الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: أما أَبُو يَاسر واسْمه حيى بْنُ أَخْطَبَ فَلَا أَدْرِي مَا آلَ إِلَيْهِ أمره، وَأما حيى ابْن أَخْطَبَ وَالِدُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ فَشَرِبَ عَدَاوَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يزل ذَلِك دأبه لَعنه الله حَتَّى قُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قَتَلَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ.
كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فصل وَلما ارتحل عليه السلام مِنْ قُبَاءَ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَدْرَكَهُ وَقْتُ الزَّوَالِ وَهُوَ فِي دَارِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ هُنَالِكَ، فِي وَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي رانواناء.
فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَمْ يَكُنْ يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى
يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَة ذَات خطْبَة وإعلان بمواعظة، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشَدَّةِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ.
ذِكْرُ خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ فِي بنى سَالم بن عَمْرو بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنهم: " الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَالنُّورِ وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى
فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ: وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الْأَجَلِ.
مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.
وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ.
فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرَى، وَإِنَّهُ تَقْوَى لِمَنْ عَمِلَ بِهِ على وَجل ومخافة، وَعون صدق على مَا تَبْتَغُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ.
وَمَنْ يُصْلِحِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لَا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، ويحذركم الله نَفسه وَالله رءوف بِالْعِبَادِ.
وَالَّذِي صَدَقَ قَوْلُهُ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، لَا خُلْفَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: " مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ للعبيد ".
وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهُ " مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا "" وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِّي مَقْتَهُ، وَتُوقِّي عُقُوبَتَهُ، وَتُوقِّي سَخَطَهُ، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُبَيِّضُ الْوَجْهَ، وَتُرْضِي الرَّبَّ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَةَ.
خُذُوا بِحَظِّكُمْ وَلَا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، قَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلِيَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ، فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ، وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي السَّنَدِ إِرْسَالٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابٌ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ بن مُحَمَّد بن عُثْمَان والاخنس بْنِ شَرِيقٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَن قَامَ فيهم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ، لَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِكَ
رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالًا وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَيَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَاَلِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ.
وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (1) وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ".
ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدَ لله أَحْمَده
(1) ابْن هِشَام: وَالسَّلَام عَلَيْكُم وعَلى رَسُول الله.
(*)
وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ](1) ، إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ [وَلَا تَمَلُّوا كَلَامَ اللَّهِ وَذكره وَلَا تقسى عَنهُ قُلُوبكُمْ (1) ] فَإِنَّهُ من [كل مَا يخلق الله](1) يَخْتَارُ اللَّهُ وَيَصْطَفِي، فَقَدْ سَمَّاهُ خِيَرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَخِيَرَتَهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كُلِّ مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللَّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ بَيْنَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ.
وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ".
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا مُقَوِّيَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الالفاظ.
فصل فِي بِنَاء مَسْجده الشريف فِي مُدَّة مقَامه عليه السلام بِدَارِ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِهَا، فَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَقَلُّ مِنْ
شَهْرٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يحدث فَقَالَ حَدثنَا أبوالتياح يزِيد بن حميد الضبى، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُم بَنو عَمْرو بن
(1) من ابْن هِشَام.
(*)
عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفَنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ.
قَالَ: فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ.
قَالَ: ثمَّ إِنَّه أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا.
فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثمنه إِلَّا إِلَى الله عزوجل.
قَالَ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ (1) ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وبالنخل فَقطع.
قَالَ: فصفوا النَّحْل قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَجَعَلُوا ينقلون ذَلِك الصخر وَثمّ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبى عبد الصَّمد وَعبد الْوَارِث ابْن سَعِيدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، أَن الْمَسْجِد الذى كَانَ مِرْبَدًا - وَهُوَ بَيْدَرُ التَّمْرِ - لِيَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَسَاوَمَهُمَا
فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَأَبَى حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وَبَنَاهُ مَسْجِدًا.
قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ ينْقل مَعَهم التُّرَاب:
(1) الخرب: جمع خربة ككلمة وكلم.
(*)
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ * هَذَا أَبَرُّ رَبنَا وأطهر وَيَقُول: لَا هم إِن الْأجر أجر الْآخِرَة * فَارْحَمْ الْأَنْصَار والمهاجره.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَة عوضهما مِنْهُ نخلا لَهُ فِي بَيَاضَةَ قَالَ: وَقِيلَ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قُلْتُ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمِرْبَدَ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حجر معَاذ بن عَفْرَاءَ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الضبى، حَدثنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ مَعَهُمْ يَتَنَاوَلُ اللَّبِنَ حَتَّى اغْبَرَّ صَدْرُهُ، فَقَالَ: ابْنُوهُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى.
فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ: مَا عَرِيشُ مُوسَى؟ قَالَ: إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ بَلَغَ الْعَرِيشَ، يَعْنِي السَّقْفَ.
وَهَذَا مُرْسَلٌ وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُبَادَةَ، أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنِ هَذَا الْمَسْجِدَ وَزَيِّنْهُ، إِلَى مَتَى نُصَلِّي تَحْتَ هَذَا الْجَرِيدِ؟ فَقَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن حَاتِم، حَدثنَا عبد الله بن مُوسَى، عَن سِنَان، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَت
سَوَارِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، أَعْلَاهُ مُظَلَّلٌ بجريد النّخل، ثمَّ إِنَّهَا تخربت فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَبَنَاهَا بِجُذُوعِ وَبِجَرِيدِ النّخل، ثمَّ إِنَّهَا تخربت فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ فَبَنَاهَا بِالْآجُرِّ، فَمَا زَالَتْ ثَابِتَةً حَتَّى الْآنَ.
وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبى صَالح، حَدثنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خشب النَّحْل، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، وَغَيَّرَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ (1) وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ (2) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ.
قُلْتُ: زَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ".
وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ الْمَوْجُودُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ بعده، فيستدل بذلك على الرَّاجِح من قَول الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْمَزِيدِ، فَتَدْخُلُ الزِّيَادَةُ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْمَسْجِدِ مِنْ تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ زِيدَ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ، زَادَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ عُمَرُ بْنُ
(1) الْقِصَّة: الجص.
(2)
فِي ا: بِالسِّلَاحِ وَهُوَ تَصْحِيف.
والساج: اسْم لنَوْع من الشّجر.
(*)(20 - السِّيرَة 2)
عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأدْخل الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة فِيهِ.
ثُمَّ زِيدَ زِيَادَةً كَثِيرَةً فِيمَا بَعْدُ، وَزِيدَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَتَّى صَارَتِ الرَّوْضَةُ وَالْمِنْبَرُ بَعْدَ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ الْيَوْمَ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ وَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ، فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَدَأَبُوا فِيهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ * لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ: لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَه * اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرين والانصار ".
قَالَ: فَدخل عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ بِاللَّبِنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَتَلُونِي يَحْمِلُونَ عَلَيَّ مَا لَا يَحْمِلُونَ.
قَالَتْ: أُمُّ سَلَمَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْفُضُ وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ، وَكَانَ رَجُلًا جَعْدًا، وَهُوَ يَقُولُ:" وَيْحَ ابْنِ سُمَيَّةَ لَيْسُوا بِالَّذِينِ يَقْتُلُونَكَ، إِنَّمَا تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ مُعْضَلٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَبَيْنَ أُمِّ سَلَمَةَ،
وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ، يَعْنِي ابْنَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أُمِّهِمَا خَيْرَةَ مَوَلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لعمَّار، وَهُوَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ:" وَيْحٌ لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ! تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، جَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُ كُلٌّ وَاحِدٍ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ، لَبِنَةً عَنْهُ وَلَبِنَةً عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ظَهْرَهُ وَقَالَ:" ابْنَ سُمَيَّةَ، لِلنَّاسِ أَجْرٌ وَلَكَ أَجْرَانِ، وَآخِرُ زَادِكَ شَرْبَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَتَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ.
فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ سلم فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ! تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ " قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ.
لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ:" تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ [قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ
جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، جَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ:" بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ! تَقْتُلُهُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَن أَبى مُسلم، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (1) ] قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ " بُؤْسًا لَكَ يَا بن سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَفَرَ الْخَنْدَقَ كَانَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ نَاقِهٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ وَيَقُولُ: " وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا سَمِعَهُ بِنَفْسِهِ وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " الْخَنْدَقَ " وَهْمًا، أَوْ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَفِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: حَمْلُ اللَّبِنِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاقِلِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، حَيْثُ أَخْبَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَقَدْ قَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ، وَعَمَّارٌ مَعَ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْعرَاق.
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِالْأَمْرِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ بُغَاةً تَكْفِيرُهُمْ، كَمَا يُحَاوِلُهُ جَهَلَةُ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا بُغَاةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيمَا تَعَاطَوْهُ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، بَلِ
الْمُصِيب لَهُ أَجْرَانِ والمخطئ لَهُ أجر.
(1) سقط من ا.
(*)
وَمن زَاد فِي هَذَا الحَدِيث بعد: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ": " لَا أَنَالَهَا اللَّهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَقَدِ افْتَرَى فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْهَا إِذْ لَمْ تُنْقَلْ مِنْ طَرِيقٍ تُقْبَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ " فَإِنَّ عَمَّارًا وَأَصْحَابَهُ يَدْعُونَ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا بِالْأَمْرِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَوْزَاعًا عَلَى كُلِّ قُطْرٍ إِمَامٌ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ لَازِمُ مَذْهَبِهِمْ وَنَاشِئٌ عَنْ مَسْلَكِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يقصدونه.
وَالله أعلم.
وَالْمَقْصُود هَا هُنَا إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، عَلَى بَانِيهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
* * * وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظ إملاء، حَدثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ شريك، حَدثنَا نعيم بن حَمَّاد، حَدثنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هَؤُلَاءِ وُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدِي ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيِّ، عَنْ حَشْرَجٍ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ سَفِينَةَ.
قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَضَعَ حَجَرًا.
ثُمَّ قَالَ " لِيَضَعْ أَبُو بَكْرٍ حَجَرًا إِلَى جَنْبِ حَجَرِي، ثُمَّ لْيَضَعْ عُمَرُ حَجَرَهُ إِلَى جَنْبِ حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ
لْيَضَعْ عُثْمَانُ حَجَرَهُ إِلَى جَنْبِ حَجَرِ عُمَرَ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِي ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا السِّيَاقِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَالْمَعْرُوفُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ حَشْرَجِ بْنِ نُبَاتَةَ الْعَبْسِيِّ، وَعَنْ بَهْزٍ وَزيد بن الْحباب وَعبد الصَّمد وَحَمَّاد بْنِ سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُولُ:" الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْمُلْكُ " ثُمَّ قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِين، وَخِلَافَة عُثْمَان اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ.
هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَلَفَظُهُ " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا " وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ.
* * * قُلْتُ: وَلَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا بُنِيَ مِنْبَرٌ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى جِذْعٍ عِنْدَ مُصَلَّاهُ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، فَلَمَّا اتُّخِذَ لَهُ عليه السلام الْمِنْبَرُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَدَلَ إِلَيْهِ ليخطب عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاوز ذَلِكَ الْجِذْعَ خَارَ ذَلِكَ الْجِذْعُ وَحَنَّ حَنِينَ النُّوقِ الْعِشَارِ، لِمَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْ خُطَبِ الرَّسُولِ عليه السلام عِنْدَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحْتَضَنَهُ حَتَّى سَكَنَ كَمَا يَسْكُنُ الْمَوْلُودُ الَّذِي يَسْكُتُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهم.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ بعد مَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَوْقًا إِلَيْهِ، أَوَ لَيْسَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ أَحَقَّ أَنْ يَشْتَاقُوا إِلَيْهِ؟ !
تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَالْمَحَلِّ المنيف قَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا يحيى بن أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ الْخِدْرِي: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْعَمْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ.
فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ " لِمَسْجِدِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ: " فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ " يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ بِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبد الرَّحْمَن أَنه سَأَلَ عبد الرَّحْمَن ابْن أَبى سعيد، كَيفَ سَمِعت أَبَاك فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ أَبِي: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: " هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَان التَّمِيمِي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ.
فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَاهُ فَقَالَ: " هُوَ مَسْجِدِي هَذَا ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ عمر لن بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا ".
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَعَلَّهَا تَقْرُبُ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ التِي تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ " وَذَكَرَهَا.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ".
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِإِسْنَاد حسن زِيَاد حَسَنَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ " فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث يحيى الْقطَّان، عَن حبيب، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي ".
وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَسَنُورِدُهَا فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ ذَاكَ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَهَذَا بناه مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَرَّرُوا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ فِي بلد حرمه الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَحَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام، وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ فِي غَيره، وَبسط هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَصْلٌ وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حول مَسْجده الشريف حجرا لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنَ قَصِيرَةَ الْبِنَاءِ قَرِيبَةَ الْفِنَاءِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ غُلَامًا مَعَ أُمِّهِ خَيْرَةَ مُوْلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ، لَقَدْ كُنْتُ أَنَالُ أَطْوَلَ سقف فِي حجرَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي.
قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ شَكِلًا ضَخْمًا طُوَالًا.
رحمه الله.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْض: كَانَت مساكنه عليه السلام مَبْنِيَّةً مِنْ جَرِيدٍ عَلَيْهِ طِينٌ، بَعْضُهَا مِنْ حِجَارَةٍ مَرْضُومَةٍ، وَسُقُوفُهَا كُلُّهَا مِنْ جَرِيدٍ.
وَقَدْ حكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ مَا تقدم.
وَكَانَتْ حُجَرُهُ مِنْ شَعَرٍ مَرْبُوطَةً بِخَشَبٍ مِنْ عرعر.
قَالَ: وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ بَابَهُ عليه السلام كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَبْوَابِهِ حَلَقٌ.
قَالَ: وَقَدْ أُضِيفَتِ الْحُجَرُ كُلُّهَا بَعْدَ مَوْتِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ.
* * * قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا: وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ الدَّيْلِيُّ إِلَى مَكَّةَ بَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بكر زيد بن حَارِثَة وَأَبا رَافع مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَأْتُوا بِأَهَالِيهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَبَعَثَا مَعَهُمْ بِحِمْلَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِيَشْتَرُوا بِهَا إِبِلًا مِنْ قُدَيْدٍ، فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِبِنْتَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومَ وَزَوْجَتَيْهِ سَوْدَةَ وَعَائِشَةَ، وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ، وَأَهْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآلِ أَبِي بَكْرٍ صُحْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ شَرَدَ بِعَائِشَةَ وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ الْجَمَلُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَجعلت أم رُومَان تَقول: وَا عروساه، وَا بنتاه.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَرْسِلِي خِطَامَهُ، فَأَرْسَلْتُ خِطَامَهُ فَوَقَفَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَسَلَّمَنَا اللَّهُ عزوجل.
فَتَقَدَّمُوا فَنَزَلُوا بِالسَّنْحِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِمَتْ مَعَهُمْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
فَصْلٌ فِيمَا أَصَابَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَقَدْ سَلِمَ الرَّسُولُ مِنْهَا بحول الله وقوته ودعا ربه
فأزاحها الله عَن مدينته قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا عبد الله بن وهب بن يُوسُف، حَدثنَا مَالك بن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وبلال، قَالَت فَدخلت عَلَيْهِمَا فَقلت: يَا أَبَت كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ (1) وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ * وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارَكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ (2) ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ هِشَامٍ مُخْتَصَرًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ بَعْدَ شِعْرِ بِلَالٍ.
ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أخرجونا إِلَى أَرض الوباء.
(1) الاذخر: الْحَشِيش الاخضر، أَو حشيش طيب الرَّائِحَة.
والجليل: نبت ضَعِيف.
