المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على - الصورة الأدبية تاريخ ونقد

[علي علي صبح]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفصح الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.... وبعد.

1-

فالصورة في اللغة تحتاج من الباحث إلى الكشف عما يحول في حروفها من معان، وما يترقرق فيها من أضواء وظلال، وما توحي به من بوارق إشارات، وما تهدف إليه من غاية وشرف.

فمادة "الصورة" بضم الصاد، بمعنى الشكل. فصورة الشجرة شكلها، وصورة المعنى لفظه، وصورة الفكرة صياغتها.

والشكل هو ذلك المحس التي تراه، أو تسمعه الأذن، أو تشمه الأنف أو يتذوقه الفم، أو يشعر به الجسم، فهو الذي ينبه الحاسة، ويدفعها إلى الإعمال، ويمسح بالتسجيل، وعلى ذلك تكون الصورة الأدبية هي الألفاظ والعبارات، التي ترمز إلى المعنى، وتجسم الفكرة فيها، أو هي مدلول اللفظ الحسي، فكل لفظ يرجع في الأصل إلى مصدره الأول في اللغة، وهو الشيء المحسوس، فالأحمر مثلا يرجع إلى اللون المتميز القائم بجسم معين؛ لأن المعنى المجرد للون+ الأحمر لا يتحقق في الخارج، إلا قائمًا بالشيء، المحسوس وكذلك لفظ الشجرة يرجع إلى ذات الشجرة النامية على وجه الأرض، في جذورها وجذوعها، وفروعها وأوراقها وثمارها وأزهارها.

ص: 3

فالصورة على ذلك، تتحقق فيما توحي به الألفاظ من محسات متخيلة في النفس.

وقيل: إن مادة "الصورة" بضم الصاد، بمعنى النوع والصنف من الشيء.

فصورة الحمام، غير صورة النسور، وصورة الإنسان، غير صورة الأسد، فهذا نوع وذلك نوع آخر.

وعلى ذلك إذا أطلقت الصورة الأدبية، فإنها ترجع إلى أنواع الأدب من شعر ونثر فني ومقال ومسرحية، وقصة وأفصوصة، والأول أقرب لموضوعنا هذا؛ لأن الصورة توجد في كل الأنواع، فالشعر فيه صورة، والنثر الفني فيه صورة، وهكذا في القصة والمسرحية وغيرها من أجناس الأدب المختلفة؛ ولأن النوعية لا تتأتى إلا بعد أن يأخذ المجرد المطلق شكلًا يعرف به، وصورة يظهر فيها خارجًا عن الذهن، حتى يستطيع الشخص أن يتفاهم به مع غيره بالأشكال المتعارف عليها.

وبعد الشعر والنثر الفني والقصة إلى آخر الأقسام أجناسًا للأدب، يقوم كل جنس فيه على التشكيل بالصور والمحسات في الألفاظ والتراكيب، كما يؤلف الرسام فتاة أحلامه الساحرة في صورة غنية بالألوان والأشكال، والمخطوط والظلال، والأحجام، والأضواء، في تناسق وانسجام، وكذلك الشاعر في تصويره الأدبي.

2-

هذا ما يتصل بالمعنى اللغوي، وأما المعنى الذي اكتسبته المادة اللغوية من الاستعمال الأدبي، وما توحي به، حينما تنتقل في رياض الفنون في الأدب والشعر من روضة إلى أخرى، فالوصول إلى المعنى، ليس باليسير الهين، ولا السهل

ص: 4

اللين ومن قال ذلك قد احتجبت عنه أسرار اللغة وجمالها المكنون المستمر، وروحها المتجددة النامية وليس لها -كما عند المناطقة- حدود جامعة، ولا قيود مانعة.

واللغة لسان الأحياء، وعقل الخلق، في تقلب دائم، وحركة مستمرة إلى الأمام، والعقل والإحساس في نمو مطرد، يختلف من وقت لآخر، ومن أمة إلى أمة وهما معها في جبل يختلفان عن نفسيهما معًا في جبل آخر، وهو شأن اللغة بصفة عامة، فما بالك لو ارتقى الإنسان إلى أسمى -وفي السمو تيه وغموض- ما في اللغة، وهو التصوير والإبانة بدقة عما في النفس، وكنهها الدفين المبهم، فلا شك أن المشقة في تحديد التصوير ستكون أعظم، والجهد أوفر وأضخم، وخاصة إذا كان بإيجاز في سطر أو سطرين، وفقرة أو فقرتين، على ما جرى عرفًا واصطلاحًا في التعاريف والحدود.

