إِنَّمَا قُلْتُهَا جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ لَقُلْتُهَا، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأَسُرَّكَ بِهَا.

قَالَ فَلَمَّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ نَظَرَ الْعَبَّاسُ إِلَيْهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ بِأُذُنِهِ.

قَالَ: فَقَالَ: يَا بن أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ التِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمْ أَسْمَعْ ".

قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الرَّهْطِ " ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ " الْآيَات.

ص: 124

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

* * * وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ إِلَى أَنَّ أَبَا طَالب مَاتَ مُسلما بقول الْعَبَّاس [فِي] هَذَا الحَدِيث، يَا بن أخى لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ التِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا.

يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي السَّنَدِ مُبْهَمًا لَا يُعْرُفُ حَالُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ " وَهَذَا إِبْهَامٌ فِي الِاسْمِ وَالْحَالِ، وَمِثْلُهُ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لَوِ انْفَرَدَ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير.

فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْعَبَّاسِ.

وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ الْكُوفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

فَذَكَرَهُ بِغَيْرِ زِيَادَةِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ.

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.

وَلَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ سِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ، فِيمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ وَجَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم [و] عِنْد رَأْسِ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ ذَاكَ، وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالب، فَقَالَ: يَا بن أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: " يَا عَمِّ إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْجِزْيَةَ

الْعَجَمُ، كلمة وَاحِدَة ".

ص: 125

قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".

قَالَ: فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ إِن هَذَا لشئ عُجَابٌ.

قَالَ: وَنَزَلَ فِيهِمْ: " ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكر " الْآيَات إِلَى قَوْله: " إِلَّا اخْتِلَاق ".

* * * ثُمَّ قَدْ عَارَضَهُ، أَعْنِي سِيَاقَ ابْنِ إِسْحَاقَ، مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ قَائِلًا: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه.

أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ.

فَقَالَ: " أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ".

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ ! فَلَمْ يَزَالَا يُكَلَمَّانِهِ حَتَّى قَالَ آخر مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَأَسْتَغْفِرَنَّ (1) لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ".

فَنَزَلَتْ: " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم (2) " وَنزلت: " إِنَّك لَا تهدى من أَحْبَبْت "(3) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدٍ الله، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.

وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِهِ.

وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ آخَرَ مَا قَالَ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لم أَنه عَنْك " فَأنْزل الله

(1) الاصل: لاستغفر.

وَهُوَ تَحْرِيف.

(2)

سُورَة التَّوْبَة 113 (3) سُورَة لقصص 56.

(*)

ص: 126

يَعْنِي بَعْدَ ذَلِكَ: " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قربى ".

وَنَزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أعلم بالمهتدين ".

هَكَذَا روى الامام أَحْمد وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" يَا عَمَّاهُ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".

فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيَّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ مَا حمله عَلَيْهِ إِلَّا فزع الْمَوْتِ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ وَلَا أَقُولُهَا إِلَّا لاقر بهَا عَيْنك.

فَأنْزل الله عزوجل: " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يهدى من يَشَاء وَهُوَ أعلم بالمهتدين ".

وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

فَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، وَقَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ.

وَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

وَيُؤَكِّدُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: قَلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟

قَالَ: " [هُوَ] فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنا لَكَانَ فِي الدَّرك الاسفل (1) ".

(1) زَاد فِي البُخَارِيّ: من النَّار.

(*)

ص: 127

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عبد الْملك بن عُمَيْر بِهِ.

[و] أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ:" لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ ".

لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

وَفِي رِوَايَةٍ " تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ ".

وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالب، منتعل بنعلين من النَّار يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ".

وَفِي مَغَازِي يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ " يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ " ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرو، هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قِيلَ لَهُ: هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ؟ قَالَ: " أَخْرَجْتُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا ".

تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ الْعَبَّاس أَخِيه أَنَّهُ قَالَ الْكَلِمَةَ وَقَالَ: " لَمْ أَسْمَعْ " لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ إِذْ ذَاكَ كَافِرًا غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ.

قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْخَبَرَ بِذَلِكَ مَا صَحَّ لِضَعْفِ سَنَدِهِ.

كَمَا تَقَدَّمَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَذكر لَهُ مَا تقدم.

ص: 128

وبتعليل صِحَّتِهِ لَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَلَكِ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ، حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * * وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبِي أَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنْ عَمَّكَ قَدْ تُوُفِّيَ.

فَقَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ " فَقُلْتُ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا، فَقَالَ:" اذْهَبْ فواره وَلَا تحدثن شَيْئا حَتَّى تأتى ".

فَفعلت فَأَتَيْته، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ.

وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَة.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ؟ قَالَ:" اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ".

فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لى بِهن مَا على الارض من شئ.

وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَاد من (1) جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، وَجُزِيتَ خيرا يَا عَم ".

(1) فِي الوفا لِابْنِ الجوزى: عَارض جَنَازَة.

وَهَذَا مَا يتَّفق مَعَ قَوْله بعد: " وَلم يقم على قَبره ".

(*)(9 - السِّيرَة - 2)

ص: 129

قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَزَادَ: وَلَمْ يَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ.

قَالَ: وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ الْخُوَارِزْمِيُّ تَكَلَّمُوا فِيهِ.

قُلْتُ: قَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ (1) ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبِيكَنْدِيُّ (2) .

وَمَعَ هَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَأَحَادِيثُهُ عَنْ كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقِيمَةٍ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ أَبُو طَالِبٍ مِنَ الْمُحَامَاةِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُمَانَعَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالدَّفْعِ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا قَالَهُ فِيهِ مِنَ الممادح وَالثنَاء، وَمَا أظهره لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ فِي أَشْعَارِهِ التِي أَسْلَفْنَاهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعَيْبِ والتنقيص لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ الْهَاشِمِيَّةِ الْمُطَّلِبِيَّةِ التِي لَا تُدَانَى وَلَا تُسَامَى، وَلَا يُمكن عَرَبيا مقارنتها وَلَا مُعَارَضَتُهَا.

وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ.

وَفَرْقٌ بَيْنَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ.

كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.

وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ".

وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: " وَجَحَدُوا بِهَا واستيقنتها أنفسهم " وَقَالَ مُوسَى

(1) كَانَ من أَقْرَان ابْن الْمُبَارك فِي السن وَالْعلم، ولد سنة 115 وَمَات سنة 191.

وَنسب إِلَى

سينان إِحْدَى قرى مرو.

(2)

نِسْبَة إِلَى بيكند، بَلْدَة بَين بُخَارى وجيحون.

(*)

ص: 130

لِفِرْعَوْنَ: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ".

وَقَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَهُمْ ينهون عَنهُ وينأون عَنهُ " إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْأَى هُوَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.

فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، وَمُحَمّد بن كَعْب، وَغَيرهم، فَفِيهِ نَظَرٌ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُمْ يَنْهَونَ النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ.

وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.

وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سِيقَ لِتَمَامِ ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَن اتِّبَاعه وَلَا يَنْتَفِعُونَ هُمْ أَيْضًا بِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ: " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ".

وَهَذَا اللَّفْظ وَهُوَ قَوْله " وهم " يدل على أَن المُرَاد بِهَذَا جمَاعَة، وهم المذكورون فِي سِيَاق الْكَلَام وَقَوله:" وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ " يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الذَّمِّ.

وَأَبُو طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، بَلْ كَانَ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ، وَنَفْسٍ وَمَالٍ.

ص: 131

وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ، لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ الْبَالِغَةِ الدَّامِغَةِ التِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا.

