المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: معالم الصورة الأدبية - الصورة الأدبية تاريخ ونقد

[علي علي صبح]

الفصل: ‌الفصل الثالث: معالم الصورة الأدبية

‌الفصل الثالث: معالم الصورة الأدبية

اللغة إحساس الأحياء وفكر العقلاء، وكل من الإحساس والفكر في تقلب دائم وحركة مستمرة، يختلف من وقت لآخر، ومن أمة لأمة، وهذا الاختلاف هو شأنها بصفة عامة فما بالك لو ارتقت اللغة إلى أسمى مراتبها؟ وهو التصوير الأدبي فتكون المشقة في تحديد المعنى لاختلاف الأذواق.

وتبعًا لذلك اختلف النقاد في تحديد مفهوم الصورة الأدبية قديمًا وحديثًا، وإن وصلوا في النهاية عن طريق تحليلها إلى مظاهر الجمال فيها، وإلى أثرها في النفس، فكان ذلك الجهد هو أكثر وفاء لنبل الصورة، وأعظم تقديرًا لسموها وأوضح لسر خلودها.

وليس معنى ذلك أن نقف عاجزين عن بيان معنى الصورة، وتحديد معالمها وعناصرها وشروطها وأثرها الفني، وإلا لثبطنا الهمم في الدراسة، وخارت العزائم عن البحث المتجدد، وفقدت أملها في الرقي والإبداع، ولهذا أردت أن أضع مفهومًا للصورة الأدبية في تعريف موجز ثم يعقبه توضيح شامل ثم نوضح بعده معالم الصورة واحدًا بعد الآخر.

مفهوم الصورة الأدبية:

الصورة الأدبية هي التركيب القائم على الإصابة في التنسيق الفني الحي لوسائل التعبير التي ينتقيها وجود الشاعر -أعني خواطره ومشاعره وعواطفه- المطلق من عالم المحسات ليكشف عن حقيقة المشهد أو المعنى، في إطار قوي نام محسن مؤثر، على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين.

ص: 149

فالشاعر في نشوة العمل الفني، وغمرة التكوين الداخلي للصورة في نفسه، يحسن بتجرد تام من أثقال المادة، ويصير هو في ذاته خيالا وفكرًا وشعورًا وعاطفة، مجردًا من الماديات، وهو ما أقصده من الوجود المطلق للشاعر من عالم الماديات والشاعر في هذه الحالة يشعر بوجوده، ومن خلاله يرى وجود الغير، ويعرف حقائق المعاني والمحسات معرفة حقيقية، فالوجود يرى ذاته في الآخرين، ولذلك قيل: إن الشعر الصادق هو الذي يتم فيه التعاطف مع مصادر الوجود الأخرى في الواقع والحياة والطبيعة؛ لأنها جميعًا مع نفس الشاعر قد تجاوبت معه، وأصبحت كلها كالأعضاء في جسد الإنسان، إذا ما تألم عضو أو تعاطف تجاوبت معه بقية الأعضاء، وعملية الكشف هذه عن حقيقة المعنى أو الشيء من خلال وجود الشاعر بالتنسيق السابق بين وسائل الإفصاح المختلفة هي الصورة الأدبية أو الشعرية.

والشاعر حينما يخلق بوجوده الفكري والشعوري معًا، مجردًا من عالم المحسات ليلتقي مع عالم الأرواح، ويتعرف على أسراره، ويتمكن من حقيقة ما في الواقع والحياة ويشكف عن العلاقات بين أجزاء المحس، أو المعنى المجرد أو الصراع النفسي، أو الحالة الإنسانية أو العاطفة.

وبذلك الكشف يموج الجماد بالحيوية والحركة، وينمو المعنى، وتحيا الحالة النفسية والإنسانية، وتزداد الحرارة في العاطفة وتقوى.

وعندئذ ستتحول كل جزئية مما سبق إلى خلية تحمل في ذاتها وجودها الحقيقي، ولا يتم لها ذلك إلا بعد امتزاجها بالأجزاء الأخرى، ويتخذ كل جزء مكانه ليبث الحياة في المجردات والمحسات والحالات النفسية والإنسانية والعواطف والنماذج البشرية وغيرها، وتكون الجزئيات في كل ما سبق كالخلايا في الإنسان الحي تمامًا، والتي هي مصدر وجوده الحقيقي؛ لأن كل خلية فيه تتفاعل مع بقية

ص: 150

الخلايا؛ والأمر كذلك في كل كلمة خلال بناء الأسلوب، فتصير الكلمة في موقعها من الجملة أو البيت كائنا حيا في ذاتها، وروحا تتجاويب مع أخواتها؛ لأن الكلمة لا تظهر حيويتها إلا في جوها الملائم لطبيعتها في الصورة، حينما تتعلق بثانية، وثالثة وهكذا. مما يوحي بالحقيقة في تعبير قوي وتصوير رائع، ولا يقف على هذه الأسرار اللغوية إلا العباقرة من الأدباء والشعراء.

وليس معنى ذلك أن الصورة الأدبية لمعنى واحد تتفق عند أكثر من شاعر لاتحاد المعنى فيها، ما دام تجرد الشاعر عما حوله واحدًا وأمرًا مشتركًا في الظاهر، فهذا غير صحيح، وليس الأمر كذلك؛ لأن وجود كل شاعر في تجرده هو ما يحول في نفسه من عوالم الفكر والشعور والأحاسيس والعواطف، وهو يختلف من شاعر لآخر، فلكل من الشعراء مزيج من الأفكار والمشاعر والعواطف حسب تكوينه المفرد، الذي لا يشترك فيه أحد غيره، كالشأن في البصمات في الإنسان، فلا تلتقي بصمة في إنسان مع بصمة أخرى في شخص آخر، وهو سر خالق الكون ومالك الوجود.

وهذا العمق في الصورة كما رأيت جعل البعض يتعجل في الحكم على الصورة بأنها أسطورية؛ لأنها تتسم بالغموض والإبهام ولا يمكن توضيحها لتقرب من الفهم والإدراك فقال هي: "الإدراك الأسطوري الذي تنعقد فيه الصلة بين الإنسان والطبيعة"1.

فهو يجعل العملية السابقة التي يقوم بها الأديب خرافة وأسطورة، ومن يريد أن يعرف الحقيقة، يركب أجنحة الخيال الجامح، فيتعرف على الوجود، ويصل إلى جوهر الحقيقة، ولا يصح هذا القول لسببين:

1 المرجع السابق ص216، 217، 3، 5، 7-وهو الصورة الأدبية: د. مصطفى ناصف.

ص: 151

أ- أن الخيال الشرود وحده لا يصلنا بالوجود والحقيقة، بل لا بد أن يعينه العقل على الوصول إليها، ونحن نعلم أن المبادئ الإنسانية فضلًا عن الأديان السماوية إنما تستنير بالعقل الذي يسير الخيال في ظله، لكي ينتهي الإنسان عن طريقهما إلى الحقيقة.

