الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاب سَرِيَّة عبد الله بن جحش
الَّتِى كَانَ سَببهَا (1) لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الْعُظْمَى، وَذَلِكَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ وَالله على كل شئ قَدِيرٌ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيَّ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وهم أَبُو حديفة بْنُ عُتْبَةَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَائِلِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَوَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ التَّمِيمِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ أَيْضًا، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حَلِيف بنى عدى أَيْضا، وَسَهل بن بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ ثَامِنُهُمْ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رضي الله عنه.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً وَأَمِيرُهُمُ التَّاسِع.
فَالله أعلم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ فَيَمْضِيَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا.
فَلَمَّا سَارَ بِهِمْ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: " إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ ".
فَلَمَّا نَظَرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً.
وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ: قَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا
مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(1) كَذَا، ولعلها: الَّتِى كَانَت سَببا.
(*)
فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفُرُعِ يُقَالُ لَهُ بُحْرَانُ، أَضَلَّ سعد بن أبي وَقاص وَعتبَة بن غَزوَان بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نزل نَخْلَة.
فمرت عير لقريش فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسم الْحَضْرَمِيّ عبد الله ابْن عباد [أحد (1) ] الصدف (2) .
وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَخُوهُ نَوْفَلٌ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أمنُوا، وَقَالَ عُمَّارٌ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ.
وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلْيَمْتَنِعُنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ شَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ الْقَوْمَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ.
وَأَقْبَلَ عبد الله بن جحش وَأَصْحَابه بالعير والاسرين، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا غَنِمْنَا الْخُمُسَ.
فَعَزَلَهُ وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ قبل أَن
ينزل الْخمس.
قَالَ: وَلما نَزَلَ الْخُمُسُ نَزَلَ كَمَا قَسَمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن جحش.
كَمَا قَالَه ابْن إِسْحَاق.
(1) من ابْن هِشَام (2) قَالَ ابْن هِشَام: وَاسم الصدف: عَمْرو بن مَالك.
(*)
فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ " فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُسْقِطَ (1) فِي أَيْدِي الْقَوْمِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ.
فَقَالَ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ: إِنَّمَا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا فِي شَعْبَانَ.
وَقَالَتْ يَهُودُ: تُفَائِلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
عَمْرٌو: عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ: حَضَرَتِ الْحَرْبُ.
وواقد أبن عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدَتِ الْحَرْبُ.
فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ.
فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ: قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا (2) ".
أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.
أَيْ قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ عَنْ دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ، فَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ غَيْرَ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا " الْآيَة.
* * *
(1) ابْن هِشَام: سقط.
(2)
سُورَة الْبَقَرَة 217.
(*)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا الْأَمْرِ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّفَقِ، قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عُثْمَانَ وَالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَا نُفْدِيكُمُوهُمَا حَتَّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا "، يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ " فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا.
فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ ".
فَقَدِمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، فَأَفْدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنطمع أَن تكون لنا غزَاة نُعْطَى فِيهَا أَجْرَ الْمُجَاهِدِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُور رَحِيم "(1) فَوَضَعَهُمُ (2) اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيّ وَيزِيد بن رُومَان، عَن عُرْوَة ابْن الزُّبَيْرِ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا رَوَى شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، نَحْوًا مِنْ هَذَا وَفِيهِ: وَكَانَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: هُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ قَتْلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذِهِ أَوَّلُ غنيمَة غنمها
(1) سُورَة الْبَقَرَة 218.
(2)
الاصل: فوصفهم.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(*)(24 - السِّيرَة 2)
الْمُسْلِمُونَ، وَعُثْمَانُ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ.
* * * قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ أَوَّلَ أَمِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ لِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ شَوَاهِدَ مُسْنَدَةً.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وَبعث عَلَيْهِم أَبَا عُبَيْدَة ابْن الْجَرَّاحِ، أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَلا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا.
وَقَالَ: " لَا تكرهن أحدا على الْمسير مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ ".
فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْكتاب، فَرجع مِنْهُم رَجُلَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَو من جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قتال فِيهِ قل قتال فِيهِ كَبِير " الْآيَةَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَن ابْن مَسْعُود، عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة
" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قتال فِيهِ كَبِير " وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَهْلُ بن بَيْضَاء
وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ حَلِيفٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَكَتَبَ لِابْنِ جحش كتابا وَأمره أَلا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنَزِلَ بَطْنَ مَلَلٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بَطْنَ مَلَلٍ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ.
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ وَلْيُوصِ، فَإِنَّنِي مُوصٍ وَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَسَارَ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ أَضَلَّا رَاحِلَةً لَهُمَا فَأَقَامَا يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى نَزَلَ بَطْنَ نَخْلَةَ، فَإِذَا هُوَ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الله ابْن الْمُغِيرَةِ.
فَذَكَرَ قَتْلَ وَاقِدٍ لِعَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَرَجَعُوا بِالْغَنِيمَةِ وَالْأَسِيرَيْنِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ.
وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ طَاعَةَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبٍ.
وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى.
قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ قَتْلُهُمْ لَهُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَآخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
* * * قُلْتُ: لَعَلَّ جُمَادَى كَانَ نَاقِصًا فَاعْتَقَدُوا بَقَاءَ الشَّهْرِ لَيْلَة الثَّلَاثِينَ، وَقد كَانَ الْهلَال رؤى تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَلَمْ يَشْعُرُوا.
وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِك كَانَ آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَخَافُوا إِنْ لَمْ يَتَدَارَكُوا هَذِهِ الْغَنِيمَةَ وَيَنْتَهِزُوا هَذِهِ الْفُرْصَةَ دَخَلَ أُولَئِكَ فِي الْحرم فيعتذر عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَقْدَمُوا عَلَيْهِمْ عَالِمِينِ بِذَلِكَ.
وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةٌ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ فِيمَا قَالُوا مِنْ إِحْلَالِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً * وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ صُدُودُكُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ * وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ * لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ * وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ سَقَيْنَا مِنَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا * بِنَخْلَةَ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ دَمًا وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا * يُنَازِعُهُ غُلٌّ مِنَ الْقَيْد عَانِدُ فَصْلٌ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ من الْهِجْرَة قبل وقْعَة بدر وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ.
وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَدْ روى أَحْمد بن ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: وَيُقَالُ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ.
وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السدى، فسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَة.
قَالَ الْجُمْهُور الاعظم: إِنَّمَا صُرِفَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ.
ثُمَّ حَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، أَنَّهَا حُوِّلَتْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفَ مِنْ شَعْبَانَ، وَفِي التَّحْدِيدِ نَظَرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا الله بغافل عَمَّا يعلمُونَ ".
وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، مِنِ اعْتِرَاضِ سُفَهَاءِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ.
هَذَا وَقَدْ أَحَالَ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقُرْآنِ تَقْرِيرَ جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَ قَوْلِهِ " مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كل شئ قدير ".
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، سَمِعَ زُهَيْرًا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشرا شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أول صَلَاة صلاهَا إِلَى الْكَعْبَة الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ.
فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.
وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ قُتِلُوا، لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم "
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ".
قَالَ: فَوجه نَحْو الْكَعْبَة.
قَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْيَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " * * * وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَصَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ وَاسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ عليه السلام يُحِبُّ أَنْ يصرف قِبْلَتُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاء والتضرع والابتهال إِلَى الله عزوجل، فَكَانَ مِمَّا يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَطَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ سَائِلًا ذَلِك فَأنْزل الله عزوجل:" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " الْآيَةَ.
فَلَمَّا نَزَلَ الْأَمْرُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَقْتَ الظُّهْرِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَزَلَ تَحْوِيلُهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ، أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا عليه السلام إِلَى الْكَعْبَةِ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ خَبَرُ ذَلِكَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا.
وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوُ ذَلِكَ * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَنَسَخَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، طَعَنَ طَاعِنُونَ مِنَ السُّفَهَاءِ والجهلة والاغبياء، قَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ هَذَا وَالْكَفَرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، لِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ أَنَّ الْمَدِينَةَ مُهَاجَرُهُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْكَعْبَةِ كَمَا قَالَ:" وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ من رَبهم " الْآيَة.
وَقَدْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَن سُؤَالهمْ، ونعتهم فَقَالَ: " سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم " أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فِي خَلْقِهِ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فِي شَرْعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي يَجِبُ لَهَا الرِّضَا وَالتَّسْلِيم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا " أَيْ خِيَارًا " لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا " أَيْ وَكَمَا اخْتَرْنَا لَكُمْ أَفْضَلَ الْجِهَاتِ فِي صَلَاتِكُمْ وَهَدَيْنَاكُمْ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ، بَعْدَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي بِهَا مُوسَى فَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ خِيَارَ الْأُمَمِ وَخُلَاصَةَ الْعَالَمِ وَأَشْرَفَ الطَّوَائِفِ وَأَكْرَمَ التَّالِدِ وَالطَّارِفِ، لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْكُمْ وَإِشَارَتِهِمْ يَوْمَئِذٍ بِالْفَضِيلَةِ إِلَيْكُمْ.
كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا، مِنَ اسْتِشْهَادِ نُوحٍ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا اسْتَشْهَدَ بِهِمْ نُوحٌ مَعَ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ فَمَنْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا حِكْمَتَهُ فِي حُلُولِ نِقْمَتِهِ بِمَنْ شَكَّ وَارْتَابَ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَحُلُولِ نِعْمَتِهِ عَلَى مَنْ صَدَّقَ وَتَابَعَ هَذِهِ الْكَائِنَةَ، فَقَالَ:" وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا لِنَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
" وَإِنْ كَانَتْ لكبيرة " أَي وَإِن كَانَت هَذِه الكائنة لعظيمة الْمَوْقِعِ كَبِيرَةَ الْمَحَلِّ شَدِيدَةَ الْأَمْرِ، إِلَّا عَلَى الذى هَدَى اللَّهُ، أَيْ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا مُصَدِّقُونَ لَهَا، لَا يَشُكُّونَ وَلَا يَرْتَابُونَ، بَلْ يَرْضَوْنَ وَيُؤْمِنُونَ وَيَعْمَلُونَ، لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ لِلْحَاكِمِ الْعَظِيمِ، الْقَادِرِ الْمُقْتَدِرِ الْحَلِيمِ الْخَبِيرِ، اللَّطِيفِ الْعَلِيمِ.
وَقَوْلُهُ: " وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ " أَيْ بِشِرْعَتِهِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةَ إِلَيْهِ: " إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم ".
والاحاديث والْآثَار فِي هَذِه كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي التَّفْسِير، وسنزيد بذلك بَيَانًا فِي كَتَابِنَا " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ ".
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ:" إِنَّهُمْ لم يحسدونا على شئ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا الله إِلَيْهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ ".
فَصْلٌ فِي فَرِيضَة شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ، قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، ثُمَّ حَكَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى.
فَقَالَ: " نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ " فِصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر (1) " الْآيَة.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، مِنْ إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ
(1) سُورَة الْبَقَرَة 183 - 185.
(*)
وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَالْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
* * * وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ.
فَذَكَرَ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ.
قَالَ: وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّام، وَصَامَ عَاشُورَاء.
ثمَّ إِن الله فرض عَلَيْهِ الصّيام وَأنزل: " يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذين من قبلكُمْ " إِلَى قَوْلِهِ: " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكين " فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى:" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن " إِلَى قَوْلِهِ: " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " فَأَثْبَتَ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَأَثْبَتَ الْإِطْعَامَ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الصّيام.
فَهَذَا حَوْلَانِ.
قَالَ: وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا.
ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ كَانَ يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى أَمْسَى، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا فَقَالَ:" مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا؟ " فَأَخْبَرَهُ قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِك لَهُ، فَأنْزل الله:" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، هن لِبَاس لكم " إِلَى قَوْلِهِ " ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ (1) ".
(1) سُورَة الْبَقَرَة 187.
(*)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ نَحْوَهُ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ.
وَلِتَحْرِيرِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
* * * قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمِرَ النَّاسُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ.
قَالَ: وَفِيهَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِيدِ وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى، فَكَانَ أَوَّلَ صَلَاةِ عِيدٍ صَلَّاهَا، وَخَرَجُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحَرْبَةِ، وَكَانَتْ لِلزُّبَيْرِ وَهَبَهَا لَهُ النَّجَاشِيُّ، فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَعْيَادِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ (1) : كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
(1) أَي زَكَاة المَال.
(*)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم غَزْوَة بدر الْعُظْمَى، يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون (1) ".
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى " كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.
يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تَبَيَّنَ، كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ
وَلَوْ كره المجرمون " وَمَا بَعْدَهَا إِلَى تَمَامِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الانفال.
وَقد تكلمنا عَلَيْهَا هُنَالك.
وسنوردها هُنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُنَاسِبُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله بَعْدَ ذِكْرِهِ سَرِيَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، أَوْ أَرْبَعُونَ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِشَهْرَيْنِ.
قَالَ: وَكَانَ فِي الْعِيرِ أَلْفُ بَعِيرٍ تَحْمِلُ أَمْوَالَ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا إِلَّا حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَلِهَذَا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَة
(1) سُورَة آل عمرَان 123.
(*)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: " هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنَفِّلُكُمُوهَا ".
فَانْتَدَبَ النَّاسُ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ يتجسس (1) من لقى من الركْبَان تخوفا على أَمر (2) النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ: أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ.
فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَالَا: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ إِلَى مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْظَعَتْنِي وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ مَا أُحَدِّثُكَ.
قَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ صرخَ بِأَعْلَى صَوته: أَلا انفروا يَا آل غدر لَمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ.
فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ: فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثمَّ صرخَ بِمِثْلِهَا: أَلا انفروا يَا آل غدر لَمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ.
ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبَى قُبَيْسٍ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا دَارٌ إِلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فلقَة.
(1) ابْن هِشَام: يتحسس.
(2)
ح: على أَمْوَال النَّاس.
(*)
قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، وَأَنْتِ فَاكْتُمِيهَا لَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدٍ.
ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَذكرهَا لَهُ واستكتمه إِيَّاهَا، فَذكرهَا الْوَلِيد لِابْنِهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ لِأَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلِ ابْن هِشَامٍ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٍ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا.
فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَّا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ؟ قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ.
فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا مَا تَقُولُ فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ الثَّلَاثُ وَلم يكن من ذَلِك شئ نَكْتُبُ عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَب.
قَالَ الْعَبَّاس: فو الله مَا كَانَ منى إِلَيْهِ كَبِير شئ، إِلَّا أَنِّي جَحَدْتُ ذَلِكَ وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا.
قَالَ: ثُمَّ تَفَرَّقْنَا، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ غيرَة لشئ مِمَّا سَمِعْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ فَعَلْتُ، مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ، وَايْمُ الله لَا تعرضن لَهُ، فَإِذَا عَادَ لَأَكْفِيكُنَّهُ.
قَالَ: فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ، أَرَى أَنِّي قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ مِنْهُ.
قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فرأيته، فو الله إِنِّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ أَتَعَرَّضُهُ لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ، وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ حَدِيدَ النَّظَرِ، قَالَ:
إِذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي، مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ أَكُلُّ هَذَا فَرَقٌ مِنِّي أَنْ أُشَاتِمَهُ؟ ! وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتَ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ جَدَّعَ بَعِيرَهُ وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ.
قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ.