وَلَوْلَا مَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، لَاسْتَغْفَرْنَا لابي طَالب وترحمنا عَلَيْهِ! فصل فِي موت خَدِيجَة بنت خويلد وَذكر شئ مِنْ فَضَائِلِهَا وَمَنَاقِبِهَا رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهَا وَمَثْوَاهَا.

وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، حَيْثُ بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَقَدْ كَانَتْ خَدِيجَةُ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.

ثُمَّ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَاتَتْ خَدِيجَةُ وَأَبُو طَالِبٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالب بِثَلَاثَة أَيَّام.

ذكره عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ، وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ خَدِيجَةَ وَأَبَا طَالِبٍ مَاتَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ عَامَ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ، وَأَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً.

قُلْتُ: مُرَادُهُمْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.

ص: 132

وَكَانَ الْأَنْسَبُ بِنَا أَنْ نَذْكُرَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ

الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ عَنِ الْإِسْرَاءِ لِمَقْصِدٍ سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِهِ يَنْتَظِم ويتسق الْبَاب.

كَمَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزَوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

قَالَ: أَتَى جِبْرَائِيل إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عليها السلام مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الله بن أَبى أوفى: بَشَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَدِيجَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا بَشَّرَهَا " بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ "، يَعْنِي قَصَبَ اللُّؤْلُؤِ، لِأَنَّهَا حَازَتْ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الْإِيمَانِ " لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ " لِأَنَّهَا لَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تُتْعِبْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَلَمْ تَصْخَبْ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَا آذَتْهُ أَبَدًا.

وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي - لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا.

ص: 133

وَأمره الله أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ.

لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

وَفِي لَفْظٍ عَنْ عَائِشَةَ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِنْ كَثْرَةِ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا، وَتَزَوَّجنِي بعْدهَا بِثَلَاث سِنِين، وَأمره ربه، أَو جِبْرَائِيل، أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ.

وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ فيقطعها أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قلت: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ! فَيَقُولُ: " إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ".

ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَالَةُ!.

[قَالَت (1) ] فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ [قَدْ (1) ] أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا.

وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ خَيْرٌ مِنْ خَدِيجَةَ، إِمَّا فَضْلًا وَإِمَّا عِشْرَةً، إِذْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا وَلَا رَدَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاق البُخَارِيّ رحمه الله.

(1) من البُخَارِيّ.

(*)

ص: 134

وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ أَبُو عبد الرَّحْمَن، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ - هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ - عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا خَدِيجَةَ فَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ

النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ أَعْقَبَكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ.

قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تغيرا لم أره تغير عِنْد شئ قَطُّ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ المخيلة حَتَّى يعلم رَحْمَة أَو عذَابا.

وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ.

وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ ": " هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ الاول ".

قَالَ: قَالَتْ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ تَمَعُّرًا مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَةِ حَتَّى ينظر رَحْمَة أَوْ عَذَابًا.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَهَذَا إِسْنَادٌ جيد.

وَقَالَ الامام أَحْمد أَيْضا: عَن ابْن إِسْحَاق، أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ.

قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تذكرها حَمْرَاء الشدقين، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا.

قَالَ: " مَا أبدلني الله خيرا مِنْهَا، وَقد آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي أذ كَذبَنِي [النَّاس] ، وآستني بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ".

ص: 135

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.

وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

وَمُجَالِدٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مُتَابَعَةً، وَفِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَعَلَّ هَذَا، أَعْنِي قَوْلَهُ:" وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاء " كَانَ قبل أَن

يُولد إِبْرَاهِيم بن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَارِيَةَ، وَقَبْلَ مَقْدِمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْلَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي، مِنْ خَدِيجَةَ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ رضي الله عنها.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وأرضاها.

وَتَكَلَّمَ آخَرُونَ فِي إِسْنَادِهِ.

وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ خَيْرًا عِشْرَةً، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَوْ ظَاهر، وَسَببه أَن عَائِشَة تمت بِشَبَابِهَا وَحُسْنِهَا وَجَمِيلِ عِشْرَتِهَا، وَلَيْسَ مُرَادُهَا بِقَوْلِهَا:" قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا " أَنَّهَا تُزَكِّي نَفْسَهَا وَتُفَضِّلُهَا عَلَى خَدِيجَةَ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ عز وجل، كَمَا قَالَ:" فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (1) " وَقَالَ تَعَالَى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنفسهم، بل الله يزكّى من يَشَاء (3) " الْآيَةَ.

* * * وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ الْعلمَاء قَدِيما وحديثا، وبجانبها طرق يقْتَصر عَلَيْهَا أَهِلُ التَّشَيُّعِ وَغَيْرُهُمْ، لَا يَعْدِلُونَ بِخَدِيجَةَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ: لِسَلَامِ الرَّبِّ عَلَيْهَا، وَكَوْنِ وَلَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعِهِمْ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، مِنْهَا، وَكَوْنِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَت إِكْرَاما لَهَا وَتَقْدِير إِسْلَامِهَا، وَكَوْنِهَا مِنَ الصِّدِّيقَاتِ، وَلَهَا مَقَامُ صِدْقٍ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ، وَبَذَلَتْ نَفْسَهَا وَمَالَهَا لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.

(1) سُورَة النَّجْم 32.

(2)

سُورَة النِّسَاء 49.

(*)

ص: 136

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو أَيْضًا وَيُثْبِتُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ تَحْمِلُهُمْ قُوَّةُ التَّسَنُّنِ عَلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ،

وَلِكَوْنِهَا أَعْلَمَ مِنْ خَدِيجَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ مِثْلُ عَائِشَةَ فِي حِفْظِهَا وَعِلْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا وَعَقْلِهَا، وَلم يكن الرَّسُول يُحِبُّ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ كَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَنَزَلَتْ براءتها من فَوق سبع سموات، وَرَوَتْ بَعْدَهُ عَنْهُ عليه السلام عِلْمًا جَمًّا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، حَتَّى قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ " خُذُوا شَطْرَ دينكُمْ عَن الْحُمَيْرَاء ".

* * * الْحق أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ فِيهِ لَبَهَرَهُ وَحَيَّرَهُ.

وَالْأَحْسَنُ التَّوَقُّف فِي ذَلِك إِلَى الله عزوجل.

وَمَنْ ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ يَقْطَعُ بِهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَذَاكَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ.

وَمَنْ حَصَلَ لَهُ تَوَقُّفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ وَالْمَسْلَكُ الْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ روى الامام أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ " أَيْ خَيْرُ زَمَانِهِمَا.

وَرَوَى شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".

ص: 137

رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيح إِلَى شُعْبَة بعده.

قَالُوا: وَالْقدر الْمُشْتَرك بَين الثَّلَاثِ نِسْوَةٍ، آسِيَةَ وَمَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ

كَفَلَتْ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَحْسَنَتِ الصُّحْبَةَ فِي كفالتها وَصَدَّقَتْهُ حِينَ بُعِثَ.

وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا أَتَمَّ كَفَالَةٍ وَأَعْظَمَهَا وَصَدَّقَتْهُ حِينَ أُرْسِلَ.

وَخَدِيجَةُ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا وَبَذَلَتْ فِي ذَلِكَ أَمْوَالَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ الله عزوجل.

وَقَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " والثريد هُوَ الْخَبَر وَاللَّحْمُ جَمِيعًا، وَهُوَ أَفْخَرُ طَعَامِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْم * فَذَاك أَمَانَة الله الثَّرِيد وَيحمل قَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ " أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَيَعُمُّ النِّسَاءَ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرَهُنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيمَا عَدَاهُنَّ وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيهَا وَفِيهِنَّ مَوْقُوفا يحْتَمل التَّسْوِيَة بَينهُنَّ، فَيحْتَاج من رجح وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهَا إِلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارج.

وَالله أعلم.