(2)
الْجحْفَة: قَرْيَة جَامِعَة على اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ ميلًا من مَكَّة.
وَكَانَ بهَا حِينَئِذٍ يهود.
(*)
فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الله حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَفِي مُدِّهَا، وصححها لنا وانقل حماها إِلَى الْجحْفَة ".
قَالَت: وَقدمنَا الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، وَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا، يَعْنِي
مَاءً آجِنًا.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَعمر بن عبد الله بن عُرْوَة ابْن الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ مِنَ الْحُمَّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَن نبيه، قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَبِلَالٌ مَوْلَيَا أَبَى بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَأَصَابَتْهُمْ الْحمى، فَدخلت عَلَيْهِم أدعوهم وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، وَبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْوَعْكِ، فَدَنَوْتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ: كَيْفَ تجدك يَا أَبَت؟ فَقَالَ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أدنى من شِرَاك نَعله قَالَت: فَقلت: وَاللَّهِ مَا يَدْرِي أَبَى مَا يَقُولُ.
قَالَتْ: ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ * إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ * كَالثَّوْرِ يَحْمِي جلده بروقه قَالَ: فَقلت: وَالله مَا يدرى مَا يَقُولُ، قَالَتْ: وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْحُمَّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ * وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ وَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيَهْذُونَ وَمَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَبَارَكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى مَهْيَعَةَ " وَمَهْيَعَةُ هِيَ الْجحْفَة.
وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا يُونُس، حَدثنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة اشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِيَادَتِهِمْ فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ * وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَسَأَلْتُ عَامِرًا فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ * إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ وَسَأَلَتْ بِلَالًا فَقَالَ: يَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ:" اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَفِي مُدِّهَا، وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى مَهْيَعَةَ " وَهِيَ الْجُحْفَةُ فِيمَا زَعَمُوا.
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ طَرِيق عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِثِ عَنْهَا، مِثْلَهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: حَدَّثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّار، حَدثنَا يُونُس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، وَوَادِيهَا بُطْحَانُ نَجْلٌ.
قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ وَبَاؤُهَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ إِذا كَانَ الْوَادي وبيئا فَأَشْرَف عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ قِيلَ لَهُ أَنْ يَنْهَقَ نَهِيقَ الْحِمَارِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَبَاءُ ذَلِكَ الْوَادِي.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَة: لعمري لَئِن عبرت مِنْ خِيفَةِ الرَّدَى * نَهِيقَ الْحِمَارِ إِنَّنِي لَجَزُوعُ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَت بمهيعة، وهى الْجحْفَة.
فَأَوَّلتهَا أَن وباء الْمَدِينَة نقل إِلَى مهيعة، وهى الْجحْفَة ".
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ:" وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ ".
قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ بِالْجُحْفَةِ فَلَا يَبْلُغُ الْحلم حَتَّى تصرعه الْحمى.
وَرَوَاهُ اليهقى فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة وهى وبيئة، فَأصَاب أَصْحَابه بهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ حَتَّى أَجْهَدَهُمْ ذَلِكَ، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ، يَعْنِي مَكَّةَ، عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ دُعَاؤُهُ عليه السلام بِنَقْلِ الْوَبَاءِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ رُفِعَ وَبَقِيَ آثَارٌ مِنْهُ قَلِيلٌ، أَوْ أَنَّهُمْ
بَقُوا فِي خُمَارِ مَا كَانَ أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابَتْهُم حمى الْمَدِينَة حَتَّى جهدو مَرَضًا، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى كَانُوا وَمَا يُصَلُّونَ إِلَّا وَهُمْ قُعُودٌ.
قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يُصَلُّونَ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: " اعْلَمُوا أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ " فَتَجَشَّمَ الْمُسْلِمُونَ الْقِيَامَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ، الْتِمَاسَ الْفَضْلِ! فَصْلٌ فِي عَقْدِهِ عليه السلام الالفة بَين الْمُهَاجِرين والانصار بِالْكِتَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فَكُتِبَ بَيْنَهُمْ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا وَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهَا، وَمُوَادَعَتِهِ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ بِهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ.
وَكَانَ نزولهم بالحجاز قبل الانصار أَيَّام بخْتنصر حِينَ دَوَّخَ بِلَادَ الْمَقْدِسِ.
فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ.
ثمَّ لما كَانَ سيل العرم وَتَفَرَّقَتْ شَذَرَ مَذَرَ، نَزَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الْيَهُودِ، فَحَالَفُوهُمْ وَصَارُوا يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ لِمَا يَرَوْنَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ.
لَكِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِالْهُدَى وَالْإِسْلَامِ، وَخَذَلَ أُولَئِكَ لحسدهم وبغيهم واستكبارهم عَن اتِّبَاع الْحق.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سَلمَة، حَدثنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ بَابٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُرَيج، حَدثنَا عَبَّادٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ، وَأَنْ يَفْدُوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سُرَيج، حَدثنَا عباد، عَن حجاج، عَن الحكم، عَن قَاسم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمد.
