الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: الصورة الأدبية في النقد الأدبي القديم
قبل أن أبدأ الحديث عن موقف القدماء من الصورة الأدبية، أستميح القارئ عذرًا في استعمال لفظ الصورة مع بضع القدماء؛ لأن البعض ربما كان لا يقصدها في حديثه عن الشعر، وغالبًا ما يقصد اللفظ أو الشكل، والأسلوب أو الصياغة والعبارة أو التركيب والنظم أو التأليف، إلى غير ذلك مما تسمح له ظروف التعبير والحياة، ومدى قدرته للإصابة فيه.
والذي قد يجيز لي التعبير بلفظ الصورة عندهم هو مقام البحث عنها في آرائهم وهل قد أصابوا في الوقوف على معناها أولًا؟ لأكشف من خلال ذلك مفهومها عند كل منهم غالبًا، هذه ناحية.
وناحية أخرى، وهي أن من البدهي ألا أرتقى فجأة إلى مفهوم الصورة الأدبية عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي أوشكت أن تبلغ الكمال لديه، أو أغفله هو كذلك وأبدأ بالنقد الحديث فيها، كما قام بذلك بعض الباحثين المحدثين1 ظنا منهم أن مفهومها لم يصل إليها النقاد القدامى من العرب إلا نادرًا، فرأيت من الضروري أن أعرض الصورة في النقد القديم قبل النقد الحديث، وهي أولًا بذرة، ثم أوضح كيف نبتت وترعرعت؟ وشبت واستوت، ونضجت واستقام أمرها.
1 د. مصطفى ناصف في "الصورة الأدبية" والدكتور ماهر حسن فهمي في "المذاهب النقدية" ص 211.
وليس من المعقول أن نفصل الصورة قديمًا عن قضية اللفظ والمعنى، وهي جوهرها ولبها وما اللفظ إلا الشكل؟ وما المعنى إلا المضمون؟ وهما اللذان أثارهما النقاد المحدثين. وكيف لا يتناول النقد الأساس الأول الذي قامت عليه المذاهب الأدبية في العصر العباسي فوجدنا منه شعرًا مطبوعًا، وآخر مصنوعًا، شعرًا يهتم بالمعنى، وآخر يهتم باللفظ. يقول نقادنا عن الشعر: إنما هو عواطف الشاعر وشعوره يركبها خيال وملكات قادرة ومقدرة فنية موهوبة في صور من الألفاظ والأساليب1.
ولا مبرر لدعوة الذين يغمضون أعينهم عن هذه القضية، مدعين أنها دراسة عميقة لا قيمة لها في الصورة، وتبدأ القيمة عندهم من ابن رشيق وعبد القاهر، بل هما أيضًا كانت نظرتهما قاصرة، لم توف بالغرض المنشود.
وهذا بعد عن الصواب، ونكران للحقيقة، وهم أشبه في ذلك بالذي سقط فجأة على ثمرة ناضجة، فقطفها، وأعمل أضراسه فيها، ولم يوجه انتباها لكيفية وجودها عندما كانت بذرة، ثم تحولت إلى جذور وجذوع، وسيقان، وفروع، وأوراق وأزهار، ثم مضى على ذلك وقت طويل، ونشط إليها من تعهدها ورعاها لتصير ثمرة شهية، تسيل لعاب المتذوق ويتلفظ بها في الآكل.
وهكذا فلندعهم سادرين في غيهم، مخدوعين بما سمعوا وقرأوا، فهم أناس ألفوا الراحة، واكتفوا بما تحت أيديهم من غير جهد ولا تعب، أو تعقب للمراحل السابقة، قبل الوصول إلى نهاية الطريق، ثم يدعون باطلًا أن المراحل السابقة لا قيمة لها ولا وزن، ولا أهمية ولا اعتبار إلا للنتيجة النهائية في مفهوم الصورة الأدبية التي انتهى إليها النقاد في العصر الحديث.
1 دراسات في تاريخ الأدب العربي في أزهى عصوره: د. محمد عبد المنعم خفاجي، د. عبد الرحمن عثمان -القسم الأول ص 123 مطبعة المدني 1972.
مفهوم الصورة في العصرين الجاهلي والإسلامي:
يكون من الصعب قبل عصر التدوين أن نقف بدقة على مدى الفهم للصورة الأدبية في العصر الجاهلي وفي بداية عصر الإسلام؛ لأن تعليقاتهم الموجزة على الشعر كانت في الغالب غير مدونة، فأصبحت عرضة للضياع، فإذا كان الشعر قد ضاع معظمه، ولم يبق إلا أقله، وليس هو مظنة الضياع، لتمكنه من النفس والعقل معًا، فكيف بالنثر الذي قيل حوله: ولو انتهى إلينا خبر عن بعض النقاد في العصر الجاهلي يبين مدى اهتمامه بالصياغة والصورة، فقد يسرب الشك فيه وفي نقله، كما حدث فيما ورد عن النابغة الناقد في سوق عكاظ تحت القبة الحمراء، ليصدر حكمه في شعر وقع لمشاهير ثلاثة الأعشى والخنساء وحسان، قد فاضل بينهم على الترتيب السابق، فسأله حسان عن سر تفوق الخنساء عليه، وهي في نفس الوقت دون الأعشى في الحكم، فقال النابغة لحسان: "قلت: الجفنات، وهي جمع قلة لو قلت: الجفان، لكان أفضل، وقلت: يلمعن، واللمعان يختفي ويظهر، ولو قلت: يشرفن لكان أفضل وقلت: بالضحى وكل شيء يلمع في الضحى، ولو قلت: بالدجى لكان أفضل، وقلت: يقطرن، ولو قلت: يجرين لكان أفضل.
كان مثل هذا يحدث من نوابغ الشعراء النقاد كالنابغة، حين أظهر اهتمامه بالصياغة، واختيار الصورة المناسبة للمعنى الذي عبر عنه حسان، ووضح في المجاورة النقدية التي تمت بينهما ما هبط فيه شعر حسان، وكشف النابغة عن أسرار الضعف في اختيار الألفاظ غير الملائمة للمعنى، مما أدى إلى نزول شعره إلى المرتبة الثالثة.
ويزيد من اهتمام النقاد في العصر الجاهلي بالصورة والصياغة، ما اتجه إليه بعضهم من الصناعة الشعرية، كزهير ابن أبي سلمى، زعيم مدرسة الصنعة في الشعر.
آنذاك -ومعلوم أنه إذا أطلق لفظ الصناعة في الكلام، إنما يتجه إلى الصياغة والتصوير؛ لأن زهيرًا ومن اعتنق مدرسته كانوا يعكفون على القصيدة حولًا كاملًا -حتى سميت القصائد بالحوليات- فيغير اللفظ ويوضع مكانه لفظ آخر، أو يعدل الأسلوب، أو تضاف استعارة، أو يحذف تشبيه ويستبدل آخر، وهكذا، ومثل هذا الصنيع، يجعلنا نحكم على المدرسة بأنها تهتم بالصياغة والصورة، ليشرف المعنى. يقول الجاحظ:
"ومن شعراء العرب، من كان يدع القصيدة، نمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا يردد فيها نظره، ويحيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات -والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"1.
لذا يقول الدكتور خفاجي: "وكان ارتباط الشعر الجاهلي بالغناء ورغبة بعض الشعراء في التجويد والتجديد في المعاني من أسباب نشأة هذا المذهب الفني"2.
وقال أيضًا: "كان زهير بن أبي سلمى يسمي كبار قصائده بالحوليات، ولذا قال الحطيئة: خير الشعر الحولي المحكك، وقال الأصمعي: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في جميع شعره، وووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة"3.
1 البيان والتبيين: الجاحظ ج2 ص9. د. محمد عبد المنعم خفاجي 1958.
2 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ص 250.
3 المرجع السابق ج2 ص13.
لهذا كله كان النقاد في العصر الجاهلي، يحكمون على الشعراء بمقدار جودتهم في الصياغة، ويصفونهم حسب أسلوبهم تصويرهم، فيقولون: إن ربيعة بن عدي كان يسمى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقه1، وكذلك المرقش لتحسينه شعره وتنميقه2، وكذلك قالوا: الأفوه، والمثقب، والمنخل، وسموا القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات3.
ويدل هذا على اهتمام مدرسة الصنعة بالأسلوب والصياغة، وعنهما كانت الصورة الأدبية بعد ذلك وهكذا استمر مذهب التثقيف وطول التهذيب مذهبًا فنيًّا يسير عليه بعض الشعراء حتى بعد العصر الجاهلي، وكان أساسًا لمذهب البديع الذي نشأ على يد مسلم وأبي تمام من المحدثين4. وقد غالى من رمى الشعر الجاهلي ونقده بالشك وعدم صحة الإخبار عنه5. ولست معهم في هذا الشك المطلق، ما دام هناك في الأدب العربي صناعة شعرية، وللصناعة في أي فن، مادة وشكل، ومعنى وصورة.
لذلك نجد ذا الرمة الشاعر الإسلامي، يعجب بالصورة والشكل في أبيات للكميت ولم يصرح بهذا اللفظ، وإن ذكر خاصة تتصل بالصورة لا المعنى، قال:"أحسنت ترقيص هذه القوافي"6.
1 الأغاني: الأصفهاني ط دار الكتب ج5 ص57.
2 المفضليات للضبي ج1 ص410.
3 البيان والتبيين: الجاحظ ج2 ص9.
4 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص244، 247. طبعة ثانية 1958م.
5 مثل د. طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي وغيره".
6 المذاهب الأدبية: د. ماهر حسن فهمي ص27.
كما تعجب الكميت من تصوير ذي الرمة حينما أنشد قوله:
دعاني ما دعاني الهوى من بلادها
…
إذا ما نأت خرقاء عني بغافل
فقال الكميت: لله بلاء هذا الغلام، ما أحسن قوله وأجود وصفه يقول: الأستاذ الدكتور خفاجي: "وهذا يدل على إنصاف الكميت في النقد وتمييز الجيد من الرديء في الشعر"1.
بشر بن المعتمر والصورة الأدبية:
أول من تنبه من النقاد العرب القدامى إلى النظم، وهو بشر بن المعتمر2 في صحيفته المشهورة3، فهو لا يرتفع باللفظ وحده، ولا بالمعنى وحده، ولكن يقصدهما معًا وفي نفس واحد، ولا يفصل أحدهما عن الآخر، ويشهد بهما معًا ممهدًا لنظرية النظم يقول:
"إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك".
فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا وهو يفسد الصورة ويخل التعبير بفقد روح التأثير فيها، ويقول بعد ذلك:
"ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما".
1 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي من 100 طبعة أولى.
2 هو أبو سهل بشر بن المعتمر المتوفى عام 210هـ زعيم فرقة من المعتزلة تدعى "البشرية" تنسب إليه وكان شاعرًا.
3 البيان والتبيين: الجاحظ تحقيق السندوبي ج1 ص82 وما بعدها، وتحقيق عبد السلام هارون ج1 ص134 وما بعدها.
فموطن الجمال عنده في العمل الأدبي، يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى، فلا بد للمعنى الشريف من لفظ شريف، ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليس في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محل الصورة الأدبية التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علافة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء عصره، ونشأة النقد الأدبي قبل أن يعرف المصطلحات الأدبية.
وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة التي تحددت معالمها فيما بعد، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذكرت من أجله.
يقول أبو سهل بشر بن المعتمر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما: "ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف. إلى قوله: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا".
أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، من فاحش الخطأ، وأجاب لكل عين وفرة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة".
أليس هذا حديث العاطفة في الكلام؟ فإنها لا تتولد إلا ساعة النشاط والحيوية والحرارة والانفعال، وعند ذلك تعطي الكثير في وقت قليل كما وكيفا في النظم والتصوير، وتتوافر لديها المعاني البكر والألفاظ الغرر.
وفي غير هذا الوقت الذي تتوهج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة وفتور عاطفة.
والعاطفة القوية هي التي تلهب التصوير، وتسري حرارتها في الصورة الأدبية وتبعث في النظم قوة التأثير وهو ما أراده بشر وإن لم يصرح بلفظها، أليس من الحق بعد وضوح معالمها وتحديد مفهومها حديثًا أن تقرر التشابه بين الحديث عنها عند بشر وفي العصر الحديث؟ ألم يكن بينهما توافق كبير؟ فحديث العاطفة في الصورة اليوم هو نفسه حديث أبي سهل عنها منذ اثني عشر قرنًا من الزمان؟ أظن أنه لا فرق في الجوهر واللب، وإن كان هناك فرق بينهما في التصريح بالعاطفة وعدمه.
ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الثالثة للصورة الأدبية، أو النظم والكلام البليغ وهي الوحدة الفنية أو مناسبة الكلمة لموقعها، يقول:
"فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها، وإلى حقها من أماكنها المخصوصة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تغصبها على اغتصاب الأماكن، والنزول فيغير أوطانها. فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصي عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة أو جرت من الصناعة على عرق".
فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا، وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى
ما يحتاج إلى دقة، وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة، لتستقر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها، وتتوازن مع نظائرها، وتتشاكل مع أخواتها، وبذلك يصير كل من الكلمة والقافية غير قلق في مكانه، ولا نافر من موضعه، وغير مكره على اغتصاب، ولا مضطرب في غير أوطان.
وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية والوحدة الفنية بين الألفاظ فيها بحيث لا توافق الكلمة أختها، بأن تعبر إحداهما عن العشق والصبابة والأخرى عن الحماسة والفخر، مما يهلهل النسج، ويضعف التماسك، وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل الأدبي يومًا أو ليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلا في مكانه المناسب، فتقع الكلمة مع أختها، لا مع الغريبة عنها وبذلك يتم التلاؤم بين أجزاء الصورة، ودور الصياغة المنثورة، وتتحقق الوحدة الفنية فيها.
وليسمها بشر بن المعتمر تناسبًا بين الكلمات، وتوافقًا في القوافي، حين تأخذ الكلمة موطنها، وتتلاءم القافية مع أخواتها، فيتحقق من عناصر الصورة دلالة الألفاظ في مدلولها وبموسيقاها على غرض الشاعر، وقد أخذ اللفظ والقافية مكانهما من النظم أو البيت وليسمها النقاد اليوم الوحدة الفنية أو العضوية، مما يدل على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير.
ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الرابعة للصورة الأدبية، أو عن النظم والتأليف.
بين الكلم وهي تلاؤم الصورة أو التركيب، مع المقام والغرض الذي يهدف إليه الشاعر فيقول:
"وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات. فإن كان الخطيب متكلمًا، لم يتجنب ألفاظ المتكلفين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسم، وبها أشغف".
وعالم البلاغة عندما يسمع حديث بشر يحكم عليه هنا بأنه لا يصلح إلا لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، ولا يمت للصورة الأدبية إلا بأدنى ملابسة. والحق أن كلام بشر السابق وما قبله لا يستطيع أحد ألا يلحقه بعلم البلاغة فحديثه وثيق الصلة بها، وينبغي أن يدخل في باب الصورة الأدبية؛ لأن الغرض من التصوير هو التأثير في النفس بحيث يسيطر على العقل والمشاعر، وهذا التأثير للصورة لا يتم ولا يقوى إلا إذا اتفقت مع الحالة التي تعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الشاعر المصور مثل قول ابن الرومي في "الثقيل البارد".
يا أبا القاسم الذي ليس يدري
…
أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كما بئرك في الصـ
…
ـيف ثقيل يعلوه برد شديد
وأجزاء الصورة هنا تبرز معالم الثقل في شخص أبي القاسم، فهو ثقيل النفس عديم الحركة فاقد الإنسانية، ميت الشعور، بارد العاطفة، كالرصاص أو الحديد
اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهر في النار واتخذ أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع.
فأبو القاسم بارد كهذين المدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثًا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشد وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة لسيلانه وليونته، ثم يرتفع بها إلى معدم غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد.
وقد اختار الألفاظ في النظم التي تتناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العفيف، الذي أراده الشاعر، فقد رمى أبا القاسم في صورته بثقل النفس، وجمود العاطفة وتجريده من الإنسانية وموت الشعور فيه، مما يتناسب مع مقام الإقذاع والتنكيل به.
وهذا هو نهاية ما يتطلبه بشر بن المعتمر من التركيب والتصوير، وما اهتم العلماء بالبلاغة إلا ليبلغوا بالكلام والصور مبلغ التأثير والإيقاع، ولعل هذه الشبهة هي التي وقفت دون النقاد عن فهم ما يقصده بشر من صحيفته المشهورة من العناية بالنظم، وإيضاح معالم التأليف والصور، حتى تكون جديرة بوصفه إياها بالبلاغة وقوة التأثير في النفس. وإن كانت هذه إشارات خاطفة منه في مفهوم النظم والتصوير، إلا أنها نبهت من بعده، فأخذ ينميها ويعمقها، ليبلغ بها الغاية في الدقة والكمال وقوة التأثير والإمتاع.
موقف الجاحظ من الصورة الأدبية:
بعد أن نشط التدوين، وراجت الكتابة، وتسابقت الأقلام، أصبح من السهل أن نقف على آراء النقاد في الصورة والشكل، وكان أول من أثار هذه القضية هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ1. وبعثها كنظرية نقدية، وظاهرة أدبية، وقضى فيها بما يراه لائقًا بالأدب والشعر، وما عداه مناطًا للحسن والجودة، ومرتقى للسبق والفضل والتفوق.
ووضح موقفه منها، حينما انتهى إلى سمعه أن أبا عمرو الشيباني استحسن بيتين من الشعر معناهما، مع سوء العبارة التي تصورهما، فقال الجاحظ وهو يهجم عليه: "ذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير2.
فهو يرى أن المعاني ممتدة واسعة. بعكس الألفاظ، فإنها محصورة محدودة، يقول:"المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية"3.
ويبين أن البلاغة والجمال، إنما يرجعان إلى اللفظ؛ لأن المعنى الشريف قد يؤدي باللفظ الرديء يقول:"ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط؛ لأن الرديء من اللفظ، يقوم مقام الجيد منها في الأفهام"4.
1 هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني المتوفى سنة 255هـ.
2 الحيوان: الجاحظ ج3 ص40 تحقيق عبد السلام هارون.
3 البيان والتبيين ج1 ص43 تحقيق محب الدين الخطيب.
4 المرجع السابق ص253.
والجاحظ في اتجاهه يفصل بين اللفظ والمعنى "وينظر إلى اللفظة والجملة"1، هذا حديث المضمون والشكل، والمحتوى والصورة، وأن المعنى قد يكون واحدًا، ولكنه يعرض في صور مشددة، وصياغات مختلفة؛ لأن الشأن في الصياغة، والشعر ضرب من التصوير، ونطاق الصياغة والتصوير ضيق صعب، لا يليه، إلا لمن وهب القدرة والموهبة، بخلاف المعنى فهو ممتد ميسور، يقع للغبي والذكي.