ص: 138

فصل فِي تَزْوِيجه عليه السلام بَعْدَ خَدِيجَةَ رضي الله عنها بِعَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رضي الله عنهما الصَّحِيح أَن عَائِشَة تزَوجهَا أَولا كَمَا سَيَأْتِي.

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَزْوِيجِ عَائِشَةَ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَام ابْن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ (1) مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ (2) : هَذِهِ امْرَأَتُكَ.

فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذا

هِيَ أَنْت، فَأَقُول إِن كَانَ هَذَا (3) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ".

قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ نِكَاحِ الْأَبْكَارِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكْرًا غَيْرَكِ.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَةً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيُّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بِعِيرَكَ؟ قَالَ:" فِي التِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا " تَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا.

انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ.

قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ فيجئ

(1) السّرقَة: الْقطعَة.

(2)

أَي جِبْرِيل.

وفى رِوَايَة: وَيُقَال.

(3)

البُخَارِيّ: إِن يَك هَذَا.

(*)

ص: 139

بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِي هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ فَإِذا أَنْت هِيَ، فَقلت: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ".

وَفِي رِوَايَةٍ: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ".

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَهُ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: [بَابُ] تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ.

فَقَالَ: " أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ ".

هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ رحمه الله.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ.

قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ الله صلى الله عيله وَسلم عَائِشَة بعد خَدِيجَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ، وَمَاتَ رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَهَذَا غَرِيبٌ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.

ص: 140

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عُرْوَةُ مُرْسَلٌ فِي ظَاهِرِ السِّيَاقِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَقَوْلُهُ: " تَزَوَّجَهَا وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ " مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا.

وَكَانَ بِنَاؤُهُ بِهَا عليه السلام فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

وَأَمَّا كَوْنُ تَزْوِيجِهَا كَانَ بَعْدَ موت خَدِيجَة بِنَحْوِ من ثَلَاثِ سِنِينَ فَفِيهِ نَظَرٌ.

فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ سُفْيَانَ الْحَافِظَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ قَبْلَ مُخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعِ أَوْ سِتِّ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ جَاءَنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا الْعَبُ فِي أُرْجُوحَةٍ وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ [فَبنى بى] .

وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ.

فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: " مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ ".

يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ قَرِيبًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ مِنَ النُّسْخَةِ بَعْدَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، فَلَا يَنْفِي مَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ.

قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَوُعِكْتُ فَتَمَزَّقَ شعرى وَقد وفت لِي جُمَيْمَةٌ، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي فأتيتها مَا أدرى مَا تُرِيدُ منى، فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أخذت شَيْئا من مَاء فمست بِهِ وجهى ورأسي، ثمَّ أدخلتني

ص: 141

الدَّار.

قَالَ: فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ.

فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى، فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤمنِينَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشر، حَدثنَا بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو [حَدَّثَنَا] أَبُو سَلَمَةَ وَيَحْيَى، قَالَا: لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْت ثَيِّبًا.

قَالَ: فَمن الْبكر؟ قَالَت أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ عَائِشَةُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ.

قَالَ: وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمعَة، قد آمَنت بك واتبعتك.

قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ.

فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ رُومَانَ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ!

قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخطب عَلَيْهِ عَائِشَة، قَالَت: انظري أَبَا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ.

فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقلت: يَا أَبَا بَكْرٍ مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ.

قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟ إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ.

فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ: " ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ: أَنَا أَخُوكَ وَأَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي ".

فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ قَالَ: انْتَظِرِي، وَخَرَجَ.

قَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: إِنَّ مُطْعِمَ بْنَ عدى قد ذكرهَا على ابْنه، وَوَاللَّه مَا وعد أَبُو بكر وَعدا قطّ فأخلفه.

ص: 142

فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَعِنْده امْرَأَته أم الصبى.

فَقَالَت: يَا ابْن أَبى قُحَافَة لَعَلَّك مصبئ صاحبنا تدخله فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ؟ ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ أَقَوْلَ هَذِهِ تَقُولُ؟ [قَالَ:](1) إِنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ.

فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ التِي وَعَدَهُ.

فَرَجَعَ فَقَالَ لِخَوْلَةَ: ادْعِي لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَدَعَتْهُ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بَنَتُ سِتِّ سِنِينَ.

ثُمَّ خَرَجَتْ فَدخلت على سَوْدَة بنت زَمعَة فَقَالَت: مَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ؟ ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْطُبُكِ إِلَيْهِ.

قَالَتْ: وَدِدْتُ، ادخلي إِلَى أَبى بكر فَاذْكُرِي ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَهُ السِّنُّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فحييته بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ.

قَالَ: فَمَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ.

فَقَالَ: كُفْء كريم، مَا تَقول صَاحبَتك؟ قَالَت: تحب ذَلِك.

قَالَ ادعيها إِلَى.

فَدَعَتْهَا

قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، إِنَّ هَذِهِ تَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمطلب قد أرسل يخطبك، وَهُوَ كُفْء كَرِيمٌ، أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: ادْعِيهِ لِي.

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ.

فَجَاءَ أَخُوهَا عبد بن زَمعَة من الْحَج، فجَاء يحثى على رَأْسِهِ التُّرَابَ.

فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: لَعَمْرُكَ إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي فِي رَأْسِي التُّرَابَ أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ! قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ.

قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بَيْتَنَا وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رجال من الانصار

(1) من الْمسند 6 / 211 (*)

ص: 143

وَنِسَاءٌ، فَجَاءَتْنِي أُمِّي وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عذقين يرجح بِي، فَأَنْزَلَتْنِي مِنَ الْأُرْجُوحَةِ وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقْتَهَا ومسحت وجهى بشئ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي حَتَّى وَقَفَتْ بِي عِنْدَ الْبَابِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفَسِي، ثُمَّ دَخَلَتْ بِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَجْلَسَتْنِي فِي حُجْرَةٍ ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكَ، فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِمْ، وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكَ.

فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَخَرَجُوا، وَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِنَا مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ، وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ.

وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ.

وَهَذَا السِّيَاقُ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ.

لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّار، حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس الازدي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَتْ:

إِنْ شِئْتَ بِكْرًا وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا.

قَالَ: مَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ قَالَتْ: أَمَّا الْبِكْرُ فَابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ.

قَالَ فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَقْدَهُ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى تَزْوِيجِهِ بِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ.

وَلَكِنَّ دُخُولَهُ عَلَى سَوْدَةَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا دُخُولُهُ عَلَى عَائِشَةَ فَتَأَخَّرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ

ص: 144

قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِي بِيَوْمِهَا مَعَ نِسَائِهِ.

قَالَتْ: وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنِي شَهْرٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهَا سَوْدَة وَكَانَت مصبية، كَانَ لَهَا خمس صبية أَو سِتّ من بَعْلهَا مَاتَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي؟ " قَالَتْ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِّيَّةِ إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يمنعوا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةُ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً.

قَالَ: فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ.

قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَرْحَمُكِ اللَّهُ! إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلَ، صَالِحُ؟ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدِهِ.

قُلْتُ: وَكَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ عليه السلام السَّكْرَانُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بهَا قبل الْهِجْرَة رضى الله عَنهُ.

هَذِه السِّيَاقَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ بِسَوْدَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ.

وَرَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ الير أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى سَوْدَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ، وَحَكَاهُ عَن قَتَادَة وأبى عبيد.

قَالَ: وَرَوَاهُ عقيل عَن الزُّهْرِيّ.

(10 - السِّيرَة - 2)

ص: 145

فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ كَانَ نَاصِرًا لَهُ وَقَائِمًا فِي صَفِّهِ وَمُدَافِعًا عَنْهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نفس وَمَال ومقال وَفِعَالٍ.