وأرى أن في هذا الاتجاه تقليلًا من شأن التصوير، وعبثا بمفهومه الواسع وعجزًا عن فهم حقيقته الممتدة الرحبة، رحابة الجمال واللذة والألم، التي لن يصل إلى كنهها إلا من غاب في الوجود -وهو حي بين الناس- ولا يستطيع أن يفهم أحدًا ولا يفهم منه أحد.

والأمر كذلك إن بقي مطمع في الإيجاز والتجديد، وهو ما لا يقره الذوق الصادق والعقل الناقب في القديم والحديث.

والمقدمون في النقاد والأدباء ومن تكلموا في الجمال -كالغزالي مثلًا- لم يقصدوا -ولا كان من قصدهم- التحديد والتركيز لمعنى الصورة الأدبية، بل لم يقع لبعضهم وإن وقع للبعض الآخر، فمنهم من جرت على لسانه عفوًا، ومنهم من قصدها ولم يضع لها حدًّا موجزًا، كما حدد الاستعارة والتشبيه وغير ذلك، ولو أوشك

ص: 5

أحدهم على الإتيان بالمفهوم الصحيح، كالإمام عبد القاهر الجرجاني، لظهر قصوره في الإحاطة والشمول كحد مانع، وإن وفى الصورة في تحليلها الأدبي، ووقف على منظم منابع الجمال فيها.

وأما موقف المتأخرين من النقاد حديثا في بيان مفهوم الصورة، فلا شك أنهم قطعوا شوطًا طويلًا، بقدر الزمن الذي باعد بينهم وبين المتقدمين، ولكنهم أيضًا لم يحددوها في إيجاز ببغيه المنطق، ولم يعرفوها في تركيز العلوم والرياضة؛ لأنهم فهموا جلال القضية، وسموا شأنها وقد لف الكثيرون حولها وداروا، فمنهم من اهتدى إلى كشفها وإيضاحها وتحليلها، وإلى مصادر الجمال فيها، ومنهم من ضل فلم يحسن التحديد، وند عنه التوضيح، وزاد من تيههم جميعًا في بيان المفهوم للصورة الشعرية، تلك الصراعات الذهبية الواردة حديثًا في الأدب والنقد، حى صار التوضيح هو الآخر صعبًا وشاقًّا، ولعل في هذا حفزًا للهمم، وقتلًا للفراغ، وحضا على مواصلة العلم والبحث، ما دامت الدنيا:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} .

وأخشى أن يظن ظان أنني أضع العقبات لأصرفه عن التعمق في هذا البيان، أو على الأقل لينفرد الباحث هنا -بما وصل إليه- بالسبق والتقدير.

وأحسبني أنني لا أقصد هذا ولا ذاك، ولكن لأكشف عن حقيقة الخوض في هذا البحر العميق الذي لا قاع له ولا قرار في ذلك، هو سر الخلود والروعة والجلال.

ولا يظن أحد أيضًا أن المحدثين بانصرافهم عن التحديد والتركيز إلى التحليل والتوضيح قد عجزوا، ولكنهم باتجاههم هذا وصلوا في قوة ودقة إلى الكشف عن معالم الصورة، وبيان مظاهر الجمال فيها، فكان ذلك أكثر رفاء لنبل الصورة وتقديرًا لروعتها، وتوضيحًا لمغزاها وأثرها.

ص: 6

وهذا ما يجعلني أن أستبطن اتجاهات النقد في الصورة قديمًا خاصة ثم حديثًا لأوضح وجهة نظرهم فيها من خلال اتجاهي نحوها، وإبراز الكشف عنها.

ومن المقرر عند الجميع أن رأس الأمر في هذا يرجع إلى الأذواق، التي تختلف من ناقد لناقد، ومن أمة لأمة.

لذلك تناولت المفهوم لها متخذًا هذا المنهج، ليكون واضحًا -وعلى عجل- فالصورة الأدبية بحث مستقل متكامل، أجول فيه هنا وهناك، وأنقب وأثقب بالتحليل والموازنة والاستنتاج والاختراع وخطواتي ستترك علامات ما دمت في الطريق، وقلمى سيترك بصمات تميز صاحبها عمن قطع فيه شوطًا أو أشواطًا، والله سبحانه وتعالى أسأل أن ينفع به، وأن يسدد خطانا، والله ولي التوفيق.

دكتور/ علي علي مصطفى صبح.

ص: 7