ويقصد الجاحظ بالصورة في حديثه الأسلوب والصياغة، وإحكام النسخ في العبارات وتخير الألفاظ والأوزان؛ لأن الحديث عنده نبع من الهجوم على أبي عمرو الشيباني نصير المعنى، ونعى عليه اتجاهه، وأقر بأن اللفظ هو مقياس الجمال وحده.
وهذا الرأي ردده كثير ممن أتى بعده من أنصار اللفظ، الذين انتصروا له وأيدوا الصورة، بينما كان هناك من اهتم بالمعنى بجوار اللفظ، وانتصر لكل على حدة، حتى جاء بعد ذلك من انتصر لهما معًا بدعوة النظم، ورأى أن الصورة إنما تكون في النظم، لا في اللفظ المفرد، ولا في المعنى المفرد.
موقف ابن قتيبة من الصورة الأدبية:
كان ابن قتيبة من أنصار المعنى الذي شايعوه، ولم يعتبروا اللفظ إلا بشرف معناه، ولم يرفعوا الشكل إلا بنبل مغزاه، فلا قيمة للصورة عندهم إلا بشرف مضمونها، ولكنهم تفاوتوا في النظرة إلى درجة الجودة في اللفظ والمعنى، فمنهم من سوى بينهما في الشرف والجودة، ومنهم من رجح المعنى على اللفظ.
1 أبو عثمان الجاحظ: د. عبد المنعم خفاجي ص 229 -طبعة أولى- المطبعة المحمدية بالقاهرة.
ويرى ابن قتيبة1 أن القصيد يعلو ويهبط، ويسمو ويقبح حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، ولكنه رجح جانب المعنى في الشعر على جانب اللفظ حينما قسمه على أربعة أضرب:
أولًا: ضرب حسن لفظه وجاد معناه.
ثانيًا: ضرب حسن لفظه وحلًا، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى.
ثالثًا: ضرب جاد معناه، وقصرت ألفاظه عنه.
رابعًا: ضرب تأخر معناه، وتأخر لفظه2.
ويظهر ترجيحه للمعنى حينما ينقد أبيات كثيِّر المشهورة التي يقول فيها:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا
…
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
فهي عنده خالية من كل معنى مفيد، على أنه يعجب بمثل قول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وذلك لتضمنه معنى أخلاقيًّا3، ومن هنا يظهر "فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى"4. وهذا الاتجاه يوضح عدم اعتداده بالصورة الأدبية إلا إذا صور الشاعر بها معنى لطيفًا ومغزى شريفًا، ما التي تحمل معنى وسطًا أو ساقطًا -وإن اكتملت عناصرها وتلاءمت أجزاؤها- فلا تعد صورة عنده، ولا يقيم لها وزنًا كأبيات كثير السابقة؛ لأن الأساس عنده في الشعر هو شرف المضمون.
1 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276هـ.
2 الشعر والشعراء: ص7 وما يليها.
3 الشعر والشعراء: ابن قتيبة ص10، 11.
4 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص130.
ابن طباطبا والصورة الأدبية:
ويؤيد ابن طباطبا1 ما جاء به بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا أو أعد له ما يلبسه إياه، من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت، يشاكل المعنى الذي يرومه، ابتدأ وعمل فكره في شغل القوافي، بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت، يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات، وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشقت منها، ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه، ونتجته فكرته، فيستقصى انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظه مستكرهة، لفظة سهلة نقية، وإذا اتفق له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني، منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار، الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق، الذي يفوف وشيه بأحسن التفويف ويسديه. ولا يهلهل شيئًا منه فيشينه، وكالنقاش الدقيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها، حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجواهر، الذي يؤلف بين النفيس منها، والثمين الرايق ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها، وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي والفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها2".
1 هو محمد بن أحمد بن طباطبا المتوفى سنة 322هـ.
2 عيار الشعر: ابن طباطبا ص 23 في القاهرة 1956م.
وهذا هو العمل الفني في القصيدة الشعرية وهو ممتزج بالصورة الأدبية امتزاجًا كاملًا في العملية الشعرية، عندما ينفعل الشاعر بموضوع ما ويعانيه، فيعمد إلى نظمه في قصيدة، ويحضر المعاني، ويعيش معها في صراع داخلي، يعمل فيه العقل والوجدان والمشاعر، فإذا استوى لديه الشكل في ألفاظ تتلاءم معها، ثم اختار لها القالب الموسيقي الذي يتناسب معها قافية ووزنًا، شد جزئيات القالب بألفاظ وصور على هذا النمط، حتى يستقيم البيت من الشعر، وهكذا بقية الأبيات يختار لكل معنى في أبيات القصيدة صورة أدبية، تتفق معه دلالة وإيقاعًا، فإذا فرغ من القصيدة، عاودها مرة ومرة، فإذا وجد هناك ثغرات ملأها في المعاودة والمراجعة، فيصل ما انقطع بين المعاني بمعنى مناسب، أو ما نفر بين الصور "الأبيات" بصورة تتآلف مع أخواتها، وكذلك الأمر في لفظة شاردة أو قافية قلقة، فيأخذ بيده هذه، ويضع لأخرى تلك.
والشاعر في تصويره وتأليفه كالنساج الحاذق، الذي يحكم نسجه، ويصقل ثوبه وكالنقاش الذي يختار في نقشه أحسن الألوان، ويرتبها، ويمزجها بالقدر اللازم، ويركز فيها حتى تخلب العيون، وكناظم الجواهر، الذي يؤلف بين حباته النفيسة، لتأخذ كل حبة مكانها الأصغر فالصغير، فالكبير فالأكبر، وهكذا يصنع في نظم العقد وتنسيقه، والناقد الكبير يبين:
أولًا: عملية التحضير للقصيدة بما فيها من إعداد المعنى الذي هو هنا أوسع نطاقًا من الفكرة والغرض والتجربة الشعرية، يدل عليه قوله:"إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه".
ثانيًا: المعاني المجردة إنما تكون في الذهن "في فكر الشاعر نثرًا".
ثالثًا: أن الشاعر وهو يعاني التجربة، يشكل أثناء ذلك من المعاني صورًا شعرية متناثرة "ويعد لها ما يلبسها إياه من الألفاظ التي تطابقه".
رابعًا: أن العقل والفكر يتدخل في النهاية، ليؤلف بين الصور، التي تكون بيتًا يتفق مع المعنى "فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى، ابتدأ وأعمل فكره في شغل القوافي، بما تقتضيه من المعاني
…
إلخ".
خامسًا: أنه يربط بين اللفظ بإيقاعه ودلالته وبين المعنى، ويشير بذلك إلى قضية النظم وبه تتحقق الصورة الشعرية. "وأعد له ما يلبسه من الألفاظ التي تطابقه، وللقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه".
سادسًا: أن التجربة الشعرية في الذهن، التي تجسمها الصورة في الخارج، غامضة ومزلقة للشاعر، فيحتاج إلى معاودة الصور مرات، ليسترد ما ند من الصور أو ما خفي منها، ويبرزها في مكان تتناسب فيه مع أخواتها في الخارج. "فإذا أكملت له المعاني، وكثرت الأبيات، وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها
…
إلى قوله وطلب لمعناه قافية تشاكله".
سابعًا: والفقرة السابقة تؤكد التلاحم بين الصور والأبيات، فتشيع بينها الوحدة، ويسري فيها الترابط، وابن طباطبا يشير إلى الوحدة في الصورة الأدبية في موطن آخر فيقول: "بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجًا وحسنًا وفصاحة وجزالة ألفاظ، ودقة معان، وصواب تأليف
…
حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغًا، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها ولا تكلف في نسجها1". وهذه هي الوحدة الموضوعية بأدق معناها كما يراها النقاد المعاصرون فهو يرى أن تكون الألفاظ في الصورة، والصور في البيت، والبيت في القصيدة، كلمة واحدة في تلاؤم النسج والحسن والفصاحة والجزلة وصواب التأليف، حتى لا يحدث ضعف في مبنى الصورة، ولا ثغرة فيها، ولا تكلف في نسجها.
1 عيار الشعر: ابن طباطبا ص126، 127 ط القاهرة:1956.
ويؤكد هذه الوحدة في موطن آخر فيقول:
"وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره وتنسيق أبياته
…
فلا يباعد كلمة عن أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد مصراع كل يشاكل من قبله1".
على الشاعر أن يتأمل نظمه وتأليفه فيتجنب الحشو فيه، ولا يفصل بين الأخوات من الكلام بأجنبي، ويضع المصراع متلائمًا مع قرينه.
ومن الخطأ أن نذهب كما ذهب بعض الدارسين إلى أن ابن طباطبا لا يهتم بالوحدة العامة في القصيدة أو في الصورة الكلية، وإنما يهتم بالوحدة في البيت الواحد، أو في الصورة الجزئية كما يقول د. غنيمي هلال2؛ لأن ابن طباطبا ناقدنا الجليل قد حدد الوحدة الموضوعية تحديدًا كاملًا.
والذي أعنيه ويتصل بالبحث، هو موقف ابن طباطبا من الصورة الأدبية في الشعر ومدى إدراكه لها وكيف عالجها، ولا يضر هنا كثيرًا أنه عالجها في صورها الجزئية أو في البيت الواحد أو أنها ترتبط بالنظم والتأليف، أو كانت رافدًا قويًّا من روافد النضوج في النظم والصورة الأدبية كما عقد الإمام عبد القاهر الجرجاني بعد ذلك.
ثامنًا: الذي يدل على أنه اهتم بالصياغة والتأليف وسلامة النظم، أنه جعل الشاعر كالنساج الحاذق والنقاش الماهر، وناظم الجواهر الدقيق، هنا يربط ابن طباطبا بين التصوير الأدبي، وبين فنون التصوير الأخرى المحسة من نسج ونقش وصوغ ليوضح أن هذه الصناعة من تلك، إذن فالصورة الأدبية عنده
1 المرجع السابق ص124.
2 النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال ص216.
كالنسج والنقش والصوغ، وبهذا المفهوم وتلك الموازنة تأثر عبد القاهر فيما بعد. "ويكون كالنساج
…
إلى قوله وكذلك الشاعر".
تاسعًا: التلاؤم الشديد بين اللفظية واللفظة في الجزالة والدقة، وفي غرابة اللفظ وبداوته وفي الحضرية المولدة يقول:"إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي -الفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها" وكذلك قوله: "في اشتباه أولها بآخرها نسجًا وحسنًا، وفصاحة وجزالة ألفاظ، ودقة معان وصواب تأليف".
قدامة بن جعفر والصورة الأدبية:
وممن أشار إلى الصورة الأدبية قدامة بن جعفر الذي اعترف بها عنصرًا من عناصر الشعر، وربطها بغيرها من العناصر الأخرى، فهو يرى "أن المعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والعشر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقل تأثير الصورة منها. مثل الخشب للتجارة، والفضة للصياغة1".
وكلام قدامة أدخل في باب التصوير من رأى الجاحظ فيه، فقد جعل للشعر مادة وهي المعاني، وصورة وهي الصناعة اللفظية، والتجويد في الصياغة، يقول:"وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة أو الضعة. وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة أو يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة2".
1 نقد الشعر: قدامة بن جعفر ص13 المتوفى سنة 337.
2 المرجع السابق.
ويضعف قدامة عنصرا جديدًا في بيان مفهوم الصورة الشعرية، حيث يشبه صناعة الشعر بغيره من سائر الصناعات كالنجارة للخشب، والصياغة للفضة، فالجميع يعتمد على مادة وشكل، فالفضة مثلًا يتخذ منها أشكالًا مختلفة، وكل شكل يسمى صورة كالخاتم مثلًا، وكذلك الأمر في الشعر؛ لأنه كسائر الصناعات يقول ابن سلام الجمحي عن الشعر:"صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات1".
ويبين أيضًا فضل الصورة في العمل الأدبي، إذ بها تقاس قدرة الشاعر ومهارته في صناعة الشعر، فالقطعة من الخشب أو الفضة في ذاتها لا تفصل قطعة أخرى إلا بالصورة التي ظهرت فيها، وقد يتناولها الصانع في صورتين، فتظهر إحداهما ذميمة، والأخرى جميلة، مع أن المادة من الخشب أو الفضة واحدة فيها.
وكذلك الشعر عند ابن جعفر، قد يتناول الشاعر موضوعًا واحدًا، يصوره تصويرًا حسنًا في مواطن، ويعرض إياه في معرض قبيح في موطن آخر، ويدل هذا -مع اتحاد المادة- على قدرة الشاعر وبنوغه، التي ترجع إلى التصوير يقول في ذلك.
"إن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين، بأن يصف شيئًا وصفًا حسنًا، ثم يذمه بعد ذلك ذمًّا حسنًا بينا غير منكر عليه، ولا معيب من فعله، إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك يدل على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها2".
وفي مكان آخر ينتصر للفظ والصورة، ويقدمها على المعنى والمادة، فيرى أن
1 طبقات الشعراء: ابن سلام الجمحي المتوفى عام 332هـ ص3.
2 نقد الشعر: قدامة بن جعفر ص13، 14.
معيار الجمال يرجع إلى الشكل أكثر مما يرجع إلى المعنى، مما لا يستغنى عنه شاعر ولا خطيب ويذكر الخصائص التي تتصل به وتنبني عليه، وهي موسيقى الصورة التي ترجع إلى الشكل لا إلى المعنى كالترصيع والسجع واعتدال الوزن وغيرها مما يتصل بالشكل ويرجع إلى بنائه يقول:
"وأحسن البلاغة الترصيع والسجع، واتساق البناء، واعتدال الوزن، واشتقاق لفظ من لفظ، وعكس ما نظم من بناء وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة، وإيرادها موفورة بالتمام، وتصحيح المقابلة بمعان متعادلة، وصحة التقسيم باتفاق النظوم وتلخيص الأوصاف بنفي الخلاف، والمبالغة في الوصف بتكرير الوصف، وتكافؤ المعاني في المقابلة والتوازي، وإرداف اللواحق، وتمثيل المعاني. فهذه المعاني مما يحتاج إليه في بلاغة المنطق، ولا يستغني عن معرفتها شاعر ولا خطيب1".
والحديث هنا حديث الألفاظ والصياغة، والإيقاع والوزن وغيرها مما تعتمد عليه الصورة الأدبية من ترصيع وسجع، وتلاؤم وزن، وطباق واستعارة، وتقسيم ومقابلة وتكافؤ ومبالغة في الوصف، وتواز وكناية، وغير ذلك مما يتصل بالشكل واللفظ اتصالًا مباشرًا لا بالمادة والمعنى.
ومن هذا تعلم أن قدامة قد اعترف بالصورة الأدبية وعرف لها مكانها في العمل الأدبي ولم يجحد العناصر الأخرى المكونة مع الصورة للعمل الأدبي".
ابن بشر الآمدي والصورة الأدبية:
والآمدى2 في تحديده للنظم، والاهتمام به، وعنايته بالصورة الجزئية كمعاصره القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، ويتفق معه في جميع الوجوه التي ستأتي ولكن
1 جواهر الألفاظ: قدامة بن جعفر ص3: 8ط القاهرة "1350هـ-1932م".
2 هو الحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 390هـ.
معالم الصورة عنده زادت وضوحًا أكثر من القاضي، كما سيظهر من خلال اهتمامه باللفظ والمعنى "أي النظم" والصورة التي تقوم عليها معًا، وسنعرض اتجاهه على النحو التالي:
أولًا: رجح الآمدى البحتري على أبي تمام في شعره، وذكر أدلة قوية تؤيد اتجاهه حيث فرق فيها بين العلم والشعر، فلكل منهما طابعه وخصائصه فالشعر عنده غير العلم، والعلم حكمة وفلسفة، والشاعر مصور، وليس حكيمًا أو فيلسوفًا، والصورة الأدبية تكون من اللفظ والمعنى، في حسن تأن، وقرب مأخذ، واختيار الموضع المناسب لكل لفظ، الذي يطابق المعنى في الاستعمال المعتاد، من غير كلفة ولا صنعة، مع اللياقة في الاستعارة والتمثيل للمعنى، حتى لا يقع بينهما تنافر، وبذلك يكتسي النظم رونقًا وبهاء، وهذا هو الأصل في بلاغة الصورة، من إصابة المعنى بألفاظ سهلة بعيدة عن التكلف. لا تزيد عن الغرض، فإن اتفق للنظم معنى لطيف، زاد من روعته، وإلا -فالصورة غنية في نفسها ودلالتها يقول: وليس الشعر عند أهل العلم به، إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسى بالبهاء والرونق، إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة البحتري، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة، مستعملة سليمة من التكلف لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة. فإن اتفق مع هذا معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن، فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق، فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه. قالوا:
وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدرك لما يعتمد دقيق المعاني من فلسفة اليونان، وحكمة الهند، أو أدب الفرس، ويكون أكثر مما يورده منها بألفاظ متعسفة ونسج، مضطرب، قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة، ومعان لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيمًا، أو سميناك فيلسوفًا، ولكن لا نسميك شاعرًا، ولا ندعوك بليغًا"1.
ويلتقي الآمدى مع القاضي في النص السابق، في أن جلال الصورة وجمالها لا يرتبط بفخامة اللفظ، ومهارة الصنعة، وكثرة ألوان البيان والبديع.
ثانيًا:
يدرك الآمدى الجمال في اللغة، وسحره في الصورة، فيجعل اللغة غاية في ذاتها ولو مجردة عن حكمة أو فلسفة، فهي كفيلة في ذاتها بالروعة والجمال؛ لأن الغرض منها إصابة المعنى، وإدراك الهدف، لا أن يحمل الشاعر لغته ما لا تطيق وهو متأثر في هذا بقول البحتري:
والشعر لمح تكفي إشارته
…
وليس بالهذر طولت خطبه
يقول الآمدي: "وإن اتفق له معنى لطيف، زاد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه"2.
ويرى د. مندور أن الآمدى اهتدى بهذا إلى أن اللغة ليست وسيلة، ولكنها غاية؛ لأنها تتضمن عناصر التصوير والموسيقى: "ويكون من حسن الذوق، وسلامة الحس بحيث يقيم النسب الدقيق بين اللغة كوسيلة، واللغة كفاية في
1 الموازنة: للآمدى ص173 وما بعدها.
2 المرجع السابق: الآمدى.