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَقَالُوا: أَيُظَنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابه أَن تكون كعير ابْن الْحَضْرَمِيّ؟ ! [كلا](1) وَاللَّهِ لَيَعْلَمَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ كَنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، خَافُوا مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ: إِمَّا خَارِجٌ وَإِمَّا بَاعِثٌ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اسْتَأْجَرَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ قَدْ أَفْلَسَ بِهَا.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ قَدْ أَجْمَعَ الْقُعُودَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ، بِمِجْمَرَةٍ يَحْمِلُهَا فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ، حَتَّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَجْمِرْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ!
(1) من ابْن هِشَام.
(*)
قَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ.
قَالَ: ثُمَّ تَجَهَّزَ وَخَرَجَ مَعَ النَّاسِ.
هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ (1) عَلَى نَحْوٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمد بن عُثْمَان، حَدثنَا شُرَيْح ابْن مسلمة، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ.
فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا فَنَزَلَ عَلَى أُميَّة بِمَكَّة، قَالَ سَعْدٌ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا
مِنْ نِصْفِ النَّهَار، فلقيهما أَبُو جهل، فَقَالَ: يَا صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: هَذَا سَعْدٌ.
قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّة آمنا وَقد أَو يتم الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا.
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يَا سَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي.
قَالَ سَعْدٌ: دَعْنَا عَنْكَ يَا أُميَّة، فو الله لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ " قَالَ: بِمَكَّةَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ لِي سَعْدٌ؟ قَالَت: وَمَا قَالَ لَك؟.
(1) فِي أول كتاب المغازى، بَاب ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر.
(*)
قَالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: بِمَكَّةَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ، فَقَالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ.
فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ، فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ، إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ، وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، تَخَلَّفُوا مَعَكَ.
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُو جَهْلٍ حَتَّى قَالَ: أَمَّا إِذْ غلبتني (1) فو الله لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بِعِيرٍ بِمَكَّةَ.
ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي.
فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا صَفْوَانَ، وَقَدْ نَسِيتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَ: لَا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أجوز مَعَهم إِلَّا قربيا.
فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ بِبَدْرٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوضِع آخر (2) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ نَحْوَهُ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ خَلَفِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَكْذِبُ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جَهَازِهِمْ وَأَجْمَعُوا الْمَسِيرَ ذَكَرُوا مَا كَانَ (3) بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ، فَقَالُوا: إِنَّا نَخْشَى أَنْ يَأْتُونَا
(1) الاصل: عبتني.
وَهُوَ تَحْرِيف، وَمَا أثْبته من صَحِيح البُخَارِيّ.
(2)
فِي بَاب عَلَامَات النُّبُوَّة.
(3)
الاصل: مَا كَانُوا.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(*)(25 - السِّيرَة - 2)
مِنْ خَلْفِنَا.
وَكَانَتِ الْحَرْبُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ فِي ابْنٍ لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، قَتْلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، بِإِشَارَةِ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ، ثُمَّ أَخَذَ بِثَأْرِهِ أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَتَلَ عَامِرًا وَخَاضَ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ جَاءَ مِنَ اللَّيْلِ فَعَلَّقَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَخَافُوهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ ذَكَرَتِ الذى كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ، فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يَثْنِيَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ: أَنَا لَكُمْ جَارٌ من أَن تَأْتيكُمْ كنَانَة من خلفكم بشئ تَكْرَهُونَهُ.
فَخَرَجُوا سِرَاعًا قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ.
فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ: إنى برِئ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب (1) ".
غرهم لَعنه الله حَتَّى سَارُوا وَسَار مَعَهم منزلَة منزلَة، وَمَعَهُ جُنُوده وراياته، كَمَا قَالَه غير وَاحِد مِنْهُم، فأسلمهم لمصارعهم، فَلَمَّا رأى الْجد وَالْمَلَائِكَة تنزل للنصر وعاين جِبْرِيل نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ: إنى برِئ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله.
وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: " كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ.
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برِئ مِنْك إنى أَخَاف اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " (2) : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقا (3) .
(1) سُورَة الانفال 47، 48 (2) سُورَة الْحَشْر 16.
(3)
سُورَة الاسراء 81.
(*)
فَإِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَئِذٍ تَنْزِلُ لِلنَّصْرِ فَرَّ ذَاهِبًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَرَبَ يَوْمَئِذٍ، بَعْدَ أَنْ كَانَ هُوَ الْمُشَجِّعَ لَهُمْ الْمُجِيرَ لَهُمْ، كَمَا غَرَّهُمْ وَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: خَرَجَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ فِي تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مُقَاتِلًا مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ يَقُودُونَهَا، وَمَعَهُمُ الْقِيَانُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَيُغَنِّينَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَذَكَرَ الْمُطْعِمِينَ لِقُرَيْشٍ يَوْمًا يَوْمًا.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَحَرَ لَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ أَبُو جَهْلٍ، نَحَرَ لَهُمْ عَشْرًا، ثُمَّ نَحَرَ لَهُمْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بِعُسْفَانَ تِسْعًا، وَنَحَرَ لَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِقُدَيْدٍ عَشْرًا، وَمَالُوا مِنْ قُدَيْدٍ إِلَى مِيَاهٍ نَحْوَ الْبَحْرِ فَظَلُّوا (1) فِيهَا وَأَقَامُوا بِهَا يَوْمًا.
فَنَحَرَ لَهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تِسْعًا، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِالْجَحْفَةِ فَنَحَرَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَشْرًا، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ فَنَحَرَ لَهُمْ نُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُم على مَاء بدر أبوالبخترى عَشْرًا، ثُمَّ أَكَلُوا مِنْ أَزْوَادِهِمْ.
قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، قَالَ: كَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِتُّونَ فَرَسًا وَسِتُّمِائَةِ دِرْعٍ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسَانِ وَسِتُّونَ دِرْعًا.
هَذَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ فِي نَفِيرِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَمَسِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ.
* * * وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي لَيَالٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْحَابِهِ، وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَة.
(1) فِي شرح الْمَوَاهِب: فضلوا فأقاموا يَوْمًا.
(*)
وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَكَانَ أَبْيَضَ، وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَايَتَانِ سَوْدَاوَانِ، إِحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يُقَالُ لَهَا: الْعُقَابُ، وَالْأُخْرَى مَعَ بَعْضِ الْأَنْصَارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: كَانَتْ مَعَ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ بْنَ أَبِي
صَعْصَعَةَ أَخَا بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: وَكَانَ مَعَهُمْ فَرَسَانِ، عَلَى إِحْدَاهُمَا مُصْعَبُ ابْن عُمَيْر، وعَلى الاخرى الزبير بن الْعَوام، وَمن [الميمنة] سعد بن خَيْثَمَة وَمن [الميسرة] الْمِقْدَاد ابْن الْأَسْوَدِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أبي إِسْحَاق، عَن حَارِثَة بن مضرب، عَن عَلِيٍّ، قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة البلخى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: مَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ: فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الاسود، يعْنى يَوْم بدر وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِد، عَن التيمى قَالَ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ فَارِسَانِ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوام على الميمنة، والمقداد أبن الْأَسْوَدِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٌّ وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ وَزَيْدُ بن حَارِثَة وَأَبُو كَبْشَة وأنسة [مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم](1) يعتقبون بَعِيرًا.
(1) من ابْن هِشَام.
(*)
كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيٌّ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: فَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ.
فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ".
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ كَانَ زَمِيلَاهُ عَلِيٌّ وَمَرْثَدٌ بَدَلَ أَبِي لُبَابَةَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَة بن أَبى أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالْأَجْرَاسِ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَإِنَّمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي الاطراف: وَتَابعه سعيد بن بشر عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعت كَعْب ابْن مَالِكٍ يَقُولُ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبِ اللَّهُ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ.
تَفَرَّدَ بِهِ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرِيقَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى نَقْبِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَلَى الْعَقِيقِ، ثُمَّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ عَلَى أُولَاتِ الْجَيْشِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى تُرْبَانَ، ثُمَّ عَلَى مَلَلٍ، ثُمَّ عَلَى غَمِيسِ الْحَمَامِ، ثُمَّ عَلَى صخيرات الْيَمَامَة، ثُمَّ عَلَى
السَّيَالَةِ، ثُمَّ عَلَى فَجِّ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ عَلَى شَنُوكَةَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُعْتَدِلَةُ.
حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ، سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: أَوَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: نَعَمْ.
فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي عَمَّا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ.
قَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وقش: لَا تَسْأَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَأَنَا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ، نَزَوْتَ عَلَيْهَا فَفِي بَطْنِهَا مِنْكَ سَخْلَةٌ (1) .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ أَفْحَشْتَ عَلَى الرَّجُلِ.
ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ سَلَمَةَ.
وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجْسَجَ، وَهِيَ بِئْرُ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْهَا بِالْمُنْصَرَفِ تَرَكَ طَرِيقَ مَكَّةَ بِيَسَارٍ وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى النَّازِيَةِ، يُرِيدُ بَدْرًا، فَسَلَكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا حَتَّى إِذَا جَزَعَ وَادِيًا (2) يُقَالُ لَهُ رُحْقَانُ (3) بَيْنَ النَّازِيَةِ وَبَيْنَ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ، ثُمَّ عَلَى الْمَضِيقِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا من الصَّفْرَاء بعث
(1) السخلة: ولد الضَّأْن أَو الماعز، واستعارها هُنَا لولد النَّاقة (2) جزع وَاديا: قطعه عرضا.
(3)
الاصل: وحقان.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(*)
بَسْبَسَ (1) بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ حَلِيفَ بَنِي سَاعِدَةَ وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ حَلِيفَ بَنِي النَّجَّارِ إِلَى بدر، يتجسسان الْأَخْبَارَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَعِيرِهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: بَعَثَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَجَعَا فَأَخْبَرَاهُ بِخَبَرِ الْعِيرِ اسْتَنْفَرَ النَّاسَ إِلَيْهَا.
فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ مَحْفُوظًا فَقَدْ بَعَثَهُمَا مَرَّتَيْنِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قدمهَا،
فَلَمَّا اسْتَقْبَلَ الصَّفْرَاءَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، سَأَلَ عَن جبليها مَا اسماهما (2) ؟ فَقَالُوا: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُسْلِحٌ وَلِلْآخَرِ مُخْرِئٌ، وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِهِمَا فَقِيلَ: بَنُو النَّارِ، وَبَنُو حُرَاقٍ، بِطْنَانِ مِنْ غِفَارٍ.
فَكَرِهَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرُورَ بَيْنَهُمَا وَتَفَاءَلَ بِأَسْمَائِهِمَا وَأَسْمَاءِ أَهْلِهِمَا، فَتَرَكَهُمَا وَالصَّفْرَاءَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى وَادٍ يُقَالُ لَهُ ذَفِرَانُ، فَجَزَعَ فِيهِ ثُمَّ نَزَلَ.
* * * وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ وَمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ.
فَاسْتَشَارَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ.
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ وَأَحْسَنَ.
ثُمَّ قَامَ عمر بن الْخطاب فَقَالَ وَأحسن.
(1) قَالَ الزرقائى: وَيُقَال لَهُ بسبسة، كَمَا وَقع لجَمِيع رُوَاة مُسلم وَبَعض رُوَاة أَبى دَاوُد.
والاصح مَا ذكره ابْن إِسْحَق.
قَالَ ابْن الكلبى: إِنَّه الذى أَرَادَهُ الشَّاعِر بقوله: أقِم لَهَا صدورها يَا بسبس * إِن مطايا الْقَوْم لَا تحسس (2) الاصل: مَا أسماؤهما وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(*)
ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ (1) لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا وَدَعَا لَهُ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ " وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا.
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يتخوف أَلا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَجَلْ " قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَكَ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك، فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
قَالَ: فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ سعد ونشطه، ثمَّ قَالَ: " سِيرُوا
(1) برك الغماد: قَالَ الحازمى: مَوضِع على خمس لَيَال من مَكَّة إِلَى جِهَة الْيمن.
وَقَالَ الْبكْرِيّ: هِيَ أفاصى هجر.
وَقَالَ الْهَمدَانِي: هُوَ فِي أقْصَى الْيمن من شرح الْمَوَاهِب 1 / 412.
(*)
وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ ".
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله.
وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لمُوسَى: اذْهَبْ أَنْت
وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ.
وَلَكِنْ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ.
فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ.
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، فَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مُخَارِقٍ بِهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ من حَدِيثه، وَعِنْده: وَجَاء الْمِقْدَاد بن الاسود يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ.
فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ، هُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.
فَقَالَ بعض الانصار: يَا رَسُول الله، إِذا لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى برك الغماد لاتبعناك.
وَهَذَا إِسْنَاد ثلاثى صَحِيح عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ أَحْمد أَيْضا: حَدثنَا عَفَّان، حَدثنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: شاور حِين بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِيَّانَا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبِحَارَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا.
فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ.
قَالَ: فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ
لِبَنِي الْحَجَّاجِ فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلِ بن هِشَام وَعتبَة بن ربيعَة وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.
فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَإِذَا ضَرَبُوهُ.
قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ.
فَإِذَا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ قَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جهل وَعتبَة وَشَيْبَة وَأُميَّة.
فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ.
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم لتضربونه إِذا صدق وَتَتْرُكُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ.
قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، يضع يَده على الارض هَا هُنَا وَهَا هُنَا، فَمَا أَمَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَفَّانَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الله ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ: " إِنِّي أُخْبِرْتُ عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلَةٌ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ قِبَلَ هَذِهِ الْعِيرِ لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُنَاهَا؟ " فَقُلْنَا: نَعَمْ.
فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا، فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ قَالَ لَنَا:" مَا تَرَوْنَ فِي الْقَوْمِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ؟ " فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْقَوْمِ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا الْعِيرَ.
ثُمَّ قَالَ: " مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ؟ " فَقُلْنَا مثل ذَلِك.
فَقَامَ الْمِقْدَاد بن عَمْرو [فَقَالَ] : إِذًا لَا نَقُولُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ.
قَالَ: فَتَمَنَّيْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَوْ أَنَّا قُلْنَا مِثْلَ مَا قَالَ الْمِقْدَادُ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ، فَأَنْزَلَ الله عزوجل عَلَى رَسُولِهِ: " كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون " وَذكر تَمام الحَدِيث.
روى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَدْرٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ:" كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِكَذَا وَكَذَا.
قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ " فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ.
ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ؟ ".
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُول الله إيانا تُرِيدُ؟ فو الذى أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لِي بِهَا عِلْمٌ، وَلَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكَ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ.
وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ متبعون، وَلَعَلَّ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ.
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ: " كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤمنِينَ لكارهون " الْآيَاتِ.
وَذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ:" وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ ": " وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنْ أَمر فَأمرنَا تبع لامرك، فو الله لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ ".
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ ذَفِرَانَ، فَسَلَكَ عَلَى ثَنَايَا يُقَالُ لَهَا الْأَصَافِرُ، ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا إِلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ الدَّابَّة، وَتَرَكَ الْحَنَّانَ بِيَمِينٍ، وَهُوَ
كَثِيبٌ عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنَ الْعَرَبِ فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخ: لَا أخبركما حَتَّى تخبراني مِمَّا أَنْتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أخبرتنا أخبرناك.
فَقَالَ: أَو ذَاك بِذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا.
لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ قُرَيْشٌ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ مِنْ مَاءٍ " ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ.
قَالَ يَقُولُ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ؟ أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ لِهَذَا الشَّيْخِ سُفْيَانُ الضَّمْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابه، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِلَى مَاءِ بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ لَهُ، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ.
فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ غُلَامُ بَنِي الْحَجَّاجِ، وَعَرِيضٌ أَبُو يَسَارٍ غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا بِهِمَا فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالُوا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ.
فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ فَضَرَبُوهُمَا، فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا (1)
قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ.
فَتَرَكُوهُمَا.
وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: " إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا! صَدَقَا وَاللَّهِ إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أخبرانى عَن قُرَيْش؟ قَالَا: هم [وَالله (2) ] وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَالْكَثِيبُ الْعَقَنْقَلُ.
فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَمِ الْقَوْمُ قَالَا: كَثِيرٌ، قَالَ: مَا عِدَّتُهُمْ؟ قَالَا: لَا نَدْرِي.
قَالَ: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ ".
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟ قَالَا: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَل، وَالنضْر
(1) أذلقوهما: آذوهما.
(2)
عَن ابْن هِشَام.
(*)
ابْن الْحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا ".
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ قَدْ مَضَيَا حَتَّى نَزَلَا بَدْرًا فَأَنَاخَا إِلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَا شَنًّا لَهُمَا يَسْتَقِيَانِ فِيهِ، وَمَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ عَلَى الْمَاءِ، فَسَمِعَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ جاريتين من جواري الْحَاضِر وهما يتلازمان (1) عَلَى الْمَاءِ وَالْمَلْزُومَةُ تَقُولُ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ ثُمَّ أَقْضِيكِ الَّذِي
لَكِ.
قَالَ مَجْدِيُّ: صَدَقَتْ.
ثُمَّ خَلَّصَ بَيْنَهُمَا.
وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَاهُ بِمَا سَمِعَا.
وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذِرًا حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ أَحَدًا؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُنْكِرُهُ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَدْ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ ثُمَّ اسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا.
فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مُنَاخَهُمَا فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ.
فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا، فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنِ الطَّرِيقِ فَسَاحَلَ بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا بِيَسَارٍ، وَانْطَلَقَ حَتَّى أَسْرَعَ.
وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْجُحْفَةَ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وإنى لبين النَّائِم وَالْيَقظَان، إِذْ
(1) يتلازمان: يتقاضيان.
(*)
نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ حَتَّى وَقَفَ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَدَّ رِجَالًا مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ ضَرَبَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إِلَّا أَصَابَهُ نَضْحٌ مِنْ دَمِهِ.
فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: هَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ! سَيَعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ إِنْ نَحْنُ الْتَقَيْنَا.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ فَارْجِعُوا.
فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كل عَام، فنقيم عَلَيْهِ ثَلَاثًا فننحر الْجَزُور (1) وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُوا.
وَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ: يَا بَنِي زُهْرَةَ قَدْ نَجَّى اللَّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَخَلَّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا (2) بِي جُبْنَهَا وَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ، لَا مَا يَقُولُ هَذَا.
قَالَ: فَرَجَعُوا فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا.
وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَقَدْ نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ، لم يخرج مِنْهُم
(1) ابْن هِشَام: الجزر.
(2)
ابْن هِشَام: فاجعلوا لى.
(*)
رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ.
قَالَ: وَمَضَى الْقَوْمُ، وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ، وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ، وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا، أَنَّ هَوَاكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ.
فَرَجَعَ طَالِبٌ إِلَى مَكَّةَ مَعَ من رَجَعَ، وَقَالَ فِي ذَلِك: لَا هم إِمَّا يَغْزُوَنَّ طَالِبْ * فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبْ (1) * فَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السَّالِبْ وَلِيَكُنِ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبْ * * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ وَبَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ يَلْيَلُ، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ الْعَقَنْقَلِ الْكَثِيبِ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، وَالْقَلِيبُ بِبَدْرٍ فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قُلْتُ: وفى هَذَا قَالَ تَعَالَى " إِذا أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَل مِنْكُم " أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ السَّاحِلِ " وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا "(2) الْآيَات.
وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا (3) فَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مِنْهَا مَاءٌ لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ السَّيْرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَاءٌ لَمْ يقدروا على أَن يرتحلوا مَعَه.
(1) المقنب: الْجَمَاعَة من الْخَيل مقدارها ثَلَاثمِائَة أَو نَحْوهَا.
(2)
سُورَة الانفال 42 (3) دهسا: لينًا.
(*)
قُلْتُ: وَفِي هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقدام "(1) .
فَذَكَرَ أَنَّهُ طَهَّرَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنَّهُ ثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ وَشَجَّعَ قُلُوبَهُمْ وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ تَخْذِيلَ الشَّيْطَانِ وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وَهَذَا تَثْبِيتُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَأَنْزَلَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي قَوْلِهِ:" إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوق الاعناق " أَي على الرؤوس " واضربوا مِنْهُم كل بنان " أَيْ لِئَلَّا يَسْتَمْسِكَ مِنْهُمُ السِّلَاحُ " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للْكَافِرِينَ عَذَاب النَّار "(2) .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدثنَا مُصعب بن الْمِقْدَام، حَدثنَا إِسْرَائِيل، حَدثنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبى طَالب، قَالَ: أَصَابَنَا من مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ (3) مِنَ الْمَطَرِ، يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ (4) نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَعْنِي قَائِمًا يُصَلِّي، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَن عَليّ، قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارس يَوْم بدر إِلَّا الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.
وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث مطولا.
(1) سُورَة الانفال 12.
(2)
سُورَة الانفال 13، 14.
(3)
الطش: الْمَطَر الضَّعِيف، وَهُوَ فَوق الرذاذ.
(4)
الحجف: جمع حجفة وهى الترس الصَّغِير يطارق بَين جلدين.
(*)(26 - السِّيرَة - 2)
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدُرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ فَأَطْفَأَ بِهِ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ.
قُلْتُ: وَكَانَتْ لَيْلَةُ بَدْرٍ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي إِلَى جِذْمِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، وَيُكْثِرُ فِي سُجُودِهِ أَنْ يَقُولَ:" يَا حَيَّ يَا قَيُّومَ " يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَيُلِظُّ بِهِ عليه السلام.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ حَتَّى جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بنى سَلمَة، أَنهم ذكرُوا أَن الْحباب ابْن مُنْذر بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟
قَالَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَامْضِ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حوضا فنملؤه مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ ".
قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ الْأَقْبَاصَ (1) وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينه إِذا أَتَاهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(1) بالاصل غير منقوطة.
وَلم أجد هَذَا النَّص، والقبص: الْجَمَاعَة من النَّاس.
(*)
" هُوَ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ السَّلَامُ " فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ: إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا جِبْرِيلُ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ: مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ، وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ.
فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَسَارَ حَتَّى أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ لَمَّا أَشَارَ بِمَا أَشَارَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ وَجِبْرِيلُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْمَلَكُ: يَا مُحَمَّدُ، رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ الرَّأْيَ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ فَقَالَ: لَيْسَ كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَعْرِفُهُمْ، وَإِنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي يَلِي الْمُشْرِكِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُمْ نزلُوا فِيهِ واستقوا مِنْهُ وملاوا الْحِيَاضَ حَتَّى أَصْبَحَتْ مِلَاءً وَلَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ مَاءٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَّا نَبْنِيَ لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدِّ حُبًّا لَكَ مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ.
فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرِيشٌ كَانَ فِيهِ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَقْبَلَتْ.
فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَوَّبُ مِنَ الْعَقَنْقَلِ، وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ إِلَى الْوَادِي، قَالَ:" اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تَحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ (1) الْغَدَاةَ ".
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقد رَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ: إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ، أَوْ أَبُوهُ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرَ أَهْدَاهَا لَهُمْ وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نَمُدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ: أَنْ وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، وَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ، فَلَعَمْرِي إِنْ
كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ مَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَإِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ، فَمَا لِأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ! قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعُوهُمْ.
فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر
(1) أحنهم: أهلكهم.
(*)
رَجُلًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ نَعْقِدُهُ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
* * * فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ (1) أَنَّ أَصْحَابَ بدر ثلثمِائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ، عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جاوزا مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَاوَزَهُ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ.
وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نيفا على سِتِّينَ، والانصار نَيف وَأَرْبَعُونَ ومائتان.
وروى الامام أَحْمد عَن نصر بن رِئَاب، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَدْرٍ ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ سِتَّة وَسبعين وَكَانَت هزيمَة أهل بدر لسبع عشرَة مضين من شهر رَمَضَان يَوْم الْجُمُعَة.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الامر، وَلَكِن الله سلم "(2) الْآيَة.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ نَامَ فِي الْعَرِيشِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَدَنَا الْقَوْمُ مِنْهُمْ فَجَعَلَ الصِّدِّيقُ يُوقِظُهُ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَنَوْا مِنَّا فَاسْتَيْقِظْ.
وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا.
ذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولا "(3) .
(1) البُخَارِيّ.
سَمِعت الْبَراء رضى الله عَنهُ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من شَهِدَ بَدْرًا أَنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ.
(2)
سُورَة الانفال 43.
(1)
سُورَة الانفال 44.
(*)
فَعِنْدَمَا تَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ قَلَّلَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ لِيَجْتَرِئَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
وَلَيْسَ هَذَا مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ".
فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْفِرْقَةَ الْكَافِرَةَ تَرَى الْفِرْقَةَ الْمُؤْمِنَةَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْكَافِرَةِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَالْمُسَايَفَةِ (1) أَوْقَعَ اللَّهُ الْوَهَنَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَاسْتَدْرَجَهُمْ أَوَّلًا، بِأَنْ أَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ قَلِيلًا، ثُمَّ أَيَّدَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ، فَجَعَلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْكَافِرِينَ عَلَى الضِّعْفِ مِنْهُمْ حَتَّى وَهَنُوا وَضَعُفُوا وَغُلِبُوا.
وَلِهَذَا قَالَ: " وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ، إِنَّ فِي ذَلِك لعبرة لاولى الابصار ".
قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عبيد وَعبد اللَّهِ، لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ فَقَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً!
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: لَمَّا اطْمَأَنَّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ فَقَالُوا احْزُرْ لَنَا الْقَوْمَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ.
قَالَ: فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ: أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ.
قَالَ: فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتَّى أَبْعَدَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، وَلَكِنْ قَدْ رَأَيْتُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحَ يَثْرِبَ تحمل الْمَوْت الناقع،
(1) الاصل: والمسابقة وَهُوَ تَحْرِيف.
(*)
قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ! ؟ فَرَوْا رَأْيَكُمْ.
فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النَّاسِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْش وسيدها المطاع فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ لَا تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟ قَالَ: وَمَا ذَلِك يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ وَتَحْمِلُ أَمْرَ حليفك عَمْرو ابْن الْحَضْرَمِيِّ.
قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي فَعَلَيَّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ.
فَأْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةِ، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ (1) أَمْرَ النَّاس غَيره.
ثمَّ قَالَ عُتْبَةُ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ، أَوِ ابْنَ خَالِهِ، أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَارْجِعُوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ
سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرَّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ.
قَالَ حَكِيمٌ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى جِئْتُ أَبَا جَهْلٍ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ نَثَلَ درعا فَهُوَ يُهَنِّئُهَا (2) فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ إِنَّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سِحْرُهُ (3) حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةَ جَزُورٍ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ، فَقَدْ تَخَوَّفَكُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَالَ: هَذَا حَلِيفُكَ يُرِيدُ أَن يرجع النَّاس، وَقد
(1) يشجر: يُخَالف وَيفْسد.
وفى الاصل: يسجر.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام (2) نئل: أخرج.
ويهنئها: يهيئها ويصلحها (3) انتفخ سحره: جبن وَالسحر: الرئة.
(*)
رَأَيْتُ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيكَ.
فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَاكْتَشَفَ ثُمَّ صَرَخَ: وَاعَمْرَاهُ وَاعَمْرَاهُ.
قَالَ: فَحَمِيَتِ الْحَرْبُ وَحَقِبَ أَمْرُ النَّاسِ وَاسْتَوْثَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ الرَّأْيَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عُتْبَةُ.
فَلَمَّا بَلَغَ عُتْبَةُ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سِحْرُهُ، قَالَ: سَيَعْلَمُ مُصَفِّرُ اسْتِهِ (4) مَنِ انْتَفَخَ سِحْرُهُ أَنَا أَمْ هُوَ! ثُمَّ الْتَمَسَ عُتْبَةُ بَيْضَةً لِيُدْخِلَهَا فِي رَأْسِهِ، فَمَا وَجَدَ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعَهُ مِنْ عِظَمِ رَأْسِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ عَلَى رَأْسِهِ بِبُرْدٍ لَهُ.
* * * وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُسَوَّرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْيَرْبُوعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ إِذْ دَخَلَ حَاجِبُهُ فَقَالَ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَسْتَأْذِنُ.
قَالَ: ائْذَنْ لَهُ.
فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مرْحَبًا يَا أَبَا خَالِد ادن، فحال عَنْ صَدْرِ
الْمَجْلِسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوِسَادَةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: حَدِّثْنَا حَدِيثَ بَدْرٍ.
فَقَالَ: خَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْجُحْفَةِ رَجَعَتْ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا، فَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْ مُشْرِكِيهِمْ بَدْرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى نَزَلْنَا الْعُدْوَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجِئْتُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ هَلْ لَكَ فِي أَنْ تَذْهَبَ بِشَرَفِ هَذَا الْيَوْمَ مَا بَقِيتَ؟ قَالَ: أَفْعَلُ مَاذَا؟ قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا دَمَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ حَلِيفُكَ، فَتَحَمَّلْ بِدِيَتِهِ وَيَرْجِعُ النَّاسُ.
فَقَالَ: أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، وَاذْهَبْ إِلَى ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْ لَهُ:
(1) مصفر استه: أَرَادَ مصفر بدنه بالصفرة وهى الطّيب.
وَلكنه قصد الْمُبَالغَة بالذم فَذكر مَا يسوؤه أَن يذكر.
(*)
هَلْ لَكَ أَنْ تَرْجِعَ الْيَوْمَ بِمَنْ مَعَكَ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ؟ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَإِذَا ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: فَسَخْتُ عَقْدِي مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعَقْدِي الْيَوْمَ إِلَى بَنِي مَخْزُومٍ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَقُولُ لَكَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَرْجِعَ الْيَوْم بِمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: أَمَا وَجَدَ رَسُولًا غَيْرَكَ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَكُونَ رَسُولًا لِغَيْرِهِ.
قَالَ حَكِيمٌ: فَخَرَجْتُ مُبَادِرًا إِلَى عُتْبَةَ لِئَلَّا يفوتنى من الْخَبَر شئ، وَعُتْبَةُ مُتَّكِئٌ عَلَى إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيِّ، وَقد أهْدى إِلَى الْمُشْركين عشرَة جزائر.
فطلع أَبُو جهل الشَّرّ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لِعُتْبَةَ: انْتَفَخَ سِحْرُكَ؟ فَقَالَ لَهُ عُتْبَةُ: سَتَعْلَمُ.
فَسَلَّ أَبُو جَهْلٍ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ مَتْنَ فَرَسِهِ، فَقَالَ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ: بِئْسَ الْفَأْلُ هَذَا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ قَامَتِ الْحَرْبُ.
وَقَدْ صَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ وعباهم أحسن تعبية.
فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: صَفَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لَيْلًا.
ورى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَسْلَمَ أَبَا عِمْرَانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ يَقُولُ: صَفَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَدَرَتْ مِنَّا بَادِرَةٌ أَمَامَ الصَّفِّ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" مَعِي مَعِي ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
* * * وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قومه، أَن
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَدَّلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ (1) يُعَدِّلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ (2) مِنَ الصَّفِّ.
فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ وَقَالَ: " اسْتَوِ يَا سَوَادُ ".
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فَأَقِدْنِي.
فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَطْنِهِ فَقَالَ: اسْتَقِدْ.
قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ.
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْرٍ وَقَالَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ عَوْفَ بْنَ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُ (3) الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: " غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا ".
فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّفُوفَ وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ
فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه وَاقِفًا عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَدْهَمَهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْجَنَائِبُ النَّجَائِبُ مُهَيَّأَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَكِبَهَا وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا أَشَارَ بِهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ.
(1) الْقدح السهْم.
(2)
مستنتل: مُتَقَدم.
(3)
يضْحك: يرضى.
(*)
فَقَالَ: أَمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرِيشًا فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يَهْوِي إِلَيْهِ أحد من الْمُشْركين؟ فو الله مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا أَهْوَى إِلَيْهِ.
فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ.
قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأخذته قُرَيْش، فَهَذَا يحاده، وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ، وَيَقُولُونَ: أَنْتَ جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، فو الله مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ يضْرب ويجاهد هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ! أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ.
ثُمَّ رَفَعَ عَلِيٌّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ: أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ على: فو الله لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مَلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِلصِّدِّيقِ، حَيْثُ هُوَ مَعَ الرَّسُول فِي الْعَرِيشِ، كَمَا كَانَ مَعَهُ فِي الْغَارِ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ.
وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ الِابْتِهَالَ وَالتَّضَرُّعَ وَالدُّعَاءَ، وَيَقُولُ فِيمَا يَدْعُو بِهِ:" اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الارض " وَجعل يَهْتِف بربه عزوجل وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ نَصْرَكَ ".
وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ
يَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُسَوِّي عَلَيْهِ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الِابْتِهَالِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
هَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ الصِّدِّيقَ إِنَّمَا قَالَ: بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ لِمَا رَأَى مِنْ نَصَبِهِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ: بَعْضَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
أَيْ: لِمَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ هَذَا التَّعَبَ، وَاللَّهُ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ.
وَكَانَ رضي الله عنه رَقِيقَ الْقَلْبِ شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، وَالصِّدِّيقُ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ، وَكَانَ مَقَامُ الْخَوْفِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، يَعْنِي أَكْمَلَ.
قَالَ: لِأَنَّ لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، فَخَافَ أَنْ لَا يُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَهَا، فَخَوْفُهُ ذَلِكَ عِبَادَةٌ.
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الْمَقَامَ فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ يَوْمَ الْغَارِ.
فَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُود على قَائِله، إِذْ لم يتَذَكَّر هَذَا الْقَائِلُ عَوَرَ مَا قَالَ وَلَا لَازِمَهُ وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * هَذَا وَقَدْ تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، وَحَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، وَاسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ، وَضَجَّ الصَّحَابَةُ بِصُنُوفِ الدُّعَاءِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، سَامِعِ الدُّعَاءِ وَكَاشِفِ الْبَلَاءِ.
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الاسد المخزومى.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ رچلَا شَرِسًا سَيِّئَ الْخُلُقِ فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ.
فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمطلب، فَلَمَّا
الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ (1) قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ وَهُوَ دُونَ الْحَوْضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخُبُ رِجْلُهُ دَمًا نَحْوَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الْحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ، يُرِيدُ، زَعَمَ، أَنْ تبر يَمِينَهُ، وَاتَّبَعَهُ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ.
قَالَ الْأُمَوِيُّ: فَحَمِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ شَجَاعَتَهُ، فَبَرَزَ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ دَعَوْا إِلَى الْبِرَازِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فتيه من الانصار ثَلَاثَة، وهم عَوْف ومعاذ ابْنا الْحَارِث وأمهما غفراء، وَالثَّالِثُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِيمَا قِيلَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
فَقَالُوا: مَا لنا بكم حَاجَةٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، وَلَكِنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا، وَنَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ ".
وَعِنْدَ الْأُمَوِيِّ أَنَّ النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمَّا خَرَجُوا كَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَوْقِفٍ وَاجَهَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْدَاءَهُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ وَأَمَرَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ بِالْخُرُوجِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُلَبَّسِينَ لَا يُعْرَفُونَ مِنَ السِّلَاحِ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ: عُبَيْدَةُ.
وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيٌّ.
قَالُوا: نَعَمْ، أَكْفَاءٌ كِرَامٌ.
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ، وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ، عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.
فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلم يُمْهل الْوَلِيد أَن قَتله، وأختلف
(1) أطن: أطار.
(*)
عُبَيْدَة وعبتة بَيْنَهُمَا بِضَرْبَتَيْنِ، كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفَّفَا (1) عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحبهمَا فحازاه إِلَى أصحابهما (2) .
رضي الله عنه.
* * * وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبهم "(3) نزلت فِي حَمْزَة وَصَاحبه، وَعتبَة وَصَاحبه، يَوْمَ بَرَزُوا فِي بَدْرٍ.
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدثنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أول من يجثو بَين يدى الرَّحْمَن عزوجل فِي الْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نزلت: " هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم " قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ أَوْسَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ، قَالَ: بَرَزَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ حَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَعَلِيٌّ، فَقَالُوا: تَكَلَّمُوا نَعْرِفْكُمْ.
فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنَا أَسد الله وَأسد رَسُول الله أَنَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَقَالَ كُفْءٌ كَرِيمٌ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُول الله.
وَقَالَ عُبَيْدَةُ: أَنَا الَّذِي فِي الْحُلَفَاءِ، فَقَامَ كل رجل إِلَى رجل فقاتلوم فَقَتلهُمْ الله.
(1) ذففا عَلَيْهِ: أجهزا.
(2)
ابْن هِشَام: إِلَى أَصْحَابه.
(3)
سُورَة الْحَج 19.
(*)
فَقَالَت هِنْد فِي ذَلِك: أعيني جودى بِدَمْعٍ سَرِبْ * عَلَى خَيْرِ خِنْدِفَ لَمْ يَنْقَلِبْ تَدَاعَى لَهُ رَهْطُهُ غُدْوَةً * بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبْ يُذِيقُونَهُ حَدَّ أَسْيَافِهِمْ * يَعُلُّونَهُ بَعْدَ مَا قَدْ عَطِبَ وَلِهَذَا نَذَرَتْ هِنْدُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ حَمْزَةَ.
قُلْتُ: وَعُبَيْدَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمَّا جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَضْجَعُوهُ إِلَى جَانِبِ مَوْقِفِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأشرفه (1) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَمَهُ فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى قَدَمِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَآنِي أَبُو طَالِبٍ لَعَلِمَ أَنى أَحَق بقوله: ونسلمه حَتَّى نصرع دونه * وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ ثُمَّ مَاتَ رضي الله عنه.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَشْهَدُ أَنَّكَ شَهِيدٌ ".
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله.
وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ، ثُمَّ رُمِيَ بَعْدَهُ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ أَحَدُ بَنِي
عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ نَحْرَهُ فَمَاتَ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ سُرَاقَةَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فِي النَّظَّارَةِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ حَارِثَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِلَّا فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، يَعْنِي مِنَ النِّيَاحِ، وَكَانَت لم تحرم
(1) كَذَا وفى إِنْسَان الْعُيُون: فأفرشه.
(*)
بَعْدُ.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " وَيْحَكَ أَهَبِلْتِ، إِنَّهَا جِنَانٌ ثَمَانٍ، وَإِنَّ ابْنَكَ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى! ".
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بعض.
وَقد (1) أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ: إِنِ اكْتَنَفَكُمُ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، فَارْمُوهُمْ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بكير، عَن أَبى إِسْحَاق، حَدَّثَنى عبد الله بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا بني عبد الرَّحْمَن.
وشعار الْخَزْرَج: يَا بني عبد الله.
وشعار الْأَوْس: يَا بني عبيد الله، وسمى خيله خيل الله.
قَالَ ابْن هِشَام: كَانَ شِعَارُ الصَّحَابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَرِيشِ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، يعْنى وَهُوَ يستغيث الله عزوجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِذْ يستغيثون رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْد الله، إِن الله عَزِيز حَكِيم " (2) .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ، حَدثنَا عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لما كَانَ يَوْم بدر
(1) الاصل: وَقَالَ.
وَهُوَ تَحْرِيف.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(2)
سُورَة الانفال 9، 10.
(*)
نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ ثُمَّ قَالَ:" اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنَّ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُعْبَدُ بَعْدُ فِي الْأَرْضِ أبدا ".
فَمَا زَالَ يستغيث بربه وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَاكَ (1) مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ ".
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْيَمَانِيِّ، وَصَحَّحَهُ على ابْن الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْن عَبَّاس والسدى وَابْن جرير وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَجُّوا إِلَى الله عزوجل فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِجَنَابِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ " أَيْ رِدْفًا لَكُمْ وَمَدَدًا لِفِئَتِكُمْ.
رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو كُدَيْنَة، عَن قَابُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " مُرْدِفِينَ " وَرَاءَ كُلِّ مَلَكٍ ملك
(1) الاصل: كَذَاك.
وَهُوَ تَحْرِيف.
(*)(27 - السِّيرَة - 2)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ " مُرْدِفِينَ " بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ وَكَذَا قَالَ أَبُو ظَبْيَانَ وَالضَّحَاكُ وَقَتَادَةُ.
وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةِ مُجَنِّبَةٍ وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ جرير: حَدَّثَنى الْمثنى، حَدثنَا إِسْحَاق، حَدثنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعُزَيْزِ بن عمرَان، عَن الربعِي، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ من الْمَلَائِكَة على مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَة على مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، فَزَادَ: وَنَزَلَ إِسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ طَعَنَ يَوْمَئِذٍ بِالْحَرْبَةِ حَتَّى اخْتَضَبَتْ إِبِطُهُ مِنَ الدِّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ.
وَيُؤَيِّدُهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: " بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ " بِفَتْحِ الدَّالِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سِنَان الْقَزاز، حَدثنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن موهب، أَخْبرنِي إِسْمَاعِيل بن عَوْف بن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ ابْن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ مُسْرِعًا لِأَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فَعَلَ، قَالَ: فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ
سَاجِدٌ يَقُولُ " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ " لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا.
فَرَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَذَهَبْتُ إِلَى الْقِتَالِ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عبد الْمجِيد أَبى على الْحَنَفِيّ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَا سَمِعت مناشدا يشند أَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، جَعَلَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ " ثُمَّ الْتَفَتَ وَكَأَنَّ شِقَّ وَجْهِهِ الْقَمَرُ وَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ عَشِيَّةً.
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا رَأَيْتُ مُنَاشِدًا يَنْشُدُ حَقًّا لَهُ أَشَدَّ مُنَاشَدَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَذكره.
وَقد ثَبت إخْبَاره عليه السلام بِمَوَاضِعِ مَصَارِعِ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَمُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ.
وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَعُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ.
وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ، بِأَن يخبر بِهِ قبل بِيَوْمٍ وَأَكْثَرَ، وَأَنْ يُخْبِرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَاعَةٍ يَوْمَ الْوَقْعَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ " اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ،
اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا " فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ.
فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدهى وَأمر ".
وَهَذِه الْآيَة مَكِّيَّة.
وَقد جَاءَ تصديقها يَوْم بدر، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الرّبيع الزهْرَانِي، حَدثنَا حَمَّاد، عَن أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة قَالَ: لما نزلت: " سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر " قَالَ عُمَرُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ وَأَيُّ جَمْعٍ يُغْلَبُ؟ قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأمر " فَعَرَفْتُ تَأْوِيلَهَا يَوْمَئِذٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَانَ، سَمِعَ عَائِشَة تَقول: نزل على مُحَمَّد بِمَكَّةَ - وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ - " بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأمر ".
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدُ " وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
وَقَدْ خَفَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم [خَفْقَةً] وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ، ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ:" أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ " يَعْنِي الْغُبَارَ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ وَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ ".
قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٌ يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ بَخٍ! أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: ثُمَّ قَذَفَ التَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ.
رحمه الله.
وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا هَاشم بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بسبسا عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى مِنْ بَعْضِ نِسَائِهِ، قَالَ: فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ.
قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ " إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا " فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهُورِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ قَالَ: " لَا إِلَّا من كَانَ ظَهره حَاضرا ".
وَانْطَلق رَسُول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يَتَقَدَّمَنْ أحد مِنْكُم إِلَى شئ حَتَّى أكون أَنا دونه ".
فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قومُوا إِلَى جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْضُ ".
قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُول الله جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْضُ؟ !
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: بَخٍ بَخٍ؟ فَقَالَ رَسُول الله: " مَا يحملك على قَول بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا حَيَاةٌ طَوِيلَةٌ! قَالَ: فَرَمَى مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رحمه الله.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شيبَة وَجَمَاعَةٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَيْرًا قَاتَلَ وَهُوَ يَقُولُ رضي الله عنه: رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ * إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ * وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ * * * وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَن عَليّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يتحيز عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَدْرٍ، وَبَدْرٌ بِئْرٌ، فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَوَجَدنَا فِيهَا رجلَيْنِ: رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط، فَأَما القرشى فانفلت، وَأما الْمولى فوجدناه، فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ.
فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ.
حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ.
فَجَهِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى.
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ؟ فَقَالَ: عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " الْقَوْمُ أَلْفٌ، كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ وَتَبَعِهَا ".
ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ من مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو رَبَّهُ وَيَقُولُ " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدُ ".
فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: الصَّلَاةَ عِبَادَ اللَّهِ.
فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنَ الْجَبَلِ ".
فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يَا على نَاد حَمْزَةَ "، وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ.
وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ وَيَقُولُ لَهُم: يَا قوم اعصبوها بِرَأْسِي وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ.
وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ.
فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهُ لَأَعْضَضْتُهُ، قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا.
فَقَالَ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ.
فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخرج فتية من الانصار مشببة، فَقَالَ عتبَة: لَا نُرِيد هَؤُلَاءِ، وَلَكِن نبارز مِنْ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قُم يَا حَمْزَة، وقم يَا على، وَقُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ ".
فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وأسرنا سبعين.
وَجَاء رجل من الانصار بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُول الله الله إِن هَذَا مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: " اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ ".
قَالَ: فَأَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسَ وَعَقِيلًا وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ.
هَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ، وَفِيهِ شَوَاهِدُ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِطُولِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِهِ.
* * * وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ الْعَرِيشِ وَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ صَابِرِينَ ذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لَهُمْ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كثيرا (1) " الْآيَة.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ يُقَالُ: قَلما ثَبت قوما قيَاما، فَمن اسْتَطَاعَ عِنْد ذَلِك أَن يحلس أَوْ يَغُضَّ طَرْفَهُ وَيَذْكُرَ اللَّهَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الرِّيَاءِ.
وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَصْحَابِهِ: أَلَّا تَرَوْنَهُمْ، يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، جِثِيًّا عَلَى الرُّكَبِ كَأَنَّهُمْ حَرَسٌ، يَتَلَمَّظُونَ كَمَا تَتَلَمَّظُ الْحَيَّاتُ، أَوْ قَالَ الْأَفَاعِي.
قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَرَّضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ قَدْ نَفَلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ، وَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ
رَجُلٌ [فَيُقْتَلُ] صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجنَّة ".
وَذكر قصَّة عُمَيْر ابْن الْحُمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ قِتَالًا شَدِيدًا بِبَدَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، كَمَا كَانَا
(1) سُورَة الانفال 45.
(*)
فِي الْعَرِيشِ يُجَاهِدَانِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، ثُمَّ نَزَلَا فَحَرَّضَا وَحَثَّا عَلَى الْقِتَالِ، وَقَاتِلَا بِالْأَبْدَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَة ابْن مضرب، عَن على، قَالَ: قد رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَقْرَبُنَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قِيلَ لَعَلِيٍّ وَلِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما يَوْمَ بَدْرٍ: مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَلَا يُقَاتِلُ.
