الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاتِمَة لَطِيفَة
فقد كتب جمَاعَة من الْأَئِمَّة الأماثل وَالْعُلَمَاء الأفاضل تقاريظ على كتاب الرَّد الوافر تصنيف الإِمَام الْعَالم الأوحد الْقدْوَة الْحَافِظ أبي عبد الله مُحَمَّد بن نَاصِر الدّين الشَّافِعِي خَادِم السّنة الَّذِي أَلفه فِي الرَّد على من يطعن فِي ابْن تَيْمِية وَلَقَد بَالغ هَذَا الطاعن المتهاون بِذَنبِهِ والمتجرىء على ربه فنسب الشَّيْخ إِلَى الْكفْر بل نسب مَعَه أَيْضا من أطلق عَلَيْهِ شيخ الْإِسْلَام
فَانْظُر إِلَى مَا يَقع من سُفَهَاء الْأَنَام ورعاع اللئام وغوغاء الْعَوام وَمن يعد نَفسه بشرا وَهُوَ من الْأَنْعَام وَمَا هُوَ إِلَّا على حد قَول الْأَعْشَى
…
كناطح صَخْرَة يَوْمًا ليوهنها
…
فَلم يَضرهَا وأوهى قرنه الوعل
…
وانتقيت مِنْهُ هَذِه التراجم مَعَ بعض زَوَائِد لَطِيفَة
18 -
صُورَة تَفْرِيط الإِمَام الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي
الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى
وقفت على هَذَا التَّأْلِيف النافع وَالْمَجْمُوع الَّذِي هُوَ للمقاصد الَّتِي جمع لأَجلهَا جَامع فتحققت سَعَة إطلاع الإِمَام الَّذِي صنفه وتضلعه من الْعُلُوم النافعة بِمَا عظمه من الْعلمَاء وشرفه وشهرة إِمَامَة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية أشهر من الشَّمْس وتلقيبه بشيخ الْإِسْلَام فِي عصره بَاقٍ إِلَى الْآن على الْأَلْسِنَة الزكية وَيسْتَمر غَدا كَمَا كَانَ بالْأَمْس وَلَا يُنكر ذَلِك إِلَّا من جهل مِقْدَاره وتجنب الْإِنْصَاف فَمَا أعظم غلط من تعاطى ذَلِك وَأكْثر عثاره وَلَو لم يكن من الدَّلِيل على إِمَامَة هَذَا الرجل إِلَّا مَا نبه عَلَيْهِ الْحَافِظ الشهير علم الدّين البرزالي فِي تَارِيخه أَنه لم يُوجد فِي الْإِسْلَام من اجْتمع فِي جنَازَته مِمَّا اجْتمع فِي جَنَازَة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَأَشَارَ إِلَى أَن جَنَازَة الإِمَام أَحْمد كَانَت حافلة جدا شَهِدَهَا مئات أُلُوف وَلَكِن لَو كَانَ بِدِمَشْق من الْخَلَائق نَظِير من كَانَ بِبَغْدَاد بل أَضْعَاف ذَلِك لما تَأَخّر أحد مِنْهُم عَن شُهُود جنَازَته وَأَيْضًا فَجَمِيع من كَانَ بِبَغْدَاد إِلَّا الْأَقَل كَانُوا يَعْتَقِدُونَ إِمَامَة الإِمَام أَحْمد وَكَانَ أَمِير بَغْدَاد خليفه الْوَقْت إِذْ ذَاك فِي غَايَة الْمحبَّة لَهُ والتعظيم بِخِلَاف ابْن تَيْمِية فَكَانَ أَمِير الْبَلَد حِين مَاتَ غَائِبا وَكَانَ أَكثر من بِالْبَلَدِ من الْفُقَهَاء قد تعصبوا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ مَحْبُوسًا بالقلعة وَمَعَ هَذَا فَلم يتَخَلَّف عَن حُضُور جنَازَته والترحم عَلَيْهِ والتأسف إِلَّا ثَلَاثَة أنفس تَأَخَّرُوا خشيَة على أنفسهم من الْعَامَّة وَمَعَ حُضُور هَذَا الْجمع الْعَظِيم فَلم يكن لذَلِك باعث إِلَّا اعْتِقَاد إِمَامَته وبركته لَا بِجمع سُلْطَان وَلَا غَيره وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض
وَلَقَد قَامَ على الشَّيْخ تَقِيّ الدّين جمَاعَة من الْعلمَاء مرَارًا بِسَبَب أَشْيَاء أنكروها عَلَيْهِ من الْأُصُول وَالْفُرُوع وَعقد لَهُ بِسَبَب ذَلِك عدَّة مجَالِس بِالْقَاهِرَةِ وبدمشق وَلَا يحفظ عَن أحد مِنْهُم أَنه أفتى بزندقته وَلَا حكم بسفك دَمه مَعَ شدَّة المتعصبين عَلَيْهِ حِينَئِذٍ من أهل الدولة حَتَّى حبس بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ بالإسكندرية وَمن ذَلِك فكلهم معترف بسعة علمه وَكَثْرَة ورعه وزهده وَوَصفه بالسخاء والشجاعة وَغير ذَلِك من قِيَامه فِي نصْرَة الْإِسْلَام وَالدُّعَاء إِلَى الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة
والمسائل الَّتِي أنْكرت عَلَيْهِ مَا كَانَ يَقُولهَا بالتشهي وَهَذِه تصانيفه طافحة بِالرَّدِّ على من يَقُول بالتجسم والتبري مِنْهُ وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ بشر يخطىء ويصيب فَالَّذِي أصَاب فِيهِ وَهُوَ الْأَكْثَر يُسْتَفَاد مِنْهُ ويترحم عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَالَّذِي أَخطَأ فِيهِ لَا يُقَلّد فِيهِ بل هُوَ مَعْذُور لِأَن أَئِمَّة عصره شهدُوا لَهُ بِأَن أدوات الِاجْتِهَاد إجتمعت فِيهِ حَتَّى كَانَ أَشد المتعصبين عَلَيْهِ والقائمين فِي إِيصَال الشَّرّ إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّيْخ كَمَال الدّين الزملكاني شهد لَهُ بذلك وَكَذَلِكَ الشَّيْخ صدر الدّين ابْن الْوَكِيل الَّذِي لم يثبت لمناظرته غَيره
وَمن أعجب الْعجب أَن هَذَا الرجل كَانَ أعظم النَّاس قيَاما على أهل الْبدع من الروافض والحلولية والاتحادية وتصانيفه كَثِيرَة شهيرة وفتاويه فِي ذَلِك لَا تدخل تَحت الْحصْر
فيا قُرَّة أَعينهم إِذا سمعُوا بِكُفْرِهِ وَيَا سرورهم إِذا رَأَوْا من يكفر من لَا يكفره
فَالْوَاجِب على من تلبس بِالْعلمِ وَكَانَ لَهُ عقل أَن يتَأَمَّل كَلَام الرجل من تصانيفه الْمَشْهُورَة أَو من أَلْسِنَة من يوثق بِهِ من أهل النَّقْل فَيرد من ذَلِك مَا يُنكر فيحذر مِنْهُ على قصدر النصح وَلَو لم يكن للشَّيْخ تَقِيّ الدّين إِلَّا تِلْمِيذه الشَّيْخ شمس الدّين ابْن الْقيم الجوزية صَاحب التصانيف النافعة السائرة الَّتِي انْتفع بهَا الْمُوَافق والمخالف لَكَانَ غَايَة فِي الدّلَالَة على عظم مَنْزِلَته