ب- مفهوم الصورة الأدبية مهما تعمقنا في تحليله، ينبغي أن تمتد الصلة بينه وبين مفهوم اللفظ ومعناه اللغوي، واللفظ عنصر محس يطلق عليه "الشكل" غالبًا، ولكن هذا الباحث قطع هذه الصلة، وجعل الصورة نغمة داخلية ودلالات ضغثية، حتى أنكر الشكل للاستعارة في مفهومها التقليدي المتوارث وهي أنها طريق لتوصيل المعنى؛ لأن الاستعارة بهذا المفهوم لا تستوعب ما في الإدراك من سعة وتنوع جم، ويستدل على ذلك بقول الشاعر:

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

فيقول: "يحن الشاعر حنين السامع إلى دلالات ضغثية ذات طابع خاص، نصر على تسميته استعاريا، لا لأننا نجد أنفسنا أمام أكثر من تيار فكري وجداني بل؛ لأننا -كذلك- أمام ظاهر وباطن يتمايزان ويتجاذبان، ولكنهما -ومع التجاذب- يألفان"1.

ويرى أيضًا أن الاستعمال الاستعاري الحي هو الذي يرتبط بالصورة الأدبية؛ لأنه أكثر صوابًا وأوفى تحددًا2.

والواقع أن صاحب هذا الرأي يعالج الغموض بالغموض، فإذا أردنا أن نخرج بمفهوم الصورة عنده، لا نستطيع ذلك؛ لأنه يخرج من تيه إلى تيه آخر،

1، 2 المرجع السابق ص216، 217، 3، 5، 7، وهو الصورة الأدبية: د. مصطفى ناصف.

ص: 152

ثم يعلن بعد ذلك أنه بعمله هذا من المخلصين في تعقيده للصورة الأدبية. فلا تعود طلاء أو عنصرًا إضافيًّا، محسًّا، إن الصورة هي ثراء الفكر، وتعقد التجربة، بحيث لا يظل هذا التعقد متميزًا طاغيًا على القصيدة ولا أغالي فالصورة لم تكتمل لها السيادة التامة على "المعنى"، والتفكير الاستعماري الدقيق لما يحل محل "الفكرة". "وما تزال هناك أشواط لنتخلص من التشبيه والاستعارة من حيث هما مظهران لنوع من التدبر التحليلي التفسيري.. إن الشعر كله يستعمل الصور ليعبر عن حالات غامضة، يستطاع بلوغها مباشرة، أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقة لما يجده الشاعر"1.

إنها طلاسم تحتاج في التعرف عليها إلى مثلها من معاجم الغموض عند الباحث، وإذا كانت الصورة عنده هي ثراء الفكر، فكيف لا تحل عقد التجربة؟ وكيف لا تكون لها السيادة على المعنى؟ وكيف لا تعبر عن الحالات الغامضة؟ وكيف لا تنقل الدلالة الحقة؟ لما يجده الشاعر في نفسه بأنها ألغاز وأحاجي وأفكار فلسفية غريبة استبدت بعقله ولم تنضج بعد ليفرغها في أوضح عمل فني وأقواه في الكشف عن معناه ومغزاه، وهي الصورة، وقد علق أحد الباحثين عليه بقوله: أراد أن يوضح معنى الصورة فأعطاها مصطلحات -في نظره- تحتاج إلى توضيح أكثر من وضوح الصورة2.

وإذا عدنا إلى إيضاح مفهوم الصورة نراه يحتاج إلى تفصيل أكثر، فالتفاحة التي رآها الشاعر، وتعرف على خصائصها ومقوماتها على حد المثل السابق للدكتور غنيمي هلال، ثم انصرف عنها ورأى غيرها وهكذا، وما في نفس

1 المرجع السابق ص216، 217، 3، 5، 7 وهو الصورة الأدبية: د. مصطفى ناصف.

2 مقالات في النقد الأدبي: د. محمد مصطفى هدارة - دار القلم.

ص: 153

الشاعر من الداخل هو الصورة ولكننا لا نعرف حدودها ومعالمها إلا إذا خرجت عن نفسه وذاته في قالب؛ لأنها قبل تشكيلها في القالب كانت من عوالم الفكر والشعور وتنتمي إليه أكثر من انتمائها لواقعها في الخارج، وأصبحت ذاتية بعد أن كانت موضوعية قبل تمثيلها في النفس، فإذا أراد الشاعر أن يصور خد الحبيب الذي ملك عليه قلبه وشعوره بالتفاحة لانفعاله بهذا الجمال، وغليان شعوره وحرارة عاطفته، فيقوم بتركيبة تتمثل من المخزون في عالم الفكر والخيال، فيصنع من الذاتي بما فيه التفاحة تصويرًا واقعيًّا من خلال الصورة المحسة، التي تعتمد على وسائل فنية مختلفة، كقولنا:"في وجنتيها تفاحتان"، فلو لم تشكل هذه الصورة بتلك الوسائل التصويرية، لما وقفنا على الغرض منها، ولهذا ساغ لنا أن ندرس الشكل مستقلًّا، ويأتي المضمون تبعًا لفصول الدراسة.

والصورة في المثال السابق ليست كما هي في الواقع والطبيعة، ليست فكرًا مجردًا؛ لأنها مشدودة إلى عالم الفكر الوجداني من جهة، وإلى عالم المحسات من جهة أخرى وهذا هو الفرق الواضح في الجوهر بين الصورة التي خرجت من معالم الفن المصبوغ بالمشاعر والخواطر والعواطف، وبين الصورة المحسة في الطبيعة التي لم يحدد الفن العلاقات بين أجزائها. وتوضيح أسرار العلاقات بينها هو مناط الجمال في فن التصوير الأدبي.

وتظل صورة التفاحة وغيرها من الصور في ذهن الشاعر ينميها ويطورها ويتجاوب معها، ويبتكر لها الأشكال والمناسبات ليسلكها في صورة أخرى وهكذا.

ويضطرنا المفهوم السابق للصورة الأدبية أن نميز الفرق بينها وبين الرسم وبين الموسيقى، ثم بينها وبين الأسلوب، ثم منابع الصورة وخصائصها، وعناصرها والغاية منها. والهدف من تفضيلها على غيرها من الوسائل في التعبير، وبذلك تتضح معالم الصورة الأدبية.

