الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الصورة الأدبية في النقد الأدبي الحديث
سبق أن قلنا: إن النقد العربي القديم، قطع شوطًا مضنيًا وشاقًّا لتحديد مفهوم الصورة الأدبية، وساعد على ذلك شغل النقاد الشاغل ببحث قضية اللفظ والمعنى، وعن الصورة تعرفوا على معظم خصائصها، وبعضهم كالإمام عبد القاهر الجرجاني مثلًا عني بتحليل صور أدبية كثيرة، وبيان مصادر الجمال فيها، فدل بذلك على حسن ذوقه الأدبي، وأصالته ودقته.
وجاء دور النقد الحديث في بحث الصورة والتعرف على خصائصها، وأثرها في النفس، وقد استعانوا في نشاطهم النقدي برافدين أساسيين هما:
أولًا: الجهود التي قام بها النقاد العرب في النقد القديم، وكانت تمثل المراحل الأولى، وتكشف عن أصالة اللغة العربية في توضيح مفهوم الصورة الأدبية.
ثانيًا: النقد الأدبي الغربي، بما فيه صراع بين مذاهبه الأدبية المختلفة وأثر هذه المذاهب في تحديد مفهومها، حسب روح كل مذهب وأهدافه.
والعامل الثاني: وإن كان له أثره الذي لا ينكر في نقدنا العربي الحديث، إلا أنه بمذاهبه المختلفة غير المستقرة، التي تتجدد من وقت لآخر، تجعلنا لا نطمئن إلى حكم دقيق، في تحديد مفهوم الصورة الأدبية، من وجهة نظر أصحاب المذاهب النقدية في العرب.
وقد استطاع النقاد المعاصرون بنشاطهم النقدي توضيح الصورة وتعميق جوانبها المختلفة، وألبسوها ثوبًا جديدًا لم يكن في النقد العربي القديم، فشخصوا
أثرها وقيمتها، ومكانها من الأدب عامة ومن الشعر خاصة، ولتحديد مفهومها لا بد أن نوضح بإيجاز قضية الشكل والمضمون، لكي نعرف موقع الصورة منها. تعد هذه المشكلة من أهم قضايا النقد الأدبي الحديث، وكانت في النقد القديم تسمى قضية اللفظ والمعنى، وهي المشكلة التي أثارها الجاحظ، إذ شايع اللفظ ردًّا على عناية أبي عمرو الشيباني وأضرابه بالمعنى، فأصبح لكل من اللفظ والمعنى بعد ذلك أنصار، وقامت على أنقاضهما قضية النظم وأصبح لها أيضًا أنصار.
تلك هي مشكلة اللفظ والمعنى في النقد القديم قد وضحناها، وكشفنا عنها النقاب بقدر حاجة البحث إلى ذلك، وجاء النقد الحديث، ليخوض هذه التجرة في تيار عنيف، وهي التجربة الحية في مشكلة اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون، أو الصورة والمحتوى.
ودراسة هذه القضية ضرورية في مجال الأدب والشعر؛ لأنها توضح جوهر الأدب وروحه، وتميز بينه وبين الرياضة والكيمياء، والطبيعة وغيرها من العلوم، التي تختلف في جوهرها وطبيعتها عن الأدب.
وأعظم التيارات التي أدت إلى إثارة المشكلة هي البحث عن القيم في العلوم والآداب ومدى النفع والخير فيها، ودرجة الفضيلة والإمتاع فيها، وغير ذلك مما يعود بالإصلاح والإمتاع، ويترتب على ما سبق: البحث عما تهدف إليه العلوم والآداب وأغراضها.
ومعلوم أن الغاية في العلوم هي ما تقدمه للبشرية من وسائل التقدم والحضارة، وتساعد بنظرياتها الدقيقة على رقي الإنسان وسموه، وأصبح لا خلاف في أن المضمون هو جوهر العلوم وروحها، ولا يهتم العالم أن يعرض نظرياته في أسلوب
فخم جزل حافل بالصور والأضواء، بل لا بد من اتخاذ الألفاظ والعبارات المحددة للمعنى في دقة وإيجاز.
وأما الأدب فهو محل الخلاف والصراع، فقد شغل خيرًا كبيرًا في النقد الأدبي وأخذ الناقد يبحث عن الغاية من الأدب، وينقب عن مصادر الجمال فيه، ومن هنا انبعث الانشقاق في ساحة النقد الأدبي، وظلت تصطخب بالفرق، التي تناصر كل فرقة رأيها واتجاهها في ذلك، وتشعبوا في نصرتهم لآرائهم إلى أنصار ثلاثة:
أ- أنصار الشكل:
وهم الذين يضعون حدًّا فاصًلا ودقيقًا بين العلم والأدب، فالعلوم تقوم على الاهتمام بالمضمون، والأدب ينبغي ألا يعرف إلا الشكل، الذي يهتم فيه المنشئ بالصياغة والموسيقى والتصوير، وكل ما يتصل بالناحية الخارجية في العمل الأدبي، وموطن الجمال فيه، وقد فلسفوا الشكل فلسفة نفعية عن طريق غير مباشر:
أولًا: أن ما يثيره الجمال من الإمتاع، يصقل ذوق الغير ويهذب نفسه ويطبعها على حب الجمال والفضيلة، فتكون النفس أهلًا للخير والنفع والإصلاح، إذ شارك صاحبها في ميدان العلم أي الإصلاح في الحياة والنهوض بها.
ثانيًا: أن العمل الفني الذي يعني فيه بالشكل، هو عصارة خالصة، تتصل بذات الفنان ومشاعره وأحاسيسه؛ لأنه يعبر عن واقع آخر، وفي هذا تحقيق لقيمته عند الشاعر أو الأديب في الحياة، ألا وهي الصدق بين نفسه وبين العمل الفني، وهي غاية نبيلة وخلقية في ذاتها1.
1 النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال ص377.
ثالًا: والشاعر الذي يهتم بالشكل، إنما يهرب من مطالب الحياة هروبًا صريحًا في شعره، وهو في الحقيقة باتجاهه الشكلي الخالي من التوجيه المباشر، يهرب من واقع المجتمع المر القبيح، وفي هذا الهروب ذاته سخط على أوضاع المجتمع وشروره، فهو يطالب بالتخلص منه ومن شروره عن طريق غير مباشر وبالإيحاء، وبعد هذا المركب الرمزي عند الشكلين من أخص خصائص الفن الراقي؛ لأن في الهروب والسخط على النمط السابق قيمًا أخلاقية وإصلاحًا اجتماعيًّا، وغايات نبيلة للفن الشعري1.
رابعًا: إن الشاعر حينما يعاني تجربته الذاتية، ويصورها كما هي في نفسه، من غير أن يكون لها صلة بالواقع في الظاهر، غاية اجتماعية، تفيد الغير، فإن عملية التخلص من هذه المعاناة، وإبراز التجربة في عمل فني مجسم في الخارج، تعد أكبر قيمة نفعية بها فتحرر الأديب من الألم المكبوت في نفسه، وكأنه بهذا يدعو كل الناس إلى أن يصنعوا مثل صنيعه حتى يتحرروا من شرور النفس، وهي في ذاتها غاية نبيلة في الحياة، وإن تحققت عن طريق غير مباشر وجاءت تبعًا من غير قصد في البداية.