فَكيف وَقد شهد لَهُ بالتقدم فِي الْعُلُوم والتمييز فِي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم أَئِمَّة عصره من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم فضلا عَن الْحَنَابِلَة
فَالَّذِي يُطلق عَلَيْهِ مَعَ هَذِه الْأَشْيَاء الْكفْر أَو على من سَمَّاهُ شيخ الْإِسْلَام لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعول فِي هَذَا الْمقَام عَلَيْهِ بل يجب رده عَن ذَلِك إِلَى أَن يُرَاجع الْحق ويذعن للصَّوَاب وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
قَالَ ذَلِك وَكتبه أَحْمد بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن حجر الشَّافِعِي وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة
19 -
وَهَذَا صُورَة تقريظ الإِمَام الْهمام شيخ الْإِسْلَام صَاحب تَحْرِير الْكَلَام وَإِمَام الْحَنَفِيَّة فِي زَمَانه الشَّيْخ الْعَيْنِيّ رَحمَه الله تَعَالَى
إِن أضوع زهر تفتق عَنهُ إكمام ألسن الْأَنَام وأبدع ذكرا يعبق مِنْهُ طيب الإفهام حمد من أجْرى مَاء التِّبْيَان فِي عود اللِّسَان لحمل ثمار الْمعَانِي
وَالْبَيَان وكشف ضبابه الأوهام بشموس الْحَقَائِق وَأَبَان مَا فِي الْقُلُوب بأقمار الْحَقَائِق وأشرع أسنة الخواطر والأفكار بأيدي أنوار البصائر والأبصار إِلَى ثغر الْعُلُوم وَالْأَخْبَار وأقلع عَنَّا بنسائم ألطافه عجاجة الظنون والشكوك وَوَقع لنا مناشير الصدْق فِي السلوك وأراحنا فِي ركُوب أَعْنَاق الْكَلَام من العثرات والملام وأراحنا عَن مقالات لَا يُقَال فِيهَا العثار ومحلات يَسْتَحِيل فِيهَا الْأَعْذَار
اللَّهُمَّ صل على صَاحب الْوَحْي والرسالة الْمَخْلُوق من طِينَة والبسالة الَّذِي أسعدته فِي ذرى الملكوت وأعطيته الْكتاب وقرنت بِطَاعَتِهِ ومعصيته الثَّوَاب وَالْعِقَاب مُحَمَّد الْمُصْطَفى المستأثر بالشفاعة يَوْم الْحساب
وعَلى آله الَّذين تنزهوا فِي رياض نبوته وَأَصْحَابه الَّذين تقلدوا بسيوف النُّصْرَة فِي دَعوته وعَلى عُلَمَاء الْأمة الَّذين استظهروا على صدمات الدَّهْر وصولته بِنَزْع ألسنتهم من تفويق سِهَام الطعْن إِلَى أغراض العصبية وإقلاع أسنة خوضهم فِي أَعْرَاض الْأَنْفس الأبية فَلذَلِك صَارُوا أنجما للاهتداء وبدورا للاقتداء فأجدر بهم أَن يفوه بمشايخ الْإِسْلَام وأنصار شَرِيعَته خير الْأَنَام
وَبعد فَإِن مؤلف كتاب الرَّد الوافر قد جد فِي هَذَا التصنيف البديع الزَّاهِر وجلا بمنطقه السحار الرَّد على من تفوه بالإكفار لعلماء الْإِسْلَام وَالْأَئِمَّة الأساطين والأعلام الَّذين تبوأوا الدَّار فِي رياض النَّعيم واستنشقوا ريَاح الرَّحْمَة من رب كريم فَمن طعن فِي وَاحِد مِنْهُم أَو نقل غير صَحِيح عَنْهُم فَكَأَنَّمَا نفخ فِي الرمال واجتنى من خرط القتاد وَكَيف يحل لمن يتسم بِالْإِسْلَامِ أَو يتسمى بسمة أَو علم أَو فهم وإفهام أَن يكفر من قبله عَن ذَلِك سليم بهيج واعتقاده لَا يكَاد إِلَى ذَلِك يهيج وَلَكِن لم يور زند طبعه فِي القريض لم يزل يجد الْعَذَاب مرا كَالْمَرِيضِ والعائب بجهله شَيْئا يُبْدِي صفحة معاداته ويتخبط خبط العشواء فِي محاوراته وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا كالجعل
باشتمام الْورْد يَمُوت حتف أَنفه وكالخفاش يتَأَذَّى بِظُهُور سنا الضَّوْء لسوء بَصَره وَضَعفه وَلَيْسَ لَهُ سجية نقادة وَلَا روية وقادة وَمَا هم إِلَّا صلقع بلقع سلقع صلمعة بن قلمعة وهيان بن بَيَان وَهِي بن بِي وصل بن ضل وضلال بن التلال
وَمن الشَّائِع المستفيض أَن الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية من شم عرانين الأفاضل وَمن جم براهين الأماثل الَّذِي كَانَ لَهُ من الْأَدَب مآدب تغذي الْأَرْوَاح وَمن نخب الْكَلَام لَهُ سلافة تهز الأعطان المراح وَمن ثمار أفكار ذَوي البراعة طبعه المغلق فِي الصِّنَاعَة الخالية عَن وصمة الشناعة وَهُوَ الكاثف عَن وُجُوه مخدرات الْمعَانِي نقابها والمنتزع عَن عرائس أبكار المباني بكشف جلبابها وَهُوَ الذاب عَن الدّين طعن الزَّنَادِقَة والملحدين والناقد للمرويات عَن سيد الْمُرْسلين وللمأثورات عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
فَمن قَالَ إِنَّه كَافِر فَهُوَ كَافِر حقيق وَمن نسبه إِلَى الزندقة فَهُوَ زنديق وَكَيف ذَاك وَقد سَارَتْ تصانيفه فِي الْآفَاق وَلَيْسَ فِيهَا شَيْء مِمَّا يدل على الزيغ والشقاق وَلم يكن بَحثه فِيمَا صدر عَنهُ فِي مَسْأَلَة الزِّيَادَة وَالطَّلَاق إِلَّا عَن اجْتِهَاد سَائِغ بالِاتِّفَاقِ والمجتهد فِي الْحَالَتَيْنِ مأجور ومثاب وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء مِمَّا يلام ويعاب لَكِن حملهمْ على ذَلِك حسدهم
الظَّاهِر وكيدهم الباهر وَكفى للحاسد ذما آخر سُورَة الفلق فِي احتراقه بالقلق
أَلا وَهُوَ الإِمَام الْفَاضِل البارع التقي النقي الْوَرع الْفَارِس فِي علمي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه وَالْأُصُول بالتقرير والتحرير وَالسيف الصارم على المبتدعين والحبر الْقَائِم بِأُمُور الدّين والأمار بِالْمَعْرُوفِ والناهي عَن الْمُنكر ذُو همة وشجاعة وإقدام فِيمَا يروع ويزجر كثير الذّكر وَالصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْعِبَادَة خشن الْعَيْش والقناعة من دون طلب الزِّيَادَة