ص: 154

بين الصورة الأدبية والفن التصويري والموسيقى:

لكي تتميز الصورة الشعرية عن أنواع الفنون الأخرى وتزداد وضوحًا في ذاتها ينبغي أن نذكر كل نوع مما يعين على التمايز وتوضيح المفهوم للصورة الشعرية، ويلتقي فن التصوير في الشعر والرسم التصويري والتشكيلي والموسيقى في عدة أمور:

أ- إنها جميعًا صور تحاكي الطبيعة بما فيها أقوال الناس وأفعالهم سواء أكانت هذه الطبيعة تحاكي مثالًا في عالم المثل كالأفلاطونية، أو هي نفسها المثال ولا تحاكي شيئًا، كما عند أرسطو، الذي رأى أن الفنانين في عملهم يختلقون ويبتكرون أعمالهم الفنية، وليس من الضروري أن تكون المحاكاة مطابقة تماما للمثال وهي الطبيعة1.

ب- الجمال هو الغاية من هذه الفنون أولًا، ثم يلي ذلك الخير والفائدة.

ج- مقياس الجمال فيها يرجع إلى الذوق لا إلى قواعد عقلية وحدود منطقية.

د- الجمال يرتبط فيها بصورة محسة منها لا بكل الصور، بخلاف العلم الذي يستقرئ الجزئيات والصورة وما بينها من شبه، ليقرر قاعدة عقلية عامة.

هـ- هذه الفنون تظهر فيها الشخصية والإبداع الفردي، ولذلك نسب العلماء والنقاد الاختراع فيها إلى الإلهام.

و فنا التصوير في الشعر والموسيقى يتفقان في اعتمادهما على الصوت، بما يحوي من خصائص في الطول والقصر، أو الشدة واللين ويستعيض الرسم عن الصوت بالألوان والأصباغ.

1 النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال، في النقد الأدبي: د. شوقي ضيف ص89.

ص: 155

س- كل منها رمز، يعبر عن حالة شعورية معينة عند المبدع لهذه الصور المختلفة ولكل من هذه الفنون خصائص تنفرد بها عن غيرها:

أولًا: تعاقب الحركات

الصورة الأدبية والموسيقى تتوالى فيها الحركة بعد الأخرى وتتعاقب في سرعة ولا تكتفيان بحركة واحدة؛ لأن الكلمة في الصورة مثل "المستقبل" مثلًا، تضم عدة توقيعات: ال -مس- تق- بل: وكل توقيعة تشتمل على حركة وسكون، وتستغرق لحظة من الزمن وتتوالى التوقيعات بتوالي الزمن، ويتبع ذلك توالي الحركات لكل مقطع وهكذا في كل كلمة. وهذا من ناحية المدلول الصوتي للكلمة، ولها أيضًا مدلول معنوي يدل على الحركة كما يفيده الفعل المضارع مثلًا في قولنا:"يدرج" فإنه يفيد الاستمرار في الحركة.

وفي الموسيقى التوقيعات الصوتية المبتكرة، في تتابع يوحي بالحركة. وليس فيها مدلول يفيد الحركة، كما يدل عليها الفعل المضارع في الصورة الأدبية، ونكتفي بالحركة الصوتية فقط لا الدلالية.

وبعض النقاد يسمي التوقيعات الصوتية بالتشكيل الزماني1 والبعض يسميه بالحركات النفسية؛ لأن الشعر حركة وزمن وهو الفرق بين الشاعر والمصور2.

أما الرسم التصويري فإن استطاع المصور عند حركة منفردة؛ لذلك كانت وظيفة التصوير أن تعطينا المنظر دفعة واحدة، بخلاف الشعر فيعطينا إياه على دفعات كل دفعة تمثل حركة نفسية3.

1 التفسير النفسي: د. عز الدين إسماعيل5.

2 ساعات بين الكتب: العقاد: 410، 411.

3 حصاد الهشيم: المازني ص131.

ص: 156

ثانيًا: الموقع

الشعر يعتمد على الموقع كما يعتمد على الحركة؛ لأنه فن زماني ومكاني معًا، فالكلمة السابقة تأخذ موقعًا في مرأى العين ودلالة في نفس المتلقي، وتتخذ لنفسها مكانًا في التركيب، يضفي عليها معنى آخر، أما فن الرسم فهو مكاني صرف؛ لأن الرسام يختار حيزًا ومكانًا من الطبيعة، لتعمل فيه ريشته أو إزميله، وأما الموسيقى فلا حظ لها من المكان والدلالة؛ لأنها سمعية فقط، تعتمد على التوقيعات الصوتية "الزمنية"، التي تتوالى وتتردد على طبلة الأذن، وعلى ذلك فالمادة عند الشاعر هي اللغة وقد تم تشكيلها.

وعند الرسام اللون مثلًا وهو مادة غفل لا تظهر إلا في توزيعها على رقعة الرسم. وهنا تظهر براعة الشاعر في تجاوزه ظاهر مادته الحسية إلى ما وراءها من الرموز والمشاعر ليصنع منها تركيبًا فنيًّا زاخرًا بالمشاعر والأحاسيس، بينما الرسام يعتمد في تشكيله للصورة على ظاهر المادة المحسوسة1، ولذلك تبدو صعوبة التصوير الشعري ومقدار ما يعانيه الشاعر من جهد، ومن هنا كانت أهمية الصورة الشعرية لما تزخر من معاني إنسانية فياضة ولا يحوي الرسم إلا وحيًا ضئيلًا منها عند نوابغ الرسامين أو المثالين.

ثالثًا: تصوير القبيح

الرسام التصويري أو التشكيلي يهتم في معظم أحواله بتصوير المناظر الحسنة، وإن صور المناظر القبيحة، فإنه يبعث الناظر على النفور والاشمئزاز؛ لأنه يعطي المنظر دفعة واحدة فيهجم على المتلقي ويفجؤه بدمامته، فتتقزز نفسه؛ "لأن المصور يستطيع

1 التفسير النفسي للأدب ص57.

ص: 157

أن يجمع على اللوح كل مكونات الدمامة فتأخذها العين دفعة1"، وإن وقع له إعجاب بتصوير القبيح، فإنما يرجع إلى عبقرية الفنان "عن طريق إبداعه الفني لا عن طريق الموضوع القبيح؛ لذلك ينتهي الإعجاب سريعًا. بمجرد التحول عن الصورة المرسومية بينما الشعر يصور القبيح على فقرات وفي بطء، وليس دفعة واحدة، ولذا لا يحس المتلقي بقبح الصورة؛ لأنها جاءت مقطعة الأوصال "التنغيص المستفاد من الصورة يضعف ويفتر في الشعر، حتى لا يكاد يحس، وإذا كان الشاعر يفسد عليك الأمر إذا هو عالج وصف الجمال، فإنه تهون عليك التغثية حين يسرد أوصاف الدمامة بخلاف المصور فإنه يغثي النفس ويكرب الصدر بتصوير الدمامة ويسر بتمثيل الجمال"2.

