الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي وَفَاة شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الْحَافِظ ثِقَة الْمُحدثين عُمْدَة المؤرخين علم الْمُفَسّرين ابْن كثير الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي فِي تَارِيخه ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا كَانَت وَفَاة شيخ الْإِسْلَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية قدس الله روحه قَالَ وَقد اتّفق مَوته فِي سحر لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ فَذكر ذَلِك مُؤذن القلعة على المنارة بهَا وَتكلم بهَا الحراس على الأبرجة فَمَا أصبح النَّاس إِلَّا وَقد تسامعوا بِهَذَا الْخطب الجسيم فبادر النَّاس إِلَى الِاجْتِمَاع حول القلعة من كل مَكَان أمكنهم الْمَجِيء مِنْهُ حَتَّى من الغوطة والمرج وَلم يطْبخ أهل الْأَسْوَاق شَيْئا وَلَا فتحُوا كثيرا من الدكاكين الَّتِي من شَأْنهَا أَن تفتح أَوَائِل النَّهَار على الْعَادة وَكَانَ نَائِب السلطة قد ذهب يتصيد فِي بعض الْأَمْكِنَة
ثمَّ ذكر ابْن كثير صفة غسله وَحمله وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَالنَّاس فِي بكاء وتهليل فِي مَخَافَة كل وَاحِد فِي نَفسه وَفِي ثَنَاء وتأسف وَالنِّسَاء فَوق الأسطحة من هُنَاكَ إِلَى الْمقْبرَة يبْكين ويترحمن
قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ يَوْمًا مشهودا لم يعْهَد مثله بِدِمَشْق وَلَا يُمكن أحد حصر من حضر الْجِنَازَة
قَالَ ورثي بأشعار كَثِيرَة وقصائد مُطَوَّلَة جدا وَقد أفردت لَهُ تراجم كَثِيرَة وصنف فِي ذَلِك جمَاعَة من الْفُضَلَاء
قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ رحمه الله من كبار الْعلمَاء مِمَّن يخطىء ويصيب وَلَكِن كَانَ خطأه بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَوَابه كنقطة فِي بَحر لجي وَخَطأَهُ أَيْضا مغْفُور لَهُ كَمَا صَحَّ فِي البُخَارِيّ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر فَهُوَ مأجور وَقَالَ الإِمَام مَالك بن أنس كل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا صَاحب هَذَا الْقَبْر صلى الله عليه وسلم إنتهى كَلَام ابْن كثير مُلَخصا
وَقَالَ الْحَافِظ البرزالي فِي تَارِيخه وَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْفَقِيه الْحَافِظ الزَّاهِد الْقدْوَة شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن شَيخنَا الإِمَام الْمُفْتِي شهَاب الدّين أبي المحاسن عبد الْحَلِيم ابْن الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين أبي البركات عبد السَّلَام بن تَيْمِية بقلعة دمشق فِي القاعة الَّتِي كَانَ مَحْبُوسًا فِيهَا وَاجْتمعَ النَّاس بالقلعة وَالطَّرِيق إِلَى جَامع دمشق وامتلأ الْجَامِع وصحنه والكلاسمة وَبَاب الْبَرِيد وَبَاب السَّاعَات وَحَضَرت الْجِنَازَة السَّاعَة الرَّابِعَة وَوضعت فِي
الْجَامِع والجند يحفظونها من شدَّة الزحام وَصلي عَلَيْهِ أَولا بالقلعة ثمَّ صلي عَلَيْهِ بِجَامِع دمشق عقب الظّهْر وَحمل من بَاب الْبَرِيد وَذكر بَقِيَّة ذَلِك