أَوْ قَالَ: يَشْهَدُ الصَّفَّ.
وَهَذَا يُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَلَمَّا تَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ تَنْزِيلًا، كَانَ جِبْرِيلُ عَلَى أَحَدِ الْمُجَنِّبَتَيْنِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ مِيكَائِيلُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَوَقَفُوا فِي الْمَيْسَرَةِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيهَا.
[وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَن على، قَالَ كنت أسبح عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ ثمَّ أُخْرَى ثمَّ أُخْرَى، فَنزل ميكائل فِي أَلْفٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَاكَ أَبُو بَكْرٍ، وَإِسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ فِي الْمَيْسَرَةِ وَأَنَا فِيهَا، وَجِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ قَالَ: وَلَقَدْ طفت يَوْمئِذٍ حَتَّى بلغ إبطى] (1) .
(1) سقط من ا (*)
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْعِقْدِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَفْخَرَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَكُفُّ مَطِيَّهُمْ * جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ * * * وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعناق - يعْنى الرؤوس - واضربوا مِنْهُم كل بنان ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رجل من الْمُسلمين يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتُ الْفَارِسِ [يَقُولُ:] (1) أَقْدِمْ حَيْزُومُ، إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ قَدْ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ [قد](1) حطم [أَنفه](1) وشق وَجهه بضربة (2) السَّوْطِ فَاخْضَرَّ (3) ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَاكَ (4) رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ.
" فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر بْنِ حَزْمٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: حَضَرْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي بَدْرًا وَنَحْنُ عَلَى شركنا،
(1) من صَحِيح مُسلم.
(2)
صَحِيح مُسلم: كَضَرْبَة السَّوْط.
(3)
الاصل: وَحضر.
بِالْحَاء وَالضَّاد.
وَمَا أثْبته عَن صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ 12 / 86 (4) مُسلم: بذلك.
(*)
وَإِنَّا لَفِي جَبَلٍ نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدائرة (1) ، فَأَقْبَلَتْ سَحَابَةٌ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْجَبَلِ سَمِعْنَا مِنْهَا حَمْحَمَة الْخَيل، وَسَمعنَا قَائِلا يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ: فَأَمَّا صَاحِبِي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قلبه فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأما أَنا لكدت (2) أَنْ أَهْلِكَ ثُمَّ انْتَعَشْتُ (3) بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ، بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: لَوْ كُنْتُ الْيَوْمَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ لَا أَشُكُّ فِيهِ وَلَا أَتَمَارَى.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَرَآهَا إِبْلِيسُ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ: " أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ".
وَتَثْبِيتُهُمْ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرُوا فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بشئ وَالله مَعكُمْ، كروا عَلَيْهِم.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دواد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ دَنَوْتُ مِنْهُمْ وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا.
لَيْسُوا بشئ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا " الْآيَة.
وَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ: " إنى برِئ مِنْكُم، إنى أرى مَا لَا ترَوْنَ " وَهُوَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ.
وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ: لَا يَهُولَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا نَرْجِعُ حَتَّى تفرق مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْجِبَالِ، فَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَخُذُوهُمْ أخذا.
(1) ابْن هِشَام وَأَبُو نعيم: الدبرة.
(2)
ابْن هِشَام وَأَبُو نعيم: فكدت.
(3)
ابْن هِشَام وَأَبُو نعيم: ثمَّ تماسكت.
(*)
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَلَامَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ، بعد مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ بِبَدْرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّهُ بَصَرِي، لَأَرَيْتُكَ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَمَارٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ:" هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ وَعَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدثنَا ابْن أَبى حَبِيبَة، عَن دواد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيه، وحَدثني عَابِد بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بن أكيمَة الليثى، عَن عِكْرِمَة، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالُوا: لَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَافِعٌ يَدَيْهِ يَسْأَلُ اللَّهَ النَّصْرَ وَمَا وَعَدَهُ يَقُولُ " اللَّهُمَّ إِنْ ظَهَرُوا عَلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ ظَهَرَ الشِّرْكُ وَلَا يَقُومُ لَكَ دِينٌ " وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّكَ اللَّهُ وَلَيُبَيِّضَنَّ وَجْهَكَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ عِنْدَ اكتناف الْعَدُوِّ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ تَغَيَّبَ عَنِّي سَاعَةً ثُمَّ
طَلَعَ وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ يَقُولُ: أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ إِذْ دَعَوْتَهُ ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَالِدِي، حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَازِنٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْركين لِأَضْرِبَهُ، فَوَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّ غَيْرِي قَدْ قَتَلَهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ وَقَدْ أُحْرِقَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَت سيماء الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْخَوْهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ إِلَّا جِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عُدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَوْلًى لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، سَمِعْتُ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُعْلِمِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ.
وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ يُحَدِّثُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي، لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ لَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِي.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ: " مَنِ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَقْدِمْ حَيْزُومُ؟ " فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ
مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْأَثَرُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَيْزُومَ اسْمُ فَرَسِ جِبْرِيلَ، كَمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَمَا أَدْرِي كَمْ يَدٍ مَقْطُوعَةٍ وَضَرْبَةٍ جَائِفَةٍ لَمْ يَدْمَ كَلْمُهَا قَدْ رَأَيْتُهَا يَوْمَ بَدْرٍ! وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يحيى، عَن أَبى عقيل، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، قَالَ: جِئْتُ يَوْم
بَدْرٍ بِثَلَاثَةِ أَرْؤُسٍ فَوَضَعْتُهُنَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَمَّا رَأْسَانِ فَقَتَلْتُهُمَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا طَويلا [قَتله] فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ذَاكَ فُلَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ".
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ السَّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
فَيُقَالُ: فَمَنْ؟ يَقُولُ: لَمَّا انْهَزَمت قُرَيْش انْهَزَمت مَعهَا، فأدركني رجل أشعر طَوِيل على فرس أَبيض فَأَوْثَقَنِي رِبَاطًا، وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَجَدَنِي مَرْبُوطًا فَنَادَى فِي الْعَسْكَرِ: مَنْ أَسَرَ هَذَا؟ حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ أَسَرَكَ؟ قُلْتُ: لَا أَعْرِفُهُ.
وَكَرِهْتُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَسَرَكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اذْهَبْ يَا بن عَوْف بأسيرك ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدَّثَنى عَابِد بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: لقد رَأَيْتنَا يَوْم بدر وَقد وَقع بِجَادٌ (1) مِنَ السَّمَاءِ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، فَإِذَا الْوَادي يسيل نهلا، فَوَقع فِي نَفسِي أَن هَذَا شئ مِنَ السَّمَاءِ أُيِّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَمَا كَانَتْ إِلَّا الْهَزِيمَة ولقى الْمَلَائِكَة.
[وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلَ النَّمْلِ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ] (2) .
* * * وَلَمَّا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّصْرِ وَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أغفى إغْفَاءَة
(1) البجاد: كسَاء مخطط.
(2)
سقط من ا (*)
ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَبَشَّرَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَقَالَ " أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ يَقُودُ فَرَسَهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ " يَعْنِي مِنَ الْمَعْرَكَةِ.
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَرِيشِ فِي الدِّرْعِ فَجَعَلَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَيُبَشِّرُ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ وَيُشَجِّعُهُمْ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسُ بَعْدُ عَلَى مَصَافِّهِمْ لَمْ يَحْمِلُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، حَصَلَ لَهُمُ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ.
وَقَدْ حَصَلَ النُّعَاسُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ والثبات والايمان، كَمَا قَالَ:" إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ " وَهَذَا كَمَا حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْمَصَافِّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ النِّفَاقِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤمنِينَ (1) ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ، حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ
وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ: فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ.
وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا.
ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، فِي قَوْله:
(1) سُورَة الانفال 19.
(*)
" إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح " قَالَ: قَالَ أَبُو جهل: اللَّهُمَّ [أعن] أَعَزَّ الْفِئَتَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَنَزَلَتْ: " إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح ".
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ " قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرُ أَهْلِ مَكَّةَ تُرِيدُ الشَّامَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَخَرَجُوا وَمَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُونَ الْعِيرَ.
فَبلغ ذَلِك أهل مَكَّة فَأَسْرعُوا إِلَيْهَا لِكَيْلَا يَغْلِبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَسَبَقَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَلْقَوُا الْعِيرَ.
وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ الْقَوْمَ، وَكَرِهَ الْقَوْمُ مَسِيرَهُمْ لِشَوْكَةِ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ فَأصَاب الْمُسلمُونَ ضعف شَدِيد، وَألقى الشَّيْطَان فِي قُلُوبهم الغيظ يُوَسْوِسُهُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ وَأَنْتُمْ كَذَا (2) فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ، فَصَارَ الرَّمْلُ لَبْدًا وَمَشَى النَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ.
فَسَارُوا إِلَى الْقَوْمِ وَأَيَّدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةً، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مجنبة.
وَجَاء إِبْلِيس فِي جند من الشَّيَاطِين وَمَعَهُ ذُريَّته وَهُمْ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ:" لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْم من النَّاس، وإنى جَار لكم ".
(1) الدعصة: المستدير من الرمل.
(2)
فِي الرِّوَايَات أَن بَعضهم كَانُوا محدثين من الِاحْتِلَام.
(*)
فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ.
وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ: " يَا رَبِّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا ".
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ.
فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَأَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ.
وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ أَمَا زَعَمْتَ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَالله شَدِيد الْعقَاب.
وَذَلِكَ حِين رأى الْمَلَائِكَة.
وَرَاه الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ.
* * * [وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن الْمُنْذر الحزامى، حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عمرَان، حَدثنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافع، قَالَ: لما رأى إِبْلِيس مَا فعل الْمَلَائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ
مَالِكٍ، فَوَكَزَ فِي صدر الْحَارِث ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إِيَّايَ، وَخَافَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ.
وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لَا يَهُولَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ كَانَ على معياد مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ قَتْلُ شَيْبَةَ وَعُتْبَةَ والوليد فَإِنَّهُم قد عجلوا، فو اللات والعزى لَا نرْجِع حَتَّى نفرقهم بالجبال، فَلَا أُلْفِيَنَّ رَجُلًا مِنْكُمْ قَتَلَ رَجُلًا، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا حَتَّى تُعَرِّفُوهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، مِنْ مفارقتهم إيَّاكُمْ ورغبتهم عَن اللات والعزى.
(28 - السِّيرَة 2)
ثمَّ قَالَ أَبُو جهلا مُتَمَثِّلًا: مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الشَّمُوسُ مِنِّي * بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي] (1) وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبى حتمة، سَمِعْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ يَسْأَلُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، فَجَعَلَ الشَّيْخُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ حَكِيمٌ: الْتَقَيْنَا فَاقْتَتَلْنَا، فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَقَعَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِثْلَ وَقْعَةِ الْحَصَاةِ فِي الطَّسْتِ، وَقَبَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقَبْضَةَ التُّرَابَ فَرَمَى بِهَا فَانْهَزَمْنَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بن صقير (2)، سَمِعْتُ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: انْهَزَمْنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَسْمَعُ صَوْتًا كَوَقْعِ الْحَصَى فِي الطاس فِي أَفْئِدَتِنَا وَمِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ الرُّعْبِ عَلَيْنَا.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدثنَا ابْن أَبى إِسْحَاق، حَدَّثَنى الزُّهْرِيّ، عَن عبد الله ابْن ثَعْلَبَة بن صقير، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ قَالَ: اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم وآتانا بِمَا
لَا نَعْرِف فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ.
فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ.
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ شَجَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَقَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى طَمِعُوا فِيهِمْ، خَفَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَفْقَةً فِي الْعَرِيشِ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ:" أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثناياه النَّقْع، أَتَاك نصر الله وعدته ".
(1) سقط من ا (2) المطبوعة: صعير.
وَهُوَ خطأ.
(*)
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ كَفًّا مِنَ الْحَصَى بِيَدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَالَ:" شَاهَتِ الْوُجُوهُ " ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: احْمِلُوا.
فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَن ابْن إِسْحَاق: ثمَّ إِن رَسُول صلى الله عليه وسلم أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: " شُدُّوا " فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ: " أَعْطِنِي حَصْبَاء من الارض " فَنَاوَلَهُ حَصْبَاء عَلَيْهَا تُرَابٌ، فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ مِنْ ذَلِك التُّرَاب شئ، ثُمَّ رَدِفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:" فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ".
وَهَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ يَوْم بدر.
وَقد فعل عليه السلام مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ.
كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِذَا انْتَهَيْنَا
إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لما حَرَّضَ أَصْحَابَهُ عَلَى الْقِتَالِ وَرَمَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا رَمَاهُمْ بِهِ مِنَ التُّرَابِ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، صَعِدَ إِلَى الْعَرِيشِ أَيْضًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَوَقَفَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ وَمَعَهُمُ السُّيُوفُ خِيفَةَ أَنْ تَكُرَّ رَاجِعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ:" كَأَنِّي بِكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمُ؟ " قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ " إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كَرْهًا لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا ".
فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأَلْحِمَنَّهُ بِالسَّيْفِ.
فَبَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِعُمَرَ: " يَا أَبَا حَفْصٍ " قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي حَفْصٍ، " أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ! ".
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقه بِالسَّيْفِ فو الله لَقَدْ نَافَقَ.
فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إِلَّا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ.
فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا.
رضي الله عنه.
مَقْتَلُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أَبِي البخترى
لِأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمَكَّةَ.
كَانَ لَا يُؤْذِيه وَلَا يبلغهُ عَنهُ شئ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، فَلَقِيَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ.
وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ زَمِيلٌ لَهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ جُنَادَة بن مُلَيْحَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي لَيْثٍ.
قَالَ: وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجَذَّرُ: لَا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِكَ، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِكَ وَحْدَكَ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِذًا لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لَا يَتَحَدَّثُ عَنِّي نِسَاءُ قُرَيْش بِمَكَّة أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ! وَقَالَ أبوالبخترى وَهُوَ ينازل المجذر: لن يتْرك (1) ابْنُ حُرَّةٍ زَمِيلَهُ * حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ قَالَ: فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ.
وَقَالَ فِي ذَلِكَ: إِمَّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي * فَأَثْبِتِ النِّسْبَةَ إِنِّي مِنْ بَلِي الطَّاعِنِينَ برماح اليزنى * والطاعنين (2) الْكَبْشَ حَتَّى يَنْحَنِي بَشِّرْ بِيُتْمٍ مَنْ أَبُوهُ الْبَخْتَرِي * أَوْ بَشِّرَنْ بِمِثْلِهَا مِنِّي بَنِي أَنَا الَّذِي يُقَالُ أَصْلِي مِنْ بَلِي * أَطْعَنُ بِالصَّعْدَةِ (3) حَتَّى تَنْثَنِي وَأَعْبِطُ الْقِرْنَ بِعَضْبٍ مَشْرَفِي * أُرْزِمُ للْمَوْت كإرزام المرى (4) فَلَا ترى مُجَذَّرًا يَفْرِي فَرِي (5)
ثُمَّ أَتَى الْمُجَذَّرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جَهِدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ فَآتِيكَ بِهِ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَنِي، فَقَاتَلْتُهُ فَقتلته.
(1) ابْن هِشَام: لن يسلم (2) ابْن هِشَام: الضاربين (3) الصعدة: الرمْح.
(4)
أعبط: أقتل.
والقرن: النظير فِي الْحَرْب.
والعضب: السَّيْف الْقَاطِع.
وأرزم: أحن.
والمرى: النَّاقة الَّتِى يسْتَنْزل لَبنهَا على عسر.