الأدب فلا يسرف في اعتبارها وسيلة؛ لأنه يحرم نفسه بذلك من عناصر هامة في التأثير، عناصر التصوير، وعناصر الموسيقى"1.
"الجلال الحق في حسن التأليف، وبراعة اللفظ، ومهما يرتفع المعنى حتى يبدو غريبًا، وذلك مثل شعر البحتري، الذي هو عكس أبي تمام في شعره يقول: "وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورديء اللفظ، يذهب طلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه، حتى يحتاج مستمعه، إلى تأمل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره، وحسن التأليف وبراعة اللفظ، يزيد المعنى المكشوف بهاءً وحسنًا ورونقًا حتى كأنه أحدث فيه غرابة لم تكن، وزيادة لم تعهد، وذلك مذهب البحتري، ولذلك قال الناس: لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام"2.
رابعًا:
ويرفع من جانب التصوير في الشعر، ويفضله على المعنى اللطيف، فلا جمال للصياغة الرديئة، وإن تضمنت معنى نادرًا، أو مغزى لطيفًا، بل لا بد أن يكون المعنى اللطيف نتاج الصورة نفسها، جاء من غير قصد ابتداء، وعلى ذلك فالشعر للشعر لا للعلم، وللعلم مجال آخر.
ويشبه الآمدى المعنى اللطيف في نسج رديء بالطراز الجيد على الثوب المتهتك، أو كرائحة الطيب على وجه جارية قبيح. يقول:"وإذا كان لطيف المعاني في غير غرابة، ولا سبك جيد، ولا لفظ حسن، كان مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق، أو نفث العبير على خد الجارية القبيحة الوجه"، ويقول: "فقيمة التأليف في الشعر وكل صناعة هي أقوى دعائمه، بعد
1 النقد المنهجي عند العرب: د. محمد مندور ص120.
2 الموازنة: الآمدى.
صحة المعنى، وكلما كان أصبح تأليفًا كان أقوم بتلك الصناعة مما اضطرب تأليفه".
ويؤكد النص الأخير عنايته التامة بالتأليف والنظم، كالشأن في كل صناعة تتألف من مادة وصورة، فقيمة التأليف له المنزلة الأولى ما دام المعنى صحيحًا، وأما اضطراب التأليف فلا مدخل له في الشعر، كالشأن في سوء التشكيل لمادة من المواد المعدنية وغيرها.
خامسًا:
ويكاد الآمدى يبلغ الغاية في توضيح الصورة التي فضل بها البحتري أستاذه أبا تمام وهو يتحدث في باب العلاقة بين اللفظ والمعنى، فقد فسر التأليف وهو النظم في الصورة، حينما عقد موازنة بين صناعة الشعر وبين غيرها من الأشياء في سائر الصناعات الأخرى، فيبنى الشعر الجيد المحكم وكذا الصناعات الأخرى، على دعائم أربع:
أولًا: جودة الآلة.
ثانيًا: إصابة الغرض.
ثالثًا: صحة التأليف.
رابعًا: بلوغ الغاية في التأليف بدون نقصان ولا زيادة.
وكذلك الأمر في كل محدث مصنوع في الخلق والإيجاد، يحتاج إلى أربعة أشياء:
أولًا: علة هيولانية: هي الأصل.
ثانيًا: علة تصويرية.
ثالثًا: علة فاعلة.
رابعًا: علة تمامية1.
وعلى هذا تقابل الآلة الأصل "الهيولانية"، وإصابة الغرض: وهو التأليف والنظم يساوي العلة الصورية، وصحة التأليف: وهي استقامة الفكر الناتجة من التأليف تساوي العلة الفاعلة. ووفاء الجودة وتمام الصنعة: يقابل العلة التمامية والمقابلة الأخيرة هي التي أراد بها الآمدى البلاغة في الصورة في قوله السابق: "فالبلاغة: إنما هي -إصابة المعنى، وإدراك الغرض، بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة
…
إلخ".
يقول الآمدى في الموازنة التي عقدها بين صناعة الشعر وغيره من الصناعات الأخرى: "زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء: جودة الآلة وإصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة، من غير نقص فيها، ولا زيادة عليها، وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودة في جميع الحيوان والنبات.
ذكرت الأوائل أن كل محدث مصنوع محتاج إلى أربعة أشياء: علة هيولانية وهي الأصل وعلة صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية.
وأما الهيولي فإنهم يعنون الطينة متى يبتدعها الباري تبارك وتعالى، ويخترعها ليصور ما يشاء تصويره من رجل أو فرس أو غيرهما من الحيوان، أو برة أو كرمة. من أنواع النبات. والعلة الفاعلة: هي تأليف الباري جل جلاله لتلك الصورة، والعلة التمامية هي أن ينميها تعالى ذكره، ويفرغ من تصويرها
1 يرى الدكتور محمد مندور أن الآمدى ذكر العلة التمامية بدل الغائية، ليستقيم له المعنى في الشعر، وتفيد كمال الصنعة والجودة فيه، لا الغائية، وقال الدكتور: إن الآمدى لم يستطع فهم هذه العلة "النقد المنهجي عند العرب د. مندور ص130".
من غير انتقاص منها وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علمه الله عز وجل إياها، لا تستقيم له وتجود إلا بهذه الأربعة.
وهي آلة يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار
…
وألفاظ الشاعر والخطيب وهي العلة الهيولانية، التي قدموا ذكرها وجعلوها الأصل، ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانع صنعته، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهي الصانع إلى تمام صنعته من غير نقص منها ولا زيادة عليها وهي العلة التمامية، فهذا قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته مبنى لطيفًا مستنيرًا، كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض فذلك زائد في حسن صنعته وجودتها، وإلا فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها".
وهكذا يوضح الآمدى، ما يعتمد عليه الشعر وغيره من سائر الصناعات والصور التي يسببها الشعر في التركيب والبناء، وينص أيضًا على الصورة الشعرية نصًّا واضحًا، ولا يكتفي بالنظم والتأليف والصياغة كالسابقين، الذين اكتفوا بمجرد الذكر أو بإشارات مبهمة وهم يقصدون الصورة، ولكنه قطع شوطًا في توضيح الصورة وذكر معالمها لمرحلة نامية دافعة في أطوار مفهومها.
فاقترن الشعر عنده -كصناعة- بسائر الفنون والصناعات، وتناول الصورة -باستقامة ذوقه ودقة فهمه، وحددها بحدود ينبغي مراعاتها في التصوير، ومن أخل بشيء منها اختلت هي كذلك، وهذه الحدود هي:
1-
حسن التأني وقرب المأخذ في اللفظ والمعنى.
2-
انتقاء الألفاظ، واختيار الكلام الجيد الحسن.
3-
وضع الألفاظ في مكانها، وهذا ما يسمى حديثًا، بالوحدة في الصورة والملاءمة بين أجزائها.
4-
ألا يحمل اللفظ أكثر من معناه بالتكلف والتصنع، وهو ما يسمى حديثًا بالخروج عن التصوير الدقيق الواقعي.
5-
الترابط التام بين الصور الجزئية بعضها مع بعض، وبينها وبين المعنى المصور من غير تنافر "وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة.... إلخ" وكما سيأتي في بيت أبي تمام "ملطومة بالورد.... إلخ".
6-
قوة العاطفة في الصورة لتعلق في القلوب وتتداخل في النفس من غير تريث، وهذه هي البلاغة في الصورة التي يقصدها الآمدى من قوله:"والبلاغة إنما هي إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة".
7-
الشعر غير العلم فالأول عماده العاطفة والشعور، والثاني عماده العقل والفكر وهو نفسه الفرق بين الشاعر والعالم.
8-
حسن التأليف، وتنسيق النظم، وتلاؤم الصياغة، يكشف عن المعنى في وضوح وروعة، وكذلك الأمر بالعكس فاضطراب النظم وفساد الصورة، يعقد المعنى، ويزداد به غموضًا.
9-
العبرة في الشعر بالصورة؛ لأنها هي التي تنقل ما في النفس، من خواطر ومشاعر بصدق ودقة، وتبرز للغير، فلو كانت رديئة التأليف، مضطربة التنسيق، ولو اشتملت على نادرة أو حكمة؛ فإنها تسقط في الاستعمال وتقبح في مرأى العين، وتضعف في تأثيرها على النفس. "كان مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق".
10-
الشعر صناعة وتصوير كسائر الحرف والصناعات، والجميع تشكيل وتجسيد للمواد وتصوير لها.
سادسًا:
وفي مجال التطبيق لفهمه الواعي للصورة نذكر شاهدًا ومثلًا واحدًا، لبيان مدى إدراكه لمفهومها أولًا. وذوقه الأدبي في فهمه للصور الشعرية ثانيًا. فيقول في نقد صورة أبي تمام، القائل فيها:
بيضاء تسري في الظلام فيكتسي
…
نورًا وتبدو في الضياء فيظلم
ملطومة بالورد أطلق طرفها
…
في الخلق فهي مع المنون محكم
وقوله: ملطومة بالخد يريد حمرة خدها، فلو لم يقل: مصفوعة بالقار؟ يريد سواد شعرها، ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء جسمها، ومضروبة بالقطن يريد بياضها، إن هذا لأحمق ما يكون من اللفظ وأسخفه وأوسخه، وقد جاء مثل هذا في كلام العرب، ولكن بوجه حسن، قال النابغة:
"مقذوفة بدخيس اللحم"
يريد أنها قذفت بالشحم، أي كأنه رمى على جسمها رميا، وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أبي نواس:
"وتلطم الورد بعناب"
وهذه كانت تلطم في الحقيقة في مأتم، على ميت بأنامل مخضوبة الأطراف، تجعلها عنابا تلطم به وردا، فأتى بالظرف كله، والحسن أجمعه والتشبيه على حقيقته، وجاء أبو تمام بالجهل على وجهه والحمق بأسره، والخطأ بيمينه"1.
وفي نقده لصورة أبي تمام، يتجلى فهمه للصورة الأدبية؛ لأنه يكشف بذوقه الأدبي الرفيع عن وجه الخطأ فيها، وأن على الشاعر تجنب مثل هذه الأخطاء حتى تصح له الصورة، وتسلم جودتها، وأن لكل لفظ له معنى، وكل فكرة تخضع لصورة تتناسب معها، فالمقام في بيتي الشاعر هو مقام المدح، والمعنى الذي كسته
1 الموازنة: الآمدي ص173.
الصورة في الأبيات هو سحر جمال المرأة، الذي يصعق المتيم كالموت. وعلى ذلك فلا محل في صورة المدح للطم، الذي يتأذى به السمع، فهو يفسد التلاؤم فيها ويذهب انسجام أجزائها.
فالشاعر لم يضع الألفاظ في مواضعها، ولم يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه ووقع تنافر في المعنى بين طرفي الاستعارة، وغير ذلك مما سبق ذكره، مما جعل الآمدي يتهكم بالشاعر، ويرميه بالحمق والجهل، والخطأ، كما هو واضح من النص السابق. ويرى أيضًا أن التقليد الأعمى في الصورة ذهب برونقها وصحتها، ويطمس معالم الأصالة فيها، وقد يجهل المقلد الغرض الذي كسته الصورة.
فأبو تمام لم يستعمل اللطم في مكانه المناسب في نظم الصورة، مقلدًا النابغة الذي أحسن أداءه في التصوير، حيث قال:
"مقذوفة بدخيس الشحم"
وهي على نصيب موفور من الجودة والحسن؛ لأن القذف بالشحم معناه: أنه رمى على جسمها رميًا وهو مصيب في حكمه هذا، الذي يدل على سلامة ذوقه في فهم الصور، وإصابته في الحكم عليها.
فصورة النابغة بلغت غاية الجمال على عكس صورة أبي تمام، فقد أحسن الشاعر الجاهلي التعبير بالقذف لغزارة الشحم المتزايد في تتابع كسرعة القذف والرمي واختيار لفظ "القذف" هنا لا بديل عنه؛ لأن كثرة الشحم وغزارته، كما هو مفهوم من لفظ "دخيس" ينقص من جمال المرأة، ويودي برشاقتها ويسوي النتوء في جسدها، فلا يكون لها ردف وخاصرة، ولا ثدي ظاهر، وتقاطيع بارزة، مما يزيد من جمال المرأة وفتنة جسدها، ولكن التي طغى عليها الشحم، تستحق -لإهمالها نفسها- ألفاظ السباب والشتم، وهو ما اختاره النابغة في
صورته، حيث قال:
"مقذوفة" و"دخيس"
أظن أن ليس هناك صورة أروع من هذه الصورة، وخاصة وقد وقعت لشاعر جاهلي.
ولكن أبا تمام على الرغم من إيغاله في حضارة الدولة الإسلامية وفي عصورها الذهبية أساء التقليد والفهم معًا لموطن الكلمة السابقة في صورته، وقد نقده الآمدي نقدًا لاذعًا.
وتعقب الناقد صورة أبي تمام، ليكشف عن عيبها، ويفضح عجزه فيها، ويبين فهمه الخاطئ لصورة أبي نواس، وهي:
"وتلطم الورد بعناب"
فلم يفهم الفرق بين المقامين، فمقام صورة أبي نواس يقتضي هذا؛ لأن المرأة التي صورها كانت في الحقيقة كذلك، تلطم في مأتم خدها الأحمر بأصابعها المخضبة كالعناب.
وصحيح أن أبا تمام أساء الفهم والتقليد لصورة أبي نواس، التي تطابق واقع المرأة اللاطمة، وهو ما ذهب إليه الآمدي.
ولكن الذي قصر فيه الناقد أن الغرض في صورة أبي نواس هو الحزن والبكاء، ولا يتلاءم معه ذكر الورد والعناب بجوار اللطم فيها، ولذلك نرى أن صورتي أبي تمام وأبي نواس دون صورة النابغة بكثير.
وبهذا يكون الناقد قد حقق كثيرًا في مفهوم الصورة الأدبية وفي إيضاح بعض معالمها ليمثل مرحلة هامة من مراحل نضوجها وتمامها في النقد القديم، وذلك في جانبها النظري والعملي التطبيقي.
القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:
ويقفز القاضي1 خطوات إلى الأمام بالصورة الأدبية، فتزداد وضوحًا وعمقًا وتشيع في مفهومها ألوان جديدة فوق ما سبق:
أولًا: يرى أن ليس من الضروري في كل نظم أو تأليف أن يكون فيه تصوير أدبي، يثير النفوس بسحره، ويهز الأعطاف بجماله، يقول في فصل:"ما عيب على أبي الطيب من معانيه وألفاظه2".
"وأنا أعدل إلى ذكر ما رأيتك تنكر من معانيه وألفاظه، وتعيب من مذاهبه وأغراضه، وتحيل في ذلك الإنكار على حجة أو شبهة، وتعتمد فيما تعيبه على بينة أو تهمة، إذ كان ما قدمت حكاية عنك، وما عددته من مطاعنك، وأثبته من الأبيات التي استسقطتها وملت على هذا الرجل لأجلها، من باب ما يمتحن بالطبع لا بالفكرة".
ثانيًا: يوضح النظم الساقط الذي لا يرقى إلى مستوى التصوير الأدبي، والجمال الفني: من التأليف الذي به جهامة تعافها النفس، وكزازة تنفر منه، ويصبح خاليًا من بهاء رونقه وحلاوة منظره، وعذوبة وقعه، وجمال نثره ورشاقة عرضه، متعسف الديباجة متعمل الطلاوة، أفسده التصنع، وأخفى التعقيد معناه، فالنظم الذي يكون بهذه الطريقة يصير قلقًا متكلفًا، والصورة التي تتسم بهذه الصفات تكون متعسفة منحوتة، لا حياة فيها ولا روح، قد حشيت بالتزويق والتجنيس، والترصيع والمطابقة، والبديع والغموض واختلاف الترتيب واضطراب
1 صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه المتوفى سنة 392هـ.
2 الوساطة بين المتنبي وخصومه: للقاضي الجرجاني ص310 وما بعدها -ط صبيح.
النظم، وقد وصف مندور، هذا اللون الذي لا يستقيم من النظم عند القاضي بقوله:"ظاهر شكلي تخطيطي سقيم وهو يصدر عن البديع"1.
يقول القاضي في بيان ذلك: "والقسم الذي لا حظ فيه للمحاجة، ولا طريق له إلى المحاكمة، وإنما أقصى ما عقد عائبه، وأكثر ما يمكن معارضه أن يقول: فيه جهامة سلبته القبول، وكزازة نفرت عنه النفوس، وهو خال من بهاء الرونق وحلاوة المنظر وعذوبة المسمع، ودماثه النثر، ورشاقة العرض، وقد حمل التعسف على ديباجته واحتكم التعمل في طلاوته، وخالف التكلف بين أطرافه، وظهرت فجاجة التصنع في أعطافه، واستهلك التعقيد معناه، وقيد التغوص مراده
…
ثم كان همه وبغيته أن يجد لفظًا مزوقًا، قد حشي تجنيسًا وترصيعًا وشحن مطابقة وبديعًا، أو معنى غامضًا. ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب واضطراب النظم وسوء التأليف، وهلهلة النسج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها2".
ثالثًا: ويقرر القاضي الجرجاني من معالم الكمال في الصورة، أن تكون مهمة اللفظ فيها ليست للكشف عن المعنى فحسب، بل لا بد أن يصير حلوا رشيقًا، أحظى في القلب، وأوقع في النفس، "ولا يرى اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى" ولكنه "أحلى وأرشق، وأحظى وأوقع3" والكلام فيها لا يصور الغرض فقط، ولكن ينبغي أن يكون ذا وقع قوي، يشتف الآذان ويستولي على القلوب، كما تشد مناظر الطبيعة الفائقة إليها النواظر، فلا ترى غير الجمال فيها. يقول:"ولا الكلام إلا ما صور له الغرض" إنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار"4.
1 النقد المنهجي عند العرب: د. محمد مندور ص285.
2 الوساطة للقاضي الجرجاني ص310 وما بعدها.
3 المرجع السابق.
4 المرجع السابق.
وليس الحسن مقصورًا على البديع، ولا الرونق للتصنيع فحسب ولكن لا بد من التهذيب فيهما، والتثقيف لهما، والترشيح لمنطقهما يقول:
"ولا الحسن إلا ما أبداه البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التصنيع" ولكن لا بد أن "نجد منه الحكم الوثيق، والحزل القوي، والمصنع المحكك، والمنطق الموشح، قد هذب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف"1.
هذه هي الصورة الحقة عند القاضي، وذلك هو النظم القوي الموحي، والتأليف الرائق الخلاب، وبه يفرق بين الشعر المطبوع والمصنوع، ثم يقول: إن هذا الحسن في النظم والجمال في تصويره المعنى لا نهاية له "ولو احتمل مقدار هذه الرسالة استقصاءه، واتسع حجمها، للاستيفاء له، لاسترسلت فيه ولأشرفت بك على معظمه"2.