وعلى ذلك فالشكليون يعنون بالصورة الأدبية أشد العناية، ويهتمون بأركانها وعناصرها، ويرصفون أجزاءها، ويهذبون متونها، ويحككون ويصنعون لتأخذ بمجامع القلوب وتستولي على العواطف والنفوس، ولا عليهم أن يملأ تجويفها بالمعاني اللطيفة، وتفيض مكامنها بالأفكار المنتجة النافعة، إلا إن كانت وسيلة في العمل الفني لا غاية، ولا يعنيهم أن يكون المضمون جميلًا أو قبيحًا، ما دام كل
1 المرجع السابق ص358.
من الجمال والغاية يرجع إلى الروعة الفنية بين التراكيب، والعمل على التنسيق بين الصور، وقدرتها على نقل أحاسيس الشاعر الذاتية.
فابن الرومي حينما يصور "الأخدع" إنما يتخلص في تصويره من شرور في النفس تكاد تزهقه، وفي هذا تنفيس عن شؤمه، واسترواحة مما يعانيه من الألم الممض المكبوت ثم تنفير الناس من هذا التكوين في شكل الأخدع وهيئته القبيحة، حتى يتجنبوا مهاويه ومساقطه، ولا يقترفوا أسبابه وعلله في حياتهم، وهو في صنيعه هذا يحذر الأجيال المقبلة من هذا القبح وهجر أسبابه، حتى لا تعتريهم العاهة في الكبر، فلا يكونوا محلا للسخرية والإضحاك مثل الأخدع في صورة ابن الرومي التي يقول فيها:
قصرت أخادعه وطال قذاله
…
فكأنه متربص أن يصفعا
فكأنما صفعت قفاه مرة
…
وأحس ثانية لها فتجمعا
وكذلك الأمر في تصوير ابن الرومي للمعنى القبيح الصوت، "أبي سليمان" فهو ينقل إلينا مشاعره بصدق إزاء صوته القبيح، ثم يحرر نفسه من هذا الألم الذي يعانيه من بشاعة الصوت، ثم الدعوة إلى أن يكون الغناء صادرًا عن مغن حسن الصوت، حتى لا يتأذى الناس منه؛ لأن في الغناء إمتاعًا وجمالًا. ولا بد أن يكون مصدره كذلك. يقول:
ومسمع -لا عدمت فرقته
…
فإنها نعمة من النعم
يطاول يومي -إذا قرنت به-
…
كأني صائم ولم أصم
إذا تغنى النديم ذكَّره
…
أخذ السياق الحثيث بالكظم
يفتح فاه من الجهاد كما
…
يفتح فاه لأعظم اللقم
أبح فيه شذوذ حشرجة
…
منظومة في مقاطع النغم
نبرته غصة وهزته
…
مثل نبيب التيوس في الغنم
كأنني -طول ما أشاهده-
…
أشرب كأسي ممزوجة بدمي
وابن الرومي في هذا يولي اهتمامه بالصورة الأدبية، ولا يعنيه إلا التصوير وأما المضمون هنا فليس تعبيرًا مباشرًا عن إصلاح أو دعوة إلى الخير، أو تقديم منفعة للحياة، وإنما جاءت القيمة الخلقية في الصورة، من وراء ستار، وبععد إمعان ودقة نظر عن طريق الوحي والإشارة البعيدة.
ب- أنصار المضمون:
وهم في دعوتهم هذه لا يهملون الشكل والصورة، ولكن عنايتهم بها بعد المضمون في الدرجة والرتبة، فالصورة عندهم وسيلة فقط لإبراز الغاية من الأدب: وهو المحتوى والمضمون، ولو تحقق المضمون بدون اهتمام الصورة وعناية الشكل، فلا ينقص من جمال الأدب عندهم، الذي يقوم على غاية واحدة، وهي النفع والخير والفائدة.
فابن الرومي حينما يدعو إلى العفو والسماحة، إنما يريد أن يشيع المحبة والتسامح بين الناس حتى يسير ركب الحياة إلى ما هو أفضل. يقول:
أتاني مقال من أخ فاغتفرته
…
وإن كان فيما دونه وجه معتب
وذكرت نفسي منه عند امتعاضها
…
محسن تعفو الذنب عن كل مذنب
فيا هاربًا من سخطنا متنصلًا
…
هربت إلى أنجى مفر ومهرب
فغدرك مبسوط لدينا مقدم
…
وودك مقبول بأهل ومرحب
ولو بلغتني عنك أذني أقمتها
…
لدى مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارمًا
…
خليلي إذا ما القلب لم يتقلب
وكذلك حينما يصور فصل الصبر وميزاته، وحرمة المسلمين في رثاء البصرة، وذم الحقد وتنفير الناس منه صراحة، وغير ذلك مما تهدف إليه صورته الأدبية، من غير قناع ولا ستار فيقصد ابتداء المضمون، وينشد الغاية من التصوير الأدبي.
ج- أنصار العمل الفني "الصورة والمضمون معًا":
وهؤلاء لا يهتمون بالمضمون وحده، ولا بالشكل وحده، وإنما يهتمون بالعمل الأدبي، فيحرصون على الغاية من الأدب، كما يحرصون على إظهاره في صورة خلابة وشكل جميل، يهز أعماق النفس ويحرك المشاعر والعواطف، فالعناية فيهما بدرجة واحدة، فإن كان المضمون خلاقا ونافعًا، لكنه إن ظهر في شكل رديء وصورة واهية مهلهلة، فإن كان كذلك فسيفقد أساسًا كبيرًا وعنصرًا جوهريًّا يهز النفس، ويثير المشاعر، ويوقظ الأحاسيس، وكل هذه هي مفتاح العقل وصمام الفكر؛ لأن الإنسان يقتنع بمشاعره وأحاسيسه قبل أن يقتنع بعقله وفكره، يتنقل بين الجوانب المحسة في الصورة، قبل أن تستحيل إلى أفكار مجردة تصور واقعًا جديدًا، وإصلاحًا، أو إرشادًا يمت إلى الواقع بأسباب وعلاقات.
وعلى ذلك فالعمل الفني يبعث في النفس الحياة والنشاط، ويهز النفوس ويوقظ الأذهان، ويسهم في بناء الحياة ونهضة الأمم، التي لا تنهض ولا تقوى إلا على أساسين كبيرين هما: العاطفة والعقل، ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
وكذلك الأمر هنا لو كانت الصورة الرائعة لا تحمل مضمونًا نافعًا، فإنها تشبه شجر الخلاف تفتن بمنظرها ولكن لا نفع لها ولا ثمر، مع أن اللفظ في ذاته لا بد أن يحمل معنى تكون قيمته بقدر مشاركته في الصورة، ويسهم كل
لفظ في موضعه الذي اقتضاه بين إخوته في تحقيق غرض الصورة ومغزاها، ثم توحي الصورة القوية البارعة، بإيحاءات تعمق هذا الغرض، وتزيده ثراء وسعة، وبناء على ذلك لو اختل الترتيب في الألفاظ وضلت مواقعها لأدت الصورة معنى آخر مختلفًا وإيحاء مغايرًا لما سبق؛ لأنها تختلف في معناها ووحيها حسب اختلاف مواقع الكلمات فيها، ولو كانت مادة الألفاظ واحدة لم تتغير من صورة إلى أخرى.