رابعًا: الشعور

الرسم التصويري مادة تشكيلية جافة مجردة من شعور الرسام وعواطفه، وإن أحيا في النظارة شعورًا أو عاطفة، لكن الشعر الخالد هو الذي يضمنه الشاعر شعوره، ويلهب التصوير بعاطفته الجياشة، فهو مستودع لما تزخر به نفس الشاعر من مشاعر وخواطر وأحاسيس، فالرسام يرسم الصورة والشاعر ينقل إلى القارئ أثر الصورة في نفسه كما يقول ابن الرومي حين ينقل إلينا أثر الصورة في نفسه:

ذات وجه كأنما قيل: كن فر

دًا بديعًا بلا نظير فكانا

ومتى ما سمعت فشدو

يطرد الهم عنك والأحزانا

هي حلمي إذا رقدت وهمي

وسروري ومنيتي يقظانا3

1 حصاد الهشيم: المازني 139.

2 المرجع السابق: 139، ساعات بين الكتب: العقاد: راجع 409، 410.

3 الديوان المخطوط ورقة 397 ج4.

ص: 158

ولذلك نعى العقاد على دعاة الوصف المحسوس الذي اشتغل به المقلدون زمنًا طويلًا "لظنهم أنهم يرتقون إلى ذروة الشعر كلما ارتقوا إلى ذروة التصوير والتشبيه بالمحسوسات"1 فالرسم في أصوله وقواعده ينقل المنظر ليعبر بذاته عن الأثر الجمالي، أما الصورة الشعرية فعمادها نقل التأثير الجمالي في نفس الشاعر إلى الآخرين. "إن وظيفة التصوير هي أن ينقل المرئي نقلًا تتوافر فيه معاني الجمال، مع مراعاة قوانين الرسم، والأصول التي ترجع إلى السنن المقررة. أما التأثير والواقع فشيء خارج عن المصور"2.

وقد استطاع أحد النقاد المعاصرين أن يطبق قوانين الرسم وأصوله على الصورة الأدبية فأعطاها إياها، وأعطى ما للرسم للصورة الأدبية، من التكامل والزاوية والإيحاء أو الظل والترابط والإطار وسماه المذهب التصويري3.

ويريد بذلك أن يصبغ النقد بالعلمية الموضوعية بخصائصه الدقيقة الكاملة وهو في هذا ينزل بالفن الأدبي إلى الشكلية المحضة، ولا يصح لتطبيقه على كل أجناس الأدب في شعر ونثر وخطبة ومقالة وقصة وأقصوصة ومسرحية وفن السيرة.

خامسًا:

الرسم التصويري يكون مجردًا عما يفيده من المشمومات والمذوقات، ولكنها قد توجد في التصوير الشعري، حتى لو استطاع الرسام أن يأتي بها في لوحته كالوردة مثلًا فإن جمودها فيها سيفقدها رائحتها، بينما حركتها التي تتبع النطق بها في الصورة الشعرية هي التي تولد فينا الشعور بالرائحة الزكية لها.

1 ساعات بين الكتب: العقاد: 412.

2 حصاد الهشيم: المازني 137.

3 المذاهب النقدية: د. ماهر حسن فهمي ص203 وما بعدها.

ص: 159

سادسًا:

اللوحة التصويرية توحي بومضة سريعة لمعنى واحد كالفرح أو الحزن أو الاستغراق في التفكير إلى غير ذلك بينما الصورة الأدبية حافلة بكثير من المعاني والمشاعر، والخواطر والعواطف المتدفقة وكلما تعمقنا خلالها، أعطت لنا جديدًا من مخزونها في تجربة الشاعر، التي تفيض عما فيها من موروثات التاريخ والماضي، وما طرأ عليها من حياته وعصره وآماله وآلامه، ويستطيع الناقد البصير

بالاستقصاء أن يتعرف عليه من الصور الشعرية، ولا يتأتى ذلك في الرسم التصويري من صورة أو تمثال، أما الموسيقى إن حفلت بهذه المعاني والمشاعر، إلا أن النفس لا نستطيع تفسيرها، كما هو الحال في الشعر.

بين الصورة والأسلوب:

الأسلوب انتهى إلى النظم عند عبد القاهر الجرجاني1، وعن طريقة تتألف الصورة الأدبية، وعلى ذلك فقد يقع من كاتب أسلوب ضعيف واه، فلا تجد الصورة مكانها منه، وتخلو على ذلك من النظم.

وحينما يتحدث ابن خلدون عن سلوك الأسلوب عند أهل صناعة الشعر: "إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها رصًّا، كما يفعله البناء في القلب أو النساج في المنوال، حتى القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي"2.

1 دلائل الإعجاز: ص361.

2 مقدمة ابن خلدون: 666 المطبعة الأشرفية 1327هـ.

ص: 160

وهذا هو أيضًا حديث النظم في الأسلوب؛ لأنه عملية تركيب من الألفاظ العربية الملائمة للمعاني الذهنية، والعمل على انتقاء هذه الألفاظ مبني على أساسين هما: الإعراب وألوان الخيال. وتبعًا لدقة النظم وإحكام الأسلوب تكون الصورة، ويتألف تركيبها الجيد، ومعنى هذا أن النظم الجيد والأسلوب القوي تقوم عليهما الصورة، أما النظم المضطرب والأسلوب المهلهل فلا تقوم عليهما الصورة بل يكون أسلوبًا عاديًّا لا براعة فيه ونظمًا مهلهلًا لا تصوير فيه.

وفي النقد الحديث يقرر البعض أن الأسلوب هو الصورة اللفظية التي بعر بها عن المعاني، أو نظم الكلام وتأليفه لتأدية الأفكار وعرض الخيال، ولا ينبغي أن يتصور الأسلوب من غير العناصر الأدبية وهي الأفكار، والصور الجزئية، والعبارة، والإيقاع، والعاطفة، وبهذه المقومات تكون وحدة النص في العمل الأدبي، بحيث لا يتأتى الفصل بين عناصره، ولا يسقط جزء من أجزائه1.

والصورة الأدبية هنا فرع الأسلوب، بل هي نتيجة للبراعة فيه والدقة في بناء التركيب، والعمق في رصانة الأسلوب، والإحكام في نظمه.

ويفرق الزيات بين الأسلوب والصورة، فيرى أن الأسلوب كل لا يتجزأ، يضم الفكرة والصورة معًا، بحيث لو تغيرت الصورة تتغير الفكرة، وإن تغيرت الفكرة تتغير الصورة، فالأسلوب عنده هو "الهندسة الروحية لملكة البلاغة". والبلاغة عنده هي التي لا تفصل بين "الفكرة والكلمة ولا بين الموضوع والشكل إذ الكلام كائن حي روحة المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبحت الروح نفسًا لا تتمثل، والجسم جمادًا لا يحس"2.

1 الأسلوب: أحمد الشايب 46، 52، 53.

2 دفاع عن البلاغة: أحمد حسن الزيات ص60.