(5)
يفرى فرى: يصنع صنعى.
(*)
فَصْلٌ فِي مَقْتَلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ وَحَدَّثَنِيهِ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو فَتَسَمَّيْتُ حِينَ أَسْلَمْتُ عَبْدَ الرَّحْمَن، فَكَانَ يلقانى وَنحن بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو أَرَغِبْتَ عَنِ اسْم سماكه أَبوك؟ قَالَ: فَأَقُولُ: نَعَمْ.
قَالَ (1) : فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ.
قَالَ: وَكَانَ إِذَا دَعَانِي يَا عَبْدَ عَمْرٍو لَمْ أُجِبْهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اجْعَلْ مَا شِئْتَ.
قَالَ: فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ.
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَكُنْتُ إِذَا مَرَرْتُ بِهِ قَالَ: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ.
فَأُجِيبُهُ فَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ.
حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيٍّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، قَالَ: وَمَعِي أَدْرَاعٌ لِي قَدِ اسْتَلَبْتُهَا فَأَنَا أَحْمِلُهَا، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ.
فَقُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ هَا اللَّهِ (2) .
قَالَ: فطرحت الادرع مِنْ يَدِي وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَبِيَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ مَا رَأَيْتُ
كَالْيَوْمِ قَطُّ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ (3) ؟ ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي بِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
(1) ابْن هِشَام: فَيَقُول.
(2)
ابْن هِشَام: هَا الله ذَا.
وَهَا: حرف تَنْبِيه ولفط الْجَلالَة مجرور بِحرف قسم مُضْمر قَامَ التَّنْبِيه مقَامه.
(3)
قَالَ ابْن هِشَام: يُرِيد بِاللَّبنِ أَن من أسرني افتديت مِنْهُ بِإِبِل كَثِيرَة اللَّبن.
(*)
أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ لى أُميَّة ابْن خلف وَأَنا بَينه وَبَين ابْنه آخِذا بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَمْزَةُ قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ.
قَالَ عبد الرَّحْمَن: فو الله إِنِّي لَأَقُودُهُمَا إِذْ رَآهُ بِلَالٌ مَعِي، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: رَأَسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا.
قَالَ قُلْتُ: أَي بِلَال، أسيرى، قَالَ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا.
قَالَ: ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا.
فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمَسَكَةِ (1) فَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ، قَالَ: فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهَا قَطُّ.
قَالَ: قُلْتُ: انج بِنَفْسِك وَلَا نجاء [بك](2) ، فو الله مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.
قَالَ: فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا.
قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا، فَجَعَنِي بِأَدْرَاعِي وَبِأَسِيرَيَّ! وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، فَقَالَ فِي الْوِكَالَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ، هُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كَاتَبْتُ أُميَّة ابْن خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي (3) بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتَبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَكَاتَبْتُهُ
عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ [مِنَ] الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ؟ ! لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ بن خلف.
فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ
(1) المسكة: السوار، أَي أحد قوابهم.
(2)
من ابْن هِشَام.
(3)
صاغيتى: خاصتي.
(*)
لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا حَتَّى تَبِعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ.
فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِك فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ.
سَمِعَ يُوسُفُ صَالِحًا وَإِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَيْنِهِمْ كُلِّهِمْ.
وَفِي مُسْنَدِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ.
مَقْتَلُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَقْبَلَ أَبُو جهل يَوْمئِذٍ يرتجز [وَهُوَ يُقَاتل](1) وَيَقُولُ: مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنِّي * بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدُوِّهِ أَمَرَ بِأَبِي جَهْلٍ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى.
وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ كَمَا حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا، قَدْ حَدَّثَنِي ذَلِكَ، قَالَا: قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ (2) وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُخْلَصُ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ (3) قَدَمَهُ بِنصْف سَاقه، فو الله مَا شَبَّهْتُهَا حِينَ طَاحَتْ إِلَّا بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى حِينَ يُضْرَبُ بِهَا.
قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي فَطَرَحَ يدى
(1) من ابْن هِشَام.
(2)
قَالَ ابْن هِشَام: الحرجة: الشّجر الملتف.
(3)
أطنت: أطارت.
(*)
فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي (1) الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ.
ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ، وَهُوَ عَقِيرٌ، مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ.
فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ، حِينَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا بَلَغَنِي: انْظُرُوا إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ وَنَحْنُ غُلَامَانِ وَكُنْتُ أَشَفُّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَجُحِشَ (2) فِي أَحدهمَا جَحْشًا لَمْ يَزَلْ أَثَرُهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي (3) مَرَّةً بِمَكَّةَ فَآذَانِي وَلَكَزَنِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي [قَالَ (4) ] أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (5) .
أَخْبَرَنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: قُلْتُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رويعى الْغنم.
ثُمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ.
فَقَالَ: " آللَّهِ الَّذِي
لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؟ ".
وَكَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقُلْتُ: نَعَمْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
ثُمَّ ألقيت رَأسه بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ الله.
(1) أجهضني: غلبنى.
(2)
جحش: انخدش.
(3)
ضبث: قبض عَلَيْهِ وَلَزِمَه.
(4)
لَيست فِي ابْن هِشَام.
(5)
ابْن هِشَام: أعمد من رجل قَتله قومه.
(*)
هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رحمه الله.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوب بن الْمَاجشون، عَن صَالح ابْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الصَّفِّ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَين أظلع (1) مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا.
فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي أَيْضًا مِثْلَهَا.
فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقلت: أَلا تريان؟ هَذَا صَاحبكُم الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ.
فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ:" أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ ".
قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ.
قَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالَا: لَا قَالَ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السيفين فَقَالَ: " كِلَاهُمَا قَتَلَهُ " وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجموح، وَالْآخر معَاذ بن عَفْرَاءَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدثنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ الْتَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ: يَا عَمِّ أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ.
فَقلت: يَا بن أَخِي مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: عَاهَدْتُ اللَّهَ إِنْ
رَأَيْتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ.
وَقَالَ لِي الْآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ.
قَالَ: فَمَا سرنى إننى بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ، فَشَدَّا عَلَيْهِ مثل الصقرين حَتَّى ضرباه هما ابْنا عفراء.
(1) أظلع: أَضْعَف.
(*)
وفى الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا من حَدِيث أَبى سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى عَلَيْهِ الله وَسلم " من ينظر مَاذَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ " قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ.
قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ قَالَ فَقلت: أَنْت أَبُو جهل؟ فَقَالَ: وَهل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ.
أَوْ قَالَ: قَتَلَهُ قَوْمُهُ! وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: هَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ! وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ صَرِيعٌ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَمَعَهُ سَيْفٌ جَيِّدٌ، وَمَعِي سيف ردئ، فَجَعَلْتُ أَنْقُفُ رَأْسَهُ بِسَيْفِي وَأَذْكُرُ نَقْفًا كَانَ يَنْقُفُ رَأْسِي بِمَكَّةَ حَتَّى ضَعُفَتْ (1) يَدُهُ، فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: عَلَى مَنْ كَانَتِ الدَّائِرَةُ، لَنَا أَوْ عَلَيْنَا؟ أَلَسْتَ رُوَيْعِيَنَا بِمَكَّةَ؟ قَالَ: فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَلْتُ: قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ.
فَقَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ فَاسْتَحْلَفَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
ثُمَّ قَامَ مَعِي إِلَيْهِمْ فَدَعَا عَلَيْهِم.
* * * وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ وَهُوَ يَذُبُّ النَّاسَ عَنْهُ بِسَيْفٍ لَهُ، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ.
قَالَ: هَلْ هُوَ إِلَّا رجل قَتله قومه!
فَجَعَلْتُ أَتَنَاوَلُهُ بِسَيْفٍ لِي غَيْرِ طَائِلٍ، فَأَصَبْتُ يَدَهُ، فَنَدَرَ (2) سَيْفُهُ، فَأَخَذْتُهُ فَضَرَبْتُهُ حَتَّى قَتَلْتُهُ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا أُقَلُّ (3) مِنَ الْأَرْضِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: " آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ " فَرَدَّدَهَا ثَلَاثًا.
قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ.
(1) ا: صفقت.
(2)
ندر: سقط.
(3)
أقل: أحمل.
(*)
قَالَ: فَخَرَجَ يَمْشِي مَعِي حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، هَذَا كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " فَنَفَلَنِي سَيْفَهُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: " آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ " فَقُلْتُ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا.
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ثُمَّ قَالَ: " انْطَلِقْ فَأَرِنِيهِ، فَانْطَلَقْتُ فَأَرَيْتُهُ، فَقَالَ: " هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، فَهُمَا شُرَكَاءُ فِي قَتْلِ فِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَأْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ " فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ: " الْمَلَائِكَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ ".
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَشِيرُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَيْتَهُ قَتِيلًا؟ فَحَلَفَ لَهُ، فَخَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنِ الشَّعْثَاءِ، امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حِين بشر بِالْفَتْح وَحين جئ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ، قَالَ حَدَّثَتْنِي شَعْثَاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدثنَا هِشَام، أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَدْرٍ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَضْرِبُهُ رَجُلٌ بِمِقْمَعَةٍ مَعَهُ حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِرَارًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، يُعَذَّبُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: سَمِعت أَبى، حَدثنَا الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا جَالِسًا فِي بَدْرٍ وَرَجُلٌ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" ذَاك أَبُو جهل وُكِّلَ بِهِ مَلَكٌ يَفْعَلُ بِهِ كُلَّمَا خَرَجَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا ذَاتِ الْكَرِشِ، فَقَالَ: أَنَا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِعَنَزَةٍ فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ.
قَالَ هِشَامٌ: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ ثُمَّ تَمَطَّيْتُ، فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ نَزَعْتُهَا وَقَدِ انْثَنَى طَرَفَاهَا، قَالَ عُرْوَةُ: فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ بن الْخطاب فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمَرَّ بِهِ، إِنِّي أَرَاكَ كَأَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا، أَرَاكَ تَظُنُّ أَنِّي قَتَلْتُ أَبَاكَ؟ إِنِّي لَوْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَعْتَذِرْ إِلَيْكَ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَكِنِّي قَتَلْتُ خَالِيَ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَمَّا أَبُوكَ فَإِنِّي مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ يَبْحَثُ بَحْثَ الثَّوْرِ بِرَوْقِهِ، فَحِدْتُ عَنْهُ وَقَصَدَ لَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ " وَقَاتَلَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ الْأَسَدِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِهِ حَتَّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ جِذْلًا مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ: " قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ ".
فَلَمَّا أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَزَّهُ فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ طَوِيلَ الْقَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى الْعَوْنَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَتَلَهُ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَأَنْشَدَ طُلَيْحَةُ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً مِنْهَا قَوْلُهُ:
عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا * وَعُكَّاشَةَ الْغَنْمِيَّ عِنْدَ مَجَالِ وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ طُلَيْحَةُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعُكَّاشَةُ هُوَ الَّذِي قَالَ حِينَ بَشَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ والحسان وَغَيرهمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنِي - " مِنَّا خَيْرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ " قَالُوا: وَمَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ " عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ " فَقَالَ ضرار
ابْن الازور: ذَاكَ رَجُلٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ " لَيْسَ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّهُ مِنَّا لِلْحِلْفِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ، حَدَّثَنِي عمر بن عُثْمَان الخشنى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّتِهِ، قَالَتْ: قَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي يَوْمَ بَدْرٍ فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُودًا فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَقَاتَلْتُ بِهِ حَتَّى هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عِدَّةٍ، قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ حَرِيشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضِيبًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينِ ابْنِ طَابٍ (1) فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ.
فَإِذَا سَيْفٌ جَيِّدٌ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى قتل يَوْم جسر أَبى عُبَيْدَة.
رَدُّهُ عليه السلام عَيْنَ قَتَادَةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدثنَا يحيى الحمانى، حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن سُلَيْمَان بن الْغَسِيلِ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:" لَا " فَدَعَاهُ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ، فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيب! وَفِي رِوَايَةٍ: فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنه لما أخبرهُ بِهَذَا الحَدِيث عَاصِم ابْن عمر بن قَتَادَة وَأنْشد مَعَ ذَلِك:
(1) ابْن طَابَ: ضرب من الرطب.
(*)
أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ * فَرُدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَيَّمَا رَدِّ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله عِنْدَ ذَلِكَ، مُنْشِدًا قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ، فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ فِي مَوْضِعِهِ حَقًّا: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ * شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا فَصْلٌ فِي قِصَّةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةِ بْنِ رَافع، عَن أَبِيه رَافع بن مَالك، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَجَمَّعَ النَّاسُ على أَبى بْنِ خَلَفٍ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ فَنَظَرْتُ إِلَى قِطْعَةٍ مِنْ دِرْعِهِ قَدِ انْقَطَعَتْ مِنْ تَحْتِ إِبِطِهِ، قَالَ: فطعنته بِالسَّيْفِ فِيهَا طعنة، وَرُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَفُقِئَتْ عَيْنِي، فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ودعا لى، فَمَا آذانى مِنْهَا شئ.
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ.
* * * قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنَادَى أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَقَالَ: أَيْنَ مَالِي يَا خَبِيثُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا شِكَّةٌ وَيَعْبُوبْ * وَصَارِمٌ يَقْتُلُ ضُلَّالَ الشِّيبْ يَعْنِي لَمْ يَبْقَ إِلَّا عُدَّةُ الْحَرْبِ وَحِصَانٌ وَهُوَ الْيَعْبُوبُ، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ شُيُوخَ الضَّلَالَةِ.
هَذَا يَقُولُهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جعل يمشى هُوَ
وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَيْنَ الْقَتْلَى: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " نُفَلِّقُ هَامًا ": فَيَقُولُ الصِّدِّيقُ: مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ * عَلَيْنَا، وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا! ذِكْرُ طَرْحِ رُءُوسِ الْكُفْرِ فِي بِئْر يَوْم بَدْرٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ، طُرِحُوا فِيهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُخْرِجُوهُ فَتَزَايَلَ [لَحْمُهُ] فَأَقَرُّوهُ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ.
فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟ ".
قَالَتْ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ ! فَقَالَ: " لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ ".
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ.
وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ عَلِمُوا.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وحَدثني حميد الطَّوِيل، عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عتبَة ابْن رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا؟.
(29 - السِّيرَة 2)
فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُونِي ".
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ.
فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا ".
قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا كَانَت عَائِشَة رضي الله عنها تَتَأَوَّلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، كَمَا قَدْ جُمِعَ مَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي جُزْءٍ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِبَعْضِ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا كَانَتْ تُعَارِضُ فِيهِ قَوْلَهُ: " وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور " وَلَيْسَ هُوَ بِمُعَارِضٍ لَهُ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ نَصًّا عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبره ببكاء أَهله.
فَقَالَت: رحمه الله! إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّهُ
لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ ".
قَالَتْ: وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ.
وَإِنَّمَا قَالَ: " إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ " ثُمَّ قَرَأَتْ: " إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى " و " مَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور " تَقول: حِين تبوأوا مَقَاعِدهمْ من النَّارِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ.
وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، كَمَا سَنُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدثنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: " هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا " ثُمَّ قَالَ: " إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ ".
وَذُكِرَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ.
ثُمَّ قَرَأَتْ: " إِنَّكَ لَا تسمع الْمَوْتَى " حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عبَادَة، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ (2) مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ (3) ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحلهَا، ثمَّ مَشى وَتَبعهُ أَصْحَابُهُ
وَقَالُوا مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ.
حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: يَا فُلَانَ بْنَ فلَان، وَيَا فلَان بن فلَان، يسركم (4) أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وعد رَبُّكُمْ حَقًّا! ".