وَصفَة دَفنه قَالَ وَكَانَ دَفنه وَقت الْعَصْر وَذَلِكَ من كَثْرَة من يَأْتِي وَيُصلي عَلَيْهِ من أهل الْبَسَاتِين وَأهل الغوطة وَأهل الْقرى وغلق النَّاس حوانيتهم وَلم يتَخَلَّف عَن الْحُضُور إِلَّا من هُوَ عَاجز مَعَ الترحم وَالدُّعَاء لَهُ وَحضر نسَاء كثير بِحَيْثُ حزرت بِخَمْسَة عشر ألف امْرَأَة غير اللواتي كن على الأسطح وَأما الرِّجَال فحزروا بِمِائَة ألف إِلَى أَكثر من ذَلِك إِلَى مِائَتي ألف
ثمَّ قَالَ وَلَا شكّ أَن جَنَازَة أَحْمد بن حَنْبَل كَانَت هائلة عَظِيمَة بِسَبَب كَثْرَة أهل بَلَده واجتماعهم لذَلِك وتعظيمهم لَهُ وَإِن الدولة كَانَت تحبه وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية توفّي ببلدة دمشق وَأَهْلهَا لَا يعشرُونَ أهل بَغْدَاد كَثْرَة وَلَكنهُمْ اجْتَمعُوا لجنازته اجتماعا لَو جمعهم سُلْطَان قاهر وديوان حاصر لما بلغُوا هَذِه الْكَثْرَة مَعَ أَنه مَاتَ بالقلعة مَحْبُوسًا من جِهَة السُّلْطَان
وَكثير من الْفُقَهَاء والفقراء يذكرُونَ عَنهُ للنَّاس أَشْيَاء كَثِيرَة ينفر مِنْهَا طباع أهل الْأَدْيَان فضلا عَن أهل الْإِسْلَام وَهَذِه كَانَت جنَازَته رحمه الله انْتهى مُلَخصا
وَقَالَ بعض من حضر من الثِّقَات كنت مِمَّن صلى عَلَيْهِ فِي الْجَامِع وَكَانَ لي مستشرف على الْمَكَان الَّذِي صلي عَلَيْهِ بِظَاهِر دمشق وَجعلت أنظر يَمِينا وَشمَالًا وَلَا أَدْرِي أواخرهم بل رَأَيْت النَّاس قد طبقوا تِلْكَ الأَرْض كلهَا
وَاتفقَ جمَاعَة مِمَّن حضر وَشَاهد النَّاس والمصلين عَلَيْهِ على إِنَّهُم يزِيدُونَ على نَحْو من خَمْسمِائَة ألف وحضرها نسَاء كثير بِحَيْثُ حزرن بِخَمْسَة عشر ألفا
قَالَ أهل التَّارِيخ لم يسمع فِي جَنَازَة بِمثل هَذَا الْجمع إِلَّا جَنَازَة الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ سَمِعت أَبَا سهل بن زِيَاد الْقطَّان يَقُول سَمِعت عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول سَمِعت أبي يَقُول قُولُوا لأهل الْبدع بَيْننَا وَبَيْنكُم الْجَنَائِز
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ حزر الحزارون الْمُصَلِّين على جَنَازَة أَحْمد فَبلغ الْعدَد بحزرهم ألف ألف وَسَبْعمائة ألف سوى الَّذين كَانُوا فِي السفن
وَقَالَ ابْن فضل الله الْعمريّ فِي تَرْجَمته لِابْنِ تَيْمِية وَكَانَ قبل مَوته قد منع الدواة والقلم وطبع على قلبه مِنْهُ طَابع الْأَلَم فَكَانَ ذَلِك مبدأ مَرضه ومنشأ عرضه حَتَّى نزل قفار الْمَقَابِر وَترك فقار المنابر وَحل ساحة ربه وَمَا يحاذر وَأخذ رَاحَة قلبه من اللائم والعاذر فَمَاتَ وَمَا مَاتَ لَا بل حييّ وَعرف قدره لِأَن مثله مَا رئي مَا برح على المآثر إِلَى أَن صرعه أَجله وَأَتَاهُ بشير الْجنَّة يستعجله فانتقل إِلَى الله وَالظَّن بِهِ أَنه لَا يخجله
وَكَانَ يَوْم دَفنه يَوْمًا مشهودا ووقتا معدودا ضَاقَتْ بِهِ الْبَلَد وظواهرها وتذكرت بِهِ أَوَائِل الرزايا وآواخرها وَلم يكن أعظم مِنْهَا مُنْذُ مئين سِنِين جَنَازَة رفعت على الرّقاب ووطئت فِي زحامها الأعقاب وَسَار مَرْفُوعا على الرؤوس متبوعا بالنفوس تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات كَانَ أمة وَحده وفردا حَتَّى نزل لحده
ورثاه بقصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
…
بر السوابق ممتد الْعبارَة لَا
…