رابعًا: ليس من الضروري في كل نظم أن تكون ألفاظه رصينة جزلة، ولا أجزاء الصورة قوية فخمة، تشتمل على استقصاء ألوان البديع، واستقطاب جموع التصنيع لتستكمل شروط الإحسان، وتستوفي كل كمال، ليس من اللازم هذا كله في الصورة الأدبية، فقد ينسج الشاعر المصور، والعبقري البارع صورة لا تستوفي أسباب الكمال السابقة، فألفاظها سهلة التناول، مألوفة الأخذ، لا تشتمل على حشد من الاستعارات، وقلما نجد فيها بديعًا، أو اتفاقا في الصنعة، ولكن الشاعر يبثها سره، وينفث فيها من سحره، ويبعث فيها الجلال الذي هو أسمى من الجمال، وهنا يعجز الإنسان عن إدراك كل أسبابه، وإن أدرك البعض فقد لا يعرف له سببًا، لا يستطيع أن يستوفي موارد السحر الحلال، ولا يتمكن من نفسه إلا شيء واحد، وهو أثر الصورة فيها، وعلوقها بقلبه كالنور الذي يبهر
1 المرجع السابق.
2 المرجع السابق.
البصر. ويهدي البشر، ولا يعرف الإنسان أسراره وتركيبه، مع وضوحه وشيوعه وألفته.
وما أشبه الصورتين السابقتين بصورة رجلين، أحدهما اكتملت فيه الأعضاء، وأوفت أجزاؤها على الغاية في التمام، واتسقت مقاطعه، وأصبح كل عضو فيه على حدة غاية الجمال، وثانيهما صورة رجل دون السابقة في كمال الأعضاء وتمام الأجزاء ولكنها في حسن موقع كل عضو منها وانسجام الأجزاء فيها، قد تكون أقوى من الأولى وأحظى بالحلاوة، ولا يدري المأخوذ بفتنتها لذلك سببًا، ثم يشير أخيرًا إلى صدق العاطفة في الصورة وقوتها حيث تلقى موقعها من القلب وتسرع إلى النفس، وهو عنصر هام في نجاح الصورة الشعرية.
يقول القاضي الجرجاني:
"وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال وتقف بالتمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها، في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناسب الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم -وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت- لهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا، ولو قيل لك: كيف صارت هذه الصورة، وهي مقصرة عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي الترتيب والصبغة، وفيما يجتمع أوصاف الكمال، وينتظم أسباب الاختيار أحلى وأرشق وأحظى وأوقع، لأقمت السائل مقام المتعنت المتجانف، ورددت رد المستبهم الجاهل، ولكن أقصى ما في وسعك، وغاية ما عندك، أن تقول: موقعه في القلب ألطف، وهو بالطبع أليق. كذلك الكلام منثوره ومنظومه، ومجمله وفصله، تجد منه المحكم الوثيق، والجزل القوي والمصنع المحكك؛
والمنطق الموشح، قد هذب كل التهذيب وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى أضحى ببراءته على المعايب، واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم تجد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك فجوة"1.
ثم يضرب صورة للمصنوع المثقل بالألفاظ، والبدائع من البيان، بشتى ألوانها؟ ويضرب صورة أخرى، لما هو دون ذلك في الاهتمام، من لفظ سهل قريب المأخذ، ونظم خال من الصنعة، يكاد يخلو من البيان والبديع، ومع ذلك لا تجد الصورة الأولى طريقها إلى القلب، وتجد الثانية في سحر وبراعة، وتستريح إليها النفس، وتعتريها من النشوة والطرب، ما يجعلها للثانية، وتفتر عن الأولى وتضعف، يقول القاضي: "وقد تنزل أبو تمام فقال:
دعني وشرب الهوى يا شارب الكاسي
…
فإنني للذي حسيته حاسي
لا يوحشنك ما استسمجت من سقمي
…
فإن منزله من أحسن الناس
من قطع أوصاله توصيل مهلكتي
…
وصل ألحاظه تقطيع أنفاسي
متى أعيش بتأمل الرجاء إذا
…
ما كان قطع رجائي في يدي باسي
فلم يخل بيت منها، من معنى بديع، وصفة لطيفة، طابق وجانس، واستعار فأحسن، وهي معدودة من المختار من غزله -وحق لها- فقد جمعت على قصرها فنونًا في الحسن، وأصنافًا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة، والقوة ما تراه ولكن ما أظنك، تجد له من سورة الطرب، وارتياح النفس، ما تجده لقول بعض الأعراب:
أقول لصاحبي والعيس تهوي
…
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار
1 الوساطة للقاضي الجرجاني ص37.
ألا حبذا نفحات نجد
…
وريا روضة غب القطار
وعيشك إذ يحل القوم نجدا
…
وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعرنا
…
بإنصاف لهن ولا سرار
فأما ليلهن فخير ليل
…
وأقصر ما يكون من النهار
فهو كما تراه بعيد عن الصفحة، نازع الألفاظ، سهل المأخذ، قريب التناول1.
خامسًا:
وبهذا الفهم الواعي للصورة الأدبية يسبق القاضي الزمن، ويفرق بين الجمال والجلال فيها2، فالجمال موضوعي، يستطيع المفتون بروعته أن يقف على أسبابه، ويحدد بعض عناصره، ويدرك خصائصه فيها، ويتعرض على مصادره في انتفاء الألفاظ، وسحر الكلمات، وإحكام التراكيب، وانسجام أجزاء النظم ومناسبة الوزن والقافية للمعنى، وسمو الخيال، وروعة التشبيهات، وحيوية الاستعارات، ووحي الكنايات، إلى غير ذلك من زهرات الرياض المتفتحة، ولا يحتاج في التعرف عليه من الناقد إلا ذوقه المستقيم، وإحساسه الصادق، ونفاذ البصيرة وحذق اللغة والإيمان بالفن الجميل.
وأما الجلال وهو فوق الجمال وغايته التي يسمو بها إلى مرحلة الإعجاز، ولم يكن ذلك ولن يكون إلا في "القرآن الكريم" المتفرد بالإعجاز، وسمو البيان.
1 الوساطة: القاضي الجرجاني ص37: 39ط صبيح.
2 يرى الدكتور محمد نايل أن القاضي الجرجاني سبق النقاد المحدثين في التفرقة بين الجمال والحلاوة في كتابه اتجاهات وآراء في النقد الحديث ص23 مطبعة العاصمة.
والجلال لا يعرف الناقد البصير كل وسائله، وجميع مصادره، وليس في طاقته القدرة على كشف دلائله ومعالمه، وإن انتهى إلى البعض فسيظل حائرًا إلى الأبد عن البعض الآخر، وينتهي في حيرة إلى القول: بأ، الجلال في الصورة الأدبية، أو في نفسه، أو فيهما معًا، وهنا يعجز العقل الذي يبرهن ويدلل، ويترك للإحساس والوجدان مملكته وسلطانه، فالعقل لوضوحه وتحديده له مجاله وله غاية ونهاية غالبًا، أما الإحساس والشعور لغموضه، فلا غاية له ولا نهاية، فهو يدرك ما وراء الظاهر، ويحس وحده بالجمال المطلق، الذي هو في ذاته مصدر الجمال، وهو ما يقصده القاضي بالجلال في قول الأعرابي السابق: "لا تعلم -وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت بهذه المزية سببًا، ولما حصت به مقتضيًا
…
إلى قوله: "وهو بالطبع أليق".
سادسًا:
ويتعرض للصورة الأدبية في دفاعه عن المتنبي حين يقول:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
…
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
ويرد القاضي البيت الذي وجهه النقاد إلى هذه الصورة، حيث إن المشبه به وهو "وقوف الشحيح" الذي ضاع في الترب خاتمه، لا يوفي بالغرض في المشبه؛ لأن الاستمرار في الوقوف على أطلال الحبيب، وترديد ذكريات الصبابة والعشق، فهذا يحتاج إلى وقت طويل يغيب فيه الحب عن الوجود، بينما البخيل لحرصه وشراهته فهو يجيد البحث عن خاتمة، ليحصل عليه بسرعة ولكن القاضي يصحح هذا الخطأ الذي ظنه النقاد عيبًا، في صورة المتنبي السابقة فيقول: "إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارة بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة فإذا كان الشاعر وهو يريد إطالة وقرفه قد قال: إني أقف وقوف شحيح ضاع
خاتمه فإنه لم يرد للسوية بين الوقوفين في القدر والزمان والصورة، وإنما يريد: لأقفن وقوفًا زائدًا على القدر المعتاد، خارجًا عن حد الاعتدال، كما أن وقوف الشحيح يزيد على ما يعرف في أمثاله، وما جرت به العادة في أضرابه"1.
والقاضي يرى أن الصورة لا عيب فيها؛ لأن الشاعر يقصد في تصوره موقوف المحب وغيبوبته في ذكريات الحبيب، واقفًا في جنبات الأطلال، إنه وقوفه خارج عن المألوف، وكذلك الشأن في وقوف الشحيح في هذه الصورة فهو يخرج عن عادة الناس، وإن أشار إلى الصورة بسرعة، ولم يقف عندها كثيرًا على عادة النقاد في عصره.
وأنا مع القاضي في هذا، بل إن المتنبي أحكم صورة الصب، وأتقنها غاية الإتقان؛ لأن البخيل يفنى كله في سبيل جمع الأموال، وتراه في حرصه يبحث عنه كالمجنون ويقوم بحركات غريبة وتصرفات متتابعة، ويقلب اليدين ويحرك الرجلين ويتابع النظرات ويستقصي كل جزئية حوله، ويعاود ويطاول ويجاهد من غير ملل ولا سأم ويصر على ذلك حتى يجد بغيته، وبنان طلبته.
وكذلك الشأن في المحب المتيم، حيثما يقف بطلل حبيبه، ومنازل ذكرياته الخوالي مشدودها مأخوذًا، غائبًا عن نفسه وعن الوجود كله، إلا في هذه الذكريات ومع تلك المنازل والأطلال.
أبو هلال العسكري والصورة الأدبية:
يتعصب أبو هلال للفظ، ويتعقب خطوات الجاحظ فيه، فينقل عباراته كاملة في تفضيل الصياغة، وإنها موطن الجمال وحده فيقول:
1 الوساطة: القاضي الجرجاني ص324.
"وليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفاته، وحسنه، وبهائه، ونزاهته، ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف"1.
فحديثه عن اللفظ وطلاوته، والسبك والتركيب، والنظم والتأليف، إنما يرجع غالبًا إلى التصوير، الذي لا يتم إلا بهذه الأمور، وبه يتحقق الجمال في العمل الأدبي فلولا الشكل لما تميز شاعر عن آخر، اتصف بالحذق والمهارة، حتى لو كان المعنى الذي يصوره وسطًا، فإنه يدخل في جملة الرائع من القول، لحسن عرضه، وحذق صناعته وحلاوة لفظه وعذوبته وسلاسته.
وهذا كله يدفع الخطيب والشاعر إلى المبالغة في التجويد والتصوير، ولو كان الأمر يرجع إلى المعنى لوفرا على أنفسهما تعبًا طويلًا2.
وعد أبو هلال قول الشاعر كثيِّر عزة من الرائع النادر، مع بساطة معناه ودنو مادته، وإنما حظي بالجمال، بجودة صوغه، وروعة تصويره، قال كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
إلى آخر الأبيات الثلاثة المشهورة، يقول أبو هلائل معقبًا عليها:"وليس في هذه الألفاظ كثير معنى، وهي رائقة معجبة"3.
وإن كان اهتمامًا بالشكل واللفظ لا ينسيه المضمون والمعنى، فالشاعر يحتاج إلى شرف المعنى والإصابة فيه، كاحتياجه إلى الحسن في الصياغة، ونسج الألفاظ.
1 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص57، 58 "المتوفى عام 395".
2 الصناعتين: أبو هلال العسكري ص57، 58.
3 المرجع السابق ص59.
والمعاني كالأبدان والصورة كالثوب، الذي يلف البدن، ويكسوه وقارًا ونبلًا، يقول أبو هلال:
"الكلام ألفاظ تشتمل على معان تدل عليها، ويعبر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى؛ ولأن المعاني تحل من الكلام محل الأبدان، والألفاظ، تجري معها مجرى الكسوة"1.
وهكذا نرى أبا هلال العسكري يعرف للعمل الأدبي عناصره المكونة له كما فعل قدامة ويرفع مع ذلك من شأن اللفظ والصياغة كما فعل الجاحظ.
واتجاه أبي هلال يجعله دون الجاحظ وقدامة في فهمه لصورة المعنى، فقد عد الصورة كالكسوة، التي هي منفصلة عن البدن، ومستقلة عنه، فأصبح اللفظ عنده أجوف مجردًا من كل معنى وروح، ويجرد اللفظ من القوة والحيوية.
وهذا يدل على عدم أصالته، على عكس الجاحظ وقدامة، اللذين أعطيا الصياغة والتصوير نوعًا من الحيوية، من غير فصل يفقد الروح في اللفظ، فصورة الخشب ليست منفصلة عن مادته انفصال الثوب عن البدن كما هو واضح في اتجاه العسكري الذي أوقعه في التقليد والخطأ؛ لأن العقل لا يتصور مطلقًا لفظًا من غير معنى يرتبط به، وصنيع ابن سنان الخفاجي في كتابه سر الفصاحة هو صنيع أبي هلال نفسه2.
1 المرجع السابق ص29.
2 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص259 وما بعدها. وسر الفصاحة: ابن سنان الخفاجي "466هـ" ص72، 82.
الباقلاني والصورة الأدبية:
يربط الباقلاني1 بين اللفظ والمعنى في الظاهر، ولكنه في الحقيقة يفضل المعنى على اللفظ؛ لأن مقياس الجمال عنده: أن المعنى البارع، إذا جاء في لفظ بارع، فهو أفضل من وقوع المعنى المألوف في لفظ بارع.
ومثل هذا يلحقه بأنصار المعنى، وإن كان يرجع الفضل في إشارته إلى علاقة اللفظ بالمعنى، وإن لم يوضحها، ويعمق جوانبها، ويبين مدى الترابط التام بينهما لكن عبد القاهر الجرجاني أفاد منه كما أفاد من غيره.
وعلى ذلك فمجال الصورة الأدبية لا يتحقق إلا في اللفظ البارع، الذي يحمل معنى لطيفًا، يقول الباقلاني:
"إن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، ولكن إذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب، من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر"2.
والعبارة الأخيرة تدل على عدم الدقة في فهمه لقضية النظم؛ لأن الألفاظ البارعة في المعنى تجعله شريفًا لطيفًا.
ابن رشيق:
والحسن بن رشيق3 يذكر في باب "اللفظ والمعنى" آراء السابقين عليه بعد ذكر رأيه فيهما فيقول:
1 صاحب إعجاز القرآن المتوفى 403هـ.
2 إعجاز القرآن: الباقلاني ص63.
3 هو أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني المتوفى عام 456هـ-1064م.
"للناس فيما بعد آراء ومذاهب: منهم من يؤثر اللفظ على المعنى، فيجعله غايته ووكده، وهم فرق:
1-
قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته على مذهب العرب، من غير تصنيع كقول بشار:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة
…
ذرى منبر صلى علينا وسلما
وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار
…
ب- وفرقة هي أصحاب جلبة وقعقعة، بلا طائل إلا القليل النادر كأبي القاسم بن هانئ، ومن جرى مجراه، فإنه يقول:
أصاخت فقال وقع أجرد شيظم
…
وشامت فقالت لمع أبيض مخذم
وما ذعرت إلا لجرس حليها
…
ولا رمقت إلا يرى في مخدم1
وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد.
ج- ومنهم من ذهب إلى سهولة اللفظ، فعنى بها، واغتفر له فيها الركاكة واللين المفرط، وهم يرون الغاية في قول أبي العتاهية:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي
…
فيسروا الأكفان من عاجل
ولا تلوموا في اتباع الهوى
…
فإنني في شغل شاغل
إلخ الأبيات.
ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ، فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته.
وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى"2.
1 أجرد شيظم: فرس قصير الشعر طويل الجسم، سيف قاطع، محل الخلخال.
2 العمدة: ابن رشيق ج1 ص124-127 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
وليست هذه الآراء هنا محل مناقشة فقد نوقشت قبل ذلك، والذي يعنينا هنا هو اتجاه ابن رشيق، والآراء السابقة في النص تحدد اتجاهه عن طريق النفي والسلب؛ فهو يستعرض مذاهب العرب في اللفظ والمعنى، لينفيها عن وجهته، ويبني رأيه على نقائضها، فيكون من أنصار اللفظ والمعنى معًا:"النظم".
ويرى أن الصورة في الشعر أو النظم تقوم على العلاقة بين اللفظ والمعنى، فلا اللفظ ينهض بالصورة والجمال، ولا المعنى كذلك، كالإنسان الحي، فكلاهما يسقط بسقوط الآخر، ويسمو بسموه. يقول:
"اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه ويقوى بقوته"1.
ولو اختل التركيب "في الشعر بعض الخلل، واستقام المعنى، هوى ركن من أركانه لا يقوى إلا به، كالعرج والشلل، الذي يغض من تمام الخلقة، وكمال الجسم، ويظل صاحبه حيًّا يتحرك هنا وهناك، وكذلك الأمر في ضعف المعنى، ينال من جمال اللفظ. ويكون النظم أشبه بالجسم الأجوف الفارغ، الذي لا روح فيه، يقول ابن رشيق:
فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ، كان نقصًا للشعر، وهجنة علية، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح -وكذلك إن ضعف المعنى، واختل بعضه، كان اللفظ من ذلك أوفر حظًّا، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح"2.
ويقرر ابن رشيق أساسًا قويًّا، لم يسبق إليه، في فهمه للنظم، وتقديره للصورة
1 المرجع السابق ج1 ص124.
2 العمدة: ابن رشيق ج1 ص124.
الأدبية، وهو ما وضحه للإمام عبد القاهر، وانتهى إليه النقد الحديث في أحدث نظرياته مع أن الأول في المغرب، والثاني في المشرق.
حيث ترى أن الخلل في المعنى، يحدث من خلل في النظم، ووهن في العلاقات بين الألفاظ، فالمعزل الأول على صحة المعنى يرجع إلى النظم، ووضع الألفاظ في مواضعها، والصورة الأدبية لا تبدو إلا في هذه العلاقات، وذلك الالتحام بين الشكل والمضمون، وهو ما سبق به ابن رشيق غيره، إن كان في إيجاز.