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تكلم من أجساد لَا أَرْوَاح فِيهَا؟
(1) البُخَارِيّ: حَدَّثَنى.
(2)
الطوى: الْبِئْر المبنية بِالْحِجَارَةِ (3) الْعَرَصَة: الْموضع الْوَاسِع لَا بِنَاء فِيهِ.
(4)
البُخَارِيّ: أيسركم.
(*)
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ".
قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا طَلْحَةَ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَيَّفُوا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِم فَقَالَ:" يَا أُميَّة ابْن خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا ".
قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى " فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
* * * وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ * كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ (1) تَدَاوَلُهَا الرِّيَاحُ وَكُلُّ جَوْنٍ * مِنَ الْوَسْمِيِّ (2) مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وَأَمْسَتْ * يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ فَدَعْ عَنْكَ التَّذَكُّرَ كُلَّ يَوْمٍ * ورد حرارة الْقلب الكئيب (3)
(1) الوحى: الْكِتَابَة.
(2)
الوسمى: مطر الخريف.
(3)
ابْن هِشَام: الصَّدْر الكئيب.
(*)
وَخَبِّرْ بِالَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ * بِصِدْقٍ غَيْرِ إِخْبَارِ الْكَذُوبِ بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ * لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصِيبِ غَدَاةَ كَأَنَّ جَمْعَهُمُ حِرَاءٌ * بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ فَلَاقَيْنَاهُمُ مِنَّا بِجَمْعٍ * كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ أَمَامَ مُحَمَّدٍ قَدْ وَازَرُوهُ * عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الحروب بِأَيْدِيهِم صوارم مرهفات * وكل مجرب خاطى الْكُعُوبِ بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا * بَنُو النَّجَّارِ فِي الدِّينِ الصَّلِيبِ فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا * وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ (1) وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ * ذَوِي حَسَبٍ إِذَا نُسِبُوا حَسِيبِ يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا * قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِيَ كَانَ حَقًّا * وَأَمْرُ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ فَمَا نَطَقُوا وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا * صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُلْقَوْا فِي الْقَلِيبِ أُخِذَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَسُحِبَ فِي الْقَلِيبِ، فَنَظَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنِي - فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ فَقَالَ:" يَا حُذَيْفَةَ لَعَلَّكَ قَدْ دَخْلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شئ؟ " أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ لِلْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ، أَحْزَنَنِي ذَلِكَ.
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْرٍ وَقَالَ لَهُ خيرا.
(1) الجبوب: وَجه الارض.
(*)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" الَّذِينَ بدلُوا نعْمَة الله كفرا " قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
قَالَ عَمْرٌو: هم قُرَيْش، وَمُحَمّد نعْمَة الله:" وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار " قَالَ: النَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ آوَوْا نَبِيَّهُمُ * وَصَدَّقُوهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُفَّارُ إِلَّا خَصَائِصَ أَقْوَامٍ هُمُ سَلَفٌ * لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْصَارُ مُسْتَبْشِرِينَ بِقَسْمِ اللَّهِ قَوْلُهُمُ * لَمَّا أَتَاهُمْ كَرِيمُ الْأَصْلِ مُخْتَارُ أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أَمْنٍ وَفِي سَعَةٍ * نِعْمَ النَّبِيُّ وَنِعْمَ الْقَسْمُ وَالْجَارُ [فَأَنْزَلُوهُ بِدَارٍ لَا يَخَافُ بِهَا * مَنْ كَانَ جارهم دَارا هِيَ الدَّار (1) ] وقاسموهم بِهَا الْأَمْوَالَ إِذْ قَدِمُوا * مُهَاجِرِينَ وَقِسْمُ الْجَاحِدِ (2) النَّارُ سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمُ * لَوْ يعلمُونَ يَقِين الْعلم مَا سَارُوا والاهم (3) بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ * إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرَّارُ وَقَالَ إِنِّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ * شَرَّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْيُ وَالْعَارُ
ثُمَّ الْتَقَيْنَا فَوَلَّوْا عَنْ سَرَاتِهِمُ * مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بكر وَعبد الرَّزَّاق، قَالَا: حَدثنَا إِسْرَائِيل، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقَتْلَى قِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ الْعِيرَ لَيْسَ دونهَا شئ.
فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْوِثَاقِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ.
قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَكَ مَا وَعدك.
* * *
(1) من ابْن هِشَام.
(2)
الاصل: الْجَاهِل.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(3)
ابْن هِشَام: دلاهم.
(*)
وَقَدْ كَانَتْ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ سَرَاةِ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، هَذَا مَعَ حُضُورِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَكَانَ قَدَرُ اللَّهِ السَّابِقُ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنْ سَيُسْلِمَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا فَأَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَكِنْ قَتَلُوا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَدْ كَانَ فِي الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاقْتَلَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ، وَكُنَّ سَبْعًا فِيهِنَّ مِنَ الْأُمَمِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَرَاضِي وَالْمَزْرُوعَاتِ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَرَفَعَهُنَّ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ عَلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ، ثُمَّ قَلَبَهُنَّ مُنَكَّسَاتٍ وَأَتْبَعَهُنَّ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي سُوِّمَتْ لَهُمْ.
كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِك فِي قصَّة قوم لوط.
وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:" فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب، حَتَّى أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض "(1) الْآيَة.
وَقَالَ تَعَالَى: " قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وينصركم عَلَيْهِم ويشف صدرو قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ.
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ على من يَشَاء " (2) الْآيَة.
فَكَانَ قَتْلُ أَبِي جَهْلٍ عَلَى يَدَيْ شَابٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُوقَفُ عَلَيْهِ عبد الله بن مَسْعُود ومسك بلحيته وَصعد على صَدره حَتَّى قَالَ لَهُ: لقد رقيت مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا حَزَّ رَأْسَهُ وَاحْتَمَلَهُ حَتَّى وَضْعَهُ بَيْنَ يدى رَسُول الله.
(1) سُورَة مُحَمَّد 4.
(2)
سُورَة التَّوْبَة 14، 15.
(*)
فَشَفَى اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ هَذَا أَبْلَغَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَهُ صَاعِقَةٌ أَوْ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِ سَقْفُ مَنْزِلِهِ أَوْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمًا وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مَعَهُمْ تَقِيَّةً مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مُضْطَهَدًا قَدْ فَتَنُوهُ عَنْ إِسْلَامِهِ، جَمَاعَةً مِنْهُمُ: الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ، [وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ](1) وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قَالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ.
قَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ.
قَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.
فَأُولَئِكَ مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا " (2) .
وَكَانَ جُمْلَةُ الْأُسَارَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ أَسِيرًا، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْهُمْ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ عَمِّهِ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مَلَكَ
ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَعَارَضُوا بِهِ حَدِيثَ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ سَمُرَةَ فِي ذَلِكَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ فيهم أَبُو الْعَاصِ ابْن الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ أُمَيَّةَ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1) من ابْن هِشَام.
(2)
سُورَة النِّسَاء 97.
(*)
فَصْلٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْأُسَارَى: أَيُقْتَلُونَ أَوْ يُفَادَوْنَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَن أنس، وَذكر رجل، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بدر فَقَالَ: " إِن الله قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ ".
قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ عَاد النَّبِي فَقَالَ لِلنَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.
قَالَ: فَذَهَبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.
قَالَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لمسكم " الْآيَة.
انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَكَذَا على ابْن الْمَدِينِيِّ وَصَحَّحَهُ، مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابه
يَوْم بدر وهم ثلاثمة وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى قَوْلِهِ: فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا.
وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَة،
فَيَكُونَ مَا أَخَذْنَاهُ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا تَرَى يَا بْنَ الْخَطَّابِ؟ " قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ، قَرِيبٍ لِعُمَرَ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلَانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبنَا هوداة لِلْمُشْرِكِينَ، وَهَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ.
فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ: فَغَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وهما يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، قَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ".
لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ.
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا كَانَ لنبى أَن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عرض الدِّينَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ " مِنَ الْفِدَاءِ، ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ.
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثَ.
* * *
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَن عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ، قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ.
قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثمَّ أضرمه عَلَيْهِم نَارا.
قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا.
فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ.
وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلين من اللين وَإِنَّ اللَّهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بكر كَمثل إِبْرَاهِيم قَالَ: " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُور رَحِيم " وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ: " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم " وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ:" رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارًا " وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى قَالَ: " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الاليم " أَنْتُم عَالَة فَلَا يبْقين أَحَدٌ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ.
قَالَ عبد الله: فَقلت: يَا رَسُول إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ.
قَالَ: فَسَكَتَ.
قَالَ: فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
حَتَّى قَالَ: " إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ ".
قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " مَا كَانَ لنبى أَن يكون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عرض الدِّينَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم "
إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيُّ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى،
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا أُسِرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أُسِرَ الْعَبَّاسُ فِيمَنْ أُسِرَ، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ.
قَالَ: وَقَدْ أَوْعَدَتْهُ الْأَنْصَارُ أَنْ يَقْتُلُوهُ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِنِّي لَمْ أَنَمِ اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ عَمِّي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ زَعَمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ " قَالَ عُمَرُ: أَفَآتِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَأَتَى عُمَرُ الْأَنْصَارَ فَقَالَ لَهُمْ: أَرْسِلُوا الْعَبَّاسَ.
فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نُرْسِلُهُ.
فَقَالَ لَهُم عمر: فَإِن كَانَ لرَسُول الله رضَا؟ قَالُوا فَإِن كَانَ لَهُ رضَا فَخُذْهُ.
فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا صَارَ فِي يَدِهِ قَالَ لَهُ عمر: يَا عَبَّاس أسلم، فو الله لَئِن تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ.
وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُعْجِبُهُ إِسْلَامُكَ.
قَالَ: وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَشِيرَتُكَ فَأَرْسِلْهُمْ.
وَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ: اقْتُلْهُمْ.
فَفَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ الله:" مَا كَانَ لنبى أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الارض " الْآيَة.
ثمَّ قَالَ الْحَاكِم فِي صَحِيحه: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خَيِّرْ أَصْحَابَكَ فِي الْأُسَارَى إِنْ شَاءُوا الْفِدَاءَ وَإِنْ شَاءُوا الْقَتْلَ، عَلَى أَنْ يُقْتَلَ عَامًا قَابِلًا مِنْهُمْ مثلهم.
قَالُوا: الْفِدَاء أَو يقتل مِنَّا.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْسَلًا عَنْ عُبَيْدَةَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:" لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم " يَقُولُ: لَوْلَا أَنِّي لَا أُعَذِّبُ مَنْ عَصَانِي حَتَّى أَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الاعمش: سبق مِنْهُ أَلا يُعَذِّبَ أَحَدًا شَهِدَ بَدْرًا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ: " لَوْلَا كتاب من الله سبق " أَيْ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.
وَقَالَ الْوَالِبِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَبَقَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَغَانِمَ وَفِدَاءَ الْأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ بعده:" فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا ".
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ تَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدا وَطهُورًا، وحلت لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ".
وَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِسُودِ الرؤوس غَيْرِنَا ".
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا طيبا " فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَكْلِ الْغَنَائِمِ وَفِدَاءِ الْأُسَارَى.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن بن الْمُبَارك العبسى، حَدثنَا سُفْيَان بن حبيب حَدثنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ، وَهَذَا كَانَ أَقَلَّ مَا فُودِيَ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا فُودِيَ بِهِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَم.
* * *
وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالْخَلَفِ عَمَّا أُخِذَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيغْفر لكم " الْآيَة.
وَقَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ فَفَادَى نَفْسَهُ بِالْأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَآتَانِي اللَّهُ أَرْبَعِينَ عَبْدًا.
يَعْنِي كُلُّهُمْ يَتَّجِرُ لَهُ.
قَالَ: وَأَنَا أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ الَّتِي وَعَدَنَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ (1) ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأُسَارَى مَحْبُوسُونَ بِالْوِثَاقِ، بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاهِرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَا لَكَ لَا تَنَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " سَمِعْتُ أَنِينَ عَمِّي الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ " فَأَطْلَقُوهُ، فَسَكَتَ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا مُوسِرًا فَفَادَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمِائَةُ كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلٍ وَنَوْفَلٍ، وَعَنْ حَلِيفِهِ عُتْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، كَمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَمَّا ظَاهِرُكَ فَكَانَ عَلَيْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ وَسَيَجْزِيكَ " فَادَّعَى أَنَّهُ لَا مَالَ عِنْدَهُ.
قَالَ: " فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ وَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي فَهَذَا لِبَنِيَّ الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمَ؟ ".
فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا شئ مَا عَلِمَهُ إِلَّا أَنَا وَأُمُّ الْفَضْلِ.
رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ الزُّهْرِيّ: حَدَّثَنى أنس
(1) الاصل: معقل.
وَهُوَ تَحْرِيف.
وَهُوَ الْعَبَّاس بن عبد الله بن معبد بن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي المدنى.
(*)
ابْن مَالِكٍ، قَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا إيذن لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاسِ فَدَاءَهُ.
فَقَالَ: " لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُوَنَ مِنْهُ دِرْهَمًا ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُوتى بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ:" انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ " فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا.
فَقَالَ: خُذْ.
فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ.
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: لَا.
فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ.
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: لَا.
فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ.
فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ! فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: كَانَ فِدَاءُ الْعَبَّاسِ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلِ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِث بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كُلُّ رَجُلٍ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْآخَرِينَ فَقَالَ: " وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ
مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَالله عليم حَكِيم ".
فَصْلٌ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا سَبْعِينَ، وَالْقَتْلَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ كَمَا وَرَدَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ مِمَّا تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سِتَّةٌ وَمِنَ الْأَنْصَارِ
ثَمَانِيَةٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ.
هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ.
قَالَ: وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، فِي عَدَدِ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا.
أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بضعَة وَعِشْرُونَ رَجُلًا.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُونَ أَسِيرًا، وَكَانَتِ الْقَتْلَى مِثْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ زِيَادَةٌ عَلَى سَبْعِينَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ.
قَالَ: وَرَوَاهُ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزبير، قَالَ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي عَدَدِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأُسِرَ مِنْهُمْ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا سَاقَهُ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَراء
ابْن عَازِبٍ، قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَصَابُوا من الْمُشْركين يَوْم بدر أَرْبَعِينَ وَمِائَة، سبعين أَسِير، وَسَبْعِينَ قَتِيلًا.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ جُمْلَةَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ.
وَقَدْ صَرَّحَ قَتَادَةُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَاللَّهُ أعلم.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُمْ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِقَوْلِهِ عليه السلام " الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ ".
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كَمَا سَيَأْتِي التَّنْصِيصُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى، أَسْمَائِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَالَهُ أَيْضًا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَتَادَة وَإِسْمَاعِيل والسدى الْكَبِيرُ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ:" تَحَرُّوهَا لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِينَ فَإِنَّ صَبِيحَتَهَا يَوْمُ بَدْرٍ ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ مَا شَكَّ.