وَكَانَت لَهُ المواعيد الْحَسَنَة السّنيَّة والأوقات الطّيبَة البهية مَعَ كَفه عَن حطام الدُّنْيَا الدنية وَله المصنفات الْمَشْهُورَة المقبولة والفتاوى القاطعة غير المعلولة
وَقد كتب على بعض مصنفاته قَاضِي الْقُضَاة ابْن الزملكاني رحمه الله
…
مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ
…
وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر
هُوَ حجَّة لله قاهرة
…
هُوَ بَيْننَا أعجوبة الدَّهْر
…
أَفلا تَكْفِي شَهَادَة هَذَا الحبر لهَذَا الإِمَام حَيْثُ أطْلقُوا عَلَيْهِ حجَّة الله فِي الْإِسْلَام ودعواه أَن صِفَاته الحميد لَا يُمكن حصرها ويعجز الواصف عَن عدهَا وسبرها فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ لَا يجوز إِطْلَاق شيخ الْإِسْلَام عَلَيْهِ أَو التَّوَجُّه بِذكرِهِ إِلَيْهِ وَكَيف يسوغ إِنْكَار المعاند الماكر الْحَاسِد
وليت شعري مَا متمسك هَذَا المكابر الْجَاهِل المجاهر وَقد علم أَن لَفْظَة الشَّيْخ لَهَا مَعْنيانِ لغَوِيّ واصطلاحي
فَمَعْنَاه اللّغَوِيّ الشَّيْخ من استبان فِيهِ الْكبر
وَمَعْنَاهُ الاصطلاحي الشَّيْخ من يصلح أَن يتلمذ لَهُ وكلا الْمَعْنيين مَوْجُود فِي الإِمَام الْمَذْكُور وَلَا ريب أَنه كَانَ شَيخا لجَماعَة من عُلَمَاء الْإِسْلَام ولتلاميذه من فُقَهَاء الْأَنَام فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ لَا يُطلق عَلَيْهِ شيخ الْإِسْلَام لِأَن من كَانَ شيخ الْمُسلمين يكون شَيخا لِلْإِسْلَامِ
وَقد صرح بِإِطْلَاق ذَلِك عَلَيْهِ قُضَاة الْقُضَاة الْأَعْلَام وَالْعُلَمَاء الأفاضل أَرْكَان الْإِسْلَام وهم الَّذين ذكرهم مؤلف كتاب الرَّد الوافر فِي رسَالَته الَّتِي أبدع فِيهَا بِالْوَجْهِ الظَّاهِر وَقد استغنينا بِذكرِهِ عَن إِعَادَته فالواقف عَلَيْهِ يتأمله والناظر فِيهِ يتقبله
وَأما مناظرات هَذَا الإِمَام فكثيرة فِي مجَالِس عديدة فَلم يظْهر ذَلِك معانديه فِيمَا ادعِي بِهِ عَلَيْهِ برهَان غير تنكيدات فِي الْقُلُوب رسخت ثمار الشنان وقصارى ذَلِك أَنه حبس بالظلم والعدوان وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يعاب بِهِ ويشان
وَقد جرى على جلة من التَّابِعين الْكِبَار من قتل وَقيد وَحبس وإشهار وَقد حبس الإِمَام أبي حنيفَة رضي الله عنه وَمَات فِي الْحَبْس فَهَل قَالَ أحد من الْعلمَاء إِنَّه حبس حَقًا
وَحبس الإِمَام أَحْمد وَقيد لما قَالَ قولا صدقا وَالْإِمَام مَالك ضرب ضراب مؤلما شَدِيدا بالسياط وَالْإِمَام الشَّافِعِي حمل من الْيمن إِلَى بَغْدَاد بالقيد والإحبياط
وَلَيْسَ ببدع أَن يجْرِي على هَذَا الإِمَام مَا جرى على أُولَئِكَ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام
ثمَّ ذكر الْعَيْنِيّ وَفَاة ابْن تَيْمِية وَكَثْرَة الْخَلَائق فِي جنَازَته ومرثية عمر ابْن الوردي فِيهِ ثمَّ قَالَ
وَفِيه يَقُول الْعَلامَة أثير الدّين أَبُو حَيَّان رَحمَه الله تَعَالَى
…
قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا
…
مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر
فأظهر الْحق إِذْ أثاره درست
…
وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ الشرر
كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء فها
…
أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ ينْتَظر
…
وَمثل الإِمَام أبي حَيَّان إِذا شهد لَهُ بِأَنَّهُ نَاصِر الشَّرِيعَة ومظهر الْحق ومخمد الشَّرّ وَأَنه هُوَ الإِمَام الَّذِي كَانُوا ينتظرون مَجِيئه كَفاهُ مدحا وتزكية
فَإِذا كَانَ هَذَا الإِمَام بِهَذَا الْوَصْف بِشَهَادَة هَذَا الْعَلامَة وبشهادة غَيره من الْعلمَاء الْكِبَار فَمَا يَتَرَتَّب على من يُطلق عَلَيْهِ الزندقة أَو ينبزه بالْكفْر وَلَا يصدر هَذَا إِلَّا عَن غبي جَاهِل أَو مَجْنُون كَامِل فَالْأول يُعَزّر بغاية التَّعْزِير ويشهر فِي الْمجَالِس غَايَة التشهير بل يؤبد فِي الْحَبْس إِلَى أَن يحدث التَّوْبَة وَيرجع عَن ذَلِك بِأَحْسَن الأوبة وَالثَّانِي يداوى بالسلاسل والأصفاد وَالضَّرْب الشَّديد بِلَا أعداد
وَهَذَا كُله من فَسَاد أهل هَذَا الزَّمَان وتواني وُلَاة الْأَمر عَن إِظْهَار الْعدْل وَالْإِحْسَان وَقطع دابر المفسدين واستئصال شأفة المدبرين حَيْثُ يتَصَدَّى جَاهِل غبي يَدعِي أَنه عَالم يثلب أَعْرَاض عُلَمَاء الْمُسلمين وَلَا سِيمَا الَّذين مضوا إِلَى الْحق وَبِه كَانُوا عادلين
وَهَذَا الإِمَام مَعَ جلالة قدره فِي الْعُلُوم نقلت عَنهُ على لِسَان جم غفير من النَّاس كرامات ظَهرت مِنْهُ بِلَا التباس وأجوبة قَاطِعَة عِنْد السُّؤَال من المعضلات من غير توقف بِحَالَة من الْحَالَات
وَمن جملَة مَا سُئِلَ عَنهُ وَهُوَ على كرسيه يعظ النَّاس والمجلس غاص بأَهْله فِي رجل يَقُول لَيْسَ إِلَّا الله وَيَقُول الله فِي كل مَكَان هَل هُوَ كفر أَو إِيمَان
فَأجَاب على الْفَوْر من قَالَ أَن الله تَعَالَى بِذَاتِهِ فِي كل مَكَان فَهُوَ مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْمُسلمين بل هُوَ مُخَالف للملل الثَّلَاث
بل الْخَالِق سبحانه وتعالى بَائِن من الْمَخْلُوقَات لَيْسَ فِي مخلوقاته شَيْء من ذَاته وَلَا فِي ذَاته شَيْء من مخلوقاته بل هُوَ الْغَنِيّ عَنْهَا الْبَائِن بِنَفسِهِ مِنْهَا