ص: 161

فالصورة تابعة للعمل البلاغي المتكامل، الذي لا يفصل بين الموضوع والشكل، وينص على الفرق بين الأسلوب والصورة فيقول: "فالأسلوب إذًا هو طريقة خلق الفكرة وتوليدها، وإبرازها في الصورة اللفظية المناسبة، هو ذلك الجهد العظيم الذي يبذله الفنان من ذكائه ومن خياله في إيحاء الدقائق والعلائق والعبارات والصور في الأفكار والألفاظ

ولهذا الجهد جهتان جهة موضوعية تتصل بالنظام وهو حسن الترتيب وصحة التقسيم، وإحكام وضع القطع في رقعة الشطرنج، التي نسميها جملة أو فقرة أو فصلًا، أو مقالة، وجهة أخرى شكلية تتصل بالحركة، وهي خلق الكلمات والصور، والتأليف بينهما على نمط يحدث الحياة والقوة والحرارة والصور والبروز والأثر

وإنما هو "الأسلوب" مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه، ومن ذوقه، تلك العناصر هي الأفكار والصور والعواطف، ثم الألفاظ المركبة والمحسنات المختلفة.

فالأسلوب هو الوسيلة التي يخلق بها الشاعر الفكرة في تشكيل من الألفاظ والصور، بحيث يصير بنية حية وتركيبًا فنيًّا، ويفهم من هذا أن الصورة ليست الشكل الذي يقابل المضمون، بل هي جزء من الأسلوب، فقد يخل منها وقد يشتمل عليها، ولذلك جعلت الصورة من عناصر الأسلوب، بالإضافة إلى اللإكار والعواطف والألفاظ المركبة والمحسنات المختلفة.

وعلى ذلك فلا تصلح العناصر السابقة للأسلوب أن تكون عناصر للصورة وإنما هي مصادر لها، وروافد تنميها، ومنابع تغذيها، وللصورة عناصر أخرى تخالف عناصر الأسلوب سنوضحها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

أما الفرق بين الأسلوب والصورة عند أنصار الشعر للشعر حديثًا، فهم يحددونه على هذا الوجه: وهو أن العمل الفني يضم القصيدة التي تنتج موضوعًا

ص: 162

معينًا قد لا يقصده الشاعر في البداية عن طريق وسيلتين هما: المادة أو المحتوى؛ والصورة.

وتأسيسًا على ما تقدم، فالأسلوب عندهم هو نظام القصيدة، والصورة هي كسوة المعنى:"المادة أو المحتوى أو المضمون" الداخلة في الأسلوب، ومن هنا قد يكون الأسلوب صالحًا للصورة، أو لا يكون، فأنصاره لا يفصلون بين المادة والصورة. فهما كل لا يتجزأ، والموضوع عندهم غير الصورة؛ لأنه ينبع من القصيدة التي عمادها المادة والصورة1.

وعندي أن الأسلوب في القصيدة مثلًا يتركب من معاني الألفاظ مفردة، ومن دلالات النظم والتركيب على هيئة معينة، ثم من النغم الذي يحدثه اللفظ لانسجام حروفه، أو من الإيقاع الذي تتجاوب أصداؤه من أجزاء النظم بعضها مع بعض، ومن تلك الصور والإيحاءات والظلال التي تشعها الألفاظ، وهي في رباط قوي وتلاحم بين معانيها؛ من كل ما تقدم يتركب الأسلوب، فإن فقد حلقة من هذه الحلقات نقص وزنه بقدر ثقلها، وأصابه الضعف والتفكك بقدر مكانها.

فلو تفككت عرى الصورة ووحيها في الأسلوب، ولم تجد سبيلها إليه أصابه هزال النظم الرديء، وضاعت وسائل العلم الدقيق المحكم في تركيز الأسلوب الذي لا يمت إلى الأدب والشعر إلا بأدنى صلة.

فاللغة والأسلوب هما جوهر الصورة، وإن استعملا في شتى ألوان الفكر والنشاط الإنساني الآخر، والصورة تتخذ اللفظ وسيلة للتخيل والتجسيم والتشخيص والتلوين، والإيحاء والحركة والأضواء والظلال والإيقاع الرتيب.

1 انظر: الأسس الجمالية د. عز الدين إسماعيل 391 وما بعدها: فن الشعر: د. إحسان عباس ص197: 199-النقد الأدبي الحديث-والرومانتيكية: د. محمد غنيمي هلال.

ص: 163

واللفظ في الأسلوب حينما يأخذ مكانه منه، ومما قبله وبعده يحمل شحنات قوية بإيحاءات وأضواء يتراقصن جميعًا بالنغم الذي يحدثه وقع الألفاظ المشدودة بعضها إلى بعض، لتؤلف في النهاية لحنًا موحدًا في لوحة فنية رائعة من الفن الأدبي الرفيع، وتلك اللوحة هي الصورة الأدبية التي اتخذت مكانها من الأسلوب الأدبي وقد جاء على غير مثال.

منابع الصورة الأدبية:

منابع الصورة هي تلك المصادر التي تمتد في جوانبها، وهذه الروافد التي تنتهي إليها لتتجمع في تشكيل متماسك، ونظم مترابط، وتشع منها خيوط تتماوج فيها الألوان والظلال، في تتابع وتدفق، الحركة تلو الحركة في انسجام منغم، وإيقاع رتيب. ومنابع الصورة كأمطار السماء المتدفقة من كل صوب حين تتجمع على سطح الأرض، فتتحول إلى أشرطة نورانية، تشق الأرض من كل حدب، وتنعكس على صفحاتها ألوان الشمس، ممتزجة بظلال الأشجار، فتميس على أنغام البلابل، وتشيع جوًّا من الجلال والرهبة لا خوفًا ولكن حبًّا وعشقًا.

والصورة أيضًا كالشمس تستمد منابع الضوء فيها والحرارة من براكين نارية وتفاعلات كيماوية تنعقد في القرص الكوكبي، ويتبع منها خيوط تنسحب عليها قطع الغمام وقطرات المياه فتتحول إلى أطياف، تتجاوب فيها الألوان والأضواء والظلال مع أصداء الرياح، واصطكاك السحاب بعضه مع بعض لتحقق القوة والحياة والجمال والجلال.

تلك هي صلة الصورة بمنابعها ومواردها، وظن كثير من النقاد أن هذه هي عناصر الصورة الأدبية، ولو كان الأمر كذلك فماذا يقولون في الحركة واللون والحجم والشكل مما سأذكره عن عناصرها بعد ذلك.

ص: 164

إن الأمر يحتاج إلى دقة وتحديد، ولعل غموض الصورة هو الذي دفعهم إلى هذا الخلط، ومن تحدث منهم عن عناصر الصورة أهمل ذكر مصادرها، لتتميز عنده عن العناصر؛ لأن الناقد لم ينص عليها صراحة1.