وفى صَحِيح مُسلم عَن جَابر: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاق: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَادَعَ فِيهِ الْيَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ وَشرط
لَهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّد النَّبِي الامي، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ (1) يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ والقسظ، وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأَوْلَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ كُلَّ بَطْنٍ مِنْ بُطُونِ الْأَنْصَارِ وَأَهْلَ كُلِّ دَارٍ: بَنِي سَاعِدَةَ، وَبَنِي جُشَمَ، وَبَنِي النَّجَّارِ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَبَنِي النَّبِيتِ.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا (2) بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فدَاء [أ] وَعَقْلٍ، وَلَا يُحَالِفُ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ (3) ظُلْمٍ أَوْ إِثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعِهِمْ، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يُنْصَرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِم أَدْنَاهُم، وَإِن الْمُؤمنِينَ بعضعم مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ.
وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مَنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّ كُلَّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يعقب بَعْضهَا بَعْضًا.
وَإِن الْمُؤمنِينَ يبئ (4) بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ الله، وَإِن الْمُؤمنِينَ
(1) ربعتهم: حالحم الَّتِى أَتَى الاسلام وهم عَلَيْهَا.
(2)
قَالَ ابْن هِشَام: المفرح المثقل بِالدّينِ وَالْكثير الْعِيَال.
قَالَ الشَّاعِر: إِذا أَنْت لم تَبْرَح تُؤَدّى أَمَانَة * وَتحمل أُخْرَى أفرحتك الودائع (3) الدسيعة: الْعَظِيمَة.
وفى الاصل.
دسيسة.
وَهُوَ تَحْرِيف.
(4)
يبئ: يمْنَع.
(*)(21 - السِّيرَة - 2)
الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هُدًى وَأَقْوَمِهِ، وَإِنَّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنَّهُ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ إِلَى أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ.
وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلَا يُؤْوِيَهُ، وَإِنَّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ
صَرْفٌ وَلَا عدل، وَإِنَّكُمْ مهما اختلفتم فِيهِ من شئ فَإِن مرده إِلَى الله عزوجل وَإِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ (1) إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ وَبَنِي الْحَارِثِ وَبَنِي سَاعِدَةَ وَبَنِي جُشَمَ وَبَنِي الْأَوْسِ وَبَنِي ثَعْلَبَةَ وَجَفْنَةَ وَبَنِي الشُّطَيْبَةِ (2) مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذن مُحَمَّد، وَلَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٍ، وَإِنَّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ [فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ](3) إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَبَرِّ (4) هَذَا، وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا (5) لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا.
وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَاده فَإِن مرده إِلَى
(1) يوتغ: يهْلك (2) الاصل: الشطنة وَهُوَ تَحْرِيف، وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام.
(3)
من ابْن هِشَام (4) الاصل: أثر.
وَهُوَ تَحْرِيف.
(5)
الاصل: حرفها.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام (*)
الله وَإِلَى مُحَمَّد رَسُول الله، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دَعَوْا إِلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ
فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ، وَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ، عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمُ الَّذِي قِبَلَهُمْ.
وَإِنَّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ أَوْ آثِمٍ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ، وَإِنَّ اللَّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرَّ وَاتَّقَى ".
كَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ رحمه الله فِي كتاب الْغَرِيب وَغَيره بِمَا يطول.
فَصْلٌ فِي مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَين الْمُهَاجِرين والانصار ليرتفق المهاجرى بالانصارى كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَالَّذين تبوأوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "(1) وَقَالَ تَعَالَى: " وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِن الله كَانَ على كل شئ شَهِيدا "(2) .
قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا الصَّلْت بن مُحَمَّد، حَدثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " وَلكُل جعلنَا موالى " قَالَ: وَرَثَة " وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم " كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الانصار دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ " وَلكُل جعلنَا موالى " نسخت ثمَّ قَالَ:" وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم " مِنَ (3) النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصَى لَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قُرِئَ عَلَى سُفْيَان: سعمت عَاصِمًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَين المهاحرين وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا.
قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ آخَى.
* * * وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: - فِيمَا بَلَغَنَا وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ - " تأخوا فِي الله أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ ".
(1) سُورَة الْحَشْر 9.
(2)
سُورَة النِّسَاء 33 والقراء.
(3)
البُخَارِيّ: إِلَّا النَّصْر.
(*)
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " هَذَا أَخِي ".
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ خَطِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ مِنَ الْعِبَادِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَوَيْنِ.
وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ وَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَوَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ جَعْفَرٌ يَوْمَئِذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيُّ أَخَوَيْنِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ أَخَوَيْنِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخَوَيْنِ، وَعبد الرَّحْمَن ابْن عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخَوَيْنِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ أَخَوَيْنِ، وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ الزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَخَوَيْنِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّجَّارِيُّ أَخَوَيْنِ، وَطَلْحَةُ [بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ] وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَخَوَيْنِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَخَوَيْنِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو أَيُّوبَ أَخَوَيْنِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ ابْن عُتْبَةَ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ أَخَوَيْنِ، وَعَمَّارُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْعَبْسِيُّ حَلِيفُ عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ.
وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ عَمَّارٌ وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بن شماس أَخَوَيْنِ.
قلت: وَهَذَا السَّنَد مِنْ وَجْهَيْنِ.
قَالَ: وَأَبُو ذَرٍّ بُرَيْرُ بْنُ جُنَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ (1) أَخَوَيْنِ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ أَخَوَيْنِ، وَسَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَخَوَيْنِ، وَبِلَالٌ وَأَبُو رُوَيْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَثْعَمِيُّ ثمَّ أحد الْفَزع (2) أَخَوَيْنِ.