يَنَالهُ ملل فِيهَا وَلَا ضجر
وَلم يكن مثله بعد الصَّحَابَة فِي
…
علم عَظِيم وزهد مَا لَهُ خطر
طَريقَة كَانَ يمشي قبل مشيته
…
بهَا أَبُو بكر الصّديق أَو عمر
فَرد الْمذَاهب فِي أَقْوَال أَرْبَعَة
…
جَاءُوا على أثر السباق وابتدروا
لما بنوا قبله عليا مذاهبهم
…
بنى وَعمر مِنْهَا مثل مَا عمروا
مثل الْأَئِمَّة قد أَحْيَا زمانهم
…
كَأَنَّهُ كَانَ فيهم وَهُوَ منتظر
إِن يرفعوهم جَمِيعًا رفع مُبْتَدأ
…
فحقه الرّفْع أَيْضا إِنَّه خبر
قَالُوا قبرناه قُلْنَا إِن ذَا عجب
…
حَقًا اللكوكب الدُّرِّي قد قبروا
لم يبكه ندما من لَا يُصِيب دَمًا
…
يجْرِي بِهِ ديما تهمي وتنهمر
لهفي عَلَيْك أَبَا الْعَبَّاس كم كرم
…
لما قضيت قضى من عمره الْعُمر
سقى ثراك من الوسمي صيبه
…
وزار مفناك قطر كُله قطر
يَا وَارِثا من عُلُوم الْأَنْبِيَاء نهى
…
أورثت قلبِي نَارا وقدها الْفِكر
يَا وَاحِدًا لست أستثني بِهِ أحدا
…
من الْأَنَام وَلَا أُبْقِي وَلَا أذر
يَا عَالما بنقول الْفِقْه أجمعها
…
أعنك تحفظ زلات كَمَا ذكرُوا
كم من فَتى جَاهِل غر أبنت لَهُ رشد الْمقَال فَزَالَ الْجَهْل وَالْغرر
…
.. مَا أَنْكَرُوا مِنْك إِلَّا أَنهم جهلوا
…
عَظِيم قدرك لَكِن ساعد الْقدر
قَالُوا بأنك قد أَخْطَأت وَاحِدَة
…
وَقد يكون فَهَلا مِنْك تغتفر
وَمن يكون على التَّحْقِيق مُجْتَهدا
…
لَهُ الثَّوَاب على الْحَالين لَا الْوزر
ألم تكن بِأَحَادِيث النَّبِي إِذا
…
سُئِلت تعرف مَا تَأتي وَمَا تذر
حاشاك من شبه فِيهَا وَمن شبه
…
كِلَاهُمَا مِنْك لَا يبْقى لَهُ أثر
عَلَيْك فِي الْبَحْث أَن تبدي غوامضه
…
وَمَا عَلَيْك إِذا لم تفهم الْبَقر
قدمت لله مَا قدمت من عمل
…
وَمَا عَلَيْك بهم ذموك أَو شكروا
هَل كَانَ مثلك من يخفى عَلَيْهِ هدى
…
وَمن سمائك تبدو الأنجم الزهر
وَكَيف تحذر من شَيْء تزل بِهِ
…
أَنْت التقي فَمَاذَا الْخَوْف والحذر
…
وَقد قَالَ الأفاضل فِي الشَّيْخ ابْن تَيْمِية مراثي كَثِيرَة ذكرت جانبا مِنْهَا فِي كتابي الْكَوَاكِب الدرية فِي مَنَاقِب الْمُجْتَهد ابْن تَيْمِية
وَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْحَافِظ أَبُو حَفْص عمر الْبَغْدَادِيّ الْبَزَّار فِي تَرْجَمَة ابْن تَيْمِية وَمَا وصل خبر مَوته إِلَى بلد فِيمَا نعلم إِلَّا وَصلي عَلَيْهِ فِي جَمِيع جوامعه ومجامعه خُصُوصا أَرض مصر وَالشَّام وَالْعراق وتبريز وَالْبَصْرَة وقراها وَغَيرهَا
وَأطَال فِي تعداد فَضَائِل الشَّيْخ وَجمع لَهُ تَرْجَمَة مُفْردَة سَمَّاهَا الْأَعْلَام الْعلية فِي مَنَاقِب الإِمَام ابْن تَيْمِية
وَقد تقدم قَول الْحَافِظ ابْن رَجَب أَنه صلى على ابْن تَيْمِية صَلَاة
الْغَائِب فِي غَالب بِلَاد الْإِسْلَام الْقَرِيبَة والبعيدة حَتَّى فِي الْيمن والصين وَأخْبر المسافرون أَنه نُودي بأقصى بِلَاد الصين للصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم جُمُعَة الصَّلَاة على ترجمان الْقُرْآن رَحمَه الله تَعَالَى
اللَّهُمَّ تغمده بِرَحْمَتك ورضوانك وَأَسْكَنَهُ أَعلَى فراديس جناتك وانفعنا ببركاته الوافرة وعلومه الزاخرة وأنفاسه الطاهرة وأسراره الباهرة وأسراريره الزاهرة واجمع لنا بَين خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة آمين آمين