ولست مدعيًا أنني سأبتكر المنابع في ذاتها؛ لأن هذا ليس بمعقول أبدًا في أي نشاط إنساني أو أدبي أو علمي، ولكن غاية ما أستقل به أن أحدد المعالم وأضع الشيء في مكانه، وأذكر قيمته وأهميته في تكوين الصورة الأدبية.

فأما المنابع فهي:

أولًا: اللفظ الفصيح الذي يتناسب مع الغرض والعاطفة، ويطمئن إلى مكانه من التركيب أو النظم سواء أكان هذا اللفظ حقيقة أو مجازًا، والحقيقة منزلتها من الصورة حينًا كما للمجاز أحيانًا.

ثانيًا: الخيال بألوانه الخلابة الكثيرة كالاستعارة والتشبيه والكتابة والتمثيل والمجاز المرسل وحسن التعليل، والتجسيم والتشخيص وغير ذلك فبابه واسع ودقيق.

ثالثًا: الموسيقى بأنواعها المختلفة: من اللفظ الرشيق، الذي خفت حروفه على الأسماع وحلت في اللسان، وانسجم بعضها مع بعض، ومن العبارة التي تلاقت ولم تتنافر وتآخت ولم تتجاف فعزفت الكلمات والحروف أروع معزوفة موسيقية، ومن التراكيب في التئام والتحام، وتكونت أنغام فوق أنغام من الجناس والطباق والمقابلة والمزاوجة والتقسيم مع الجمع، والتشبيه المتعدد والمركب ثم الوزن والقافية.

رابعًا: النظم والتأليف سواء أقام على الحقيقة أو قام على الخيال فالنظم المجرد من الخيال يعد مصدرًا من مصادر الصورة أيضًا كالقائم عليه تمامًا بالتفصيل.

1 كالعقاد في: يسألونك: 45 وما بعدها -وفي مراجعات: 160 وما بعدها- وفي ابن الرومي حياته من شعره: 200 وما بعدها.

ص: 165

خامسًا: الصورة الجزئية التي تسهم مع أخواتها في تكوين الصورة الكلية من القصيدة، فتنسجم في وحدة وترابط مع التجربة الشعورية، التي أودعها الشاعر من مخزونه في إطار الصورة الواسع العميق.

سادسًا: العاطفة وهي التي تنتقي ألوان الصورة فتركز الأصباغ، أو تمزج الألوان، أو تبعث الأضواء وسط الظلام؛ لأن عصاها سحرية لا تبقى ولا تذر، وبها تنطق الصورة بالحزن، وتهتز للفرح، وتصطخب للحماس والنضال وهكذا.

سابعًا: الشعور وهو الفارق الجوهري بين الفنون المختلفة. فالصورة الشعرية الخالدة على وصل منه لا ينقطع، والرسم التصويري على هجر لا يتصل، لذلك فهو يحيي الصورة الأدبية، ويجمد المرسومة الفنية، ولو سرى الشعور في تمثال لكتب له الحياة.

عناصر الصورة الأدبية:

من وسائل الصورة تتولد العناصر، وعن مصادرها تكون عناصرها، والمنابع فيها تثريها بالألوان، وتموج بالحركات، وتدب فيها الحياة، تكشف عن مكاتم الوجود وأسراره، وبالعناصر في الصورة تنطق الطبيعة، وتهمس مظاهرها موشوشة من غير حماسة ولا خطابة، وفي وشوشها السحر كل السحر، وهذه هي العناصر:

أ- الحجم: وهو ما يتصل بانكماش الصورة أو تمددها، وقلتها أو وفرتها، وصغرها أو كبرها، وغير ذلك مما يحتاجه المعنى والمضمون من إطناب أو إنجاز أو مساواة.

ب- الشكل: هو ذلك الإطار الخارجي الذي يضم جزئيات الصورة، بحيث تكون لها مساحة معينة وأبعاد محددة. لينطبق الشكل في الصورة على

ص: 166

الشكل لمضمونها في الواقع والحس، وتأتي الدائرة على الدائرة ويضاهي المشبه به في الأبعاد والمساحة المشبه، فيلتقيان معًا في إطارين متساويين ومتجانسين.

ج- الموقع: ويكون في الصورة المعنى المجرد، أو الواقع المحسوس، أو الحالة النفسية أو النموذج البشري كل له موقع من الصورة، تتشكل هي حسب هذه المواقع والمواقف المختلفة.

د- اللون، الألوان لا حصر لها، والأصباغ لا حد فيها، كالأبيض والأسود، والأحمر والأخضر وغيرها، فمنها المركز والخفيف وما بين هذا وذاك، مما لا حد له في الأفق، ولا عد له في الطبيعة، وبالألوان في الصورة تكون الحياة والواقع.

هـ- الحركة: سواء انبعثت من أنغام الصورة أو دلالات الألفاظ والتراكيب.

و الطعم: وإن كان نادرًا في باب التصوير، فإن كانت لقطة الشاعر من المطعومات أو مما يتصل بها، كان لزامًا على الشاعر أن يرعى هذا العنصر، ليكون أوفر للصورة، وأكبر عونًا على تذوق طعمها.

ز- الرائحة: وهي كالطعم في الندرة، لكنها تعبق جو الصورة بأطيب رائحة، وأذكى نفحة، بهذا وذاك يتحقق الكمال فيها، وتبيح بأسرار الحياة سرًّا بعد الآخر، كالكائن الحي في تعاطف وإخاء.

وبهذا فرقت بين منابع الصورة الأدبية وعناصرها، وأنهما معًا لا غنى للصورة عنها، فالعناصر إن هي إلا روافد متعددة ومتكاملة لمنابع الصورة العميقة وقد تجتمع في الكلام هذه المنابع، ولا تلتقي العناصر معها وحينئذ تحكم على هذا اللون من التعبير بالأسلوب العلمي؛ لأنه لا يخاطب الإحساس، ولا يهز الشعور، ولا يوقظ العاطفة، ولا يحرك الوجدان الكامن في النفس.

والأمثلة من الصور الشعرية في مجال التطبيق على كل ما ذكر من الروافد والعناصر، أو انعدامهما ترجع إليها في كتابنا "التصوير الفني" دفعًا للتكرار.

ص: 167

خصائص الصورة الأدبية:

والصورة الأدبية الجيدة التي تستوفي شروط الكمال، وتتحقق في كل جزئية من جزئياتها الخصائص التي تعين على نضجها وتمامها، فلا تكون سطحية ولا مضطربة، وغيرها من الخصائص والشروط، التي تعمل على إبرازها ساحرة أخاذة، وتأخذ بمجامع القلوب.

أولًا: التطابق بين الصورة والتجربة:

لا بد أن تكون الصورة مطابقة تمامًا للتجربة التي مر بها الشاعر لإظهار فكرة أو حدث أو مشهد أو حالة نفسية أو غير ذلك، فكل صورة كلية، أو عمل أدبي يحدث نتيجة تجربة خامرت نفس صاحبها، وتفاعلت في جوانبها المختلفة، يمتزج الطارئ، إليها بالمخزون فيها، حتى إذا ما اكتملت في نفسه تتلاقى الأشباه، وتتآلف النظائر لعلاقة بين أجزائها، أو لأدنى ملابسة تلتقي فيها، فتنجلي مستقلة خارج النفس، من أجل لباس وأجمل ثوب في الصورة الأدبية.