(1) هُوَ الْمُنْذر بن عَمْرو بن خُنَيْس، قتل يَوْم بِئْر مَعُونَة أَمِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُقَال لَهُ: أعنق ليَمُوت، أَي سَار مسرعا.
(2)
ويروى القزع بِالْقَافِ.
(*)
قَالَ: فَهَؤُلَاءِ من سُمِّيَ لَنَا مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ.
رضي الله عنهم.
* * * قُلْتُ: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ.
أَمَّا مُؤَاخَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيٍّ، فَإِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَمُسْتَنَدُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ ارْتِفَاقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَلِيَتَأَلَّفَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا مَعْنَى لِمُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا مُهَاجِرِيٍّ لِمُهَاجِرِيٍّ آخَرَ، كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُؤَاخَاةِ حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْعَلْ مَصْلَحَةَ عَلِيٍّ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صِغَرِهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ يَكُونُ حَمْزَةُ قَدِ الْتَزَمَ بِمَصَالِحِ مَوْلَاهُمْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَآخَاهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا ذِكْرُهُ لِمُؤَاخَاةِ جَعْفَرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِيهِ نَظَرٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، فَإِنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِنَّمَا قَدِمَ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ،
فَكَيْفَ يُؤَاخِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَوَّلَ مَقْدِمِهِ عليه السلام إِلَى الْمَدِينَةِ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ أُرْصِدَ لِأُخُوَّتِهِ إِذَا قَدِمَ حِينَ يَقْدَمُ.
وَقَوْلُهُ: " وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخَوَيْنِ " يُخَالف مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدثنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجِرَاحِ وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ.
وَكَذَا وَرَاه مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ.
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ مُؤَاخَاةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ.
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ.
فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.
قَالَ: " فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟ " قَالَ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ
ذَهَبٍ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ".
تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، حَدثنَا ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ ابْن الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي، أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالًا، فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا.
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.
فَدَلُّوهُ فَذَهَبَ فَاشْترى وَبَاعَ فربح فجَاء بشئ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ.
ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ الله أَن يلبث فجَاء وَعَلِيهِ ودع زَعْفَرَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَهْيَمْ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، قَالَ:" مَا أَصْدَقْتَهَا؟ " قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ".
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ ذَهَبًا وَفِضَّةً.
وَتَعْلِيقُ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ غَرِيبٌ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ مُسْنَدًا إِلَّا عَنْ أَنَسٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ تَلَقَّاهُ عَنْهُ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَؤُونَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ.
قَالَ: " لَا، مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ وَدَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ ".
هَذَا حَدِيثٌ ثُلَاثِيُّ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ
الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْه، وَهُوَ ثَابت فِي الصَّحِيح من [غَيره] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَت الانصار: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ.
قَالَ: لَا.
قَالُوا: أفتكفوننا الْمَؤُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ.
قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
تَفَرَّدَ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ " فَقَالُوا: أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا
قَطَائِعُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟ " قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " هُمْ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَمَلَ، فَتَكْفُونَهُمْ وَتُقَاسِمُونَهُمُ.
الثَّمَرَ ".
قَالُوا نَعَمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ وَحُسْنِ سَجَايَاهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَالَّذين تبوأوا الدَّار والايمان من قبلهم " الْآيَةَ.
فَصْلٌ فِي مَوْتِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بن زُرَارَة ابْن عُدَسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، أَحَدِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةَ عَلَى قَوْمِهِ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ شَهِدَ الْعَقَبَاتِ الثَّلَاثَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلٍ، وَكَانَ شَابًّا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ فِي نَقِيعَ الْخَضِمَاتِ فِي هَزْمِ النَّبِيتِ.
كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى، أَخَذَتْهُ الذُّبْحَةُ أَوِ الشَّهْقَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّارِيخِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدثنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فِي الشَّوْكَةِ.
رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " بِئْسَ الْمَيِّتُ أَبُو أُمَامَةَ لِيَهُودَ وَمُنَافِقِي الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا "، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقد زعم أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ بَنِي النَّجَّارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ نَقِيبًا بَعْدَ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقَالَ:" أَنْتُمْ أَخْوَالِي وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ وَأَنَا نَقِيبُكُمْ " وَكَرِهَ أَنْ يخص يها بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النَّجَّارِ الَّذِي يَعْتَدُّونَ بِهِ عَلَى قَوْمِهِمْ أَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقِيبَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ أَبِي نُعَيْمٍ وَابْنِ مَنْدَهْ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ نَقِيبًا عَلَى بَنِي سَاعِدَةَ، إِنَّمَا كَانَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ.
وَصَدَقَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِيمَا قَالَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي التَّارِيخِ: كَانَ أَوَّلَ من توفى بعد مقدمه عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَامُ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِيمَا ذُكِرَ، صَاحِبُ مَنْزِلِهِ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ، لَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ مَقْدَمِهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ مَقْدَمِهِ
قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ، بِالذُّبْحَةِ أَوِ الشَّهْقَةِ.
قُلْتُ: وَكُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ، بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا أَسْلَمَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ بِقُبَاءَ نَزَلَ فِي مَنْزِلِ هَذَا فِي اللَّيْلِ،
وَكَانَ يَتَحَدَّثُ بِالنَّهَارِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ رضي الله عنهما إِلَى أَنِ ارْتَحَلَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَقْدَمِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ.
ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ.