وهذا يدل على أن لغة الصورة تلزم مضمونًا معينًا، وأن المضمون والغاية فيها ترتبط بقدرة الأديب على تشكيل الصورة وتسخير أدواتها لخدمة هذه الغاية، وتوجيهها نحو المعنى الذي يريد في أقوى صورة، فالشكل والمضمون يمتزجان معًا في وحدة وترابط، بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا فما الفرق بين الاتجاه الأخير وبين الاتجاهين السابقين، فأنصار كل منهما لا يهمل الأمرين الشكل والمضمون؛ لكنه يجعل أحدهما غاية، والآخر وسيلة؛ فالشكليون يهتمون بذات الصورة، ثم يأتي المضمون والمغزى تبعًا لذلك، وأنصار المضمون يعنون به، ويجعلونه غاية في ذاته، وتصير الصورة التي تنقله إلى الغير وسيلة -لا غاية- في إظهاره.
أما ما نحن بصدده الآن من الاتجاه الثالث، فهو يعتد بالأمرين معًا، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولا تتأتى بحال التفريق بين الصورة وبين ما تحويه من معنى أو مغزى؛ لأنه يتفق وطبيعة اللغة فالألفاظ إنما وضعت لمعان تدل عليها، وقد سخرت لخدمة الناس والحياة كالشأن في الإنسان الحي، فالجسد فيه لا يستغني عن الروح، وكذلك لا تنقل الروح عن البدن فالحياة رهن امتزاجهما، وارتباطهما جميعًا فلا جسد بدون روح، ولا يعقل أن توجد روح من غير جسد،
وكل منهما له قيمته التي لا تقل عن الآخر، وعلى سبيل المثال نجد أن الصورة تمثل الآلة "الميكانيكية" فالحركة فيها مرهونة بوضع الأجزاء وكل في مكانه، في رباط قوي وإحكام ودقة، وإلا توقفت عن العمل لاختلال أجزائها واضطرابها في مواقعها.
وابن الرومي كان في معظم شعره يسير على النمط الثالث، حتى كاد أن يجمع النقاد، أنه من أصحاب المعاني الذين يعنون بالفكرة، ويعمقونها، ويهتمون بمضمونها، ويكاد أيضًا أن يجمع النقاد قديمًا وحديثًا على أنه الشاعر المصور والرسام البارع، والعبقري في تصويره.
وعندي أن العناية بالصورة والنبوغ فيها يستلزم العناية بمضمونها الخلقي فيها؛ لأن مراعاة التمام في أجزاء الصورة، وارتباطها، واستيفاء عناصرها، يؤدي في النهاية إلى كمال المعنى، وتمام الغرض، وحيوية المضمون، فالنبوغ في التصوير لا يفصل الشكل عن المضمون بحال.
والعمل الفني أشبه بالدائرة الكهربائية التامة المغلقة التي تبدد الظلمات بأضوائها، فإن اختل جزء منها، وانفتحت الدائرة من أي مكان توقف التيار وانقطع النور، فلا قيمة ولا حياة، بل توقف وظلام.
والأمثلة كثيرة في شعر ابن الرومي مثل صورته الرائعة في رثاء البصرة، فإنه يثور فيها على الظلم وأهله من الزنج، الذين انتهكوا الحرمات، وقضوا على المقدسات، في أبشع صورة يعرفها البشر، كلها غدر وخيانة، وظلم وقسوة، لا هوادة فيها ولا رحمة، ولا مراعاة للمبادئ الإنسانية والخلقية والحضارية، ثم يستغيث الشاعر بالعالم بالإنسانية كلها لإنقاذ الحضارة والمقدسات، وردع الطغاة والظالمين في البصرة وغيرها من الأمم، وذلك كله في صورة أدبية يقول في مطلعها:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام
…
شغلها عنه بالدموع السجام
أي نوع بعد ما حل بالبصـ
…
ـرة ما حل من هنات عظام
أي نوع بعد ما انتهك الزنـ
…
ـج جهارًا محارم الإسلام1
وكذلك صورة في فضل الصبر وذم الحقد والمتكبر، وغير ذلك من الصور الرائعة التي تنقل الواقع في الحياة، لتحض على الخير، وتنفر من الشر إما بالتصريح أو بالإيحاء الذي هو أقوى عنده من التصريح.
ولما كان المضمون والمعنى ملازمين للصورة والشكل تعذر الفصل بينهما أثناء تحليل العمل الفني ونقده، وشق على الناقد في نقده التفريق بينهما كل على انفراد، حتى يمكن التعرف على المضمون كوحدة مستقلة، وعلى الصورة كذلك.
والصورة بهذه الصلة التي لا تكاد تنفك عن المضمون فيها خصائص شكلية مستقلة كانسجام الكلمة وإيقاعها، وموسيقاها داخلية كانت أو خارجية، وعناصرها من حركة وشكل وهيئة ولون وظلال وأضواء، وغير ذلك مما سيأتي تفصيله، ومما يرجع إلى الناحية الشكلية في الظاهر، لكن الحقيقة أن الصورة بعناصرها وأصواتها وتركيبها لم تأت عبثًا، وإنما جاءت لتجلي المضمون، وتتآخى في جميعها، لتكشف عن الغرض، فكل كلمة كالوتر تشارك مع غيرها في تكوين المعزوفة الموسيقية، وكل لفظ له لون خاص، يشترك مع غيره في إتقان الرسم وإحكام الرقعة الفنية الرائعة.
وكما قلنا: إن اختلاف الكلمة في موقعها من الصورة يؤثر فيها، ويمنحها مضمونًا آخر يختلف مع السابق في صورة أخرى، وهذا يدل على قوة التلاحم بين اللفظ ومعناه، وامتزاجهما معًا في بوتقة واحدة، من أجل الفكرة المطلوبة والغرض المنشود.
1 الديوان المخطوط ورقة 339 ج4.
ولعل هذا هو الذي حذر منه د. غنيمي هلال حيث يقول: "على أننا نحذر من اتخاذ المضمون والشكل معيارًا للتحليل الأدبي، إذ كثيرًا ما يستخدم هذا التقسيم لتحليل العمل الأدبي إلى شطرين تحليلًا تحكميا؛ لأنا إذا أمعنا النظر، وجدنا بعض عناصر الشكل داخلة في المضمون
…
واحتراسًا من هذا اللبس في التحليل، وتجنبًا للتحكيم في تقسيم العمل الأدبي نرى العدول عن اتخاذ المضمون والشكل أساسًا للتحليل الأدبي"1.