فَلَمَّا مَاتَ اجْتَرَأَ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَكُونُوا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ.

كَمَا قَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصنعانى، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَأَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي، فَجَعَلَ يَقُول:" أَي بنية لَا تبكى، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ ".

وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ: " مَا نَالَتْ قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالب ثمَّ شرعوا ".

وَقَدْ رَوَاهُ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسلا.

وَالله أَعْلَمُ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ

يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كاعين (1) حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالب ".

(1) كاعين: جبناء (*)

ص: 146

ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ الْمُجَدَّرُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةً حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ".

وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْفرج ابْن الجوزى بِسَنَدِهِ عَن ثَعْلَبَة بن صقير (1) وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالب وَخَدِيجَة، وَكَانَ بَينهمَا خَمْسَة أَيَّام، اجْتمع عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مصيبتان، وَلزِمَ بَيْتَهُ وَأَقَلَّ الْخُرُوجَ، وَنَالَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ وَلَا تَطْمَعُ فِيهِ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا لَهَبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ امْضِ لِمَا أَرَدْتَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا فَاصْنَعْهُ، لَا وَاللَّاتِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ حَتَّى أَمُوتَ.

وَسَبَّ ابْنُ الْغَيْطَلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبُو لَهَبٍ فَنَالَ مِنْهُ، فَوَلَّى يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ صَبَأَ أَبُو عُتْبَةَ.

فَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: مَا فَارَقْتُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

وَلَكِنِّي أَمْنَعُ ابْنَ أَخِي أَنْ يُضَامَ حَتَّى يَمْضِيَ لما يُرِيد.

فَقَالُوا: لقد أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ وَوَصَلْتَ الرَّحِمَ.

فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ أَيَّامًا يَأْتِي وَيَذْهَبُ لَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وهابوا أَبَا لَهب، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبُو جَهْلٍ إِلَى أَبِي لَهَبٍ فَقَالَا لَهُ: أَخْبَرَكَ ابْنُ أَخِيكَ أَيْنَ مَدْخَلُ أَبِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: يَا مُحَمَّدُ أَيْنَ مَدْخَلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: مَعَ قومه.

فَخرج إِلَيْهَا فَقَالَ:

قَدْ سَأَلْتُهُ فَقَالَ: مَعَ قَوْمِهِ.

فَقَالَا: يزْعم أَنه فِي النَّار!

(1) الاصل: صعير.

وَهُوَ تَحْرِيف.

وَمَا أثْبته من الوفا لِابْنِ الجوزى 210.

(*)

ص: 147

فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَيَدْخُلُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ النَّارَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ مَاتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ دَخَلَ النَّارَ.

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ -: وَاللَّهِ لَا بَرِحْتُ لَكَ إِلَّا عَدُوًّا (1) أَبَدًا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فِي النَّارِ.

وَاشْتَدَّ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو لَهَبٍ وَسَائِرُ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ.

* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ النَّفَرَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ: أَبُو لَهَبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدِيُّ بْنُ الْحَمْرَاءِ، وَابْنُ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيُّ.

وَكَانُوا جِيرَانَهُ، لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ.

وَكَانَ أَحَدُهُمْ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، يَطْرَحُ عَلَيْهِ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إِذَا نُصِبَتْ لَهُ، حَتَّى اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِجْرًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا صَلَّى، فَكَانَ إِذَا طَرَحُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى عَوْدٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهِ على بَابه ثمَّ يَقُول: يَا بني عبد منَاف أَي جوَار هَذَا؟ ثمَّ يلقيه فِي الطَّرِيقِ.

قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ غَالِبَ مَا رُوِيَ مِمَّا تقدم - من طرحهم سلا الْجَزُورِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ فَشَتَمَتْهُمْ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَى سَبْعَةٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ خَنْقِهِمْ لَهُ عليه السلام خَنْقًا شَدِيدا،

(1) ابْن الجوزى: لَا بَرحت لَك عدوا، وهى كَذَلِك فِي طَبَقَات ابْن سعد (*)

ص: 148

حَتَّى حَالَ دُونَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَائِلًا: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ! وَكَذَلِكَ عَزْمُ أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنْ يَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - كَانَ بَعْدَ وَفَاة أَبى طَالب وَالله أعلم.

فَذكرهَا هَهُنَا أنسب وأشبه.

فصل فِي ذَهَابه عليه السلام إِلَى أهل الطَّائِف يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى، وَإِلَى نُصْرَةِ دِينِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يقبلُوا، فَرجع عَنْهُم إِلَى مَكَّةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَذَى مَا لم تكن نالته مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ.

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النُّصْرَةَ وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ من قومه، وَرَجا أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَحْدَهُ فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِف، وَعمد إِلَى نفر من ثَقِيف وهم سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ، عَبْدُ يَالِيلَ، وَمَسْعُودٌ، وَحَبِيبٌ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بن غيرَة ابْن عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ.

وَعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ.

فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الله وكلمهم لما جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ.

وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا أَرْسَلَهُ غَيْرَكَ؟ وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ

وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ.

ص: 149

فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقد قَالَ لَهُم، فِيمَا ذكر لى، إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَلَيَّ.

وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ حَتَّى اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس وألجأوه إِلَى حَائِطٍ لِعَتَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ.

فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ (1) مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ، وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ وَيَرَيَانِ مَا يَلْقَى مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطَّائِفِ.

وَقَدْ لَقِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا ذُكِرَ لِي، الْمَرْأَةَ التِي مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكِ! فَلَمَّا اطْمَأَنَّ قَالَ فِيمَا ذكر: " اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ ! إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي.

أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَك العتبى حَتَّى ترْضى، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".

قَالَ: فِلْمًا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لقى تحركت لَهُ رحمهمَا، فدعوا غُلَاما لَهما نَصْرَانِيّا يُقَال لَهُ عداس [وَقَالا لَهُ] خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِك الرجل فَقل لَهُ يَأْكُل مِنْهُ.

الحبلة: الكرمة.

[*]

ص: 150

فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ لَهُ كُلْ.

فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِيهِ قَالَ: " بِسم الله " ثمَّ أكل، ثمَّ نظر عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ بِلَادٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ وَمَا دِينُكَ؟ قَالَ: نَصْرَانِيٌّ وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟ فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَذَلِكَ أَخِي كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ.

فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقبل رَأسه وَيَديه وقدميه.

قَالَ: يَقُول ابْنا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك.

فَلَمَّا جَاءَ عَدَّاسٌ قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ! مَا لَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟ قَالَ: يَا سيدى مَا فِي الارض شئ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ.

قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.

* * * وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الدُّعَاءَ وَزَادَ: وَقَعَدَ لَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْهُ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاء، فَعمد إِلَى ظلّ نَخْلَة

ص: 151

وَهُوَ مَكْرُوبٌ، وَفِي ذَلِكَ الْحَائِطِ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ فَكَرِهَ مَكَانَهُمَا لِعَدَاوَتِهِمَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ عَدَّاسٍ النَّصْرَانِيِّ، كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي بكر ابْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَبِي جَبَلٍ الْعَدْوَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًى، حِين أَتَاهُم يبتغى عِنْدهم النَّصْر، فَسَمعته يَقُول:" وَالسَّمَاء والطارق " حَتَّى خَتَمَهَا.

قَالَ: فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ.

قَالَ: فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ فَقَالُوا: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْنَاهُ.

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْم كَانَ أَشد عَلَيْك من يَوْم أحد؟ قَالَ: " مَا لقِيت من قَوْمك كَانَ أَشد مِنْهُ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا أَنا بسحابة قد أطلتني، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عليه السلام، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

ثُمَّ نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد قد بعثنى الله، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ

ص: 152

قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْك رَبك لتأمرني مَا شِئْت، إِن شِئْت تطبق

عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يعبد الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا ".

فَصْلٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَمَاعَ الْجِنِّ لِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ حِينَ بَاتَ بِنَخْلَةَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الصُّبْحَ، فَاسْتَمَعَ الْجِنُّ الَّذِينَ صُرِفُوا إِلَيْهِ قِرَاءَتَهُ هُنَالِكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا سَبْعَة نفر، وَأنزل اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ قَوْلَهُ:" وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفرا من الْجِنّ ".

قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي التَّفْسِير، وَتقدم قِطْعَة من ذَلِك، وَالله أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَازْدَادَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ حَنَقًا وَغَيْظًا وَجُرْأَةً وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا.

وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعث أُرَيْقِطٍ إِلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ حَلِيفَ قُرَيْشٍ لَا يُجِيرُ عَلَى صَمِيمِهَا.

ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى سيهل بْنِ عَمْرٍو لِيُجِيرَهُ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبِ بن لؤى.

ص: 153

فَبَعَثَهُ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ لِيُجِيرَهُ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْ لَهُ فَلْيَأْتِ.

فَذَهَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَاتَ عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ مَعَهُ هُوَ وَبَنُوهُ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفَ جَمِيعًا، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم: طُفْ.

وَاحْتَبَوْا بِحَمَائِلِ سُيُوفِهِمْ فِي الْمَطَافِ.

فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَان إِلَى مطعم فَقَالَ: أمجير أَو تَابِعٌ؟ قَالَ: لَا بَلْ مُجِيرٌ.

قَالَ: إِذًا لَا تُخْفَرُ.

فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوَافَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ انْصَرَفُوا مَعَهُ.

وَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَجْلِسِهِ.

قَالَ: فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ.

فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَة توفى مطعم بْنُ عَدِيٍّ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: وَاللَّهِ لَأَرْثِيَنَّهُ.

فَقَالَ فِيمَا قَالَ: فَلَوْ كَانَ مجد مخلد الْيَوْم وَاحِدًا * من النَّاس نحى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا * عِبَادَكَ مَا لَبَّى مُحِلٌّ وَأَحْرَمَا فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدٌّ بِأَسْرِهَا * وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيَّةِ جُرْهُمَا لَقَالُوا: هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ جَارِهِ * وذمت يَوْمًا إِذا مَا تجشما وَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ * عَلَى مِثْلِهِ فيهم أعز وأكرما إباء إِذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ شِيمَةً * وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إِذا اللَّيْل أظلما قلت: وَلِهَذَا قَالَ النى صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُسَارَى بَدْرٍ: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ سَأَلَني فِي هَؤُلَاءِ النتنى (1) لوهبتهم لَهُ ".

(1) المطبوعة: النُّقَبَاء.

وَهُوَ تَحْرِيف شنيع أعَان عَلَيْهِ كتَابَتهَا فِي الاصل بالالف بِلَا نقط وَالرِّوَايَة كَمَا فِي الوفا والمواهب: ثمَّ كلمني فِي هَؤُلَاءِ النتنى لاطلقتهم لَهُ.

وَسَمَّاهُمْ نتنى لكفرهم.

كَمَا فِي النِّهَايَة.

(*)

ص: 154

فَصْلٌ فِي عَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مواسم الْحَج أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ وَيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ كَذَّبَهُ وَخَالَفَهُ،

فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِمَا ذَخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْصَارِ مِنَ الْكَرَامَةِ الْعَظِيمَةِ رضي الله عنهم قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ.

فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ، إِذَا كَانَتْ، عَلَى قبائل الْعَرَب يَدعُوهُم إِلَى الله عزوجل، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَن ربيعَة بن عباد الدؤلى (1) ، وَمن حَدَّثَهُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْهُ، وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عِبَادٍ يُحَدِّثُهُ أَبِي، قَالَ: إِنِّي لَغُلَامٌ شَابٌّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ فَيَقُولُ:" يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِه الانداد، وَأَن تؤمنوا بى وتصدقوا بى، وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ ".

(1) وَيُقَال فِيهِ الديلى.

(*)

ص: 155

قَالَ: وَخَلفه رجل أَحول وضئ لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ، قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا بَنِي فُلَانٍ إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلُخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ.

قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: هَذَا عَمَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو لَهَبٍ.

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ أَخْبرنِي رجل يُقَال لَهُ ربيعَة بن عباد مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا " وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رجل وضئ الْوَجْهِ أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ.

يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ.

فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن مُحَمَّد ابْن الْمُنْكَدر، عَن ربيعَة الديلى: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ تَقِدُ وَجْنَتَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ.

قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا هَذَا أَبُو لَهَبٍ.

وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَسَعِيدِ بن سَلمَة بن أَبى الْحُسَامِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهِ نَحْوَهُ.

ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كنَانَة

ص: 156

قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا " وَإِذا رجل خَلفه يسفي عَلَيْهِ التُّرَاب، فَإِذا هُوَ أَبُو جهل وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى.

كَذَا قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: " أَبُو جَهْلٍ " وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً يَكُونُ ذَا وَتَارَةً يَكُونُ ذَا، وَأَنَّهُمَا كَانَا يَتَنَاوَبَانِ عَلَى إِيذَائِهِ صلى الله عليه وسلم * * *

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ عليه السلام أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مليح، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله عزوجل وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [عَبْدِ اللَّهِ بْنِ](1) حُصَيْنٍ أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِم نَفسه، حَتَّى إِنَّه ليقول:" يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ " فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ.

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ نَفسه فَلم يَك أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ.

وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ (2) بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتى

(1) من ابْن هِشَام.

(2)

الاصل بحيرة.

وَمَا أثْبته من ابْن هِشَام وَالرَّوْض الانف.

(*)

ص: 157

مِنْ قُرَيْشٍ لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ:" الْأَمْرُ لِلَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ".

قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ.

فَأَبَوْا عَلَيْهِ.

فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ قَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ السِّنُّ حَتَّى لَا يقدر أَن يوافي مَعَهم المواسم، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ

أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ وَنَخْرُجَ بِهِ إِلَى بِلَادِنَا.

قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ؟ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ؟ وَالَّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ! * * * وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ، لَا يَسْأَلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، وَيَقُول: " لَا أكره أحدا مِنْكُم على شئ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تحرزوني فِيمَا يُرَاد لى مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ.

فَلم يقبله أحد مِنْهُم، وَمَا يَأْتِي أحدا مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ: قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ!

ص: 158

وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَرَهُ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَجْلَحِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيّ، عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس، عَنِ الْعَبَّاسِ.

قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا أَرَى لِي عِنْدَكَ وَلَا عِنْدَ أَخِيكَ مَنَعَةً، فَهَلْ أَنْتَ مخرجى إِلَى السُّوق غَدا حَتَّى نقر فِي مَنَازِلَ قَبَائِلِ النَّاسِ " وَكَانَتْ مَجْمَعَ الْعَرَبِ.

قَالَ: فَقُلْتُ: هَذِهِ كِنْدَةُ وَلَفُّهَا، وَهِيَ أَفْضَلُ مَنْ يَحُجُّ الْبَيْتَ مِنَ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ.

قَالَ: فَبَدَأَ بِكِنْدَةَ فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ.

قَالَ: مِنْ أَيِّ الْيَمَنِ؟ قَالُوا: مِنْ كِنْدَةَ قَالَ: مِنْ أَيِّ كِنْدَةَ؟ قَالُوا: مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ.

قَالَ: فَهَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ؟ قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: " تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَتُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ".