وَقد اتّفق الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَسَائِر أَئِمَّة الدّين أَن قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} الْحَدِيد 4 لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه مختلط بالمخلوقات وَحَال فِيهَا وَلَا أَنه بِذَاتِهِ فِي كل مَكَان بل هُوَ سبحانه وتعالى مَعَ كل شَيْء بِعِلْمِهِ وَقدرته وَنَحْو ذَلِك فَالله سبحانه وتعالى مَعَ العَبْد أَيْنَمَا كَانَ يسمع كَلَامه وَيرى أَفعاله وَيعلم سره ونجواه رَقِيب عَلَيْهِم مهيمن عَلَيْهِم بل السَّمَوَات الأَرْض وَمَا بَينهمَا كل ذَلِك مَخْلُوق لله لَيْسَ الله بِحَال فِي شَيْء مِنْهُ سُبْحَانَهُ {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} الشورى 11 لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا أَفعاله
بل يُوصف الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَبِمَا وَصفه رَسُوله من غير تكييف وَلَا تَمْثِيل وَمن غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَلَا تمثل صِفَاته بِصِفَات خلقه
وَمذهب السّلف إِثْبَات من غير تَشْبِيه وتنزيه بِلَا تَعْطِيل وَقد سُئِلَ الإِمَام مَالك رضي الله عنه عَن قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى}
طه 5 فَقَالَ الاسْتوَاء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة
فَهَذَا الإِمَام كَمَا رَأَيْت عقيدته وكاشفت سَرِيرَته فَمن كَانَ على هَذِه العقيدة كَيفَ ينْسب إِلَى الْحُلُول والاتحاد والتجسيم أَو مَا يذهب إِلَيْهِ أهل الِاتِّحَاد
أعاذنا الله وَإِيَّاكُم من الزيغ والضلال وَالْفساد وهدانا إِلَى سبل الْخَيْر والرشاد إِنَّه على كل شَيْء قدير وبالإجابة جدير
حَرَّره منمقا فَقير ربه الْغَنِيّ أَبُو مُحَمَّد مَحْمُود بن أَحْمد الْعَيْنِيّ عَامله الله بِلُطْفِهِ الْخَفي والجلي بتاريخ الثَّامِن عشر من ربيع الأول عَام خَمْسَة وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة بِالْقَاهِرَةِ المحروسة
20 -
وَهَذَا صُورَة تقريظ الإِمَام وَشَيخ الْإِسْلَام التفهني الْحَنَفِيّ
الْحَمد لله الَّذِي جعل قُلُوب الْعلمَاء كنوز لطائف الحكم وألسنتهم مَكْفُوفَة عَمَّا فِيهِ نقص أَو جرح أَو ألم وأسماعهم عَن سَماع قَول الْفُحْش فِي صمم وخصهم بَين الْأَنَام بجلائل النعم وجعلهم محفوظين عَن الْخَوْض فِي الْأَعْرَاض متجانبين عَمَّا يُؤَدِّي إِلَى ظُهُور الْأَغْرَاض
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث للْعَرَب والعجم وعَلى آله وَأَصْحَابه ذَوي الْكَرم والهمم
وَبعد فَإِن صَاحب هَذَا التَّأْلِيف قد أمعن وأجاد وَبَين وأتقن وَأفَاد فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَالْمرَاد من الرَّد على من أكفر عُلَمَاء الْإِسْلَام وهم الْأَئِمَّة
الْأَعْلَام بنسبتهم الشَّيْخ الْعَالم الناسك تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية الى كَونه شيخ الْإِسْلَام
فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية كَانَ على مَا نقل إِلَيْنَا من الَّذين عاشروه وَمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ من كَلَام تِلْمِيذه ابْن الْقيم الجوزية الَّذِي سَارَتْ تصانيفه فِي الْآفَاق كَانَ عَالما مفننا متقنا متقللا من الدُّنْيَا معرضًا عَنْهَا مُتَمَكنًا من إِقَامَة الْأَدِلَّة على الْخُصُوم حَافِظًا للسّنة عَارِفًا بطرقها عَالما بالأصلين أصُول الدّين وأصول الْفِقْه قَادِرًا على الإستنباط لإستخراج الْمعَانِي لَا يلومه فِي الْحق لومة لائم قَائِما على أهل الْبدع المجسمة والحلولية والمعتزلة وَالرَّوَافِض وَغَيرهم
وَالْإِنْسَان إِذا لم يخالط وَلم يعاشر يسْتَدلّ على أَحْوَاله وأوصافه بآثاره
وَلَو لم يكن من آثاره إِلَّا مَا اتّصف بِهِ تِلْمِيذه ابْن الْقيم الجوزية من الْعلم لكفى ذَلِك دَلِيلا على مَا قُلْنَاهُ
وَمَا نقل إِلَيْنَا مِمَّا اجْتمع فِي جنَازَته من الْخلق الَّتِي لَا تحصى حَتَّى شبهت جنَازَته بِجنَازَة الإِمَام أَحْمد رضي الله عنه عِبْرَة لمن اعْتبر
وَمَا نقل إِلَيْنَا من تسلطه على الجآن المردة عِبْرَة أَيْضا قَالَ تِلْمِيذه ابْن
الْقيم الجوزية عِنْد كَلَامه عَن الصرع فِي الطِّبّ النَّبَوِيّ وَاخْتَارَ أَن الصرع على قسمَيْنِ صرع يتَعَلَّق بالأخلاط وصرع يتَعَلَّق بالأرواح الخبيثة كَانَ شَيخنَا ابْن تَيْمِية يَأْتِي إِلَى المصروع وَيتَكَلَّم فِي أُذُنه بِكَلِمَات فَيخرج الجني مِنْهُ فَلَا يعود إِلَيْهِ بعد ذَلِك وحكايته مَعَ الَّذِي اختطفت زَوجته مَعْرُوفَة وَمَعَ الَّذِي كَانَ يرْتَفع إِلَى السّقف مَعْرُوفَة أَيْضا
فَمن كَانَ يَتَّصِف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف كَيفَ لَا يلقب بشيخ الْإِسْلَام
وَمذهب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة لَا يجوز تَكْفِير أجد من أهل الْقبْلَة أَعم من أَن يكون سنيا أَو معتزليا أَو شِيعِيًّا أَو من الْخَوَارِج وَهُوَ المروى عَن أبي حنيفَة رضي الله عنه فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن طَائِفَة من الْخَوَارِج فَقَالَ هم أَخبث الْخَوَارِج فَقيل هَل تكفرهم فَقَالَ لَا وَهَكَذَا الْمَرْوِيّ عَن الشَّافِعِي والأشعري وَأبي بكر الرَّازِيّ