وينبغي أن تكون مشتملة على كل أجزاء التجربة، فلا تند عنها جزئية، ولا تغيب حلقة، ولا يسقط منها وتر، بل تكون تامة الأجزاء متكاملة الجزئيات.

ومن الصعب على الناقد أن يوضح التطابق بين الصورة وتجربة الشاعر، الذي غاب عنا في الزمن لعدة قرون مضت، ولو كان الشاعر معاصرًا، فمن المتعذر أن نطلب منه تفصيلات عن تجربة، بل ربما تغيب عن الشاعر ذاته بعد أن ينتهي من العمل الأدبي، من الصعب أن نطالب هذا أو ذاك، ولكن على الناقد -ساعة النقد- أن يضع نفسه مكان الأديب ساعة تجربة الصورة، ويتمثلها تمامًا ثم يبحث عن أجزائها في نفسه لكي يتمكن من المطابقة على وجه التقريب؛ لأن

ص: 168

ذلك أمر يشق على الناقد ويصعب، ومن هنا بلغ الكمال، والتمام في أي شيء؛ لأن هذا كله أمر نسبي بين النقاد.

لذلك تفاوت في المطابقة النقاد، كل حسب كفاءته، وكان الذوق الأدبي للناقد الخبير والبصير المحرب، هو عماده في الكشف عن التطابق بين الصورة والتجربة.

ثانيًا: الوحدة والانسجام التام

ويترتب على ما سبق أن تكون الصورة مكتملة تامة مستوفية الأجزاء في كل المصادر السابقة، التي تعتمد عليها من كلمة أو عبارة أو نظم أو غير ذلك مما ذكرناه في مكانه، وينبغي أن تؤدي كل كلمة -بل كل حرف- وظيفتها في الصورة الجزئية، وكذلك تؤدي الصورة الجزئية بعد استيفائها وتمامها دورها الحي، وتأخذ مكانها المرهون بها في الصورة الكلية، أو القصيدة كلها كوحدة تامة وبنية حية مستوية، والتلاؤم التام بين جزئيات الصورة الكلية وبين فكرتها العامة، والشعور الذي يسري في خلاياها، فلا تقبل معنى شاردًا، ولا خاطرة نادرة ولا يضعف في جانب ويقوى في جانب، أو يفتر في مكان ويشتد في آخر، ولا ينخفض في جزئية، ويرتفع في غيرها، بل انسجام تام بين الأفكار، وتلاؤم متصل بين المشاعر ثم تجانس محكم بين هذا كله، وبين مصادر الصورة جميعها، وقد وصفها النقاد أوصافًا متعددة وأعطوها اصطلاحات مختلفة، موزعة بين وحدة فنية أو وحدة عضوية، والأخيرة هي التي عليها جل النقاد في العصر الحديث، وإنني أرى أنهما معًا متكاملان لا تستغني القصيدة عنهما، متطابقان تمامًا إذا كان الشعر موضوعيًّا كالشعر المسرحي مثلًا، فيكون هناك تجاوب وانسجام في التطبيق على هذا اللون من الشعر الموضوعي، وحينئذ لا نجد فرقًا بين الوحدة الفنية، وبين الانسجام والتلاؤم في الوحدة العضوية وكلاهما سواء.

ص: 169

ولكن إذا كان الشعر غنائيًّا فالوحدة الفنية هي أقرب إليه من الوحدة العضوية، لصعوبة بناء التجربة الشعرية عند الشاعر بناء عضويًّا كبناء الأعضاء في الجسد كما هو المفهوم، والمعروف للوحدة العضوية عند النقاد المحدثين، وفداحة الجهد الذي يبذله الناقد للتعرف على الوحدة العضوية في الشعر الغنائي.

وإنني لا أضع العقبات في تطبيق هذا المصطح النقدي الحديث "الوحدة العضوية"، ولكني أرى أن من الصعب تطبيقه الآن على القصيدة الغنائية فقط لا الموضوعية، بل نحتاج إلى مراحل مقبلة حتى تحسن التطبيق، بل نشد أيادينا جميعًا مع النقد الحديث لكي ينشدها في الشعر لتبرز معالمها، حتى تتضح حقيقتها وتنجلي عناصرها في مجال التطبيق العملي لا النظري؛ لأن النقد في تطبيقها حتى اليوم ما زال قاصرًا ودون المطلوب والغاية، ولا عجب في ذلك، فالوصول إلى الكمال ليس سهلًا، بل يحتاج إلى وقت طويل، مشحون بالرعاية والتوجه والإصرار والمتابعة وإلا تجرد النقد من المعرفة والبحث، وهوى إلى التبلد، وناصر العجز، فقد كان البيت قديمًا مستقلًّا في معناه الظاهر عما قبله وعما بعده، وقد تغيرت القصيدة اليوم فصارت تعبر عن موضوع واحد، وهو ما يسمى الآن بالوحدة الموضوعية، وهي المعبر في المستقبل للوحدة العضوية، هذه لمحة سريعة عنها، لكونها جديرة بالعناية والدراسة؛ ولأنها تتصل بمضمون الشعر، وليس المضمون أساسيًّا وابتداء في مجال الصورة، وإنما يأتي تبعًا ووحيًا ونتيجة لتناول الصورة.

ثالثًا: الشعور

تعتمد الصورة الأدبية غالبًا على صور محسوسة من الواقع. هي تمثيل حي للتجربة الشعرية في شكل العمل الفني، أي يمتلئ بالأفكار والخواطر والمشاعر والأحاسيس والعواطف الحارة، وعلى ذلك ينبغي أن يسري في كل جزئية من

ص: 170

الصورة شعور الشاعر في تدفق وقوة وحيوية، فكل كلملة لا بد أن تنبض بمشاعره وأحاسيسه؛ لأن التصوير كما يقول العقاد من عمل النفس المركبة من خيال وتصور وشعور، فتتحول المشاهد المحسوسة إلى حركات نفسية. وتعد الكلمات المنظورة والمسموعة خزانة مكتظة بمشاعر الأديب.

وليست العبرة بحشد الأشكال والنظائر من غير أن يربطها الشاعر بسياج متين من مشاعره الحية.

رابعًا: الإيحاء

قد يقوم الترابط التام بين أجزاء الصورة الأدبية بكشف مضمونه والتصريح به، وعرض أفكاره مباشرة، وهذه الصورة أقل تأثيرًا على النفس وأضعف إثارة لها؛ لأن العقل لم يجاهد الفكرة فيها، وفي الجهاد نشاط وحياة، وأن الفكر لم يتأن ولم يترو، وفي التأني والتروي الاستقصاء والتتبع، وفيهما اللذة والمتعة والإثارة والحياة بقدر ما يشغل تفكيره، وإحساسه من وقت وجهد.