ومع أنه حذر منه فقد سار على التفريق بينهما أثناء دراسته، وفي كتابه المعنى الذي ورد فيه قوله السابق ولم ينص على ذلك. وليس هذا محلًّا للمناقشة هنا.
ولكن ما أعنيه هنا، ويهمنا في هذه القضية، أنني أتفق معه في أن الفصل بين الشكل والمضمون يجب أن نحذر منه، وكما قلت: إنه عسير وشاق، لكني أختلف معه أثناء التحليل الأدبي فيهما ونقدهما، وحين التقويم لإنتاج الشاعر، يلزم الفصل بينهما، ولو على نحو ما. وعلى الدارس للشكل والصورة أن يجعلهما معًا العمدة في بحثه، وتأتي دراسة المضمون تبعًا لذلك، وتصبح أبواب البحث وفصوله خاضعة لتكوين الصورة والشكل، ومثل ذلك حينما يتناول الدارس قضية الوحي في الصورة، فإنه -لا شك- سيبين إيحاءها، ويوضح أثره في المضمون وهكذا.
وهذا الاتجاه يعين الدارس على التعمق في الجزئية التي يدرسها، مما يؤدي إلى التخصص والدراسة الموضوعية الرأسية المنتجة، لا الدراسة الأفقية المستعرضة التي يتناول فيها الدارس الصورة والمضمون والغاية، وأثر الشاعر في كل ذلك، وهذه طريقة جامدة لا تعين على النهضة، ولا تربية الذوق عند الناقد.
1 النقد الأدبي الحديث: د. غنيمي هلال 366-367.
هذا ومكان الصورة الأدبية من قضية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون وعلينا الآن أن نوضح مفهومها في النقد الحديث، وما نراه في ذلك من خلال آراء النقاد فيها، حتى يكون هذا المفهوم الذي سأنتهي إليه هو المقياس، الذي أعرض عليه كل جزئية من أجزاء البحث، والميزان الدقيق الذي يتأثر بكل ما دق أو عظم فيه.
النقاد المحدثون:
معنى الصورة:
والصورة الأدبية تعد من القيم الهامة والأساسية في الأعمال الأدبية، وفي فن الشعر خاصة؛ لأنها هي الوسيلة الجيدة الدقيقة في إظهار التجارب الشعورية بما تحوي من أفكار وخواطر، ومشاعر وأحاسيس، وبدونها لا نعرف شيئًا بدقة عن تجارب الغير، فكما لا يستطيع الغير أن يعرف عن تجاربنا شيئًا. لذلك أولى النقاد الصورة الأدبية كل عناية، لتحديد مفهومها، وهم متأثرون في ذلك بعاملين، لا يقل أحدهما عن الآخر في التأثير، وإن اختلف نوع التأثير في مفهوم الصورة حسب اختلافهما، وهما أصالة النقد العربي في توضيح الصورة كما قدمنا وأثر التيارات الجديدة للمذاهب الأدبية الحديثة الواردة من الغرب، في تلوين المفهوم للصورة، مع خضوعه للأصالة العربية في بيان معالمه.
وبالطبع إنني لن أدرس كل النقاد الذي تناولوها حديثًا لسببين:-
أولهما: أن نكتفي بالرواد ونقتصر عليهم.
ثانيهما: أن هؤلاء النقاد عاشوا في قرن واحد، وتجاوبت أصداء مفاهيم الصورة الأدبية عندهم.
لذلك ساغ لي بعض الشيء أن أقتصر على بعض اللامعين منهم، وهم بدورهم سيعبرون عن غيرهم من اللامعين وسواهم.
أحمد حسن الزيات:
يقول الزيات: والمراد بالصورة: إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسة1، والصورة عنده خلق المعاني والأفكار المجردة، أو الواقع الخارجي من خلال النفس خلقًا جديدًا. لتبرز إلى الوجود مستقلة عن حيز التجريد المطلق وتتخذ لها هيئة وشكلًا، يأتي على نمط خاص، وتركيب معين، بحيث تجري فيهما -على هذا النسق- الحياة والروح، والقوة والحرارة، والضوء، والظلال، والبروز والأثر2، وبذلك يتلقى السمع من الصورة أصوات الفكرة، وترى العين ألوانها، وترقب حركاتها، وتحس النفس نسيمها وانطلاقه، وتستروح الآناف رائحتها، وتستعذب الأذواق طعومها.
ويرى الزيات أن الصورة لا يمكن فصلها بحال عن الفكرة، وينكر أشد الإنكار هؤلاء الذين يمثلون الصورة بالكساء، فهي رداء ذاتي مستقل له خصائصه وأوصافه، ولكنه يرى تبعًا لابن رشيق وغيره أن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الجسد والروح، لا يمكن أن يستقل أحدهما عن الآخر، وإلا مات الحي؛ لأن البلاغة لا تفصل بين الموضوع والشكل، فالصورة والفكرة كل لا يتجزأ، إذا تغيرت الصورة تغيرت الفكرة. وكذلك الأمر لو تغيرت الفكرة تتغير الصورة، فهناك فرق بين القولين: ما شاعر إلا فلان، وما فلان إلا شاعر،
1 دفاع عن البلاغة: أحمد حسن الزيات ص63.
2 المرجع السابق: ص62.
ويرى أن العمل الفني1. كالماء يتكون من الصورة والفكرة، كما يتكون الماء من الهيدروجين والأكسوجين، ولو استقل أحدهما، أو تغيرت نسبته، انعدم وجوده، حتى لو وجد لكان غير طبيعي2. وأرى أن هذا الاتجاه مع ثقافة الزيات الواسعة، تظهر فيه الأصالة العربية، في فهم الصورة متأثرًا بابن رشيق وعبد القاهر وغيرهما، وإن كانت ثقافته العميقة أعانت على توضيح الصورة أكثر وأعمق ممن تأثر بهم من القدامى، وبيان خصائصها التي نبعت من عبارته "صورة محسة".
ويذكر بعض الصور ليميز فيها بين الفكرة وصورتها، التي يشخص معالمها في قوة وبراعة، وذلك في قول علي بن أبي طالب:"إلا أن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار. وأن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة". يقول الزيات: تجد صورتين صورة الفرس الشموس، لم يروض ولم يلجم، فيندفع براكبه جامحًا، لا ينثني حتى يتردى به في جهنم، وصورة الناقة الذلول قد سلس خطوها، وخف عنانها، فتنطلق بصاحبها في رسيم كالنسيم حتى تدخل به الجنة، ثم تجد عاطفتين عاطفة النفور من الألم الذي يشعر به الخاطئ، وقد جمحت به خطاياه الرعن في أوعار الأرض، حتى ألقته في سواء الجحيم، وعاطفة الميل إلى لذة المتقي والورع، وقد سارت به قواه سيرًا لينًا، حتى أبلغته جنة النعيم، ذلك من حيث الموضوع، أما من حيث الشكل فتجد اختيار الألفاظ المناسبة لفكرة كالمطايا وما يلائمها من الانقياد والإيراد هنا، وكالخيل وما يوائمها من الشماس والتقحم هناك. والفرق في الطبيعة بين هذين الحيوانين، في هذين المكانين لا يخفى على ذي لب
1 المرجع السابق ص59، 60.