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَشْيَاخِ قَوْمِهِ، أَنَّ كِنْدَةَ قَالَتْ لَهُ: إِنْ ظَفِرْتَ تَجْعَلُ لَنَا الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ".

فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَقَالُوا: أَجِئْتَنَا لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا وَنُنَابِذَ الْعَرَبَ، الْحَقْ بِقَوْمِكَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِكَ.

ص: 159

فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.

فَقَالَ: مِنْ أَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟ قَالُوا: مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ.

قَالَ: كَيْفَ الْعَدَدُ؟ قَالُوا: كَثِيرٌ مِثْلُ الثَّرَى.

قَالَ: فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ؟ قَالُوا: لَا مَنَعَةَ، جَاوَرْنَا فَارِسَ، فَنَحْنُ لَا نَمْتَنِعُ مِنْهُمْ وَلَا نُجِيرُ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: " فَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ هُوَ أَبْقَاكُمْ حَتَّى تَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ، وَتَسْتَنْكِحُوا نِسَاءَهُمْ، وَتَسْتَعْبِدُوا أَبْنَاءَهُمْ أَنْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُوهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُوهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ؟ ".

قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ.

ثُمَّ انْطَلَقَ.

فَلَمَّا وَلَّى عَنْهُمْ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُهُ، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ لَا تَقْبَلُوا

قَوْلَهُ.

ثُمَّ مَرَّ أَبُو لَهَبٍ فَقَالُوا: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا فِي الذُّرْوَةِ مِنَّا، فَعَنْ أَيِّ شَأْنِهِ تَسْأَلُونَ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَقَالُوا: زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.

قَالَ: أَلا لَا تَرفعُوا بِرَأْسِهِ قولا، فَإِنَّهُ مَجْنُون يهذى من أُمُّ رَأْسِهِ.

قَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ حِينَ ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ فَارِسَ مَا ذَكَرَ! * * * قَالَ الكلبى: فَأَخْبرنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعَامِرِيُّ (1)، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِسُوقِ عُكَاظٍ، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قُلْنَا:

(1) الاصل: المعايرى.

وَمَا أثْبته من دَلَائِل النُّبُوَّة لابي نعيم 243.

(*)

ص: 160

مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ.

قَالَ: مِنْ أَيِّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ؟ قَالُوا (1) : بَنُو كَعْب بن ربيعَة.

قَالَ كَيفَ المنعة [فِيكُم](2) ؟ قُلْنَا: لَا يُرَامُ مَا قِبَلَنَا، وَلَا يُصْطَلَى بِنَارِنَا.

قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وآتيكم لِتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَا أُكْرِهُ أحدا مِنْكُم على شئ.

قَالُوا: وَمِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

قَالُوا: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ؟ قَالَ: هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَنِي وَطَرَدَنِي.

قَالُوا: وَلَكِنَّا لَا نَطْرُدُكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ، وَسَنَمْنَعُكَ حَتَّى تُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّكَ.

قَالَ: فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ وَالْقَوْمُ يَتَسَوَّقُونَ، إِذْ أَتَاهُمْ بَيْحَرَةُ (3) بْنُ فِرَاسٍ الْقُشَيْرِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ أَرَاهُ عِنْدَكُمْ أُنْكِرُهُ؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ.

قَالَ: فَمَا لَكَمَ وَلَهُ؟ قَالُوا: زَعَمَ لَنَا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَطَلَبَ إِلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ.

قَالَ: مَاذَا رددتم عَلَيْهِ؟ قَالُوا: بالترحيب وَالسَّعَةِ، نُخْرِجُكَ إِلَى بِلَادِنَا وَنَمْنَعُكَ مَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا.

قَالَ بَيْحَرَةُ (3) : مَا أَعْلَمُ أَحَدًا من أهل هَذِه السُّوق يرجع بشئ أَشد من شئ ترجعون بِهِ، بدأتم (4) لتنابذوا النا س وَتَرْمِيَكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، قَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ، لَوْ آنَسُوا مِنْهُ خَيْرًا لَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاس بِهِ، أتعمدون إِلَى زهيق قَدْ طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَكَذَّبُوهُ فَتُؤْوُونَهُ وَتَنْصُرُونَهُ؟ فَبِئْسَ الرأى رَأَيْتُمْ.

(1) الدَّلَائِل: قُلْنَا.

(2)

من الدَّلَائِل.

(3)

الاصل: بحيرة.

وَمَا أثْبته عَن أبن هِشَام والسهيلى والطبري.

(4)

المطبوعة: بدءا ثمَّ.

وَهُوَ تَحْرِيف وَمَا أثْبته من الدَّلَائِل.

(*)(11 - السِّيرَة 2)

ص: 161

ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُم فَالْحق بقومك، فو الله لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدَ قَوْمِي لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ.

قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى نَاقَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَغَمَزَ الْخَبِيثُ بَيْحَرَةُ شَاكِلَتَهَا فَقَمَصَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَلْقَتْهُ.

وَعِنْدَ بَنِي عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ ضُبَاعَةُ ابْنَةُ عَامِرِ بْنِ قُرْطٍ، كَانَتْ مِنَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي أسلمن مَعَ رَسُول الله بِمَكَّةَ، جَاءَتْ زَائِرَةً إِلَى بَنِي عَمِّهَا، فَقَالَتْ: يَا آلَ عَامِرٍ، وَلَا عَامِرَ لِي! أَيُصْنَعُ هَذَا بِرَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَا يَمْنَعُهُ أحد مِنْكُم! فَقَامَ ثَلَاثَة مِنْ بَنِي عَمِّهَا إِلَى بَيْحَرَةَ وَاثْنَيْنِ أَعَانَاهُ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا فَجَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ عَلَوْا وُجُوهَهُمْ لَطْمًا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَالْعَنْ هَؤُلَاءِ ".

قَالَ: فَأَسْلَمَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ نَصَرُوهُ وَقُتِلُوا شُهَدَاءَ، وَهُمْ: غُطَيْفٌ (1) وَغَطَفَانُ ابْنَا سَهْلٍ، وَعُرْوَةُ، أَو عذرة بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ.

رضي الله عنهم.

وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ الْحَافِظُ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي مغازيه، عَن أَبِيه بِهِ.

وَهلك الْآخرُونَ وَهُمْ، بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ، وَحَزْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عُبَادَةَ أَحَدُ بَنِي عَقِيلٍ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَعْنًا كثيرا.

وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ كَتَبْنَاهُ لِغَرَابَتِهِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * *

(1) الدَّلَائِل: غطريف (*)

ص: 162

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، فِي قصَّة عَامر ابْن صَعْصَعَةَ وَقَبِيحِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِ.

وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالسِّيَاقُ لِأَبِي نُعَيْمٍ رحمهم الله، مِنْ حَدِيثِ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى مِنًى، حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ.

فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ.

قَالَ: وَأَيُّ رَبِيعَةَ أَنْتُم أَمن هامها أم لهازمها؟ قَالُوا: بل من هامها الْعُظْمَى.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أَيِّ هَامَتِهَا الْعُظْمَى؟ فَقَالَ: ذُهْلٌ الْأَكْبَرُ.

قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْكُمْ عَوْفٌ الَّذِي كَانَ يُقَالُ: لَا حُرَّ بَوَادِي عَوْفٍ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَمِنْكُمْ بِسْطَامُ بْنُ قيس أَبُو اللِّوَاءِ (1) وَمُنْتَهَى الْأَحْيَاءِ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَمِنْكُمْ الْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا أَنْفُسَهَا؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَمِنْكُمْ جَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلٍ، حَامِي الذِّمَارِ وَمَانِعُ الْجَارِ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَمِنْكُمُ الْمُزْدَلِفُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الْفَرْدَةِ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: فَأَنْتُمْ أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لَخْمٍ؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَلَسْتُمْ بِذُهْلٍ الاكبر، بل أَنْتُم ذهل الاصغر.