فالفساد في المعنى أو الضعف فيه، يرجع إلى اختلال اللفظ، والمقصود باللفظ عنده هنا هو النظم والتركيب، وإلا كيف يختل اللفظ الواحد؟ كما يقال: ألقى الخطيب كلمة، والمعنى كلام، وإلا لما شبه اللفظ بالجسد؟ وليس هو عضوًا واحدًا، بل أعضاء اشتركت جميعًا في بناء هيكله العام، وهو ما يقصد ابن رشيق من اللفظ، بدليل أنه عبر عنه بعد ذلك بقوله:"وإن اختل اللفظ جملة"، يقول في ذلك:
ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه على غير الواجب، قياسًا على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح.
ويوضح نظريًّا ما وصل إليه فيرى أن اختلال المعنى، يرجع إلى تفكك عرى الألفاظ واختلال مواضعها، التي من شأنها أن تكون فيها، كانغلاق الدائرة الكهربائية ينتج عنها النور والحياة. وانفصال جزئية واحدة منها يقطع التيار فيعم الظلام. وكذلك لو اختلفت قطعة صغيرة عن مكانها في آلة "أتوماتيكية" فإنها تتوقف عن عملها، الذي بمنزلة الروح في الجسد، ولا يعلم الإنسان أين مكانها، فربما تكون الروح في الجسد نتيجة لتمام أجزائها، واتخاذ كل جزئية في مكانها، وبذلك تسري في الجسد، واختيار الأعضاء المناسبة.
وتنسيقها وترتيبها، وانتظامها، وعلاقة بعضها ببعض، سر من أسرار الله وأمر لا يعلمه، إلا هو {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} .
وكذلك الأمر بالعكس حين اختلاف الألفاظ يضعف المعنى ويسقط؛ لأنه لا يعقل أن يكون في الحياة النافعة جسد بدون روح، ولا روح بدون جسد ألبتة، يقول: "فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتًا لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأس العين إلا أنه لا ينتفع به، ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة، وتلاشى لم يصح له معنى؛ لأنا لا نجد روحًا في غير جسم البتة1.
ولهذا يرى الناقد الأدبي، أن الجمال لا يكون إلا في النظم، لا في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ويترتب على ذلك أن تكون الصورة الشعرية، في العلاقة التي تتم بين الألفاظ. وتكشف عن المعنى والمضمون المستقيم الصحيح. ويزداد تمسكًا بهذه الحقيقة النقدية الخالدة، وما انتهى إليه من جديد في فهم طبيعة اللغة والشعر حينما لم يقتنع بآراء السابقين من أنصار اللفظ مستقلًّا، وهم كثيرون وأنصار المعنى كذلك وإن كانوا قلة، وذكر رأيه أولًا، وطرح أقوالهم بقوله:
"وللناس فيما بعد آراء ومذاهب". ثم يلقب على اتجاه ابن هاني، في عنايته بالجلبة والصخب في اللفظ، بدون كبير معنى، وينفي عنه الجودة ويرميه بالفساد يقول معقبًا:"وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد" وإن حكم له بجودة هذا البيت حين يصف شجاعًا فيقول:
لا يأكل السرجان شلو عقيرهم
…
مما عليه من القنا المتكسر
1 العمدة: ابن رشيق ج1 ص125.
فيرى أن تنسيق الألفاظ فيه، واختيار الكلمات، ووضع كل كلمة في موضعها، جعل البيت جيدًا، وحقق ما يصبو إليه الشاعر، من المدح بالشجاعة، وذلك كله راجع إلى اختيار الألفاظ، وعلاقة بعضها ببعض، حق انتهت الصورة الشعرية إلى الغاية في الجودة.
ولو بدل الشاعر في النظم بتغيير بعض الألفاظ أو التقديم والتأخير فيها، بأن مكن الأعداء وهم كثر من قتل ممدوحه باليد، لكانت الصورة هجوًا له، وأنه ما ثبت في ساحة النضال لحظة، حتى قتل، ولكن الشاعر انتقى الكلمات، وأحكم النظم، ليحقق الغرض ويسمو بالمعنى، فأراد رماحًا -لا رمحًا واحدًا- تتساقط عليه من كل جانب، حتى كست جسده، وتعذر على الذئب أن ينهشه، فهو مصون في حياته ومماته. يقول ابن رشيق مع الإيجاز، الذي يوحي بما سبق:
"والعقير ههنا معهم، أي: لم يمت لشجاعته، حتى تحطم عليه من الرماح -ما لا يصل معه الذئب إليه كثرة، ولو كان العقير هو الذي عقروه هم، لكان البيت هجوًا؛ لأنه كان يصفهم بالضعف والتكاثر على واحد"1.
ولا يعتد أيضًا برأي ابن وكيع الذي مثل المعنى بالصورة، واللفظ بالكسوة، ولا بما ذكره عبد الكريم من رأي لبعض الحذاق في قوله:"للمعنى مثال، واللفظ حذو، والحذو يتبع المنال، فيتغير بتغيره، ويثبت بثباته"2.
ولا يرضى عن قول العباس بن حسن العلوي في صفة البليغ: "معانيه قوالب ألفاظه" وغير ذلك من الآراء التي خالفها ليتميز رأيه ويتحدد اتجاهه، وينفرد هو به.
1 المرجع السابق ج1 ص127.
2 المرجع السابق ج1 ص127، 128.
ابن شرف القيرواني والصورة الأدبية:
يفضل ابن شرف المعنى على اللفظ، ويقدمه عليه، فمرجع الجمال في العبارة، ومجال الروعة في الصياغة، يكون في المعنى، ثم يأتي بعد ذلك اللفظ، فهو دونه في المرتبة والدرجة، فإن كان المعنى رائقا، فلا عليه أن يقع في لفظ رائق بارع.
ولا يعتد إلا بالمعنى الذي يسكن اللفظ، أي لفظ يقول:
فإن كان "أي المعنى" في البيت ساكنًا، فتلك المحاسن، وإن كان خاليًا فاعدده جسمًا باليًا"1.
الإمام عبد القاهر الجرجاني 2:
وبعد الشوط الطويل يأتي فارس الميدان، وأستاذ النقد العربي القديم الإمام القاهر، ويصلنا وهو في القرن الخامس الهجري بما انتهى إليه النقد الحديث في القرن الخامس عشر، في توضيح معالم الصورة الأدبية.
ولا يظن القارئ الكريم أن من ذكرتهم قبل الإمام من النقاد العرب ليسوا هم وحدهم الذين تكلموا في اللفظ والمعنى، وما تفرع عن ذلك من النظم والصورة. بل هناك غيرهم كثيرون منهم الصاحب بن عباد، والمرزوقي وغيرهما، وكذلك فعل جار الله الزمخشري بعده، وغيره مما سار على نهج ما ذكرت من فهمهم للصورة وتحليلها ونقدها مما جعلني أستقصي في نمو وتحليل، وتفصيل وموازنة واستنتاج كل المراحل التي مر بها مفهوم الصورة الأدبية، وذلك ما دعاني إلى الاكتفاء بأشهر الأعلام في النقد القديم، على أن الإمام عبد القاهر، يكفي عمن ذكرتهم، ومن لم أذكرهم، لسعة ثقافته، وفرط ذكائه، فقد أفاد من هؤلاء جميعًا حتى انتهى إليه القول في النظم والتصوير الأدبي قديمًا.
1 أعلام الكلام: ابن شرف القيرواني ص27.
2 المتوفى 471.
فإذا حدد الإمام معنى النظم، ليصل عن طريقه إلى الصورة، فإنما يحدده بناء على مشاركة منه مع النقاد الذي سبقوه، فهم جميعًا قد شاركوا كل بقدر، واستقطبت عبقرية الإمام كل المنابع الثرة، وتجمعت في نفس واحدة، لتخرج قضية النظم والصورة، ممتزجة بروح ذلك الناقد القديم، وفاضت عن ذوقه الأدبي وأصالته المتميزة، مما يخيل للدارس أنها من صنعته، ومن ابتكار شخصه. وتلك عظمة العباقرة في قدراتهم، فإنها توهم الغير بأن أصحابها وحدهم هم أهل الفضل فيما وصلوا إليه، ولا فضل للعصور السابقة عليهم، ولا لمن سبقه ومهد له الطريق، ولا لعصره عليه.
والحق أننا في الحكم عليه بشخصيته الفذة وعقليته الخارقة، وعبقريته المجددة المبتكرة، لا يصح أن نغمط حق من قبله، وحق العصور السالفة عليه، وفضل عصره عليه، الذي هام الناس فيه باللفظ، وقد ثبت أركانه الجاحظ، حتى كاد الشكل في الصورة يقضي على الأدب، ووقف بجانب أنصار اللفظ وهم كثر، وجمع قليل يناصر المعنى، ثم تلك العامية التي انتشرت في عصره، وأوشكت أن تقضي على جمال اللغة.
وفي وسط هذا الصراع بتياراته المختلفة، تمكن أهل الجدل والطاعنون في إعجاز القرآن، وبلاغته من المساس بأعظم مقدساتنا، فالرأي باللفظ جعل الطاعنين يذهبون إلى دعاوى باطلة كمثل قولهم: إن اللفظ عربي، والعرب أقدر الناس على مجاراته، ولذا فهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك لتظل هيبة القرآن في النفوس متفردًا بالجلال والإعجاز، والرأي بالمعنى جعل طائفة تنفي الإعجاز أيضًا؛ لأن الأمر يتصل بالمعنى، وليس هذا في طاقة العرب وفي قدرة البشر.
وفي كلا الأمرين تسقط المعارضة، ولا تصح المجاراة، فالتفوق والتفاوت لا يتم
في أحدهما، إلا إذا أمكن التحدي حتى يتحقق العجز من المعترض من ناحية، ويسمو القرآن بإعجازه في ميدان المعارضة من ناحية أخرى، يقول الإمام عبد القاهر في حط نصرة المعنى:
"وأعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه، إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يقضي بصاحبه، إلى أن ينكر الإعجاز، ويبطل التحدي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أنه لا يجب فضل ولا مزية إلا من جانب المعنى1".
وهذا الصراع هذا الذي اضطر الإمام إلى حسم القضية في عمق، وإلى أن يقيم الأدلة والبراهين -في تحليل أدبي وإطالة وتفصيل- ليقف على مصادر العظمة، وموارد البلاغة في كتاب الله، وأساس التفرد والإعجاز في معجزته الخالدة.
ويضيف في حديثه عن القرآن الكريم نماذج رائقة من الأدب العربي؛ لأن اللغة واحدة وهي اللغة العربية، ورد الأساس والمصدر في ذلك إلى ما نحن بصدده الآن وهو النظم، وما يتبع ذلك من التصوير الفني الأدبي، في لغتنا الحية النثرية.
والإمام عبد القاهر يتناول الصورة الأدبية في موطنين: أحدهما حينما يتحدث عن قضية النظم، وثانيها حينما يتكلم عن مشكلة السرقات الأدبية في الشعر العربي، وسنتناول ذلك بإيجاز، نقصد من ذلك بيان مفهوم الصورة الأدبية ومعالمها في نقدنا العربي الأصيل القديم، ومدى الصلة بينها وبين مفهومها في النقد الحديث.
1 دلائل الإعجاز: عبد القادر الجرجاني ص257 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.
أولًا النظم:
وقف الإمام قبل أن يرسي قواعد النظم ويحدد معالم الصورة موقف الباحث الدقيق، والناقد الذواقة الأديب، من أنصار اللفظ، وأنصار المعنى ليضع الأساس الثالث وهو النظم ويفند ما انتهى إليه السابقون حيث قالوا:"إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث1 فبين موقف من المعنى على حدة، ثم اللفظ على حدة، ليسلم له الأساس الفني الدقيق في الصورة وهو النظم. وما تلجلج الإمام في موقفه من كل من اللفظ والمعنى، قبل أن يستقر في النهاية إلى قضيته كما زعم بعض المعاصرين2. ولكن الرجل على عادته، كان يهدم جزءًا جزءًا وقبل أن يهدم يحدد الخصائص اللازمة للفظ على انفراد، وكذلك المعنى، فيحدد صفات اللفظ البليغ، ويتخير منه ويعلي من قدره منفردًا على المعنى ثم في موطن آخر يبرز سمات المعنى ويعلي من شأنه منفردًا فإذا انتهى إلى النظم، لم يعط الميزة للفظ وحده حتى يفضل المعنى، ولا يمنح الدرجة للمعنى حتى يسمو على اللفظ، فلا هذا ولا ذاك، وإنما الفضل الحق أن يكون للثالث وهو النظم وكفى3، فالإمام أعطى لكل حقه على انفراد، ولا قيمة لكل منهما وحده في الصورة وإنما يستحقان هذه القيمة. بل أكثر منهما، إذا ارتبطا بالنظم وهو وحده له القيمة الكبرى في الصورة الأدبية، فأما سمات اللفظ عنده، والخصائص التي ينبغي أن تكون فيه هي كما يقول: "أن اللفظة ما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا، أو عاميًّا سخيفًا
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.
2 د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ص113، وعز الدين إسماعيل في الأسس الجمالية في النقد العربي.
3 أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص3 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.
سخنة بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة1، ويقول: "أن يكون حروف الكلمة أخف وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد2، ولكن الإمام يخشى على نفسه أن يكون متهمًا بأنه من أنصار اللفظ وحده، والجمال مقصور عليه فيثور عليهم وينكر عليهم ذلك بشدة فيقول: لا جمال في اللفظ من حيث صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما يكون ذلك، لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب3.
ويقول: "وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمته معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها أخواتها4" ويضربهم بأنصار المعنى فيقول: "إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن -تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق5". ويطمئن أنصار المعنى لمذهبهم لوقت ما، بعد أن انتقض مذهب منافسيهم فيقرر الخصائص التي يشرف بها المعنى، بأن تكون غريبة نادرة، أو تشتمل على حكمة أو أدب". يقول:
"واعم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه، من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا، أو حكمة، وكان غريبًا نادرًا، فهو أشرف مما ليس كذلك بل عابوه
1، 2، 3 دلائل الإعجاز: عبد القاهر 425، 37، 88.
4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص425 تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي.
5 د. محمد خلف الله أحمد في كتابه "الوجهة النفسية" ص113، وعز الدين إسماعيل في الأسس الجمالية في النقد العربي.
لأجل الاعتداد بهذا الشرف وحده، وعدم النظر إلى ما سواه، وإن كان من الأول بسبيل أو متصلًا به اتصال ما لا ينفك عنه1".
ثم يثور عليهم ليحطم مذهبهم في المعنى مع اعتماده خصائصه في ذاته فيقول: "واعلم أن الداء الدوي، والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزية، إن هو أعطي إلا ما فضل من المعنى يقول: "ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه"2.
وبعد أن هوى بالذهبين أخذ يترفق بأصحابهما، لعلهما يجدان الصواب معه كما وقع له فيقول: "أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام3:
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت
…
فيه الظنون أمذهب أم مذهب
أو استحسنت تجنيس القائل:
حتى نجا من خوفه وما نجا
وقول المحدث:
ناظراه فيما جنى ناظراه
…
أو دعاني أمت بما أودعاني
لأمر يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول، وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفًا مكررة، تروم لها فائدة، فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة، كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك أنه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة.
1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الفاتحة ص3. تحقيق السيد محمد رشيد رضا.
2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص425.
3 المرجع السابق ص37. وهو أسرار البلاغة: عبد القاهر.
ووفاها. إن ما يعطي التجنيس من الفضيلة لم يتم إلا بنصرة المعنى، ولو كان فيه مستحسن ولما وجد فيه إلا معيب مستهجن".
إذن فلا بد عند الإمام من الانتصار لها معًا، ولن يتم الفضل للكلام إلا بالنظم وبعد أن أقنع الفريقين، أخذ يقرر مبدأه الهام ونظريته في اللغة، وليست هي حشدًا من الألفاظ، ولا اهتمامًا بالمعاني الغريبة النادرة، بل اللغة علاقات بين ألفاظها لا تعرف إلا بارتباط بعضها ببعض، لتوضح ما في الذهن من علائق على جهة الرمز لا النقل بقول الإمام:
"إن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف معانيها في أنفسها، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لنعرفها بها
…
حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيًا، ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناء، وكيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم؟ فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم؛ ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك لم تكن هذه الإشارة، لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي نراها ونبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذي يشك أننا لم نعرف الرجل والفرص والضرب، والقتل إلا من أساسها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد أن تعرف المسعى بهذا
الاسم، من غير أن تكون قد شاهدته، أو ذكر لك بصفته
…
وإذا قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلها معان لا نتصور إلا فيما بين شيئين، الأصل والأول هو الخبر، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول، والقائم في النفوس أنه لا يكون خير حتى يكون مخبريه ومخبر عنه، ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء، وكنت إذا قلت: أضرب لم تستطع أن تريد منه معنى في نفسك من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك، وصوت تصوته سواء1".
والإمام هنا يقرر أن ألفاظ اللغة لا أهمية لها مفردة، لنتعرف على معانيها في ذاتها، ولكنها وضعت لأن يضم بعضها إلى بعض، ويتعلق بعضها ببعض حتى نعرف معانيها، ونبلغ الغرض منها، فلو أردنا أن نعرف ما يدل عليه كلمة "فرس" محددًا محصورًا، لما استطعنا ذلك؛ لأنه اسم جنس عام لا وجود له، إلا في أفراده فإذا وقع بين ألفاظ أخرى في عبارة كما تقول:"فرس في الحديقة" فقد دلت الكلمة في التركيب على منظور، ورمزت إلى شيء معين، ولم يكن المسمى في الحديقة هو كل المعنى للكلمة السابقة.
ولذلك استطاع عبد القاهر عن طريق الكشف لرمزية اللغة، أن يعتبر اللفظ الذي يرمز إلى معنى لا وزن له منفردًا، ولا ينهض وحده بتصوير معناه، إلا إذا اشترك مع غيره، وارتبط بألفاظ أخرى، في نظم محكم، عند ذلك يكون لكل لفظ قيمة بقدر اشتراكه في تجديد الصورة العامة للمعنى المراد، ويكون حينئذ للنظم
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني ص473، 474 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.
وحده الميزة في الكشف عن المعاني المبهمة واضحة ومحددة، بينما يعجز اللفظ عن النهوض بالمعنى وحده، ولا يتصور حدوث ذلك بالمعنى الذهني المجرد؛ لأن السامع لا يعرف عنه شيئًا إلا إذا أشار المتكلم إليه بكلمة ترمز إليه، فيحرك الرمز الصورة الذهنية المترسبة في الباطن ازدحام الصور الأخرى في الذهن لألفاظ اللغة التي اكتسبها الإنسان في حياته".