2 المرجع السابق ص78.
ثم تجد بعد ذلك التأليف المتوازن المحكم الرصين، وهذه المقابلة البديعة بين عشرة معان لا تكلف في صوغها ولا تعسف1.
ويرى الزيات أن الصورة في العمل الأدبي، لا بد أن تتوافر فيها الوسائل المنتقاة، التي تتلاءم مع الفكرة والعاطفة في نسق يفيض بالإيقاع والنغم، فالمطايا التي اختيرت للتقوي سهلة الانقياد، والخيل التي اختيرت للخطايا شرود جموح، ثم هذه الموسيقى على امتداد النص من المزاوجة والطباق والمقابلة وفوق هذا وذاك خرجت الفكرة المجردة. وهي التقوى والخطايا في صورة محسة مألوفة وهي صورة المطية والخيل.
أحمد الشايب:
ويرى أحمد الشايب أن الصورة الأدبية لها معنيان حسب نوعية الجنس الأدبي:
أحدهما: يكون في الشعر التمثيلي وما يشبهه من النثر الفني كالقصة والأقصوصة والرواية والمسرحية النثرية، والصورة الأدبية في هذا النوع لا تدخل معنا في بحثنا وتخالف النوع الثاني الذي يتصل بموضوعنا. أولًا: من ناحية التصوير. وثانيًا: من ناحية معناها، وثالثًا: الصورة: إذ هي هنا يقابلها الأسلوب من حيث الكلمات والتراكيب الحقيقية والمجازية والسرد والوصف والحكاية والحوار، ولكن الصورة في النوع الثاني تقابلها المادة: الفكرة والعاطفة.
والصورة في النوع الأول هي منهج الكتاب، أو خطته العامة من حيث المقدمة والفصول والخاتمة وتناسقها معًا وبراءتها من الشذوذ والاضطراب....
1 المرجع السابق ص63، 64.
تأخذ موضوعها وتقسمه فصولًا، وتلائم بين الشخصيات وتربط بين الحوادث، وتعني بالمفاجآت أو المبالغة أو المقصد1. ويشترط فيها الوحدة التي تشتمل على الكمال والمنهج والتناسب.
ثانيهما: المعنى الثاني في الصورة، يكون في الشعر الغنائي، وما يشبهه من النثر الفني، كالمقالة الأدبية فالصورة هنا في إيجاز هي:"اللغة والخيال" وتقابل المادة وهي: "الفكرة والعاطفة"، فالمعجب بالوردة وهي صورة جميلة في مرأى العين ينقلها كما هي أمام عينيه، ولذلك تثيره كما أثارته، والأديب لا يستطيع إجراء هذا السبيل
…
لذلك كان مضطرًّا أن يلجأ إلى وسائل أخرى غير مباشرة ليوقظ بها النفوس، ويهيج العواطف، وهذه الوسائل التي يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معًا إلى قرائه أو سامعيه تدعى "الصورة الأدبية"2.
فالوصرة هي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغوية والموسيقية، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والكناية والطباق وحسن التعليل3.
وهو يعتمد فيما اتجه إليه هنا في معناها إلى ما انتهى إليه الإمام عبد القاهر في قضية النظم4، ولكنه يفوقه في دقة التحديد لمفهومها، ثم في فهم الخيال وأثره في تكوين الصورة وبيان وسائله، ثم في تفصيل ما عبر عنه عبد القاهر بالتآخي
1 أصول النقد الأدبي: الأستاذ: أحمد الشايب 251.
2 المرجع السابق: الأستاذ أحمد الشايب 242.
3 المرجع السابق: 248، 429.
4 المرجع السابق: 249.
والتلاؤم في النظم الذي تتألف منه الصورة وذلك في شروط تلازم المفهوم حتى يستقيم ويتضح وهي1:
أولًا: أن تكون لغة العاطفة في الصورة مألوفة جزلة، بعيدة عن الغرابة والمصطلحات العلمية.
ثانيًا: أن تختلف الصورة باختلاف العاطفة، فإن كانت عاطفة متوسطة، احتاجت إلى سهولة العبارة وجمال الصور، والإيجاز فيها، وإن كانت عميقة تتصل بأسرار الحياة وأعماق النفس، تطلبت الجزالة والصور المحكمة، وإن كانت العاطفة طريفة، اقتضت التفصيل والبسط وتعدد الصور.
ثالثًا: ارتباط الصورة الأدبية بالمعاني اللغوية للألفاظ وموسيقاها، حيث يعبران عن نوع العاطفة ودرجتها وهو ما يسميه "حسن النظم".
رابعًا: إن الصورة تختلف باختلاف الأدباء، وذلك يرجع لاختلاف عواطفهم وتباين تناولهم للموضوع، ويقصد بذلك الأصالة، التي ينشدها لجمال الصورة، ونبذ التقليد فيها.
خامسًا: وهذا كله ينتهي بالباحث إلى شدة الارتباط بين المادة والصور، أو بين الفكرة والعاطفة من ناحية والخيال واللفظ من ناحية أخرى، وأي تغيير في أحدهما يتبعه تغيير في الآخر.
ويقصد بذلك كله النظم، ويذكر أمثلة من دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني2. فالصورة على هذا هي التركيب الخارجي للحالة الداخلية عند الشاعر، الذي ينقل بأمانة ودقة عاطفته وفكره، مع التناسب التام بين
1 المرجع السابق 243 وما بعدها.
2 المرجع السابق 246.
الحالة والعبارة، حتى يخيل القارئ أثناء قراءته للصورة، أنه يخوض في أعماق الشاعر، ويتعرف على مصادرها في نفسه، وهذا هو المقياس الأصيل للصورة الأدبية.
يقول الشايب: "فمن البديهي أن مقياس الصورة الأدبية، هو قدرتها على نقل الفكرة والعاطفة بأمانة ودقة والصورة هي العبارة الخارجية للحالة الداخلية، وهذا ومقياسها الأصيل، وكل ما نصفها به من جمال إنما مرجعه إلى التناسب بينها، وبين ما تصور من عقل الكاتب ومزاجه تصويرًا دقيقًا، خاليًا من الجفوة والتعقيد فيه روح الأديب وقلبه، كأنا نحادثه، ونسمعه كأنا نعامله"1.
وأما إبراهيم عبد القادر المازني: فيرى أن الصورة الأدبية غير فن التصوير والرسم، فهي غنية بالحركة والحيوية، وتعاقب الزمن وقتًا بعد وقت، حتى يأتي الشاعر على الحركة المقصودة من الصورة، بينما فن الرسم جامد ليس له إلا لحظة واحدة من الزمن، وهي تلك اللقطة التي يختارها الرسام من الزمن، ليودعها فنه وريشته كما أن الصورة الأدبية تنفرد أيضًا بخاصة لا توجد في فن التصوير، وهي أن الشاعر ينقل للقارئ المنظر المراد تصويره، من خلال مشاعره، وخواطره، ويلونها من داخل نفسه، فتؤدي عند القارئ إلى إثارة مثل هذه الأحاسيس والمعاني والآمال والخوالج. يقول:"إنما يسع الشاعر أن يفضي إليك "بوقع" هذا المنظر، وبما يثيره في النفس، من الإحساسات والمعاني والذكر والآمال والآلام والمخاوف والخوالج على العموم بأوسع معاني هذا اللفظ، وعلى العكس من
1 المرجع السابق: 250.