وَقد أَخْبرنِي من حضر مجْلِس هَذَا الْمُكَفّر فَقَالَ ابْن تَيْمِية كَافِر مَجُوسِيّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى خير مِنْهُ فَإِن النَّصَارَى وَالْيَهُود لَهُم كتاب وَابْن تَيْمِية لَا كتاب لَهُ فنعوذ بِاللَّه من هَذِه النزغة الشيطانية الفظيعة القبيحة مَعَ أَنه لم ينْقل عَن ابْن تَيْمِية كَلَام يَقْتَضِي كفرا وَلَا فسقا وَلَا مَا يشينه فِي دينه
وَقد كتبت فِي زَمَنه محَاضِر بِجَمَاعَة من الْعلمَاء الْعُدُول اطَّلَعْنَا عَلَيْهَا بِأَنَّهُ لم يَقع مِنْهُ شَيْء مِمَّا يشينه فِي دينه ووصفوه فِي تِلْكَ المحاضر بأعظم مِمَّا قُلْنَاهُ من أَوْصَافه الْمُتَقَدّمَة وَإِنَّمَا قَامَ عَلَيْهِ بعض الْعلمَاء فِي مَسْأَلَتي الزِّيَارَة وَالطَّلَاق وَقَضيته من قَامَ عَلَيْهِ مَشْهُورَة
والمسألتان المذكورتان ليستا من أصُول الْأَدْيَان وَإِنَّمَا هما من فروع
الشَّرِيعَة الَّتِي أجمع الْعلمَاء على أَن المخطىء فِيهَا مُجْتَهدا مثاب لَا يكفر وَلَا يفسق وَالشَّيْخ كَانَ يتَكَلَّم فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بطرِيق الإجتهاد
وَقد ناظره من أنكر عَلَيْهِ فيهمَا مناظرة مَشْهُورَة بأدلة يحْتَاج من عَارضه فِيهَا إِلَى التَّأْوِيل ثمَّ قَالَ بعد كَلَام طَوِيل عَن الْمُعْتَرض وكما وَقع لَهُ مثل ذَلِك فِي حق شخص مِمَّن أجمع النَّاس على علمه وخيره وَدينه وتبحره فِي الْعُلُوم وَهُوَ الشَّيْخ شمس الدّين الْبِسَاطِيّ قَاضِي الْقُضَاة الْمَالِكِي بالديار المصرية
فنسأل الله أَن يَتُوب عَلَيْهِ وَأَن يصون لِسَانه ولساننا عَن الزلل آمين
قَالَ ذَلِك عبد الرَّحْمَن التفهني الْحَنَفِيّ عَامله الله بِلُطْفِهِ الْخَفي فِي رَابِع عشر ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة
21 -
هَذَا صُورَة تقريظ مَا كتبه الشَّيْخ الإِمَام وَشَيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ
قَالَ بعد الْخطْبَة وقفت على هَذَا التصنيف الْجَامِع والمنتقى البديع المطرب للسامع وعملت بِشُرُوط الواقفين من اسْتِيفَاء النّظر فَوَجَدته عقدا منظما بالدرر يفوق عُقُود الجمان ويزري بقلائد العقيان ويضوع مسك الثَّنَاء على جَامعه مدى الزَّمَان وَقَالَ لِسَان الْحَال فِي حَقه لَيْسَ الْخَبَر كالعيان وَكَيف لَا هُوَ مُشْتَمل على مَنَاقِب عَالم زَمَانه وَالْفَائِق على أقرانه
والذاب عَن شَرِيعَة الْمُصْطَفى بِاللِّسَانِ والقلم والمناضل عَن الدّين الحنيفي وَكم أبدى من الحكم
صَاحب المصنفات الْمَشْهُورَة والمؤلفات المأثورة الناطقة بِالرَّدِّ على أهل الْبدع والإلحاد الْقَائِلين بالحلول والاتحاد وَمن هَذَا شَأْنه كَيفَ لَا يلقب بشيخ الْإِسْلَام وينوه بِذكرِهِ بَين الْعلمَاء الْأَعْلَام وَلَا عِبْرَة بِمن يرميه بِمَا لَيْسَ فِيهِ أَو ينْسبهُ بِمُجَرَّد الأهواد إِلَى قَول غير وجيه فَلم يضرّهُ قَول الْحَاسِد والباغي والجاحد والطاغي
…
وَمَا ضرّ نور الشَّمْس إِن كَانَ نَاظرا
…
إِلَيْهِ عُيُون لم تزل دهرها عميا
حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه
…
فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم
…
أعاذنا الله من حسد يسد بَاب الْإِنْصَاف ويصد عَن جميل الْأَوْصَاف
وَكَيف يجوز أَن يكفر من لقب هَذَا الْعَالم بشيخ الْإِسْلَام ومذهبنا أَن من أكفر أَخَاهُ الْمُسلم بِغَيْر تَأْوِيل فقد كفر لِأَنَّهُ سمى الْإِسْلَام كفرا
وَلَقَد افتخر قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين السُّبْكِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَرْجَمَة أَبِيه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ فِي ثَنَاء الْأَئِمَّة عَلَيْهِ بِأَن الْحَافِظ الْمزي لم يكْتب بِخَطِّهِ لَفْظَة شيخ الْإِسْلَام إِلَّا لِأَبِيهِ وللشيخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية وللشيخ شمس الدّين ابْن أبي عمر فلولا أَن ابْن تَيْمِية فِي غَايَة الْعُلُوّ فِي الْعلم وَالْعَمَل مَا قرن ابْن السُّبْكِيّ أَبَاهُ مَعَه فِي هَذِه المنقبة الَّتِي نقلهَا وَلَو كَانَ ابْن تَيْمِية مبتدعا أَو زنديقا مَا رَضِي أَن يكون أَبوهُ قرينا لَهُ
نعم قد نسب الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية لِأَشْيَاء أنكرها عَلَيْهِ
معاصروه وانتصب للرَّدّ عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ فِي مَسْأَلَتي الزِّيَارَة وَالطَّلَاق وأفرد كلا مِنْهُمَا بتصنيف وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يَقْتَضِي شينه أصلا وكل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا صَاحب هَذَا الْقَبْر يَعْنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم والسعيد من عدت غلطاته وانحصرت سقطاته
ثمَّ إِن الظَّن بالشيخ تَقِيّ الدّين أَنه لم يصدر مِنْهُ ذَلِك تهورا وعدوانا حاشا لله بل لَعَلَّه لرأي رَآهُ وَأقَام عَلَيْهِ برهانا وَلم نقف إِلَى الْآن بعد التتبع والفحص على شَيْء من كَلَامه يَقْتَضِي كفره وَلَا زندقته إِنَّمَا نقف على رده على أهل الْبدع والأهواء وَغير ذَلِك مِمَّا يدل على بَرَاءَته وعلو مرتبته فِي الْعلم وَالدّين
وتوقير الْعلمَاء والكبار وَأهل الْفضل مُتَعَيّن وَقد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَرْمِي رجل رجلا بِالْفِسْقِ أَو الْكفْر إِلَّا ارْتَدَّت عَلَيْهِ إِن لم يكن صَاحبه كَذَلِك إنتهى مُلَخصا وَالله أعلم
وَكتبه الْفَقِير إِلَى الله صَالح بن عمر البُلْقِينِيّ الشَّافِعِي فِي ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة
وَقد كتب أَيْضا جماعات آخَرُونَ من التقريظ أضربنا عَنهُ خوف الإطالة وَصلى الله وَسلم على سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين وعَلى آل كل وَصَحبه أَجْمَعِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
22 -
قَالَ الْمُؤلف مرعي الْحَنْبَلِيّ سامحه الله تَعَالَى
قد أَحْبَبْت أَن أكتب تَرْجَمَة فِي ابْن تَيْمِية شيخ الْإِسْلَام اقْتِدَاء بأولئك الْأَئِمَّة الْأَعْلَام ومحبة فِي ذَلِك الإِمَام
فَأَقُول قد علمنَا علم الْيَقِين وتحققنا التَّحْقِيق الْمُبين من الثِّقَات الناقلين وأئمة الحَدِيث الناقدين أَن ابْن تَيْمِية الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هُوَ الإِمَام الْحَافِظ الْحجَّة الْعلم الْمُجْتَهد الضَّابِط المتقن الْمُفَسّر أعجوبة الزَّمَان ترجمان الْقُرْآن سيد الْمُحَقِّقين وَسَنَد المدققين وَشَيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين والمعراج الْأَعْلَى فِي المعارف والمنهاج الْأَسْنَى فِي الْحَقَائِق والعوارف بروج سَمَاء مَعْرفَته كواكب الْعِنَايَة ومنشور رياض حَضْرَة أَعْلَام الْولَايَة بَحر لَيْسَ للبحر مَا عِنْده للجواهر وَحبر سما على السَّمَاء وَأَيْنَ للسماء مثل مَا لَهُ من الزواهر إنتظمت بِقَدرِهِ الْعَظِيم عُقُود الْملَّة الإسلامية وابتسمت بدره النظيم ثغور الثغور المحمدية تنوع فِي المباحث وفنونها وتضوع فِي الرياض وغصونها وتفوه بفصاحة وبلاغة فصاحة قيس وبلاغة أَوْس من دونهَا وخاض من الْعُلُوم فِي بحار عميقة وراض النَّفس ففاق فِي سلوك الطَّرِيقَة وَهُوَ فَخر الْمُتَأَخِّرين على الْحَقِيقَة
…
تقدم رَاكِبًا فيهم إِمَامًا
…
ولولاه لما ركبُوا وَرَاءه
…
فريد الْعَصْر إِلَّا أَنه شيخ الْإِسْلَام وحيد الدَّهْر إِلَّا أَنه لَا يقبل فَضله الانقسام ومفرد الزَّمَان إِلَّا أَنه الْقَائِم مقَام الْجمع والمستغرق لأوصاف
الْإِنْسَان عِنْد كل منظر وَسمع وخلاصة أهل الْفرق وَالتَّمَيُّز وكشاف أسرار البلاغة بِاللَّفْظِ الْوَجِيز إِذا أتعب رَاحَته بقلم الْفتيا أراح أَرْوَاح أهل الدُّنْيَا
…
حبر إِذا مد اليراع جرى الندى
…
من راحتيه فضائلا وعجائبا
كالبحر يقذف للقريب جواهرا
…
جودا وَيبْعَث للبعيد سحائبا
…
المتحلي كَلَامه بقلائد العقيان ونظامه ببلاغة قس وفصاحة سحبان كَيفَ لَا وَهُوَ الفصيح الَّذِي إِن تكلم أجزل وأوجز وأسكت كل ذِي لسن ببلاغته وأعجز بل الْبَحْر الَّذِي جرت فِيهِ سفن الأذهان فَلم يدْرك قراره وَعجز النظراء والبلغاء فَلم يخوضوا تياره مَا برز فِي موطن بحث إِلَّا برز على الأقران وَلَا أجْرى جِيَاد علومه إِلَى غَايَة إِلَّا كَانَت مُطلقَة الْعَنَان وَلَا أخبر عَن فَضله من رَآهُ إِلَّا تمثل ب لَيْسَ الْخَبَر كالعيان سَارَتْ بتصانيفه الركْبَان وتفنن بمدحها أولُوا الفخامة والشان
…
تصانيف قد أنشأ بِحسن براعة
…
وَحسن عِبَارَات كدر تنضدا
فَسَار بهَا من لَا يسير مشمرا
…
وغنى بهَا من لَا يُغني مغردا
…
فَإِن كنت تعرف الْحق عرفت أَهله أَو تَدْرِي مَا الْفضل أدْركْت فَضله إِلَّا أَن تكون ذَا عصبية وحمية فتجحد بالهوى فَضَائِل ابْن تَيْمِية وتعمى عَن لمعان أنواره البهية شعر
…
إِذا لم يكن للمرء عين صَحِيحَة
…
فَلَا غرو أَن يرتاب وَالصُّبْح مُسْفِر
وَمن يتبع لهواه أعمى بَصِيرَة
…
وَمن كَانَ أعمى فِي الدجا كَيفَ يبصر
…
فطالع كِتَابه الْكَوَاكِب الدرية فِي الرَّد على الروافض والإمامية تَجِد الْعجب أَو الرَّد على الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَأهل الْبدع يداخلك الطَّرب ومواعظه تَجِد فِيهَا حِكْمَة لُقْمَان أَو فَتَاوِيهِ تَجِد عِنْدهَا أَبَا حنيفَة النُّعْمَان أَو
زهده وورعه تَجِد إِبْرَاهِيم بن أدهم وَأحمد بن حَنْبَل فِي الزّهْد والعرفان
وَلَقَد كَانَ بحرا يتقاذف موجه بالدرر وعقدا فِي جيد الدَّهْر يتلألأ بالغرر فرائد فَوَائده تخجل جَوَاهِر الْعُقُود وجواهر فرائده تزري بقلائد العقيان والنقود وَكَانَت الأقلام خداما لخواطره والأسماع نظاما لجواهره والطروس سواحل لزواخره وأسواق الْفضل والآداب بِوُجُودِهِ قَائِمَة وَتَحْقِيق الْعُلُوم فِي أفنانه دائمة
وَكَانَت طلعته الباهرة مطلعا لشموس السَّعَادَة وغرته الزاهرة وسما لبلوغ السِّيَادَة وأبوابه موردا لأصناف الكرامات واعتابه مصدرا لأنواع الْمَعَالِي والكمالات
وَلَقَد كَانَ الزّهْد شعاره والورع وقاره وَالذكر أنيسه والفكر جليسه وَظَهَرت لَهُ خفايا الْأَسْرَار ولاحت لَهُ خبايا الْحَقَائِق من وَرَاء الأستار وكشف الْعَطاء عَن حقائق الاخرة وَهُوَ فِي هَذِه الدَّار وتفجرت ينابيع الحكم على لِسَانه وفاضت عُيُون الْحَقَائِق من خلال جنانه وأنشأت أهل الْوُجُود عباراته وأنعشت أَرْوَاح السامعين إشاراته
هَذَا وَإِنِّي وَإِن أعمل صارم البراعة ومداها وأبلغ عَن مسالك البراعة مداها وألمح من الإبداع غواني المغاني وأعمي بطيات الأقلام ظباء الْمعَانِي ورمت تعديد بروج نُجُوم فضائله وتحديد تخوم مدرج فواضله الَّتِي يتنافس فِيهَا الأماثل وتتباهى لتناهت الْأَيَّام وَهِي لَا تتناهى ولعرفت أَن تَعْبِير لساني قُصُور وَاعْتَرَفت بِأَنِّي من جنان مدائحه فِي قُصُور
وَأما مَا قيل من أَن الشَّيْخ منع من زِيَارَة الْقُبُور فحاشا لله ومعاذ الله هَذِه كتبه وفتاويه ومناسكه مصرحة باستحباب زِيَارَة قُبُور الْمُسلمين