وَقَالَ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ ذَلِكَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ،
حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِمَّا لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ، أَوْ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ، وَإِمَّا لِسَبْعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
[وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ قُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ اللَّيْثِيِّ، مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ (30 - السِّيرَة 2)
وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادِهِمْ إِلَيْهِ، أَنَّهُ شَهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَذَكَرَ هَزِيمَتَهُمْ مَعَ قِلَّةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَجَعَلْتُ أَقُولُ فِي نَفْسِي: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرَّ مِنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ، وَاللَّهِ لَو خرجت نسَاء قُرَيْش بالسهاء (1) رَدَّتْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ قُلْتُ: لَوْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَنَظَرْتُ إِلَى مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسَيَ الْإِسْلَامُ، قَالَ فَقَدِمْتُهَا فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ الْمَسْجِدِ فِي مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا لَا أَعْرِفُهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ فَقَالَ: يَا قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ، أَنْتَ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرَّ مِنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ؟ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا خرج منى إِلَى أحد قطّ وَلَا تزمزمت بِهِ، إِلَّا شَيْئًا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي، فَلَوْلَا أَنَّك نبى مَا أطلعك عَلَيْهِ، هَلُمَّ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمْتُ (2) ] .
فَصْلٌ وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْمَغَانِمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ لِمَنْ تَكُونُ مِنْهُمْ.
وَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ حِينَ وَلَّى الْمُشْرِكُونَ: فَفِرْقَةٌ أَحْدَقَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْرُسُهُ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ.
وَفِرْقَةٌ سَاقَتْ وَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُونَ.
وَفِرْقَةٌ جَمَعَتِ الْمَغَانِمَ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ الْأَمَاكِنِ.
فَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَغْنَمِ مِنَ الْآخَرَيْنِ لِمَا صَنَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ الله من أَيْدِينَا
(1) السهاء: جمع سهوة.
وهى الْقوس المواتية.
(2)
سقط من ا.
(*)
فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ.
يَقُولُ: عَنْ سَوَاءٍ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " عَلَى السَّوَاءِ " أَيْ سَاوَى فِيهَا بَيْنَ الَّذِينَ جَمَعُوهَا، وَبَيْنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْعَدُوَّ، وَبَيْنَ الَّذِينَ ثَبَتُوا تَحْتَ الرَّايَاتِ، لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا فَرِيقًا مِنْهُمْ مِمَّنِ ادَّعَى التَّخْصِيصَ بِهَا وَلَا يَنْفِي هَذَا تَخْمِيسَهَا وَصَرْفَ الْخُمُسِ فِي مَوَاضِعِهِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَة وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ قَدْ تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ مِنْ مَغَانِمِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَا اصْطَفَى جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ كَانَ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَهَذَا قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ أَيْضًا.
* * * وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدثنَا ابْن إِسْحَاق، عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث بن عبد الله بن عَبَّاس بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ
وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْمغنم يحوزونه وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طلب الْعَدو: لَسْتُم بِأَحَق بِهِ مِنَّا، نَحْنُ نَفَيْنَا مِنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ، وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً فاشتغلنا بِهِ.
فَأنْزل الله: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين ".
فَقَسمهَا رَسُول الله بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَغَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، فَإِذَا أَقْبَلَ رَاجِعًا نَفَّلَ الثُّلُثَ، وَكَانَ يَكْرَهُ الْأَنْفَالَ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ آخِرَهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا فَلهُ كَذَا وَكَذَا.
فسارع فِي ذَلِكَ شُبَّانُ الرِّجَالِ وَبَقِيَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْغَنَائِمُ جَاءُوا يَطْلُبُونَ الَّذِي جعل لَهُم، قَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا، فَإِنَّا كُنَّا رَدْءًا لكم لَو انْكَشَفْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا.
فَتَنَازَعُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ، قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ آثارا أخر يطول بسطها هَا هُنَا.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ الْأَنْفَالَ مَرْجِعُهَا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَحْكُمَانِ فِيهَا بِمَا فِيهِ
الْمَصْلَحَةُ لِلْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:" قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَات بَيْنكُم وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين ".
ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْله:" وَاعْلَمُوا أَن مَا غَنِمْتُم من شئ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل " الْآيَة فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْأَنْفَالِ الَّذِي جَعَلَ مَرَدَّهُ إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيَّنَهُ تَعَالَى وَحكم فِيهِ بِمَا أَرَادَ تَعَالَى، وَهُوَ قَول أَبى زَيْدٍ.
وَقَدْ زَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ رحمه الله أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ عَلَى السَّوَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يُخَمِّسْهَا.
ثُمَّ نَزَلَ بَيَانُ الْخُمُسِ بَعْدَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا رَوَى الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنَّ فِي سِيَاقَ الْآيَاتِ قَبْلَ آيَةِ الْخُمُسِ وَبَعْدَهَا كُلُّهَا فِي غَزْوَة بدر، فيقتضى أَن أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ جُمْلَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُتَفَاصِلٍ بِتَأَخُّرٍ يَقْتَضِي نَسْخَ بَعْضِهِ بَعْضًا.
ثُمَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ شَارِفَيْهِ اللَّذَيْنِ اجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا حَمْزَةُ، إِنَّ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ، مَا يَرُدُّ صَرِيحًا عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ خُمِّسَتْ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الرَّاجِحُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي رُجُوعِهِ عليه السلام مِنْ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهَا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَقَامَ عليه السلام بِعَرْصَةِ بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ رَحِيلُهُ مِنْهَا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، فَرَكِبَ نَاقَتَهُ وَوَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَرَّعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ سُحِبُوا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
ثُمَّ سَارَ عليه السلام وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْغَنَائِمُ الْكَثِيرَةُ، وَقَدْ بَعَثَ عليه السلام بَيْنَ يَدَيْهِ بَشِيرَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَجَحَدَهُ وَبِهِ كَفَرَ، أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلَى أَعَالِي الْمَدِينَةِ، وَالثَّانِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى السافلة.
قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ زَوْجُهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه قَدِ احْتَبَسَ عِنْدَهَا يُمَرِّضُهَا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ فِي بَدْرٍ.
قَالَ أُسَامَةُ: فَلَمَّا قَدِمَ أَبِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ جِئْتُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْمُصَلَّى وَقَدْ غَشِيَهُ النَّاسُ وَهُوَ يَقُولُ: قُتِلَ عتبَة بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ.
قَالَ: قلت: يَا أَبَة أَحَقٌّ هَذَا؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَة ابْن زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبِشَارَةِ، قَالَ أُسَامَةُ: فَسَمِعْتُ الْهَيْعَةَ فَخَرَجْتُ، فَإِذَا زَيْدٌ قَدْ جَاءَ بالبشارة، فو الله مَا صَدَّقْتُ حَتَّى رَأَيْنَا الْأُسَارَى.
وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُثْمَانَ بِسَهْمِهِ.
* * * وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرْجِعَهُ مِنْ بَدْرٍ الْعَصْرَ بِالْأُثَيْلِ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَةً تَبَسَّمَ، فَسُئِلَ عَنْ تَبَسُّمِهِ فَقَالَ: يرى مِيكَائِيلُ وَعَلَى جَنَاحِهِ النَّقْعُ
فَتَبَسَّمَ إِلَيَّ وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ.
وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ عَلَى فرس أُنْثَى مَعْقُود الناصية وَقد عصم ثنييه الْغُبَارُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبِّي بَعَثَنِي إِلَيْك وَأَمرَنِي أَلا أُفَارِقَكَ حَتَّى تَرْضَى، هَلْ رَضِيتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالُوا: وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ الله ابْن رَوَاحَةَ مِنَ الْأُثَيْلِ فَجَاءَا يَوْمَ الْأَحَدِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى، وَفَارَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنَ الْعَقِيقِ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُنَادِي عَلَى رَاحِلَتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَبْشِرُوا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِهِمْ، قُتِلَ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَقُتِلَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو.
قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَنَحَوْتُهُ فَقلت: أحقا يَا بْنَ رَوَاحَةَ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَغَدًا يَقْدَمُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَسْرَى مُقَرَّنِينَ.
ثُمَّ تَتَبَّعَ دُورَ الْأَنْصَارِ بِالْعَالِيَةِ يبشرهم دَارا دَارا، وَالصبيان ينشدون مَعَهُ يَقُولُونَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَصْوَاءِ يُبَشِّرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُصَلَّى صَاحَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: قتل عُتَيّة وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجَّاجِ، وَقُتِلَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَزَمْعَةُ بن الاسود، وَأسر سُهَيْل ابْن عَمْرٍو ذُو الْأَنْيَابِ، فِي أَسْرَى كَثِيرٍ.
فَجَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُصَدِّقُونَ زَيْدًا وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَّا فَلًّا (1) حَتَّى غَاظَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ وَخَافُوا.
وَقَدِمَ زَيْدٌ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَقِيعِ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِأُسَامَةَ: قُتِلَ صَاحِبُكُمْ وَمَنْ مَعَهُ.
وَقَالَ آخَرُ لَأَبِي لُبَابَةَ: قَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُكُمْ تَفَرُّقًا لَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ أبدا، وَقد قتل عَلَيْهِ أَصْحَابه، قتل مُحَمَّدٌ، وَهَذِهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وَهَذَا زَيْدٌ لَا يدرى مَاذَا يَقُولُ مِنَ الرُّعْبِ، وَجَاءَ فَلًّا.
فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يُكَذِّبُ اللَّهُ قَوْلَكَ.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إِلَّا فَلًّا.
قَالَ أُسَامَةُ: فَجِئْتُ حَتَّى خَلَوْتُ بِأَبِي فَقُلْتُ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ حَقٌّ مَا أَقُولُ يَا بُنَيَّ.
فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وَرَجَعْتُ إِلَى ذَلِكَ الْمُنَافِقِ فَقُلْتُ: أَنْتَ الْمُرْجِفُ بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ لَنُقَدِّمَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ إِذَا قَدِمَ فَلَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ.
فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ شئ سمعته من النَّاس يَقُولُونَهُ.
قَالَ: فجِئ بِالْأَسْرَى وَعَلَيْهِمْ شُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا، وهم تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ رجلا الَّذين أحصوا.
(1) فَلَا: مُنْهَزِمًا.
(*)
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُمْ سَبْعُونَ فِي الْأَصْلِ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ لَا شَكَّ فِيهِ.
قَالَ: وَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرَّوْحَاءِ رُءُوس النَّاس يهنئون بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْفَرَكَ وَأَقَرَّ عَيْنَكَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًّا، وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عِيرٌ، وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ عَدُوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: " صَدَقْتَ ".
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ الْأُسَارَى، وَفِيهِمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى النَّفْلِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ.
فَقَالَ رَاجِزٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: [يُقَالُ إِنَّهُ] هُوَ عَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ: أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ * لَيْسَ بِذِي الطَّلْحِ لَهَا معرس (1)
وَلَا بصحراء عُمَيْر مَحْبِسُ * إِنَّ مَطَايَا الْقَوْمِ لَا تُحَبَّسُ فَحَمْلُهَا عَلَى الطَّرِيقِ أَكْيَسُ * قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَفَرَّ الْأَخْنَسُ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ نَزَلَ عَلَى كَثِيبٍ بَيْنَ الْمَضِيقِ وَبَيْنَ النَّازِيَّةِ يُقَالُ لَهُ سَيَرٌ إِلَى سَرْحَةٍ بِهِ، فَقَسَمَ هُنَالِكَ النَّفَلَ الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: مَا الَّذِي تُهَنِّئُونَنَا بِهِ؟ ! وَاللَّهِ إِنْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا كَالْبُدْنِ الْمُعَقَّلَةِ فَنَحَرْنَاهَا.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: " أَيِ ابْنَ أَخِي أُولَئِكَ الملا ".
(1) معرس: مقَام.
(*)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالرُّؤَسَاءَ.
مَقْتَلُ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُمَا اللَّهُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النَّضر ابْن الْحَارِثِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ عُقْبَةُ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ: فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: " النَّارُ! ".
وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
وَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْ مِنَ الْأُسَارَى أَسِيرًا غَيْرَهُ.
قَالَ: وَلَمَّا أَقْبَلَ إِلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلَامَ أُقْتَلُ مِنْ بَين من هَا هُنَا؟ قَالَ: عَلَى عَدَاوَتِكَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَقَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ عُقْبَةَ قَالَ: أَتَقْتُلُنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلْفَ الْمَقَامِ، فَوَضَعَ رَجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَغَمَزَهَا فَمَا رَفَعَهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنَيَّ سَتَنْدُرَانِ، وَجَاء مرّة أُخْرَى بسلا شَاةٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ بَلْ قَتَلَ عُقْبَةَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعلم.
قُلْتُ: كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَكْثَرِهِمْ كُفْرًا وَعِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا وَهِجَاءً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ فَعَلَ! قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَالَتْ قُتَيْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فِي مَقْتَلِ أَخِيهَا (1) يَا رَاكِبًا إِنَّ الْأُثَيْلَ (2) مَظِنَّةٌ * مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً * مَا إِنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إِلَيْك وعبرة مسفوحة * جَادَتْ بوابلها وَأُخْرَى تَخْنُقُ هَلْ يَسْمَعَنَّ النَّضْرُ إِنْ نَادَيْتُهُ * أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لَا يَنْطِقُ أَمُحَمَّدٌ يَا خير ضئى كَرِيمَةٍ * مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ (3) مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا * مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ أَوْ كُنْتَ قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلَيُنْفَقَنْ * بِأَعَزِّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفِقُ (4)
وَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرْتَ قَرَابَةً * وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ * لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَالِكَ (5) تُشْقَقُ صَبْرًا يُقَادُ إِلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَبًا * رَسْفَ الْمُقَيَّدِ وَهْوَ عَانٍ مُوثَقُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الشِّعْرُ قَالَ:" لَوْ بَلَغَنِي هَذَا قَبْلَ قَتْلِهِ لَمَنَنْتُ عَلَيْهِ! ".
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ تَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَبُو هِنْدٍ مَوْلَى فَرْوَة بن عَمْرو البياضى حجامه عليه السلام، وَمَعَهُ زق خمر (6) مَمْلُوء حَيْسًا،
(1) ابْن هِشَام تبكيه.
(2)
الاثيل، مَوضِع قرب الْمَدِينَة بَين بدر ووادى الصَّفْرَاء.
(3)
الضئى: الاصل.
وتروى: ضنء.
والمعرق الْكَرِيم (4) الاغانى 1 / 19: لَو كنت قَابل فديَة فلنأتين * بِأَعَز مَا يغلو لديك وَينْفق (5) ابْن هِشَام: هُنَاكَ (6) ابْن هِشَام: ولقى رَسُول الله.
بحميت مَمْلُوء حَيْسًا.
والحميت: الزق (*)
وَهُوَ التَّمْرُ وَالسَّوِيقُ بِالسَّمْنِ، هَدِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ مِنْهُ وَوَصَّى بِهِ الْأَنْصَارَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْأُسَارَى بِيَوْمٍ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ:" اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا ".
قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي
الْأُسَارَى، قَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي فَقَالَ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ.
قَالَ أَبُو عَزِيزٍ: فَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إِلَّا نَفَحَنِي بِهَا فَأَسْتَحِي فَأَرُدُّهَا فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا! قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ هَذَا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بَعْدَ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلَمَّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبٌ لِأَبِي الْيُسْرِ، وَهُوَ الَّذِي أَسَرَهُ مَا قَالَ، قَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ: يَا أَخِي هَذِهِ وصاتك بِي! فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنَّهُ أَخِي دُونَكَ.
فَسَأَلَتْ أُمُّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِيَ بِهِ قُرَشِيٌّ، فَقِيلَ لَهَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَبَعَثَتْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَدَتْهُ بِهَا.
قُلْتُ: وَأَبُو عَزِيزٍ هَذَا اسْمُهُ زُرَارَةُ، فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي غَابَةِ الصَّحَابَةِ، وَعَدَّهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ.
وَكَانَ أَخَا مُصْعَبِ بن عُمَيْر لابيه، وَكَانَ لَهُمَا أَخٌ آخَرُ