وقد فسر ذلك د. مندور بالرمزية في اللغة، التي وصل إليها النقد حديثًا في العرب، وألحق عبد القاهر بواضع هذه النظرية "فنت"1:
وأنا مع الدكتور نايل2 في أن الإمام قد سبق النقد الحديث إلى هذه النظرية وبرع فيها واتخذها وسيلة للكشف عن أهمية النظم، وقدرته على تصوير المعنى والغرض بدقة وإحكام.
ولم يبق للإمام عبد القاهر بعد هذا الصراع إلا أن يحدد معنى النظم، لنرتقي منه في النهاية إلى توضيح معالم الصورة الأدبية عنده.
وفيتحديد معنى النظم يقول: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشك، أنه لا نظم في الكلم، ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك. وإذا كان كذلك تعليقًا أن ننظر إلى التعليق فيها والبغاء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله3؟..
1 الميزان الجديد: د. محمد مندور ص186.
2 نظرية العلاقات للدكتور محمد نايل أحمد ص100.
3 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص97 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.
فيصبح الاسم فاعلًا لفعل أو مفعلولًا أو خبرًا أو مجرورًا أو استفهامًا أو شرطًا إلى غير ذلك من ألوان العلاقات في علم النحو، الذي يربط بين النظم فيقول -عبد القاهر: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها
…
وذلك أنا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في وجوه الحال، وفي الحروف والفرق بينها بعضها عن بعض وفي حروف العطف والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار والإضمار والإظهار والجمع والتقسيم والتشبيه التمثيلي1.
وحينما تتخذ الكلمة بخصائصها السابقة مكانها من النظم المبني على معاني النحو، تتألف الصور الأدبية عند الإمام؛ لأن في الصياغة كلمات مرتبطة، وجملًا مشدودة بعضها ببعض في اتساق وإحكام لينم عن التصوير الدقيق للغرض من الصياغة والنظم يقول عبد القاهر عن الصورة الناتجة من النظم:
"إنك ترى الرجل قد يهتدي في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه، التي علمت أنها محصول النظم2".
1 المرجع السابق راجع ص117، 118، التحقيق السابق.
2 المرجع السابق ص123.
لذلك أصبح النظم عنده وسبيل الكلام لديه هو "سبيل الصياغة والتصوير وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء، الذي يقع عليه التصوير والصوغ كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالًا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل والصفة كذلك محال إذا أنت تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه، وكما أننا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن يكون فضة هذا أجود، أو فضته أنفس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت، من أجل معناه ألا يكون تفضيلًا له، من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فأعرفه1".
هذا إذا كانت الكلمة التي اتخذت مكانها من النظم قامت على الحقيقة، لا تمت إلى الخيال بصلة، فكيف يراها الإمام إذا نبعت الكلمة من منابع الخيال الثرة، والخيال كما نعلم حديثًا عنصر حي من أهم عناصر الصورة الأدبية في النقد الحديث، وعبد القاهر يرى أنه رافد من روافدها الكثيرة، وأعظمها هو النظم، وهو الأساس الذي بدونه لا يقبل الخيال ولا تحسن وسائله، فلو وقعت استعارة في نظم، فالجمال في الصورة لا يرجع إلى الاستعارة فقط، ولكنه يرجع أولًا إلى جمال النظم، وإنما الاستعارة التي وقعت موقعها من الجملة أو التركيب، قد زادت النظم جمالًا على جمال.
فالكلمة المستعارة مثلًا هنا حققت غايتين: إحداهما الجمال الذي نبع من موقع الكلمة في النظم، واتخاذها الوضع اللائق بها، وثانيهما الجمال الذي أضافه الخيال على الكلمة، ولكن الجمال الثاني لا اعتبار له إلا بالنظم الذي تتألف منه الصورة،
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص255 تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي.
ولذلك لو اختل النظم -مهما حوى من وسائل الخيال- سقطت الصورة وتجردت من كل عناصر الجمال".
وهذه نظرة دقيقة من الإمام في الصورة، أغفلها النقد الحديث إلا نادرًا كما سنرى ويذكر اتجاهه في مواطن كثيرة منها قوله بشأن الاستعارة:
"واعلم أن هذا -أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون المزية في النظم- باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنًا قد أخطأ بالاستحسان موضعه، فينحل اللفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام، قد حسن من لفظه ونظمه، فظنت أن حسنه ذلك كله للفظ دون النظم، مثال ذلك أن ننظر إلى قول ابن المعتز:
وإني على إشفاق عيني من العدا
…
لتجمح مني نظرة ثم أطرق
فنرى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النظر يجمع، وليس هو لذلك؛ لأن قال في أول البيت "وإني" حتى أدخل اللام في قوله:"لتجمع" ثم قوله: "مني" ثم لأن قال: "نظرة" ولم النظر مثلًا؟ ثم لمكان "ثم" في قوله: "ثم أطرق" وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: "على إشفاق عيني أخرى نصرت هذه اللطائف كلها، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله:
"على إشفاق عيني من العدى"
وغير ذلك كثير من ألوان الخيال التي وفد إليها الجمال عن طريق النظم.
وبهذا العمق في التناول والاستقصاء، اعتد عبد القاهر بالنظم وحده في تأليف الصورة وتكون أركانها، كما هو واضح في نقده لأبيات كثيرة عزة، التي استحسنها بعض النقاد قبله لتفرد ألفاظها بالجمال، مع أنها لا تحمل كبير معنى،
وخالفهم الإمام وبين لهم أن الجمال فيما يرجع إلى حسن النظم، وبه يرتفع حيث يقول عقب قول كثيِّر السابق:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
…
إلخ الأبيات.
قال الإمام لائمًا عليهم صنيعهم: "ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفًا إلا إلى استعارة وقعت موقعها، أصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان، حتى وصل المعنى إلى القلب، مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن
…
إلى قوله الذي بين فيه وجه الصواب: فقل الآن هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها، حتى إن فضل الحسنة يبقى لتلك اللفظة، ولو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وترصيفه، ثم يقول بعد أن يشبه النظم فيما اللآلئ في العقد: بل حق هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكيمة والتشبيهية بعضا، وازدياد الحسن منها بأن تجامع شكل منها شكلًا، وأن يصل الذكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها، ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها".
ولاهتمام عبد القادر بالنظم وعنايته به جعل بعض النقاد يزعم أنه شكلي لا يهتم بشرف المعنى وندرته، لذلك استحسن الصورة الأدبية السابقة للشاعر كثير، مع أنها لم تحفل بمعنى شريف.
والذي أراده أن نظرية عبد القاهر في النظم والصورة بريئة من الشكلية الصرفة التي اتهم بها، ونستطيع دفعها بالتالي:
أو لًا: أنه اهتم أولًا بالمعنى المفرد، وأعطى له سمات النبل والشرف وسبق ذلك في موضعه.
ثانيًا: النظم ينبني على اختيار معاني الألفاظ، وانتقائها، ثم تآلف هذه المعاني والتوخي بينها، ولا شك أن هذا يثبت للمعنى في النظم شرفًا ونبلًا1.
ثالثًا: الصورة الأدبية التي تألفت من خيوط النظم إنما يرجع جمالها وسحرها إلى ما تحققه من شرف الغرض وسمو المغزى.
رابعًا: وعلى ذلك فاهتمام عبد القاهر بالنظم والصورة إنما هو من أجل المعاني والأغراض، التي تكون الصورة خير سفارة عنها، وأقواها توصيلًا إلى النفس وتأثيرًا فيها.
خامسًا: وأدى اهتمامه بالمعنى والغرض، إلى أن يرتقي بالصورة إلى ما وراء الحس الظاهر عن طريق الوحي في الصورة، وهو ما يسميه عبد القاهر "بمعنى المعنى" الذي يزيد المضمون شرفًا.
ويرى أنه ليس من المراد من الألفاظ في التراكيب ظواهر معناها فقط، ولكن يراد فوق هذا أن يشار بمعانيها إلى معان أخرى "حتى يكون هناك مجاز واتساع، وحتى لا يراد من ألفاظ ظواهر وما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخرى"2. ويجلي "معنى المعنى" وضوحًا، لعنايته التامة به.
ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية إلى الغرض3. ويضرب لذلك أمثلة عدة منها قولهم: "كثير
1 دلائل الإعجاز: راجع منهج عبد القاهر في الكتاب للدكتور خفاجي ص27.
2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص264.
3 المرجع السابق ص262.
رماد القدر" وينتقل اللفظ فيه إلى المفهوم الذي هو المعنى الوضعي للغة إلى معنى الكرم، وهذا المعنى هو معنى المعنى، والمعنى الأول: هو الوضعي بمثابة الوشي والمعارض للمعنى الثاني، الذي قصد إليه عن طريق معنى المعنى، والمعنى الثاني: هو الذي كسى ذلك الوشي وزينه وحلي به1.
ويضيف إلى مفهوم الصورة فوق ما تقدم إيضاحًا لمعالمها، وكشفًا لجوانبها، مشاركة الألفاظ بموسيقاها، ودلالتها الصوتية، مما يزيد حسن النظم وجمال التأليف، فتثري الضرورة بعناصر عديدة تمنحها القوة والتأثير.
ولذلك ينبغي ألا تكون الكلفة غريبة وحشية، بل مألوفة للسمع، مستعملة غير مهجورة، وحروفها خفيفة، منسجمة بعضها مع بعض، متلائمة مع معناها، وأن تتواءم بسماتها السابقة مع جاراتها في النظم، إذ لا اعتداد بها مفردة، إلا حينما يتسق معانيها بعضها مع بعض يقول:"أن تكون حروف هذه أخف، وامتزاجها أحسن، وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها"2.
ويقول: "فلا جمال إذن في اللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق، وإنما يكون ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب فالملاءمة بين حروف الكلمات، وخفة المنطق بها، وتناسبها مع معناها شدة أو لينًا وخفة وثقلًا، كل ذلك حسن للألفاظ لا شك فيه، راجع إلى ذاتها ولكنه يزيد النظم فضلًا، إذا وقعت منه في مكانها، كالشأن في ألوان الخيال.
وينتقي أقوى أنواع الإيقاع في النظم، وأعمق موسيقي في التأليف،
1 المرجع السابق ص262، 263.
2 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص88.
كالمزاوجة بين معنيين في الشرط والجزاء، والتعليق والتقسيم مع الجمع، والتشبيه المتعدد والمركب حيث تتجاوب أصداء النظم مع أنغام الموسيقى، النابعة من زوايا متعددة لتشارك في جمال النظم الذي تتألف منه الصورة الأدبية ويذكر تحت عنوان "فصل" في النظم يتحد في الوضع، ويدق فيه الصنع" فيقول:
"واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان منها بأول وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعًا واحدًا، وأن تكون حالك فيها حال الباني، يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك، نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين، وليس لما يجيء على هذا الوصف حد يحصره أو قانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى، وأنحاء مختلفة، فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط، والجزاء معًا كقول البحتري:
إذا ما نهى الناهي فلج به الهوى
…
أصاخت إلى فلج بها الهجر
ويضرب الأمثلة لأنواع مختلفة من موسيقى النظم إلى أن يقول: ونوع ثالث هو ما كان كقول كثيِّر:
وإني وتهيامى بعزة بعد ما
…
تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما
…
تبوأ منها للعقيل اضمحلت
ثم ذكر منه التقسيم مع الجمع والتشبيه المتعدد والمركب1.
وملاءمة وضع الكلمة مع أختها في الشطرة، ثم ملاءمتها مع الشطرة الأخرى،
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص127 وما بعدها بتصرف.
ثم ملاءمة البيت مع البيت، ومع أبيات القصيدة، وهكذا حتى يتم النظام الهندسي الموسيقي للقصيدة؛ لأن الرجل مغرم في الاهتمام بالأجزاء إلا نادرًا، لاعتقاده أن استقامة الجزء، وملاءمته مع الآخر سيؤدي في النهاية إلى سلامة الإيقاع في القطع أو القصيدة1.
واهتمام الإمام بالجزئيات في النظم دعا بعض النقاد2 أن يقصر عنايته التامة الجزئية فحسب، ولم يهتم بالصورة الكلية في الأدب العربي ونقده.
والحق أنه وجه اهتمامه للصورة الجزئية إلا نادرًا، وكان الدكتور نايل موفقًا حينما أثبت أن الإمام تناول الصورة الكلية في نقده قليلًا، نظريًّا وتطبيقيًّا، ومن أراد تفصيلًا فليرجع مشكورًا إلى كتابه دفعًا للإطالة3.
والذي أحب أن أذكره هنا ما أشار إليه الإمام من العناية بالصورة الكلية في قوله:
"واعلم أن من الكلام، ما أنت ترى المزية في نظمه الحسن، الأجزاء من الصيغ تتلاحق، وينضم بعضها إلى بعض، حتى تستكثر في العين، فأنت لذلك لم تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق والأستاذية، وسعة الذرع، وشدة المنة، حتى تستوفي القطعة، وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري4:
بلونا ضرائب من قد نرى
…
فما إن رأينا لفتح ضريبا
إلخ الأبيات5.
1 نظرية العلاقات: د. محمد نايل أحمد ص48.
2 د. محمد غنيمي هلال في النقد الأدبي الحديث.
3 نظرية العلاقات: د. محمد نايل ص44 وما بعدها.
4 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص 124.
5 المرجع السابق ص120.
ومن الصور الكلية التي تناولها أيضًا قول ابن الرومي:
خجلت خدود الورد من تفضيله
…
خجلًا توردها عليه شاهد
لم يخجل الورد المورد لونه
…
إلا وناحله الفضيلة عاند
للنرجس الفضل المبين وإن أبى
…
آب وحاد عن الطريقة حائد
وفضل القضية أن هذا قائد
…
زهر الرياض وأن هذا طارد
شتان ما بين اثنين هذا موعد
…
بتسلب الدنيا وهذا واعد
ينهى النديم عن القبيح بلحظه
…
وعلى المدامة والسماع مساعد
اطلب بعقلك في السماع سميه
…
أبدا فإنك لا محالة واحد
والورد إن فكرت في اسمه
…
ما في الملاح له سمي واحد
هذي النجوم هي التي ربيتها
…
بحيا السحاب كما يربى الوالد
فانظر إلى الأخوين من أدناهما
…
شبهًا بوالده فذاك الماجد
أين الخدود من العيون نفاسة
…
ورياسة لولا القياس الفاسد
وترتيب الصنعة في القطعة أنه عمل أولًا على قلب التشبيه. فشبه حمرة الورد بحمرة الخجل، ثم تناسى ذلك وخدع عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خجل على الحقيقة، ثم لما اطمأن ذلك في قلبه، واستحكمت صورته طلب لذلك الخجل علة، فجعل علته أن فضل على النرجس، ووضع في منزلة ليس يرى نفسه أهلًا لها، فصار يثوب من ذلك ويتخوف عيب العائب وغميزة المستهزئ وتجد ما يجد من مدح مدحه يظهر الكذب فيها، ويفرط حتى تصير كالهزء بمن قصد بها، ثم زادته الفطنة الثاقبة الطبع المثمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع وحجاج في شأن النرجس، وجهة استحقاقه الفضل على الورد فجاء بحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له1.
1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني ص229، 330 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.
أشار الإمام إلى الصورة الكلية في القطعة السابقة لابن الرومي وإن لم يصرح بها، وقد ذكرها في معرض التشبيه حيث شبه حمرة الورد بحمرة الخجل تشبيهًا مقلوبًا، ولو كان حديثه عن الصورة الجزئية لوقف عند هذا الحد، ولكنه استمر في تحليل الصورة كلها ليقف على مواطن الحسن فيها غير مكتف بالتشبيه فقط، الذي يدل على ذلك الفقرة الأخيرة حيث قام النرجس بفطنته النافية بتقديم الحجج والأدلة ليستحق الفضل على الورد وينال الشرف وحده ثم ختم حديثه بقوله فجاء بحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له.
وصحيح أن الإمام لم يصرح بلفظ الصورة الكلية إلا أن تحليله يدل عليها، وتناول غيرها في الدلائل في قطع صغيرة تشبه السابقة، وفي بعض آيات القرآن الكريم.
ثانيًا: للصورة الشعرية في باب السرقات
ولن يكون حديثنا هنا عن السرقات الأدبية فذلك له مجال آخر، ولكن الحديث سيكون عن الصورة الأدبية التي كشف عنها الإمام أثناء حديثه عن السرقات.
ولذلك نراه يتصدى للقوم، ويصف رأيهم فالخطأ المحض؛ لأنهم اعتبروا الصورتين المختلفين لمعنى واحد يعدان شيئًا واحدًا، ولا تفاوت بينهما؛ لأن المعنى في الصورة الأولى هو نفسه في الصورة الثانية، إنما الاختلاف في هيئة النظم وتركيب الصورة وهذا لا يفيد شيئًا.
ويوضح لهم بأن التفاوت بين الصورتين على هذه الصفة السابقة أمر محتم ولازم، وأن التغاير في المعنى بعد التصوير جاء نتيجة الاختلاف في هيئة الصورة.
مع أن المعنى كان واحدًا في البداية، فتباين الصورتين عليه أعطى لهما معنى جديدًا.
ولا يعقل أن يتم الاتفاق بينهما إلا في حالة واحدة، حينما يغير الشاعر المتأثر كل لفظة عند الشاعر الأول بلفظة تشبهها في المعنى، وهكذا حتى آخر الصورة فيكون بين الصورتين اتفاق تام ولا تفاوت بينهما؛ لأن الشاعر الثاني لم يعرض للمعنى في نظم أو صورة جديدة يقول الإمام عن القوم: "وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين، فلما رأوا إذا قيل في الكلمتين أن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في أحدهما حال لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل، وقد غلطوا فأفحشوا؛ لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت الخطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها
…
واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد. ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى، ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعًا شيئًا يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة وقائل شعر"1.
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر. تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ص429، 430.
لأن اللفظ المفرد، لا يمكن أن يخفي المعنى، إنما الذي يخفيه النظم والصورة "ولو كان المعنى معادًا على صورته وهيئته، وكان الآخذ له من صاحبه لا يصنع شيئًا غير أن يبدل لفظًا مكان لفظ، لكان الإخفاء فيه محالًا؛ لأن اللفظ لا يخفي المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير التي كان عليها1".
وكذلك ليست العبرة بمعنى اللفظ في نفسه وذاته، بل في نظمه وصورته كما لا يكون الذهب بنفسه وإنما بصورته خاتمًا كان أو سوارًا يقول الإمام:"وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة خاتمًا أو الذهب سوارًا أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلمة المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلامًا وشعرًا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه"2.