(1) دَلَائِل النُّبُوَّة لابي نعيم: أَبُو الْمُلُوك.

(*)

ص: 163

قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ غُلَامٌ يُدْعَى دَغْفَلَ بْنَ حَنْظَلَةَ الذُّهْلِيَّ، حِينَ بَقَلَ وَجْهُهُ، فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ على سائلنا أَن نَسْأَلهُ * والعبء لَا نعرفه أَو نحمله يَا هَذَا إِنَّكَ سَأَلْتَنَا فَأَخْبَرْنَاكَ وَلَمْ نَكْتُمْكَ شَيْئا، وَنحن نُرِيد أَن نَسْأَلك، فَمن أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ.

فَقَالَ الْغُلَامُ: بخ بخ: أهل السؤدد والرئاسة، قادمة الْعَرَب وهاديها (1) فَمن أَنْتَ مِنْ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ.

فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ سَوَاءِ الثُّغْرَةِ! أَفَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الَّذِي قَتَلَ بِمَكَّةَ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا، وَأَجْلَى بَقِيَّتَهُمْ وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ حَتَّى أَوَطَنَهُمْ مَكَّةَ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَى الدَّار وَأنزل قُرَيْشًا مَنَازِلَهَا، فَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ مُجَمِّعًا، وَفِيهِ يَقُول الشَّاعِر: أَلَيْسَ أَبُوكُمْ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا * بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ مَنَافٍ الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ الْوَصَايَا وَأَبُو الْغَطَارِيفِ السَّادَةِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا.

قَالَ: فَمِنْكُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ، الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَكَّةَ، فَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ * وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ سَنُّوا إِلَيْهِ الرِّحْلَتَيْنِ كِلَيْهِمَا * عِنَدَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الْأَصْيَافِ

كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَلَّقَتْ * فَالْمُحُّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ منَاف

(1) الدَّلَائِل: أزمة الْعَرَب وهداتها.

(*)

ص: 164

الرَّائِشِينَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ رَائِشٌ * وَالْقَائِلِينَ هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ وَالضَّارِبِينَ الْكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ * وَالْمَانِعِينَ الْبَيْضَ بِالْأَسْيَافِ لِلَّهِ دَرُّكَ لَوْ نَزَلْتَ بِدَارِهِمْ * مَنَعُوكَ مِنْ أَزْلٍ وَمِنْ إِقْرَافِ (1) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا.

قَالَ: فمنكم عبد المطب شيبَة الْحَمد، وَصَاحب عير مَكَّة، مطعم طَيْرِ السَّمَاءِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ فِي الْفَلَا، الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يَتَلَأْلَأُ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْإِفَاضَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: أَفَمَن أهل أَهْلِ النَّدْوَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: أَفَمِنْ أهل الرفادة أَنْت؟ قَالَ: لَا.

قَالَ: فَمن المفيضين أَنْتَ؟ قَالَ: لَا.

ثُمَّ جَذَبَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه زِمَامَ نَاقَتِهِ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: صَادف در السَّيْل در يَدْفَعهُ * يهيضه حينا وحينا يرفعهُ (3) ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ لَوْ ثَبَتَّ لَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمَعَاتِ قُرَيْشٍ وَلَسْتَ مِنَ الذَّوَائِبِ.

قَالَ: فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ، قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ وَقَعْتَ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى بَاقِعَةٍ (3) : فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَامَّةٍ إِلَّا وفوقها طامة، وَالْبَلَاء مُوكل بالْقَوْل.

(1) الازل: الطيق والشدة.

والاقراف: التُّهْمَة.

(2)

الدَّلَائِل: صَادف دَرْء السَّيْل سيلا يَدْفَعهُ * يهضبه حينا وحينا يصدعه

(3)

الباقعة: الرجل الداهية.

(*)

ص: 165

قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِذَا مَشَايِخُ لَهُمْ أَقْدَارٌ وَهَيْئَاتٌ، فَتُقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ.

قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ.

فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بكر: مِمَّن الْقَوْم؟ قَالُوا من بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ عِزٍّ فِي قَوْمِهِمْ.

وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ عذر من قَومهمْ، وَهَؤُلَاء غرر فِي قَوْمِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ غُرَرُ النَّاسِ.

وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ.

وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى صَدْرِهِ، فَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلَّةٍ.

فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ جِدٌّ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ: إِنَّا أَشَدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالسِّلَاحَ عَلَى اللِّقَاحِ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُدِيلُنَا مَرَّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا [مَرَّةً](1)، لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِن كَانَ بَلغَكُمْ أَنه رَسُول الله فَهَا هُوَ هَذَا.

فَقَالَ مَفْرُوقٌ: قَدْ بَلَغَنَا أَنه يذكر ذَلِك.

(1) من الدَّلَائِل.

(*)

ص: 166

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ (1) فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم] فَجَلَسَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تؤوونى وَتَنْصُرُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ".

قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ مَا تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحسانا " إِلَى قَوْله " ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ".

فَقَالَ لَهُ مفروق: وإلام مَا تَدْعُو أَيْضا يَا أَخا قُرَيْش؟ فو الله مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ.

فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكر والبغى، يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ ".

فَقَالَ لَهُ مفروق: دَعَوْت وَالله يَا أَخا قُرَيْش إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أُفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ.

وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ فَقَالَ: وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا.

فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ وَصَدَّقْتُ قَوْلَكَ، وَإِنِّي أَرَى أَنَّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا إِيَّاكَ عَلَى دِينِكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلُ وَلَا آخِرٌ، لَمْ نَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ وَنَنْظُرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، زَلَّةٌ فِي الرَّأْيِ، وَطَيْشَةٌ فِي الْعقل،

(1) سَقَطت من الاصل، وأثبتها من دَلَائِل النُّبُوَّة.

(*)

ص: 167

وَقِلَّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الزَّلَّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِنَا قَوْمًا نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا.

وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ.

وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنَّى شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا.

فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَأَعْجَبَنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَتَرْكُنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعُنَا إِيَّاكَ لِمَجْلِسٍ جلسته إِلَيْنَا، وَإِنَّا إِنَّمَا نزلنَا بَين صريين احدهما الْيَمَامَة، وَالْآخر السماوة (1) .

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا هَذَانِ الصريان؟ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَطُفُوفُ الْبَرِّ وَأَرْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَرْضُ فَارِسَ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا، وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ، وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأما مَا كَانَ [مِمَّا] يَلِي بِلَادَ فَارِسَ فَذَنَبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللَّهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ! فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ".

(1) اللِّسَان 19 / 192: " وَإِنَّمَا نزلنَا الصريين الْيَمَامَة والسمامة هما تَثْنِيَة صرى.

وَهُوَ كل مَاء مُجْتَمع " (*)

ص: 168

ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَابِضًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ.

قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَلِيُّ أَيَّةُ أَخْلَاقٍ لِلْعَرَبِ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بهَا يتحاجزون فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

قَالَ: ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمَا نَهَضْنَا حَتَّى بَايَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانُوا صدقاء صبراء، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَعْرِفَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِأَنْسَابِهِمْ.

قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: " احْمَدُوا اللَّهَ كَثِيرًا، فَقَدْ ظَفِرَتِ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ رَبِيعَةَ بِأَهْلِ فَارِسَ، قَتَلُوا مُلُوكَهُمْ وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ وَبِي نُصِرُوا ".