فضلا عَن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام بل صرح بِجَوَاز زِيَارَة قُبُور الْكفَّار
نعم حكى خلافًا للْعُلَمَاء فِيمَا إِذا سَافر لمُجَرّد زِيَارَة الْقُبُور
فَمنهمْ من قَالَ بِالْجَوَازِ وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور
وَمِنْهُم من قَالَ بِالْكَرَاهَةِ
وَمِنْهُم من قَالَ بِالتَّحْرِيمِ وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل ابْن بطة وَابْن عقيل إِمَامًا الحنبلية وَالْإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ إِمَام الشَّافِعِيَّة وَهُوَ اخْتِيَار القَاضِي عِيَاض فِي إكماله وَهُوَ إِمَام الْمَالِكِيَّة وَمَال إِلَى هَذَا القَوْل شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية
وَالْحجّة فِي ذَلِك الحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ قَوْله عليه السلام لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الحَدِيث
وَقد انتصب للرَّدّ على السُّبْكِيّ ابْن عبد الْهَادِي فِي مُجَلد كَبِير سَمَّاهُ الصارم المنكي فِي الرَّد على السُّبْكِيّ
وَأما مَسْأَلَة الطَّلَاق فَإِن ابْن تَيْمِية رحمه الله يَقُول إِن الطَّلَاق الثَّلَاث دفْعَة وَاحِدَة لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة وَهُوَ لم ينْفَرد بِهَذَا القَوْل بل هُوَ يرْوى عَن عَليّ وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس
وَقَالَ بِهِ عَطاء وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو الشعْثَاء وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَالْحجاج بن أَرْطَاة وَقَالَ بِهِ شُيُوخ من قرطبة وَجَمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْخُشَنِي فَقِيه عصره وَأصبغ بن الْحباب وَاخْتَارَ هَذَا الإِمَام أَبُو حَيَّان فِي تَفْسِيره النَّهر وَالْإِمَام ابْن الْقيم وَتكلم على ذَلِك فِي نَحْو أَرْبَعِينَ ورقة
فلينكر على هَؤُلَاءِ من يُنكر على ابْن تَيْمِية لَا سِيمَا وَقد صرح الْعلمَاء إِن مَذْهَب الْأَئِمَّة قاطبة أَنه لَا يجوز للمجتهد أَن يُقَلّد بل يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمَا رَآهُ اجْتِهَاده وَابْن تَيْمِية كَانَ مُجْتَهدا بِشَهَادَة عُلَمَاء عصره فَلَا وَجه للإنكار عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرّد العصبية وحمية الْجَاهِلِيَّة وَمَا أحسن قَول ابْن فضل الله الْعمريّ فِي مرثيته الْمُتَقَدّمَة
…
عَلَيْك فِي الْبَحْث أَن تبدي غوامضه
…
وَمَا عَلَيْك إِذا لم تفهم الْبَقر
…
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ الحبر الَّذِي فاق بصفاته الْأَوَائِل وَالْبَحْر الْمُشْتَمل بِذَاتِهِ على جَوَاهِر الْفَضَائِل وَقد أَنَاخَ ابْن عبد السَّلَام ركائبه بدار السَّلَام عَلَيْهِ الرَّحْمَة والرضوان وسحائب الْعَفو والغفران وخواطر على مر الْأَزْمَان رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم
…
مَا لأمر إِلَّا نسق وَاحِد
…
مَا فِيهِ من حمد وَلَا ذمّ
وَقَالَ الآخر
…
وَإِذا بدا لَك فَاعْلَم أَنَّك لست هُوَ
…
كلا وَلَا أَيْضا تكون سواهُ
…
إِلَى أَمْثَال هَذِه الْإِشْعَار
وَفِي النثر مَا لَا يُحْصى ويوهمون الْجُهَّال أَن هَذِه الزندقة الَّتِي يسمونها توحيدا كَانَ عَلَيْهَا مَشَايِخ الْإِسْلَام
وأئمة الْهدى متفقون على تَكْفِير هَؤُلَاءِ وَإِن الله تَعَالَى لَيْسَ هُوَ خلقه وَلَا جُزْءا من خلقه وَلَا صفة من خلقه بل هُوَ سُبْحَانَهُ متميز بِنَفسِهِ المقدسة بَائِن بِذَاتِهِ المعظمة عَن مخلوقاته وَبِذَلِك جَاءَت الْكتب الإلهية من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَعَلِيهِ فطر الله عباده وعَلى ذَلِك دلّت الْعُقُول
وَأكْثر هَؤُلَاءِ الاتحادية جهال لَا يفرقون بَين الِاتِّحَاد الْعَام الْمُطلق الَّذِي يذهب إِلَيْهِ الْفَاجِر الْعَفِيف التلمساني وذووه وَبَين الِاتِّحَاد الْمعِين الَّذِي تذْهب إِلَيْهِ النَّصَارَى
ثمَّ قَالَ إِن قَول الاتحادية يجمع كل شرك فِي الْعَالم وهم لَا يوحدون الله وَإِنَّمَا يوحدون الْقدر الْمُشْتَرك بَينه وَبَين الْمَخْلُوقَات فهم برَبهمْ يعدلُونَ
وَلِهَذَا حدث الثِّقَة أَن ابْن سبعين كَانَ يُرِيد الذّهاب إِلَى الْهِنْد وَقَالَ إِن أَرض الْإِسْلَام لَا تسعه لِأَن الْهِنْد مشركون يعْبدُونَ كل شَيْء حَتَّى النَّبَات وَالْحَيَوَان وَهَذَا حَقِيقَة قَول الاتحادية
قَالَ وَأعرف نَاسا لَهُم اشْتِغَال فِي الفلسفة وَالْكَلَام وَقد تألهوا على
طَرِيق الاتحادية فَإِذا أخذُوا يصفونَ الرب بالْكلَام قَالُوا لَيْسَ بِكَذَا لَيْسَ بِكَذَا ووصفوه بِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَات كَمَا يَقُوله الْمُسلمُونَ لَكِن يجحدون صِفَات الْإِثْبَات الَّتِي جَاءَت بهَا الرُّسُل
وَإِذا صَار لأَحَدهم ذوق وَوجد وتأله سلك على طَرِيق الاتحادية وَقَالَ إِنَّه هُوَ الموجودات كلهَا فَإِن قيل لَهُ أَيْن ذَلِك النَّفْي من هَذَا الْإِثْبَات قَالَ ذَاك عقدي وَهَذَا ذوقي
فَيُقَال لهَذَا الضال كل ذوق وَوجد لَا يُطَابق الِاعْتِقَاد فأحدهما أَو كِلَاهُمَا بَاطِل وَإِنَّمَا الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات
وَلَو سلك هَؤُلَاءِ طَرِيق الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَاتبعُوا طَرِيق السَّابِقين الْأَوَّلين لوجدوا برد الْيَقِين وقرة الْعين