وتأسيسًا على ذلك يضع الإمام عبد القاهر الأساس في التفاوت والمفاضلة بين شاعرين في صورتهما، إذا تناولا معنى متحدًا، فيقسمه قسمين: قسم يكون فيه أحد الشاعرين قد أخفق في تصويره، والآخر جاء بصورة فائقة، قسم جاء فيه كل من الشاعرين في المعنى الواحد بصورة غريبة جديدة.
يقول الإمام في الشاعرين اللذين صورا معنى واحدًا: "وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب.
وقسم أنت ترى واحد من الشاعر قد صنع في المعنى وصور.
ويعلل سر التفاوت في القسم الأول: "إما لأن متأخرا قصر عن متقدم،
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص427.
2 المرجع السابق ص430.
وإما لأن هدى متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي:
بئس الليالي سهرت من طربى
…
شوقًا إلى من يبيت يرقدها
مع قول البحتري:
ليل يصادفني ومرهفة الحشا
…
ضدين أسهره لها وتنامه1
والقسم الثاني: ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة، ويورد أمثلة كثيرة منها قول النابغة:
إذا ما غدا بالجيش حلق فوقه
…
عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقن أن قبيله
…
إذا ما التقى الصفان أول غالب
مع قول أبي نواس:
يتأبى الطير غدوته
…
ثقة بالشبع من جزره
قال عمرو الوراق لأبي نواس: "أما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش: البيتين فقال "أي أبي نواس": اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع.
يقول عبد القاهر: وهذا الكلام من أبي نواس دليل بين في أن المعنى ينقل من صورة إلى صورة ذلك؛ لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئًا، لكان قوله: فما أسأت الاتباع محالًا؛ لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ.
ويبين عبد القاهر بعد ذلك الفرق بين الصورتين البارعتين فيقول: "ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها، في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن ههنا معنيين أحدهما أصل، وهو علم الطير بأن الممدوح
1 المرجع السابق ص431.
إذا غزا عدوًّا كان الظفر له، وكان هو الغالب، والآخر فرع، وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطاعم من لحوم القتلى، قد عمد النابغة إلى الأصل، الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب فذكره صريحًا وكشف عن وجهه، واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى وإنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى، وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحًا فقال كما ترى:"ثقة بالشبع من جزره" وعول في الأصل الذي هو علمها بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى، ودلالة على علمها أن الظفر للممدوح هي في أن قال:"من جزره" وهي لا نثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، فيكون شيء أظهر من هذه في النقل من صورة إلى صورة1"؟.
ولعل القارئ الكريم معي في نقل النص كله كاملًا هنا؛ لأنني أقصد ذلك وأعنيه فالمقام هنا يستدعي ذكر هذا النص الذي يشكف عن وجهة نظر الناقد ورأيه في الصورة الأدبية؛ لأنني في مجال بيان مفهوم الصورة عند النقاد القدامى المفترى عليهم حديثًا في أنهم لم يفهموا معنى الصورة الأدبية، ولم يتذوقوها ولعل النص الأخير للإمام يعطي لنا صورة صادقة عن وعيه التام بالصورة الأدبية فهمًا وتذوقًا وتحليلًا أدبيًّا وتطبيقًا في الشعر العربي على اختلاف صوره، وقد أثبت الفرق الكبير بين اختلاف الصورتين مع أن الغرض واحد وهو الظفر للممدوح وهما في نفس الوقت صورتان بارعتان، رائعتان، ثم ذلك الاعتداد القوي بالصورة الأدبية في الموازنة والتقدير، والحكم على صاحبها بالسرقة أو الابتكار فيها، مع إهمال اللفظ منفردًا إذ لا قيمة له وحده في الشعر والتصوير، وإنما تكون له إذا ظهر دوره مع غيره في النظم والصورة،
1 دلائل الإعجاز: عبد القاهر ص440، 442.
وبعد فهذا ما وصل إليه النقد العربي القديم في شخص الإمام عبد القاهر -لتوضيح مفهوم الصورة الأدبية التي نبعت في النهاية من النظم المحكم الجيد، وبيان أركانها ومعالمها وخصائصها عن طريق التحليل للنصوص الأدبية، وإيراد النماذج القوية من الصور والتعرف على خصائص الجمال والجلال فيها من غير قصد إلى التبويب أو العنونة لها والنص الصريح، أو التقعيد لخصائصها وأركانها، هذا هو ما ينقص النقد القديم في تناوله لمفهوم الصورة وليس عيبًا؛ لأنه كان يمثل مرحلة من المراحل التاريخية في التعرف عليها وبيانها وتوضيحها.
وفي نهاية المطاف مع الإمام عبد القاهر، نجمل ما وصل إليه في توضيح الصورة الأدبية والتعرف على خصائصها وذلك في إيجاز:
أولًا: أنه أعطي للفظ حقه، كما أعطى للمعنى حقه كذلك.
ثانيًا: أنكر الإمام إتيان الصورة من اللفظ وحده، كما أنه ينبغي ألا يكون جمال الصورة راجعًا إلى المعنى فقط.
ثالثًا: اللفظ عنده تابع للمعنى وعند ابن خلدون وغيره أن المعنى تابع للفظ والأصح ما ذهب إليه الإمام؛ لأنه مجال لظهور العبقريات في التصوير، والواقع أن بينهما فوارق كبيرة أهمها:
أ- الصورة الأدبية عند الإمام تشكل في الذهن أولًا، ثم تبرز إلى الخارج بعد انتظامها، بعكس رأي ابن خلدون، فهي عنده تشكل خارج الذهن؛ لأن الأديب يجمع ألفاظًا قد تفرقت هنا وهناك، وأحيانًا يخطئ الغرض بذلك الجمع الخارجي.
ب- الصورة عند الإمام ما دامت داخلية أولًا، فسيكون للعقل والعاطفة والمشاعر أثر في حيويتها وقوتها، بينما نجدها على رأي ابن خلدون ربما لا يعمل فيها غير العقل، في عملية جمع الألفاظ لتحقيق غرض ما.
ج- الصورة عند الإمام يكون لها معنى مقصود، وغرض يهدف إليه الشاعر، وعلى ذلك ينظمها في ذهنه حسب الغرض، بينما في رأي ابن خلدون قد يخطئ الشاعر الغرض؛ لأن عملية الجمع التي يقوم بها الشاعر ابتداء، ربما تكون على غير اتفاق مع الغرض الذي يهدف إليه.
د- الصورة عند الإمام فيها احتمال للإيحاء بمعنى ثان خلاف المعنى الأول -الذي بنيت عليه الصورة في الذهن، بخلافها عند أمثال ابن خلدون، فإن لها معنى واحدًا ناتجًا عن نظم الألفاظ، بعد اختيار موقع كل كلمة فيها.
هـ- اتجاه عبد القاهر فيه مجال لظهور العبقريات في الفن، أما اتجاه ابن خلدون فالمجال فيه ضعيف يأتي عن طريق المصادفة غالبًا، كالطفل الذي يلعب بالمكعبات، حتى يقع على تشكيل فريد بالمصادفة، وهذا نادر بينما في الأول تكون له الإرادة، والتحكم في التشكيل، وذلك أقرب إلى العبقرية من الثاني.
وعلى ذلك فإذا حضر المعنى للصورة عند الإمام أتت إليه الألفاظ ميسورة سهلة، وأما عند أمثال ابن خلدون فسنجد صعوبة في تحضيرها، وحتى إذا تيسر ذلك، فلن نصل إلى المعنى إلا بعد محاولات عديدة.
رابعًا: أساس الجمال عنده يرجع إلى النظم والصياغة والتصوير.
خامسًا: الصورة الأدبية الحقة تتكون من العلاقات بين الألفاظ، وتتألف من خيوط النظم الجيد.
سادسًا: كل كلمة في النظم أو الصورة لا بد أن تأخذ مكانها بين أخواتها، يرتبط معناها بمعاني الكلم فيهما على أساس التوخي لمعاني النحو1.
1 ويرى الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي أن عبد القاهر متأثر في النظم بأستاذه الروحي ابن جني في كتابه الخصائص قبل أن يستفيد من أي إنسان آخر: منهج عبد القاهر في كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر: تحقيق الدكتور خفاجي صاحب الرأي الفريد في هذا.
سابعًا: لهذا تحققت الوحدة الفنية والترابط الوثيق بين أجزاء النظم والصورة والتلاؤم بين عناصرها.
ثامنًا: الصورة عنده لا تتعلق بالشكل وحده، ولكنها تتعانق مع المضمون، من حيث التبع والنتيجة، وإنما جاءت الصورة لتوضيح المعنى وتعميقه، والكشف عن الغرض من القصيد، الذي يترابط فيه الصور لتأدية المراد.
تاسعًا: ولصلة الصورة بالمضمون صلة وثيقة، توحي بمعان جديدة لتأكيد المعنى الأول، فيزداد جلاء ووضوحًا، وهو ما سماه الإمام "معنى المعنى".
عاشرًا: قيمة الخيال في الصورة لا يعدو أن يكون رافدًا واحدًا من الروافد العديدة فيها، وإن وقع في نظم زاد الصورة جمالًا على جمال النظم المحكم.
الحادي عشر: أهم روافد الصورة هو النظم، أما ما عدا ذلك من روافد اللفظ الحسن والخيال والموسيقى والمزاوجة وغيرها، فهي روافد إضافية تزيد من جمال النظم.
الثاني عشر: الإمام عبد القاهر صرح بوسائل الموسيقى الداخلية التي يتدفق بها النظم، وجعلها من أدق أنواع الصنع، وأشرف ألوان النظم، كالمزاوجة والتقسيم وغير ذلك مما سبق. ولم يهتم بالموسيقى لشيوعها.
الثالث عشر: أنه ركز اهتمامه على نقد الصور الجزئية والتعرف على خصائصها، والتحليل لها، إلا القليل من الصور الكلية.
الرابع عشر: أدى كشفه لنظرية الرمز في ألفاظ اللغة لتوخي معانيها إلى توفيقه في توضيح معاني النظم، وتثبيت دعائمه، واعتماد الصورة الأدبية عليه وحده أولًا وقبل كل شيء.
الخامس عشر: أفاد الإمام من سابقيه فيما انتهى إليه، فأصبح اتجاهه في الصورة الأدبية واضحًا لا غموض فيه.
السادس عشر: المرجع في التفاضل عنده بين الصور في الشعر والأدب إلى الصورة الأدبية في ذاتها، وما أوحت إليه من معان، لا إلى ذات المعنى والمضمون وحدهما.
السابع عشر: اختلاف النظم عنده، وتباين التعبير لمعنى واحد لا يمكن بحال أن تتفق فيه صورتان لشاعرين مختلفين يستقل كل منهما بنظم يخالف الآخر مع اتحاد المعنى -مثل ما سبق بين النابغة وأبي نواس- بل لا بد من الاختلاف في التأليف، والإيحاء ودرجة التأثير في النفس.
الثامن عشر: استطاع عبد القاهر بذوقه الأدبي أن يربط بين النظم وصورته في الشعر وبين الفنون الأخرى، مما يصح فيه التصوير، كالنقش والصياغة للمعادن وأصباغها،
وأن الصورة تلائم النظم كتلاؤم الهيئة والشكل للمعادن في صورها المختلفة من خاتم وأسورة مثلًا، أو ملازمة الألوان والأصباغ وتوزيعها ومقاديرها على رقعة الصورة، في تشابه تام بين الصناعتين، صناعة الشعر وغيرها من الصناعات الأخرى.
التاسع عشر:
عرض الإمام وسائل الخيال من تشبيه واستعارة وغيرها، وأنها أحد الروافد في النظم، والنظم فوقها؛ لأنه لم يعتد بألوان الخيال إلابعد اعتداده بالنظم في تأليف الصورة، وأما تحديد معالم الخيال في ذاته، فقد تردد عبد القاهر في مفهومه وسماه التخييل أو الإيهام، وذكر د. غنيمي هلال أن النقاد العرب القدامى لم يصلوا إلى مفهوم دقيق للخيال وأثره في الصورة1.
ويعبر الإمام عن الخيال بالتخيلات، فيذكر بعد قول الشاعر:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت
…
إلى نداك فقاسته بما فيها
وعلق عليه بقوله: وكذلك يوهمك بقوله: "إن السحاب لتستحيي" إن السحاب حي يعرف ويعقل، وأن يقيس فيضه بفيض كف الممدوح، فيخزى ويخجل.
فالاحتفال والصنعة في التصورات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم شبيه بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش والنقر، فكما أن تلك تعجب وتخلب، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه
1 ورد هذا بالتفصيل: "النقد الأدبي الحديث" د. محمد غنيمي هلال صفحات 167، 169، 232، 240.
كذلك حكم الشعر، فيما يصنعه من الصور، ويشكله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني، التي يتوهم بها الجامد الصامت في صورة الحي الناطق
…
والمعدوم المفقود في حكم الموجود الشاهد، كما قدمت القول في باب التمثيل حتى يكسب الدني رفعة والغامض القدر نباهة1.
والإمام يعبر عن الخيال في الصورة الشعرية التي تشبه الصناعات الخلابة الرائقة بالتخيلات، فترى الصورة التي قامت عليها تحيل الجامد حيًّا ناطقًا، والمعدوم منظورًا مشاهدًا أمام الحس والعيان، وبذلك يكتسب المعنى الغامض قدرًا ونبلًا.
ومع اعترافه بأن التخييل له قدرته وقيمته، إلا أنه يخلط بينه وبين الوهم، وهو غير الخيال كما في قوله: "من المعاني التي يتوهم بها الجامد الصامد
…
إلخ" وهو صح ذلك يفضله في الشعر عن الحقيقة، فيقول معقبًا على بيت البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم
…
في الشعر يكفي عن صدقه كذبه
أراد كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجأ إلى موجبه مع أن الشعر يكفي فيه التخييل، والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إليه من التعليل، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد وإياه عمد2.
وما ذهب إليه الإمام هنا يفسره النقد الحديث بالخيال؛ لأن الشعر يعتمد أساسًا على هذا الركن، وأنه لا يهتم بالحقيقة، بقدر ما يصور إحساس الشاعر بصدق ودقة، ما دام هذا تطمئن إليه النفس، وتستريح إلى سماعه لقيامه لا على القياس والحقيقة بل على حسن التعليل.
1 أسرار البلاغة: عبد القاهر ص275، 276 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.
2 أسرار البلاغة: عبد القاهر ص217، 218 تحقيق السيد محمد رشيد رضا.
ومع تقديره لقيمة الخيال في الشعر إلا أنه في تحديد مفهومه يخلط بينه وبين الوهم، فكلاهما له أثره في الصورة الأدبية الحديثة.
ويزداد الأمر وضوحًا عند الإمام حينما يفرق بين التخييل1 والاستعارة، وكلاهما من ألوان الخيال في الصورة "وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر أمرًا هو غير ثابت أصلًا، ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولًا يخدع فيه نفسه، ويريها ما لا ترى.
أما الاستعارة فسبيلها سبيل الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله ووجدت قائله، وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا، ويدعي دعوى لها شبح في العقل، وستمر بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن الحقيقة تكشف وجهه في أنه خداع للعقل وضرب من التزويق"2.
فهو يرى أن التخييل في قولهم: فلان يقدم رجلًا ويؤخر أخرى للإنسان المتردد أمر غير ثابت؛ لأنه دعوى باطلة، يمكن تحصيلها وتحقيقها، وأنه خادع للنفس؛ لأنها ترى غير الحقيقة فيها. كما يرى أن الاستعارة دعوى لها شبح في العقل.
وفي هذا يربط الإمام ألوان الخيال بالعقل، ويقيسه بالحقيقة، ويرى أنه وهم وخداع للنفس، ودعوى باطلة وشبح وغير ذلك من الأوصاف المبتورة، التي إن كشفت عن جانب من مفهوم الخيال في الصورة، فلا تكشف عن الجوانب الحية فيه، بل الخيال كالعقل، لكن لغته الصور المحسة من تخييل واستعارة، وتشبيه وكناية وغيرها والإمام يجعله أشباحًا وصورًا لا صلة لها بالإحساس، تخدع
1 التخييل عند عبد القاهر هو التمثيل.
2 أسرار البلاغة: عبد القاهر ص221، تحقيق السيد محمد رشيد رضا.
النفس؛ لأنها لا تعرف طريقًا إلا طريق العقل، والعقل وحده هو الذي يربط بين الصورة المحسة في المثال السابق وبين المعنى الذهني، ويرى الصلة بينهما في الجامع، فيأنس الصورة؛ لأنها تتفق مع المتردد حين يأخذ ويعطي في أمرها، كالرجل المتردد حين يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، وحينئذ يرى العقل أيضًا أن هذا المعنى أصبح حبًّا متحركًا ولذلك يكون تأثيره في النفس أعظم من الحقيقة المكشوفة، التي يتلقفها العقل من غير روية ولطف نظر، وموازنة تجري، وصلات تعقد، ومن غير تقارب واتفاق.
هذا هو ما يفهم من الخيال عند الإمام، وهو إن كان تفسيرًا غير دقيق وشامل للخيال فهو قريب نوعًا ما من مفهوم الخيال حديثًا لأسباب هي:
أ- أنه يخالف الحقيقة بغض النظر عن التشبيه الذي قالوا عنه: إنه فرع الحقيقة لا المجاز، فيكفي فيه حسن التعليل لا المنطق.
ب- الخيال الركن الركين للشعر.
جـ- الخيال يهز العواطف ويحرك النفس.
د- أنه يتخذ مادته من المشاهدات المحسة.
هـ- أنه يبعث الحياة والحركة والمعاينة في الجامد والمعدوم والمفقود.
و أنه يحتاج في الوقوف عليه إلى دقة ولطف ونظر وروية.
ز- أنه يعقد الصلات بين الأشتات حتى تظل مقبولة في النفس.
وهذه الخصائص تمثل شوطًا لا بأس به في تحديد مفهوم الخيال وتوضيحه وبيان أثره في النفس، وهو في نفس الوقت يمثل طورًا من أطوار مفهومه التي مر بها في الأدب العربي، حتى اكتملت معالمه في العصر الحديث.
والنقاد العرب قطعوا شوطًا كبيرًا في توضيح مفهوم الصورة الأدبية، بعد أن مرت هي كذلك بمراحل النمو والتدرج الطبعي للأشياء، وإن اتجهت عنايتهم التامة بالصورة الجزئية، مغفلين أمر الصورة الكلية إلا نادرًا، وهذا لا يضر بمفهومها في ذاته.