ذلك يسع الشاعر أن يصف لك الحركات المتعاقبة في الزمن، وأن يحرضها إلى ذهنك، ويمثلها لخاطرك، وذلك ما لا سبيل إليه في التصوير1".
فالشاعر لا ينقل للقارئ تأثير المنظر في النفس، فيقع على أثره من غير عناء، ولكنه يدع فيه إحساسه ويترك صورة تثير هذا الإحساس عند القارئ، وهو معنى قوله:"أن يفضي إليك بوقع هذا المنظر".
ويوضح هذا أكثر عندما يعرض صورة الربيع عند البحتري التي مطلعها:-
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا
…
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
فيقول وهو ينفي هذا المعنى عن المصور بالرسم ويثبته للشاعر: "غير أن المصور لا يسعه أن يضمن المنظر إحساسه هو إليك كيف كان وقعه في نفسه كما يستطيع أن يفعل؛ لأن الشعر بطبيعته مجال العاطفة" وبذكر أبيات البحتري التي سبق مطلعها، ويقرر ما سبق بقوله:"فلم يحاول "أي الشاعر" أن يرسم لك صورة، وإنما أفضى إليك بما أثاره الربيع من المعاني في نفسه، وبما حركه من طلب الانشراح في عيد الطبيعة"2.
ولكي يحدد اتجاهه في فهم الصورة الأدبية، فإنه يوازن بين صورتين لتكونا كالدليل على ما اتجه إليه فيذكر بيت النواسي في وصف جمال المرأة:
فإذا بدا اقتادت محاسنه
…
قسرا إليه أعنة الحدق3
1 حصاد الهشيم: المازني ص118.
2 المرجع السابق ص134، 135.
3 ديوان أبي نواس.
وصورة ابن الرومي عن سحر المرأة:-
ليس فيما كسبت من حلل الحسن
…
ولا في هواي من مستزاد1
وقوله:
أهي شيء لا تسأم العين منه
…
أم له كل ساعة تجديد2
فالنواسي يؤدي إليك تأثير جمال المرأة وسحرها في النفس، في صورة بلغت غاية السخف؛ لأن عيون الرجال خرجت من مكانها، وانفصلت عن وجوههم، وهذا بعيد عن مفهوم الصورة، والسنن الغنى الرائع فيها، وهو أن يترك الشاعر للصورة تأدية التأثير، لما تنطق به من آيات الفن وسحر التكوين كبيتي ابن الرومي، الذي ترك القارئ يتخيل الجمال ويتعرف على مصادره؛ لأن ابن الرومي ضرب المثل الأعلى في الجمال، مما يجعل خيال القارئ، دون ما تخيل ابن الرومي، يقول المازني:
"لأن وظيفة المصور ليست أن يؤدي إليك التأثير، بل أن يدع الصورة تؤثر بذاتها، وبما تنطق به دون أن يعالج أداء الأثر الذي تحدثه"3.
والمازني يرى أن الصورة ليست هي مجرد الشكل الذي يقابل المضمون، ولكنها تصدر عن الوسائل الفنية للشكل وهو ما يفيده النظم عند الإمام عبد القاهر، إلا أنه تناولها في عمق وجدة تبدو في أمور:-
أ- وضح مفهوم الصورة على وجه التقريب، وتكون في تناول المنظر المراد تصويره من خلال خواطر الشاعر وأحاسيسه وتلوينها بذات نفسه وعاطفته.
1 الديوان المخطوط ورقة 234 ج2.
2 المخطوط 256، ج2.
3 المرجع السابق 136، 137، وهو حصاد الهشيم: المازني.
ب- أن الصورة ليست خطبة بنص الشاعر فيها على المراد، وما يقصده صراحة، ولكن على الشاعر بموهبته الفنية أن يدع الصور تتحدث بذلك، وتكشف عن الأثر الكامن فيها لا الشاعر.
ج- أن الصورة الأدبية لها لحظات في الزمن تتعاقب وتحدث ما فيها من حركة حيوية وهما لب الصورة وعصبها، وهذا هو الفارق المميز بينها وبين الرسم.
د- أن المازني جعل الخيال هو الأساس في الصورة، وبه يتفوق صاحبه على غيره، ويقسم الخيال قسمين: أحدهما الخيال الحسي وهو ما يستمد فيه الشاعر البواعث على الابتكار من ظواهر الطبيعة، وهو في نفس الوقت تصوير الشيء على حقيقته، كما يقع تحت الحس في الواقع، من غير إعمال ولا تحوير، وهذا ضرب نادر في الصورة؛ لأن وجود الخيال فيها لا بد وأن يأخذ مجراه ويعمق أجزاءها. ثانيهما: تخييلي وهو ما يستمد الشاعر فيه البواعث على الابتكار من نفسه وخواطره وأحساسيسه وعواطفه؛ لأن الأصل في الشعر سعة النظر، وعمق المعاني، فقد يتناول الشاعر منظرًا محدودًا في نظر الرائي ولكنه يراه بالمعنى الأوسع والأعمق مما يراه الآخر يقول:"فأبدع الخيال تنميقه، وأحسن ما شاء تفويقه وتزويقه، وعلم أن رؤية الشيء في أجل مظاهره وأسمى مجاليه وأروع حالاته هي ما يعبر عنه "بالإيديالزم" وعلى العكس من ذلك "الريالزم" ويقصد بالريالزم الخيال الأول، وبالإيديالزم الخيال الثاني، ويرد المازني التفاضل بين الاثنين لا إلى كون الأول حسيًّا والثاني تخييليًّا، ولكن إلى اختلاف شخصية الشاعرين في القدرة الفنية، وقوة الملاحظة "هذا يستمد البواعث على الابتكار من ظواهر الطبيعة، وذاك يستمدها من نفسه"1.
1 المرجع السابق: 230، 231.
والمازني والعقاد يتلاقيان معًا في اتجاههما، فهما صاحبا الديوان والمذهب الجديد في الشعر والتصوير إلا أن العقاد أعمق منه وأبعد تصورًا، وأقوى أصالة في هذا الميدان وما نحن فيه.
عباس محمود العقاد:
العقاد: يرى أن الصورة الأدبية عند الشاعر تتجلى في "قدرته البالغة على نقل الأشكال الموجودة كما تقع في الحس والشعور والخيال، أو هي قدرته على التصوير المطبوع؛ لأن هذا في الحقيقة هو من التصوير كما يتاح لأنبغ نوابغ المصورين"1.