فَصْلٌ فِي مِيلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ الْهِجْرَةِ فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْأَنْصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ رضي الله عنهما.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعِشْرِينَ شَهْرًا.
قَالَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ.
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
وَزَعَمُوا أَنَّ النُّعْمَانَ وُلِدَ قَبْلَ الزُّبَيْرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَالصَّحِيحُ مَا قدمنَا.
فَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا زَكَرِيَّا بن يحيى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شئ
دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وبرك عَلَيْهِ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
تَابَعَهُ خَالِدُ بن مخلد، عَن على ابْن مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حُبْلَى.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَمْرَةً فَلَاكَهَا ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُرَيْقِطٍ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ لِيَأْتُوا بِعِيَالِهِ وَعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَدِمُوا بِهِمْ أَثَرَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَسْمَاءُ حَامِلٌ مُتِمٌّ، أَيْ مُقْرِبٌ قَدْ دَنَا وَضْعُهَا لِوَلَدِهَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ كَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً عَظِيمَةً فَرَحًا بِمَوْلِدِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ سَحَرُوهُمْ حَتَّى لَا يُولَدَ لَهُمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ وَلَدٌ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ الْيَهُودَ فِيمَا زَعَمُوا.
فَصْلٌ وَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْريّ.
فعلى هَذَا يكون دُخُوله بهَا عليه السلام بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ.
وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَزْوِيجه عليه السلام بِسَوْدَةَ كَيْفِيَّةُ تَزْوِيجِهِ وَدُخُولِهِ بِعَائِشَةَ بَعْدَ مَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ دُخُولَهُ بِهَا كَانَ بِالسُّنْحِ نَهَارًا.
وَهَذَا خِلَافُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وفى دُخُوله عليه السلام بِهَا فِي شَوَّالٍ رَدٌّ لِمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ خَشْيَةَ الْمُفَارقَة بَين الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا لَيْسَ بشئ لِمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَادَّةً عَلَى مَنْ تَوَهَّمَهُ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: تَزَوَّجَنِي فِي شَوَّال، وَبنى بى فِي شَوَّال، أَيْ دَخَلَ بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَائِهِ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا فهمت مِنْهُ عليه السلام أَنَّهَا أَحَبُّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْفَهْمُ مِنْهَا صَحِيحٌ لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ " قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: " أَبوهَا ".
فَصْلٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَعْنِي السَّنَةَ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، فِيمَا قِيلَ، رَكْعَتَانِ، وَكَانَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة بِشَهْر من ربيع الآخر لمضى ثنتى عشرَة لَيْلَة مَضَت.
وَقَالَ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْحِجَازِ فِيهِ.
قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا.
وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ فُرِضَتْ أَرْبَعًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى " وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تقصرُوا من الصَّلَاة (1) " الْآيَة.
فصل فِي الاذان ومشروعيته عِنْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ إِخْوَانُهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَاجْتَمَعَ أَمْرُ الْأَنْصَارِ، اسْتَحْكَمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، فَقَامَتِ الصَّلَاةُ وَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ، وَقَامَتِ الْحُدُودُ وَفُرِضَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَتَبَوَّأَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ من الانصار هم الَّذين تبوأوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَهَا إِنَّمَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ لِحِينِ مَوَاقِيتِهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ يَجْعَل بوقا كبوق يهود الدى يَدْعُونَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ.
ثُمَّ كَرِهَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بالناقوس فنحت ليضْرب بِهِ للْمُسلمين للصَّلَاة.
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زيد بن ثعلية بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ النِّدَاءَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ طَافَ بِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ طَائِفٌ، مَرَّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقلت:
(1) سُورَة النِّسَاء 101.
(*)
يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ.
قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَقُولُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
فَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ ".
فَلَمَّا أَذَّنَ بِهَا بِلَالٌ سَمِعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ، قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا تقدم.
ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَكَمِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الانصاري
قَالَ فِي ذَلِك: الْحَمد لله ذى الْجلَال وذى الاكرام حمدا على الاذان كَبِيرا إِذْ أَتَانِي بِهِ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ فَأَكْرِمْ بن لَدَيَّ بَشِيرَا فِي لَيَالٍ وَالَى بِهِنَّ ثَلَاثٍ * كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرَا قُلْتُ: وَهَذَا الشِّعْرُ غَرِيبٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَذكر الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمُسَيَّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الله الوَاسِطِيّ، حَدثنَا أَبِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَشَارَ النَّاسَ لما يهمهم من الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا الْبُوقَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرُوا النَّاقُوسَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى.
فَأُرِيَ النِّدَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَطَرَقَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا فَأَذَّنَ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَزَادَ بِلَالٌ فِي نِدَاءِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ: " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " مَرَّتَيْنِ، فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي.
وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْفَصْلِ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مخلد،
حَدثنَا أَبِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ وَفِيهِ: فَخَرَجَ مَلَكٌ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَأَذَّنَ بِهَذَا الْأَذَانِ، وَكُلَّمَا قَالَ كَلِمَةً صَدَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَدَّمَهُ، فَأَمَّ بِأَهْلِ السَّمَاءِ وَفِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ.