هذا هو ما ينبغي أن يكون في الصورة الأدبية، والتي لا تنص على المضمون صراحة، ولا تكشف عنه مباشرة، بل يوحي بها من غير تصريح، ويشع عنها من غير مباشرة، وقد أجمع النقاد وعلماء البلاغة قديمًا وحديثًا على أن الإيحاء أقوى أثرًا في النفس من التصريح، وأن المعنى الذي ينتهي إلى المتلقي بعد مجاهدة النفس وكد الخاطر، وإعمال الفكر والشعور وتقلبهما على وجوههما المختلفة، تكون أمكن في النفس وأعظم أثرًا فيها، وأقوى ارتباطًا بها، فلا يغيب عنها بعد ذلك؛ لأن الشيء الذي يرد إلى النفس بسرعة. يعزب عنها على عجل، والشيء الذي تطمئن إليه بعد لأي ومشقة، لا يذهب إلا بعد هذا القدر أو أكثر.

ص: 171

الغاية من الصورة الأدبية:

الصورة الأدبية أصدق تعبير عما يجول في النفس من خواطر وأحاسيس وأدق وسيلة تنقل ما فيها إلى الغير بأمانة وقوة، وأجود موصل إلى الآخرين في سرعة وإيجاز ووفرة، والصورة أجمل وأنضر طريقة في شد العقل إليها، وربط الإحساس بها، وتجاوب المشاعر لها، وإحياء العاطفة وسحر النفس، ويؤثر الأديب والشاعر والناقد الصورة الأدبية في الأدب والنقد لأهداف كثيرة أهمها:

أ- الصورة هي الوسيلة المرغوبة عند الشاعر، والمفضلة عند الأديب، ولكن غيرهما يكتفي بدونها في توصيل فكره التجريدي، ومعانيه الذهنية ونقله إلى الآخرين خبرًا وإعلامًا، يكتفي في ذلك بلفظ جامد لا حياة فيه، وتعبير مركز دقيق لا إيحاء فيه، ويكون اللفظ والتعبير على قدر المعنى والفكرة مجردين من كل منابع الصورة وعناصرها الحية.

ولكن الأديب والشاعر يفضلان في النقل إلى الآخرين الصورة الأدبية الفنية بطرق عديدة من التعبير عن المعنى بالمحسات، وإيثار الوحي والتخييل والتجسيم والتشخيص، ليصل إلى مضمون الصورة -لا بالعقل وحده كما في النمط التجريدي الأول بل عن طرق كثيرة ووسائل شتى:

أولًا: عن طريق الوجدان المنفعل بالوقف، وفي الانفعال حرارة ونشاط تستوعب الناس فيه كل ما يتلقفه العقل، أو يقع تحت الحس.

ثانيًا: عن طريق التخييل، وبه تجتمع الأضداد، وتتآخى المتقابلات وتتآلف المتنافرات، ويمتزج عالم الفكر بعالم الواقع، ونقف على أسرار الجهاد، ولغات الطبيعة، وتراسل المظاهر في الحياة.

ص: 172

ثالثًا: وعن طريق الحواس الخمس الظاهرة، فالعين ترى، والأذن تسمع وتطرب النغم، والآناف تشم، واللسان تطيب له اللذة، ويحلو المذاق، واللمس يهتز لموجات الصورة المختلفة من الصوت والدلالة، والبرق والوحي.

رابعًا: عن طريق العقل الواعي، والفكر المحدود، والذهن المجرد، وهذا قدر مشترك بين الصورة وغيرها من ألوان الفكر والعلم في مختلف النشاط الإنساني.

ب- الصورة هي أقدر الوسائل على نقل الأفكار العميقة والمشاعر الكثيفة في أوفر وقت، وأوجز عبارة، وأضيق حيز، فكلما أمعن الناظر فيها، استقطب أفكارًا جديدة، ومشاعر متجددة.

ومن هنا تتحول إلى رمز، وهو أبلغ تأثيرًا في النفس عن الحقيقة، وأكثر امتلاء من اتساع الواقع المكشوف، وتضحي النفس أسيرة إليه، مجذوبة بقوة خفية، فهي تنسى المعارف التي اكتسبتها من المكشوف الظاهر بعد قليل من الزمن، ولا تنسى من الخفي الرامز، الذي استقر فيها بعد لأي ومجاهدة، ويظل في النفس آمادًا وآبادًا، وهو سر الجمال في الصورة، وروعة الجلال في التصوير، وإن كانت تختلف فيه النسب حسب قدرات الآخرين، ودرجات الصبر والتأمل فيهم.

ج- والغاية من الصورة أن تعرض الحقائق المعروفة، والواقع المألوف، في صورة حية، ونمط روحي؛ لأنها نتجت من معامل التجربة الإنسانية في الشاعر فكانت مولوده الحي، الذي فيه بقاء شخصه، وفي ذاته استمرار حياته، فقد مرت من خلال وسط نابض بالحياة، يموج بالشعور والخواطر والأحاسيس والعواطف، فسرى في الصورة سحرها، وانتشرت الروح في أجزائها

ص: 173

ومن هنا نرى أن صدق الصورة عند شاعر ما، يكون بمقدار قدرتها على تمثيل نفسه؛ لأن مواد الصورة حينئذ ليست من الواقع، بل أصبحت من نفس الشاعر ودمه وعقله وروحه، وإلا كان مقلدًا وتابعًا.

د- وبناء على ما سبق فالصورة تعمق المحسوسات، وتبعث الحياة في الجمادات، وتبث الروح في كل ما يتناوله الشاعر فيها، من مظاهر الحياة والواقع وجوامد ما يقع تحت الحس في الطبيعة، فتتعانق هذه الظواهر كلها، بعضها مع بعض، وتتآلف في تعاطف وتجاوب، فهي وسيلة التعرف على أسرار الحياة، والعلاقة التي تربط الإنسان بغيره من المخلوقات، فتراها في الصورة حية نابضة، استودعها الله روحًا مثل روح الإنسان. وإن كانت تختلف عنها في النوع، والمظهر ولكنها تلتقي معها في اللب والجوهر.

لذلك فالصورة تدفع إلى الإثارة والشعور باللذة فتحقق السعادة التي ينشدها الإنسان. وكم من شاعر أحس بفقدان السعادة بين البشر، ولم يحدها إلا في أحضان الطبيعة والواقع؟ التي همست بها إليه في صوره الرائعة. ولا يخلو منها أدبنا الحديث الذي قطع شوطًا فيها. كما لا يحرم أدبنا القديم منها. وبخاصة عند النوابغ من الشعراء.

ص: 174