وعلى ذلك فالمنظر المراد تصويره له حالات: الحالة الأولى المنظر كما هو في الواقع لا تختلف ذاته أمام الأنظار، والحالة الثانية: انتقال المنظر إلى داخل النفس وامتزاجه بخواطر الشاعر وعواطفه، وأحاسيسه وصراعه مع المستودعات الذهنية والمخزونات الشعورية وهي مرحلة الاستحالة والحالة الثانية: وهي إخراج المنظر من معامل النفس في صورة جديدة، وهي ما تسمى بالصورة الأدبية، وهذا ما أراه في اتجاه العقاد لمفهوم الصورة، ويؤكد ما ذهبت إليه ما ذكره في موطن آخر حيث شبه ملكة الشاعر بالزجاجة المصورة الحساسة الواسعة، فلا يفلت مما يقابلها شيء إلا رسمته وصورته، وكذلك ملكة الشاعر الفذة الحساسة، تنقل إلينا صورة العالم كله من خلال مشاعره، التي تبرز في عمله الفني، وهذا بعكس الشاعر الذي يضيق إحساسه، فيصور قطعة من العالم، ويودعها صورته الفنية، والصورة الأولى تفوق الثانية في التظليل والتلوين"2. وأروع أنواع التصوير، هو ما اجتمعت فيه الدعائم الآتية التي توضح مفهوم الصورة عنده:-
1 ابن الرومي حياته من شعره: العقاد ص207.
2 ساعات بين الكتب: العقاد 292.
أ- الخيال في الصورة:
وحين أتناول الخيال عند أي ناقد، لن أذكره بالتفصيل والعمق الذي تقتضيه طبيعته، فليس هذا بحثًا مستقلًا فيه، ولكني أتناوله هنا في مجال المفهوم الصورة الشعرية، ومنزلة الخيال منها ودرجته فيها، وحقيقته ومعناه.
والعقاد من رواد الفكر في العصر الحديث، يثور -في خيال الصورة- على حماقة الوصف المحسوس، الذي هو أشبه بالطبل والطنين، ولا يخرج جمال الخيال فيه عن رسم الحركة الظاهرة التي لا صلة لها بالشعور، ولا يعرف غيرهما الأقدمون، وأدوها أجمل أداء كما في قول ابن حمديس الشاعر العربي:
أسد تخال سكونها متحركًا
…
في النفس لو وجدت هناك منيرًا1
ويسمي العقاد الوصف المحسوس الذي لا يعدو الظاهر بالبهرج، وهو نقيض النشوة الروحية الممتزجة بالمحسوسات، وسمات الخيال العقيم البهرج. ومخاطبة الوظائف ودلائل الخيال الجميل هي الطلاقة ومخاطبة الملكات الروحية، والفرق بينهما هو الفرق بين قول أحد الشعراء البديعيين:
إذا ملك لم يكن ذا هبه
…
فدعه فدولته ذاهبه
وقول أحد الشعراء المصورين مثل قول ابن الرومي:
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
…
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
…
ومن أين والغايات قبل المذاهب2
فالألفاظ في البيت تحجب المعنى فهي "وهج في النظر، وقرقعة في الأذن، ولذع في الحس وتهييج في الشعور"، فقائلها مزور مبهرج لا حظ له من البلاغة.
1 يسألونك: العقاد 43ط، القاهرة 1947.
2 الديوان المخطوط ورقة 58، ج1.
والجمال، والألفاظ عند ابن الرومي، تجوز بالناظر إلى معناه من غير توقف ولا انتباه فهي تريك المعنى، ولا تريك نفسها فالتصوير هنا لا يستوقف الحسن، ولا يعطل التفكير والخيال، ولكنه يطلق النفس في هوادة ورفق، ويسلس في الطبع شعور السماحة والاسترسال1.
لأن التصوير عنده ومقياس الإحساس فيه، إنما هو من عمل النفس المركبة، من خيال وتصور وشعور، وليس كالساعة الجامدة المركبة من حديد ونحاس2، فالشعر عند العقاد يعني بوصف الحركات النفسية، لا بوصف المشاهد المحسوسة، والشاعر حين يصف جمال المرأة، إنما يصف أثرها في النفس، ولا يشغل شعره بتصوير المحسوسات إلا إذا فاضت عن عواطفه ومشاعره3. فملكة النثر غير ملكة الشعر، غير ملكة الوصف، وليست بشيء واحد، كما يفهم كثير من القراء فمن وصف وشبه، ولم يشعر. فليس بشاعر. ومن شعر وأبلغك ما في نفسه بغير وصف مشبه فلا حاجة به إذن إلى سرد الصفات لتتم له ملكة الشاعرية4.
ويؤكد العقاد كلامه بأن الصناعة اللفظية والتصنع في الوصف أمات الشعور في الصورة وأضعف الخيال وجهل الشعر، ونقده كنه الصورة الشعرية، التي تنبني عليها حياة الشعر، وجماله ونضارته، ولا قيمة عنده في الصورة للمعاني اللطيفة فيها، والنظم الرائق ولا التوليد البكر، ما لم يكن ممزوجًا بالنفس مفعمًا بالإحساس، تنبض بالمشاعر القوية، وتفور بالعواطف الجياشة؛ لأن
1 المرجع السابق: 309، ساعات بين الكتب: العقاد.
2 المرجع السابق: 411.
3 ابن الرومي: العقاد 315.
4 المرجع السابق 314.
الشعراء البديعيين رأوا أن التصوير الشعري، لا يتم إلا بالألاعيب اللفظية والمعنوية، فالشاعر منهم هو الذي يصف النجوم ويشبهها بالجواهر والحلي. هو الشاعر غير مدافع وهو المثل الأعلى في هذه الصناعة، ثم يليه الشعراء، على حسب الأشعار في سوق المشبهات، وقصارى ما يطلبه الشاعر من التشبيه أن يثبت أنه رأى شيئين من لون واحد، وشكل واحد، كأنك في حاجة إلى مثل هذا. لإثبات الذي لا طائل تحته، فأما أنه أحس وتخيل، وصور إحساسه، وتخيله باللفظ المبين والخواطر الذهنية الواضحة، فليس ذلك من شأنه ولا هو مما يدخل عنده في باب البلاغة والشاعرية، ولذلك عاب العقاد مثل قول ابن المعتز في وصف الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
وقوله:
كأن آذريونها
…
والشمس فيها كاليه
مداهن من ذهب
…
فيها بقايا غاليه
ويرى العقاد أن لابن المعتز تشبيهات كثيرة أبلغ من هذه وأنقى في المعنى والديباجة، ولكنهم لا يختارون في مقام التحدي إلا هذه الأبيات وأمثالها، لظنهم أن نفاسة التشبيه، إنما بنفاسة المشبهات، ولا فضل فيه للشعور والتخيل، وهذا خطأ بعيد في فهم الوصف والشعر، فالمسافة عظيمة بين شاعر يصف لك ما رآه كما قد تراه المرآة، أو المصورة الشمسية، وشاعر يصف لك ما رآه وتخيله وشعر به، وأجاله في روعه وجعله جزءًا من حياته، وإنما يعنيك من الشعر أن يكون إنسانًا حيًّا يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها1.