ثُمَّ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَأَخْلِقْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لِمَا يَعْضُدُهُ وَيُشَاكِلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ، تَفَرَّدَ بِهِ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو الْجَارُودِ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْجَارُودِيَّةُ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَّهَمِينَ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا قَدْ سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لَأَوْشَكَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: ائْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ [بِالنَّاقُوسِ] لِلِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ، فَبَيْنَا عمر ابْن الْخَطَّابِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَشَبَتَيْنِ لِلنَّاقُوسِ إِذْ رَأَى عُمَرُ فِي الْمَنَامِ: لَا تَجْعَلُوا النَّاقُوسَ بَلْ أَذِّنُوا لِلصَّلَاةِ.
فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَهُ بِمَا رَأَى، وَقَدْ جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ بِذَلِكَ، فَمَا رَاعَ عُمَرَ إِلَّا بِلَالٌ يُؤَذِّنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ:" قَدْ سَبَقَكَ بِذَلِكَ الْوَحْيُ ".
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْوَحْيُ بِتَقْرِيرِ مَا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعضهم، وَالله تَعَالَى أعلم.
(22 - السِّيرَة 2)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير، عَن
امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، قَالَتْ: كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ بِلَالٌ يوذن عَلَيْهِ لِلْفَجْرِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَيَأْتِي بِسَحَرٍ فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْتَظِرُ الْفَجْرَ، فَإِذَا رَآهُ تَمَطَّى ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْمَدُكَ وَأَسْتَعِينُكَ عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُقِيمُوا دِينَكَ.
قَالَتْ: ثُمَّ يُؤَذِّنُ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُهُ كَانَ تَرَكَهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً.
يَعْنِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ.
فَصْلٌ فِي سَرِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ، لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِوَاءً أَبْيَضَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لِيَعْتَرِضَ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ حَمْزَةَ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ.
قَالَ: وَكَانَ الَّذِي يَحْمِلُ لِوَاءَ حَمْزَةَ أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ.
فَصْلٌ فِي سَرِيَّةِ عُبَيْدَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ فِي شَوَّالٍ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ.
وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، فَبَلَغَ ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْجُحْفَةِ، فِي سِتِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيٌّ، وَأَنَّهُمُ الْتَقَوْا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ أَحْيَاءٌ، وَكَانَ بَينهم الرمى دون المسايفة (1) .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِائَتَيْنِ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ
صَخْر بن حَرْب وَهُوَ الْمُثبت وَعِنْدنَا، وَقِيلَ كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ.
فَصْلٌ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا، يَعْنِي فِي السَّنَةِ الْأُولَى فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الخرار لِوَاء أَبيض يحملهُ الْمِقْدَاد ابْن الْأَسْوَدِ.
فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، [عَنْ أَبِيهِ] قَالَ: خَرَجْتُ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا عَلَى أَقْدَامِنَا، أَوْ قَالَ: أَحَدٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَكُنَّا نَكْمُنُ النَّهَارَ وَنَسِيرُ اللَّيْلَ، حَتَّى صَبَّحْنَا الْخَرَّارَ صُبْحَ خَامِسَةٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد عهد إِلَى أَلا أُجَاوِزَ الْخَرَّارَ، وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ سَبَقَتْنِي قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتِ الْعِيرُ سِتِّينَ، وَكَانَ مَنْ مَعَ سَعْدٍ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذِهِ السَّرَايَا الثَّلَاثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْوَاقِدِيُّ كُلَّهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ مِنْ وَقْتِ التَّارِيخِ.
قُلْتُ: كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيمَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، كَمَا سَنُورِدُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَغَازِي فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ تِلْوَ مَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
(1) المطبوعة: الْمُسَابقَة.
وَهُوَ تَحْرِيف.
(*)
وَيحْتَمل أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهَا وَقَعَتْ هَذِهِ السَّرَايَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَسَنَزِيدُهَا بَسْطًا وَشَرْحًا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْوَاقِدِيُّ عِنْدَهُ زِيَادَاتٌ حَسَنَةٌ، وَتَارِيخٌ مُحَرَّرٌ غَالِبًا، فَإِنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْكِبَارِ وَهُوَ صَدُوقٌ فِي نَفْسِهِ مِكْثَارٌ، كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي عَدَالَته وجرحه فِي كتَابنَا الموسوم " بالتكميل فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والْمنَّة.
فَصْلٌ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَهِيَ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَيِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وُلِدَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَبْلَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمَا وُلِدَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَسَنُشِيرُ فِي آخِرِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ وَزِيَادَ بْنَ سُمَيَّةَ وُلِدَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى (1) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الصَّحَابَةِ، كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ الْأَوْسِيُّ، الَّذِي نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْكَنِهِ بِقُبَاءَ إِلَى حِينَ ارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى دَار بنى
(1) الاصل: فِي هَذِه السّنة الثَّانِيَة.
والتصويب من تَارِيخ الطَّبَرِيّ.
(*)
النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْدَهُ، فِيهَا، أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ نَقِيبُ بَنِي النَّجَّارِ، تُوُفِّيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْنِي الْمَسْجِدَ، كَمَا تَقَدَّمَ رضي الله عنهما وَأَرْضَاهُمَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَعْنِي الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، مَاتَ أَبُو أُحَيْحَةَ بِمَالِهِ بِالطَّائِفِ، وَمَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ والْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ فِيهَا بِمَكَّةَ.
قُلْتُ: وَهَؤُلَاءِ مَاتُوا على شركهم لم يسلمُوا لله عزوجل.