ولا يصح أن نفرض مفهومًا حديثًا، ونطبقه على المفهوم القديم، لنتهمهم بالتقصير لعدم المطابقة بين المفهومين، ليس هذا بمعقول؛ لأن النقد القديم كان يمثل مرحلة تاريخية في بناء الفهم للصورة الأدبية، ولذلك كان النقاد غالبًا ما يستعملون الشعر والكلام مكان الصورة كالآمدى، أو النظم والتأليف -والصياغة كما هو الشأن عند معظمهم، حتى من فطن منهم إلى التعبير بالصورة كان يمر بها خاطفًا كالبرق، ولعل فن التصوير والرسم لم يبلغوا فيه درجة ما بلغناه في عصرنا، حتى أصبح هذا اللفظ على كل لسان حديثًا، فاستخدموه في التجارب المعملية، وفي معامل العلوم الحديثة، وكذلك يرجع الإقلال من التعامل بالصورة قديمًا، وإحلال النظم أو الصياغة إلى غير ذلك محلها، إلى حداثة الامتزاج بالأعاجم وشيوع اللحن في اللغة العربية فوجد النقاد، والأدباء أن الأنسب في مواجهة هذا التيار المشوب باللكنة والعجمة والتعبير باللفظ والمعنى والنظم والتأليف والصياغة والكلام، مما يدل بالنص والتصريح على اللغة وخصائصها؛ لأن الصورة تعبير غير مباشر، لبيان المراد في اللغة، وإن ترددت على ألسنتهم متأثرين بما ترجموه عن الأعاجم، فما زالت الصورة غير مختمرة بعقولهم ولا ممتزجة بعواطفهم، لذلك تجنبوا التعبير بها إلا قليلا، حتى تختمر وتمتزج بنفوسهم، ليعبروا بها عن أصالة وإحساس صادق وقد نبعت من حياتهم ولغتهم وأدبهم.
ابن الأثير والصورة الأدبية:
ومن أنصار النظم ابن الأثير1 الذي يرى أن الصورة لا تكون إلا من علاقات الألفاظ بعضها ببعض، وهو دون الإمام عبد القاهر؛ لأنه أولًا متأثر به، وثانيًا لم يأت بجديد، فهو أقل منه في التناول والتفصيل والدقة والاستيعاب.
ولكن الذي دعاني إلى ذكره في مراحل نمو الصورة وأطوارها، هو ذوقه الأدبي الذي ينبغي أن يذكر هنا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
يرى صاحب "المثل السائر" أن الصورة الشعرية لا تكون في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، بل في العلاقة بين الكلم والنظم لمعاني الألفاظ، وبه يقع التفاضل في الصورة الناتجة عن النظم، وتأخذ من الفضل على قدر درجة التنسيق في التركيب، وحسن التأليف فيه، وتلبية الكلمة لمكانها، لترجع المزية إليه لا إلى اللفظ المفرد، أو المعنى المستقبل. يقول:
"إن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق. إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بل تجد ما وجدته من المزية الظاهرة، إلا لأمر يرجع إلى تركيبها، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن، إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وكذلك إلى آخرها"2.
1 هو ضياء الدين نصر الله محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير المتوفى سنة 637هـ.
2 المثل السائر: ابن الأثير ص88 ط بولاق 1282هـ.
ثم يوضح اتجاهه في الصورة، ورأيه في النظم، ويؤيد ذلك بالأدلة القوية، والشواهد الرادعة، التي لا تبقي لمنكر بقية من اعتراض أو نفي، فيذكر الفروض للمرتاب ليتأمل الصواب فيما يقول ويحكم على نفسه بالخطأ، حينما يوجه افتراضه إلى المعترض قائلًا له: لو أخذت لفظة من مكانها في الآية السابقة، فإننا لا نرى لها بمفردها من الحسن ما لها وهي في موضعها بين أخواتها، إذ لو كان لها هذا الحسن مفردة، لأصبحت كل لفظة صورة أدبية للمعنى، وهذا مما يأباه العقل السليم، والحس الصادق، ويثني بدليل آخر، وهو أن اللفظة الواحدة، قد تروق في صورة ولا تحسن في صورة أخرى وهو في هذا متبع للإمام عبد القاهر الناقد العربي الكبير يقول ابن الأثير:
"فإن ارتبت في ذلك فتأمل هل ترى لفظة منها لو أخذت من مكانها، وأفردت من بين أخواتها، كانت لابسة من الحسن ما لبسته في موضعها من الآية؟ ومما يشهد لذلك ويؤيده، أنك ترى اللفظة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها1".
وذلك مثل كلمة "تؤذي" في آية الأحزاب، فقد حسن موقعها منها، وأخذت مكانها في نظم القرآن، وفيها من التناسب والتلاؤم والترابط والانسجام ما يرتفع بالآية إلى درجة الإعجاز، كالشأن في القرآن الكريم كله، فتعلقت الكلمة بأخواتها وامتزج معناها بمعاني أخواتها، فتلاقت مع الشرط في:{إِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وفي الشرط تقييد، ولا يخفى ما فيه من إيذاء إيجابًا وسلبًا ومع النفي في قوله تعالى:{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} والنفي كالشرط لما فيه من الترك والإهانة كذلك الاستحياء ومن لا يستحيي من المطعمين، فهو أشد الناس إيذاء، وأبعدهم
1 المرجع السابق: ابن الأثير.
عن معاني النبل والإنسانية، ألم تبلغ الكلمة الإعجاز مع أخواتها في الآية {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ونفس الكلمة قد وقعت في بيت للمتنبي، فلم تجد مكانها بين أخواتها في النظم فكان التناقض والانفصام في الصورة الشعرية يقول المتنبي:
تلذ له المروءة وهي تؤذي
…
ومن يعشق يلذ له الغرام
فهل لكلمة "تؤذي" -وفيها ما فيها من القبيح- مكان من أخواتها في الصورة التي تدل على الجمال والحب والوفاء، وهي:"تلذ، المروءة، يعشق، يلذ، الغرام" بل البيت كله، وبها اختلت الصورة واضطرب الانسجام في البيت.
ويضرب ابن الأثير المثل لذلك في نقده للكلمة التي وقعت في آية الأحزاب وفي صورة للمتنبي فيقول: أما الآية فهي قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} وأما بيت الشعر فهو كقول أبي الطيب المتنبي:
تلذ له المروءة وهي تؤذي
…
ومن يعشق يلذ له الغرام
وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة، إلا أن لفظة "تؤذي" قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن، فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية، وهذه اللفظة التي هي "تؤذي" إذا جاءت في الكلام، فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها، متعلقة به كقوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} وقد جاءت في قول المتنبي منقطعة"1.
1 المثل السائر: ابن الأثير ص86.
ويقيم دليلًا آخر على مذهبه أكثر إيضاحًا، فيرى أنه قد يكون هناك لفظتان مختلفتان في المادة، متحدتان في المعنى، والوزن، وحسن الاستعمال، ومع ذلك لا تصلح هذه مكان تلك، بل لكل منهما موضع متميز في النظم والتصوير. يقول:"إنك قد ترى -لفظتين يدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن الاستعمال وهما على وزن واحد، وعدة واحدة إلا أنه لا يحسن استعماله هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك"1.
ويرى ابن الأثير أن الكلمة في الصورة الأدبية، توحي بمعان جديدة في النظم لم تكن لها وهي مفردة عنه، وتشف عن أضواء لم تكن فيها قبل، كاللآلئ الغالية، فكل حبة من اللؤلؤ في العقد، اكتسبت من جاراتها إيحاءات جديدة إذا وقعت في مكانها المناسب، وتفيض عليها أخواتها ظلالًا وأضواء، تعكس ألوانًا وأطيافًا خلابة، وتؤدي هي الأخرى دورها كذلك، فتتجاوب بشعاعها مع الأصداء، ثم ذلك النمو التدريجي بين الحبات، ليتم لها الانتقام والالتئام مع غيرها ويضفي على العقد الصورة الرائقة الفريدة.
وكذلك الأمر في الألفاظ الغالية وغيرها، لو أخذ كل لفظ مكانه من النظم لأضفى على الصورة الأدبية، ما يشبه هذه الإيحاءات في العقد من اللؤلؤ، فإن ضلت الكلمة مكانها من النظم فقدت الصورة وحيها، وتلاشت الظلال والأضواء فيها. وكذلك الأمر حين يقع اللفظ الغالي في نظم فاسد، وصورة مضطربة فستفقد قيمتها من الصورة، مع أنها في غاية الجودة وهي مفردة، وفي ذلك يوفق ابن الأثير غاية التوفيق، ويسبق نقادنا المعاصرين إلى وحي الصورة، في دقة تناول وبراعة
1 المرجع السابق.
تقديم، وقدرة فائقة لتحديد معالمها، بذوقه الأدبي وإحساسه الصادق، وثقافته الواسعة، وخبرته بالنقد والأدب، يقول ابن الأثير:"يخيل للسامع أن هذه الألفاظ ليست تلك التي كانت مفردة. ومثال ذلك كمن أخذ لآلئ ليست من ذات القيم الغالية، فألفها وأحسن الوضع في تأليفها فخيل للناظر بحسن تأليفه، وإتقان صنعته، أنها ليست تلك، التي كانت منثورة مبددة، وفي عكس ذلك، من يأخذ لآلئ من ذوات القيم الغالية، فيفسد تأليفها، فإنه يضع من حسنها، وكذلك يجري حكم الألفاظ الغالية مع فساد التأليف"1.
يحيى بن حمزة العلوي:
وصاحب الطراز قد بالغ في اهتمامه بالمعنى أكثر من غيره وظهرت أثر الفلسفة في تناوله للمعنى، ورعايته لها في كتابه، فقد عد المعاني أصلًا والألفاظ تابعة لها وترجع أصالة المعنى عنده، والاعتداد به في الكلام والتصوير إلى أسباب هي في معظمها ترجع إلى الفلسفة وعلوم العقل وإلى علوم اللسان، وعذره في ذلك أنه متأثر في عصره بهذا اللون من الفكر، وكاد أن يفسد الذوق الأدبي ويقضي على روح البلاغة العربية.
فالصورة الأدبية عنده التي تأسر العقل والإحساس بجمالها إنما ترجع إلى المعنى؛ لأنه الأصل، ولو وقعت في لفظ رديء باهت. لذا عد صاحب الطراز من أبرز أنصار المعنى والأسباب التي ترجع المعنى عنده هي2:
أ- أن لكل من الإنسان والأسد والفرس معنى واحد في كل لغة. وإنما
1 المثل السائر: ابن الأثير. ط بولاق ص114.
2 الطراز: يحيى العلوي ج2 ص150.
الذي يقع التغيير فيه هو اللفظ لهذه المعاني، فقد تواضعت لكل لغة على لفظ خاص بها يختلف على اللغة الأخرى.
ب- قد يكون للمعنى الواحد ألفاظ كثيرة، يدل كل لفظ منفردًا على المعنى وتعدد الألفاظ للمعنى الواحد يدل على أن الأصل للمعنى لا للفظ، لاختلاف الألفاظ عليه، وتعاقبه فيه، ولو كانت هي الأصل لاختلفت تبعًا لاختلاف المعاني عليها كذلك.
ج- لو كانت المعاني تابعة للألفاظ لأصبح لكل معنى لفظ يدل عليه. وهذا باطل؛ لأن المعاني غير محدودة، ولا نهاية لها، ولكن الألفاظ محدودة محصورة ولا يعقل أن يكون اللانهائي تابعًا للمحدود، والعكس صحيح، وهو تبعية المحدود وهي "الألفاظ" لما نهاية له من "المعاني"؛ لأن المعاني في الأذهان، والألفاظ طارئة عليها.
والذين انتصروا للمعنى اهتموا به مجردًا غير مرتبط باللفظ غالبًا، فتؤدي عنايتهم به إلى عدم الاهتمام بالصورة الأدبية، وقلة مبالاتهم بالجودة فيها اكتفاء منهم بشرف المعنى وجودته.
وهذا الاتجاه يذهب بجمال اللغة، وروعة التصوير وقوة التعبير، فيضعف الذوق الأدبي، وتموت الحاسة الفنية، التي تدرك جمال الصياغة، وجلال الصورة فتنفق صورة الأدب، وتقفر دولة الشعر؛ لأن البراعة والابتكار يكون محدودًا في مجال المعنى، لا يبرع فيه إلا الشعراء الأوائل، أو العباقرة من الشعراء بعد ذلك، وهم واحد أو اثنان في كل عصر أو قرن.
ولكن مجال الصياغة والتصوير للمعنى، أو توليد معنى آخر منه، أوسع دائرة وأعم في صورة أخرى، وهي دائمًا موطن الابتكار، وأساس الاختراع في المعنى لذلك تتسع دولة الآداب، ويتكاثر الشعراء النابغون في كل عصر،
فيستوحي كل منهم صورة من صورة سابقة، أو يولد صورة من غيرها، أو يبتكر صورة من عنده، فيأخذ الشاعر اللاحق مكانه من الفضل، كما أخذ السابق في ابتداعه مكانًا، وساغ الشعراء بعد ذلك الاستيحاء والتوليد، والتأثر والاختراع.
لذلك كان أنصار اللفظ أكثر نشاطًا في الأدب، وأعظم عونًا لتفوق الشعر واتساع مملكته وأجدى نفعًا للصورة الأدبية، وللأدب بصفة عامة. وأكثرهم رعاية لتربية الأذواق، وتنمية الحواس الفنية.
وأصدق من هؤلاء تقديرًا للشعر والأدب، هم الذين يربطون المعنى واللفظ -ويهتمون بالنظم والتركيب، فهم أقرب فهمًا للصورة الأدبية بمعناه الكامل، ومغزاها الدقيق النامي، فبالنظم يأخذ الأدب مكانه، وتعود للشعر رونقه، ويكون للصورة سحرها وأثرها القوي في النفوس.
ومهد الطريق في دراسة فن النظم للإمام عبد القاهر الذي ثم على يديه، مهده كثرة من الأدباء والنقاد قبله.
منهم من أشار إشارة عابرة، ومنهم من نص وتذوق، ومنهم من طبق النظم على نصوص لانكشف عن عبقرية في باب النظم والتصوير حتى جاء الإمام عبد القاهر فحقق ما لم يحققوه واستحق لذلك الإمامة بينهم وأتى من بعده فألقى عصى التسيار عنده، وأخذ يدور ويلف حول آرائه في النظم، حتى ضل الطريق ووقع مغشيًّا عليه في ساحة الجدل والمنطق والفلسفة وسنوضح أثر أنصار النظم في الصورة الأدبية، ومدى نضوجها واكتمالها بمصادر حيويتها وقوتها وروعتها.
وأراني في هذه القمة بلغت حد التجاوز قليلًا، فإذا أطلقت على من يؤثر اللفظ "أنصار اللفظ" فهذا أولًا من باب تغليب اللفظ على المعنى عندهم وثانيًا: فهو حكم تقريبي.
وكذلك الأمر في أنصار المعنى، وأنصار النظم "أي اللفظ والمعنى"؛ لأن من رجح اللفظ أو المعنى لا يهمل المرجوح منها ألبتة، ولكنه يكون دون ما رجحه، وكذلك أيضًا اللفظ والمعنى معًا فمن شايعهما لا يهتمون بالنظم وحده بل باللفظ على حدة وبالمعنى كذلك، وإن كان جل عنايتهم بالنظم والتأليف أولى وأعظم وهي محل النبوغ الأدبي، وموطن البراعة في التصوير الشعري.
الصورة الأدبية عند نقاد آخرين:
وممن عرف للصورة الأدبية مكانها من المزية والبلاغة أبو علي أحمد بن الحسن المرزوقي1 وغيره من النقاد، وسبق بحث قضية الصورة الأدبية عند ابن الأثير وقد حفل عبد الرحمن بن خلدون بالصياغة وعد المعاني تابعة للألفاظ، فهي التي تكشف عنها، وتدل عليه يقول:
"إن صناعة الكلام نظمًا ونثرًا إنما هي في الألفاظ، لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل
…
وذلك أن قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق، يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ. أما المعاني فهي في الضمائر، وأيضًا فالمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا يحتاج إلى صناعة، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه، وهو بمثابة القوالب للمعاني، فكما أن الأواني التي يغترف بها والماء من البحر، منها آنية الذهب والفضة، والصدف والزجاج والخزف والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة
1 شرح ديوان الحماسة: المرزوقي، ص5، 6.
اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها"1.
ولشدة اهتمامه باللفظ وعنايته بالصورة جعل المعاني تابعة للألفاظ، فهي قوالب للمعاني، والصورة آنية لها، كالأواني تختلف في صورتها -مع الماء الواحد- من ذهب إلى فضة، ومن زجاج إلى صدف، فتختلف جودتها، كذلك الأمر في جودة اللفظ والصورة، إنما ترجع إلى حسن الاختيار وقوة الرصف وجمال التنسيق.
وتحديد ابن خلدون للشكل والصورة بما تقدم. يؤدي إلى الفصل التام بين اللفظ والمعنى، وضعف العلاقة بينهما، فالآنية منفصلة عن الماء، انفصال الثوب عن البدن كما ارتأى ذلك أبو هلال، واللفظ عنده لا حياة فيه ولا ماء، بل هو مجرد من الروح والحيوية.
ورد اختلاف الصورة إلى اختلاف الشكل مع اتحاد المعنى، وشبهها باختلاف المعادن مع اتحاد الماء بداخلها في كل معدن.
ويبدو في هذا عدم الدقة في فهمه للصورة الحقة، التي يستطيع الشاعر فيها أن يشكل من المعنى الواحد -كالمعدن الواحد- صورًا عدة مع أن عبد القاهر الجرجاني قد سبقه بذلك مما يدل على تسرع منه في فهم الشكل والصورة، وإن اتفق مع الجاحظ في الاهتمام باللفظ والصياغة.
1 المقدمة: عبد الرحمن أبو زيد بن خلدون "المتوفى 808هـ-1406م" ط المشرفية 1327هـ.
وهو يخالف ابن الأثير وغيره حيث عد الأخير الألفاظ تابعة للمعاني، خادمة لها، وإن اتفق معه ومع أبي هلال العسكري في انفصال الصورة عن معناها، فجعلها كالأردية والأثواب المحبرة يقول ابن الأثير1.
"إذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط بل هي خدمة منهم للمعاني، ونظير ذلك إبراز صورة الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة فإننا نجد من المعاني الفاخرة ما يشوه من حسنه بذاءة لفظه وسوء العبارة عنه".
1 هو ضياء الدين نصر الله محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير المتوفى سنة 637هـ. المثل السائر ص212.