قَالَ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرَاقِرَ إِلَى جَنْبِ ذِي قَارٍ، وَفِيهَا يَقُولُ الْأَعْشَى: فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيبَان نَاقَتي * وراكبها عِنْد اللِّقَاء وَقلت هم ضَرَبُوا بِالْحِنْوِ حِنْوِ قُرَاقِرٍ * مُقَدِّمَةَ الْهَامَرْزِ حَتَّى تَوَلَّتِ فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فَوَارِسٍ * كَذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بِهَا حِينَ وَلَّتِ فَثَارُوا وَثُرْنَا وَالْمَوَدَّةُ بَيْنَنَا * وَكَانَتْ عَلَيْنَا غَمْرَةٌ فَتَجَلَّتِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، كَتَبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَمَكَارِمِ الشِّيَمِ وَفَصَاحَةِ الْعَرَبِ.

وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَفِيهِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَحَارَبُوا هُمْ وَفَارِسُ وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ بِقُرَاقِرَ، مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْفُرَاتِ، جَعَلُوا شِعَارَهُمُ اسْمَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَنُصِرُوا عَلَى فَارِسَ بِذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلُوا بعد ذَلِك فِي الاسلام.

(1) الحنو: كل منعرج وكل شئ فِيهِ اعوجاج.

وَيَوْم الحنو من أَيَّام الْعَرَب.

(*)

ص: 169

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَابِصَةَ الْعَبْسِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مَنَازِلِنَا بِمِنًى، وَنَحْنُ نَازِلُونَ بِإِزَاءِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى التِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مردفا خَلفه زيد بن حَارِثَة، فَدَعَانَا فو الله مَا اسْتَجَبْنَا لَهُ وَلَا خِيرَ لَنَا.

قَالَ: وَقَدْ كُنَّا سَمِعْنَا بِهِ وَبِدُعَائِهِ فِي الْمَوَاسِمِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا يَدْعُونَا فَلَمْ نَسْتَجِبْ لَهُ وَكَانَ مَعَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ، فَقَالَ لَنَا: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ قَدْ صَدَّقْنَا هَذَا الرَّجُلَ وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَحُلَّ بِهِ وَسْطَ بِلَادِنَا لَكَانَ الرَّأْيَ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ كُلَّ مَبْلَغٍ.

فَقَالَ الْقَوْمُ: دَعْنَا مِنْكَ لَا تُعَرِّضْنَا لِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ.

وَطَمِعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مَيْسَرَةَ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ مَيْسَرَةُ: مَا أَحْسَنَ كَلَامَكَ وَأَنْوَرَهُ، وَلَكِنَّ قَوْمِي يُخَالِفُونَنِي، وَإِنَّمَا الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْضُدُوهُ فَالْعِدَى أَبْعَدُ.

فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ الْقَوْمُ صَادِرِينَ إِلَى أَهْلِيهِمْ.

فَقَالَ لَهُمْ مَيْسَرَةُ: مِيلُوا نأتى فدك فَإِن بهَا يهودا نُسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ.

فَمَالُوا إِلَى يَهُودَ فَأَخْرَجُوا سِفْرًا لَهُمْ فَوَضَعُوهُ ثُمَّ دَرَسُوا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَجْتَزِئُ بِالْكَسْرَةِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالْجَعْدِ وَلَا بِالسَّبْطِ، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، مُشْرِقُ اللَّوْنِ.

فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَادْخُلُوا فِي دِينِهِ، فَإنَّا نحسده وَلَا نتبعه، وَإِنَّا [مِنْهُ] فِي مُوَاطِنَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعَهُ وَإِلَّا قَاتَلَهُ فَكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُهُ.

فَقَالَ مَيْسَرَةُ: يَا قَوْمِ أَلَا [إِنَّ] هَذَا الْأَمْرَ بَيِّنٌ.

ص: 170

فَقَالَ الْقَوْم: نرْجِع إِلَى الْمَوْسِم ونلقاه فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رِجَالُهُمْ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.

فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا وَحج حجَّة الْوَدَاع لقاه مَيْسَرَةُ فَعَرَفَهُ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ حَرِيصًا عَلَى اتِّبَاعِكَ مِنْ يَوْمِ أَنَخْتَ بِنَا حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا تَرَى مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِي، وَقَدْ مَاتَ عَامَّةُ النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعِي، فَأَيْنَ مَدْخَلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي النَّارِ.

فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنِي.

فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ لَهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مَكَانٌ.

وَقَدِ اسْتَقْصَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيّ فَقص [خبر] الْقَبَائِلِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَذَكَرَ عَرْضَهُ عليه السلام نَفْسَهُ عَلَى بَنِي عَامِرٍ وَغَسَّانَ وَبَنِي فَزَارَةَ وَبَنِي مُرَّةَ وَبَنِي حَنِيفَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَبَنِي عَبْسٍ وَبَنِي نَضْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ، وَكِنْدَةَ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْب وَبنى عذرة وَقيس بن الْحطيم وَغَيْرِهِمْ.

وَسِيَاقَ أَخْبَارِهَا مُطَوَّلَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أخبرنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ، يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ (1)، فَيَقُولُ:" هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ ربى عزوجل؟ ".

(1) أَي موقف النَّاس بِعَرَفَة.

(*)

ص: 171

فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: مِنْ هَمْدَانَ.

قَالَ: فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ!

ثُمَّ إِنَّ الرجل خشى أَن يخفره قَوْمُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: آتِيهِمْ فَأُخْبِرُهُمْ ثُمَّ آتِيكَ مِنْ عَامِ قَابِلٍ.

قَالَ نَعَمْ.

فَانْطَلَقَ، وَجَاءَ وَفْدُ الْأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ.

وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ص: 172

فَصْلٌ [فِي] قُدُومِ وَفْدِ الْأَنْصَارِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ حَتَّى بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعَةً بَعْدَ بَيْعَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.

حَدِيثُ سُوِيدِ بْنِ صَامِتٍ الْأَنْصَارِيُّ وَهُوَ سُوَيْد بن الصَّامِت بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرو بن عَوْف بن مَالك ابْن الْأَوْسِ وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرٍو أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ.

فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلَّمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، وَلَا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدَمُ مَكَّةَ مِنَ الْعَرَبِ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ إِلَّا تَصَدَّى لَهُ وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ.

قَالُوا: قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ سُوَيْدٌ إِنَّمَا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمُ الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى * مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي

مَقَالَتُهُ كَالشَّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا * وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثغرة النَّحْر يَسُرك باديه وَتَحْت أديمه * تَمِيمَة غِشٍّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظَّهْرِ

ص: 173

تُبَيِّنُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ * مِنَ الْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنَّظَرِ الشَّزْرِ فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتَنِي * وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي قَالَ: فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ بِهِ، فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ مَجَلَّةُ لُقْمَانَ.

يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اعْرِضْهَا عَلَيَّ.

فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ:" إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ هُوَ هُدًى وَنُورٌ ".

فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ.

ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ فَلم يلبث أَن قَتله الْخَزْرَجُ، فَإِنْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَاهُ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ.

وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ بُعَاثَ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذَا.

إِسْلَامُ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أبوالحيسر أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحَلِفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَج،

ص: 174

سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: " هَلْ لَكَمَ فِي خير مِمَّا جئْتُمْ لَهُ "؟ قَالَ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ الْكِتَابُ.

ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ.

قَالَ: فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: يَا قَوْمِ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ.

فَأخذ أبوالحيسر أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنْ تُرَابِ الْبَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا.

قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.

قَالَ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ.

قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَنِي مِنْ قَوُمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيُحَمِّدُهُ وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعَ.

قُلْتُ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ، وَبُعَاثُ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ، كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَشْرَافِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكُبَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ شُيُوخِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عبيد بن إِسْمَاعِيل، عَن أَبى أُمَامَة، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَة وَقد افترق ملؤهم وَقتل سراتهم.

ص: 175