وَقَالَ ابْن تَيْمِية فِي جَوَاب سُؤال سُئِلَ عَنهُ يتَعَلَّق بِكَلِمَات من كتاب الفصوص مَا ملخصه هَذِه الْكَلِمَات الْمَذْكُورَة كل كلمة مِنْهَا هِيَ الْكفْر الَّذِي لَا نزاع فِيهِ بَين أهل الْملَل من الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى فضلا عَن كَونه كفرا فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام فَإِن قَول الْقَائِل إِن آدم للحق تَعَالَى بِمَنْزِلَة إِنْسَان الْعين من الْعين الَّذِي يكون بِهِ النّظر يَقْتَضِي أَن آدم جُزْءا من الْحق وَأَنه أفضل أَجْزَائِهِ وَيدل لذَلِك قَوْله بعد إِن الْحق المنزه هُوَ الْخلق الْمُشبه وَقَوله كل ذَلِك من عين وَاحِدَة لَا بل هُوَ الْعين الْوَاحِدَة وَهُوَ الْعُيُون الْكَثِيرَة {فَانْظُر مَاذَا ترى قَالَ يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر} الصافات 102 وَالْولد عين أَبِيه فَمَا رآى يذبح إِلَّا نَفسه {وفديناه بِذبح عَظِيم} الصافات 107 فَظهر بِصُورَة كَبْش من ظهر بِصُورَة إِنْسَان وَظهر بِصُورَة لَا بِحكم ولد من هُوَ عين الْوَلَد {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا} النِّسَاء 1 فَمَا نكح سوى نَفسه
ثمَّ قَالَ فِي مَوضِع آخر وَهُوَ الْبَاطِن عَن كل فهم إِلَّا عَن فهم من قَالَ إِن الْعَالم صورته وهويته
وَقَالَ من أَسْمَائِهِ الْحسنى الْعلي على من وَمَا ثمَّ إِلَّا هُوَ وَعَن مَاذَا وَمَا هُوَ إِلَّا هُوَ فَعَلُوهُ لنَفسِهِ وَهُوَ من حَيْثُ الْوُجُود عين الموجودات فالمسمى محدثات هِيَ الْعلية لذاتها وَلَيْسَت إِلَّا هُوَ إِلَى أَن قَالَ فَهُوَ عين مَا ظهر وَعين مَا بطن فِي حَال ظُهُوره وَمَا ثمَّ من يرَاهُ غَيره وَمَا ثمَّ من يبطن عَنهُ سواهُ فَهُوَ ظَاهر لنَفسِهِ بَاطِن عَنهُ وَهُوَ الْمُسَمّى أَبُو سعيد الخراز وَغير ذَلِك من أَسمَاء المحدثات
وَقَالَ الأثري الْحق يظْهر بِصِفَات المحدثات وَأخْبر بذلك عَن نَفسه وبصفات النَّقْص والذم أَلا ترى الْمَخْلُوق يظْهر بِصِفَات الْحق وَهِي من أَولهَا إِلَى آخرهَا صِفَات لَهُ وأمثال هَذَا الْكَلَام فَإِن صَاحب الفصوص وَأَمْثَاله مثل صَاحبه القونوي والتلمساني وَابْن سبعين والششتري وَابْن الفارض واتباعهم مَذْهَبهم الَّذِي هم عَلَيْهِ أَن الْوُجُود وَاحِد وهم يسمون أهل وحدة الْوُجُود وَيدعونَ التَّحْقِيق والعرفان وهم يجْعَلُونَ وجود الْخَالِق وجود الْمَخْلُوقَات وكل مَا تتصف بِهِ الْمَخْلُوقَات من حسن وقبح ومدح وذم إِنَّمَا اتّصف بِهِ عِنْدهم عين الْخَالِق وَلَيْسَ للخالق عِنْدهم وجود مباين لوُجُود الْمَخْلُوقَات مُنْفَصِل عَنْهَا أصلا بل عِنْدهم مَا ثمَّ غير الْخَالِق فَعبَّاد الْأَصْنَام لم يعبدوا غَيره لِأَنَّهُ مَا عِنْدهم لَهُ غير وَلِهَذَا جعلُوا قَوْله تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} الْإِسْرَاء 23 أَي حكم أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وَمَا حكم الله بِشَيْء إِلَّا وَقع إِذْ لَيْسَ عِنْدهم غَيره يتَصَوَّر عقلا فَكل عَابِد صنم إِنَّمَا يعبد الله وَلِهَذَا جعل صَاحب هَذَا الْكتاب عباد الْعجل مصيبين وَذكر أَن مُوسَى إِنَّمَا أنكر على هَارُون إِنْكَاره عَلَيْهِم عبَادَة الْعجل وَقَالَ كَانَ مُوسَى أعلم بِالْأَمر من هَارُون لِأَنَّهُ علم مَا عَبده أَصْحَاب الْعجل لعلمه أَن الله قضى أَن لَا يعبدوا إِلَّا إِيَّاه وَمَا حكم الله
بِشَيْء إِلَّا وَقع فَكَانَ عتب مُوسَى أَخَاهُ هَارُون بإنكاره وَعدم اتساعه فَإِن الْعَارِف من يرى الْحق فِي كل شَيْء بل يرَاهُ عين كل شَيْء وَلِهَذَا يجْعَلُونَ فِرْعَوْن من كبار العارفين الْمُحَقِّقين وَأَنه كَانَ مصيبا فِي ادعائه الربوبية فجعلوه مصيبا فِيمَا كفره الله بِهِ
وَمن نظر فِي قَوْلهم علم أَنه أعظم من كفر الْيَهُود وَالنَّصَارَى
وَقد اتّفق سلف الْأمة وأئمتها أَنه تَعَالَى بَائِن من مخلوقاته لَيْسَ فِي ذَاته شَيْء من مخلوقاته وَلَا فِي مخلوقاته شَيْء من ذَاته
وَالسَّلَف وَالْأَئِمَّة كفرُوا الْجَهْمِية لما قَالُوا إِنَّه فِي كل مَكَان وَمِمَّا أنكروه عَلَيْهِم أَنه كَيفَ يكون فِي الْبُطُون والحشوش والأخلية تَعَالَى الله عَن ذَلِك فَكيف من يَجعله نفس وجود الْبُطُون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار
وَاتفقَ سلف الْأمة وأئمتها على أَنه تَعَالَى لَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله وَهَؤُلَاء جَعَلُوهُ نفس الْأَجْسَام ووصفوه بِجَمِيعِ النقائص الَّتِي يُوصف بهَا كل كَافِر وَشَيْطَان وحشرات تَعَالَى الله عَن قَوْلهم
وَكَانَ عبد الله بن الْمُبَارك يَقُول إِنَّا لنحكي كَلَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلَا نستطيع أَن نحكي كَلَام الْجَهْمِية وَهَؤُلَاء شَرّ من الْجَهْمِية فَإِن الْجَهْمِية غَايَة قَوْلهم إِن الله تَعَالَى فِي كل مَكَان وَهَؤُلَاء قَوْلهم إِنَّه وجود كل مَكَان مَا عِنْدهم موجودان أَحدهمَا خَالق وَالْآخر مَخْلُوق وَذَلِكَ كفر
وَكَذَلِكَ قَوْلهم إِن الْمُشْركين لَو تركُوا عبَادَة الْأَصْنَام لجهلوا أَمر الْحق بِقدر مَا تركُوا مِنْهَا وَهُوَ من الْكفْر
الْمَعْلُوم بالاضطرار من جَمِيع الْملَل هَؤُلَاءِ الاتحادية رؤوسهم هم أَئِمَّة كفر يجب قَتلهمْ وَلَا تقبل تَوْبَة مِنْهُم إِذا أَخذ قبل التَّوْبَة فَإِنَّهُم من أعظم