1 ابن الرومي حياته من شعره. العقاد ص315.
ويتصدى لهذا الزعم ناقد حيث دفع الخطأ الذي وجهه العقاد إلى النقاد القدامى، وبين وجه الصواب في نظرة النقاد للصورتين السابقتين، وهي أن الشاعر ينقل في صوره الأدبية ما يمتزج بحسه ووجدانه وما يتصل بشعوره وخواطره حتى يتحقق الصدق الفني في التصوير، وهو أساس البراعة فيه، فابن المعتز يصور في صدق ما رآه، وما شعر به ولو فعل غير ذلك لما كان صادقًا في قوله دقيقًا في تصويره، وهذا هو توضيح ما أشار إليه النقاد القدامى، ولذلك تعجب ابن الرومي المصور من صور ابن المعتز، وحاد عنها في التصوير إلى صور أخرى، تمتزج بحسه وشعوره وخواطره، ويكمل الناقد حديثه في ذلك فيقول:
"ونحن مع العقاد في أن لابن المعتز تشبيهات كثيرة أبلغ مما ذكر في الرواية، ولكننا نخالفه في أن يكون النقاد قد أخطأوا مثل هذا الخطأ، أو خالوا ذلك الظن البعيد، إنما أرادوا أن ابن المعتز تفرد بهذا اللوان خاصة من التشبيه، وهو ما استخدم فيه آلات حياته وترفه في تلوين أصباغ تشبيهاته ووصفه، على أن هذا اللوان لا يخلو كله من تصوير لعاطفة الشاعر ووجدانه وإحساسه بالحياة، أما ما سوى ذلك اللون الذي انفرد به ابن المعتز، فقد يشاركه بعض الشعراء الموهوبين فيه فلا داعي للتحدي به1".
وليس الخيال وحده هو أهم ركيزة في الصورة الأدبية؛ لأن العقاد يقرر أن هناك ملكة ضرورية في الصورة تشمل الخيال وغيره من الوهم، واتساق المعنى واللفظ، وتداعي الخواطر، ويسميها، "ملكة تداعي الفكر" بها ينضم الخاطر بتصحيف يسير في اللفظ أو المعنى، وبمناسبة دقيقة من الخيال الصحيح أو الوهم
1 ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي 238ط ثانية 1958.
الكاذب، فيصل بها الشاعر بين طرفين متناقضين عند عامة الناس، وتلتمس لها المشابه والمغازي، حيث لا شبه ولا مغزى لمن لم يوهبوا هذه السرعة في توارد الخواطر وتساوق المعنى والألفاظ1.
ولا يخفى على الناظر مما سبق أن العقاد متأثر تمامًا بنظرية النظم عند الإمام عبد القاهر، وإن أخفى ذلك تحت المصطلح البراق الذي يدل على عبقريته وهو "ملكة تداعي الفكر" وما هي إلا القدرة على التآخي بين معاني النحو، وارتباط ثان منها بأول وهكذا، ولكن العقاد فر من التعبير "بالنحو" خشية أن يصيب الجمود فيه انطلاق الأدب وحيوية التصوير الشعري كما يدعي الجمود في نظرية النظم عند الإمام بعض المحدثين، وهل هناك جمود في التأخير والتقديم والتنكير والتعريف، وإفادة أن الاسم هنا فاعل أو هناك مفعول، ليتضح المعنى، إلى غير ذلك مما قرره الإمام، إلا إن نظروا إلى ذات الرفع أو النصب أو الخفض أو الجزم، وهذا ما لا يقصده عبد القاهر، ولكن الناقدين يختلفان من جهة أخرى وذلك في درجة الخيال من الصورة ومنزلته فيها، فيرى العقاد أن الخيال أقوى وسيلة من وسائل التصوير، وأعظمها حيوية فهو يفضل النظم والمزاوجة والإيقاع وبعض الحقائق، إذ يرى أن الخيال مناسبة دقيقة في تساوق بين المعنى واللفظ، يجمع بين المتناقضات، وتنضم الخاطرة إلى الخاطرة، بينما أقوى الصورة، بل أساسها عند الإمام عبد القاهر هي النظم أولًا ثم الخيال وغيره ويأتي تبعًا بعد ذلك.
وحين يربط الخيال بين الخواطر المتباعدة عند العقاد يكون ذلك في قول ابن الرومي:
قصرت أخادعه وطال قذاله
…
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
…
وأحسن ثانية لها فتجمعا
1 مراجعات في الآداب والفنون: العقاد 169 القاهرة: 1925م.
لقد أعطى لها الشاعر النصيب الأوفر للعين والضحك والخيال، فصورة الرجل وهو يتهيأ لأن يصفع، ثم يتجمع ليتقي الصنعة الثانية هي صورة الأحدب بنصها وفصها، لا يعوزها الإتقان الحسي، ولا الحركة المهينة، ولا الهيئة الزرية، ولا التأمل الطويل في ضم أجزاء الصورة بعضها إلى بعض، حتى يتفق التشبيه هذا الإتفاق1".
وحين يربط الوهم الكاذب بين الخواطر كما في قول ابن الرومي يهجو أبا طالب الكاتب:-
أزيرق مشئوم أحيمر قاشر
…
لأصحابه نحس على القوم ثاقب
وهل يتمارى الناس في شؤم كاتب
…
لعينيه لون السيف والسيف قاضب
ويدعى أبوه طالبًا وكفاكم
…
به طيرة إن المنية طالب2
ونستطيع أن نراقب ذهنه، وهو يعمل في حركته السريعة بين الأشكال والألوان والألفاظ والمعاني. كما تراقب البنية الحية، وهي تعمل من وراء المجاهر والكواشف، فانظر إلى لون الأحيمر القاشر، وإلى نذير السوء والبلاء. وأين هما؟ وماذا يجمع بينهما من الصلة والمناسبة؟ لا صلة ولا مناسبة، وقل مثل ذلك في لون العين ولون السيف القاضب. وفي الطالب الذي لا يقابله إلا الهارب، وفي الطالب الذي يفقد الشبه بين الموت، وذلك الكاتب، وفرق هذا كله فإذا هو أبعد المتفرقات. واجمعه كما جمعه ابن الرومي، فإذا هو أقرب المناسبات وألزم العلاقات3".
1 المرجع السابق: العقاد ص141.
2 الديوان المخطوط ورقة 94 ج1.
3 المرجع السابق 212، 213- ابن الرومي: العقاد.
ب- التشخيص في الصورة:
يرى العقاد أن التشخيص أقوى ألوان الخيال في الصورة، فهو يزيده حيوية وخلودًا، وملكة التشخيص لا تقل عن ملكة التصوير جلالًا وروعة في آيات الفن الرفيع. فهي الملكة المصورة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حينًا، أو من دقة الشعر حينًا آخر، فالشعور الراسخ هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فإذا هي حية كلها
…
وليست هي صلة لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير، ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر، ويمثل لذلك بأمثلة كثيرة منها هذا البيت لابن الرومي:-
أمت وديك عبطة فمه
…
دعه على رسله يمت هرما
فالود كائن حي يعالجه القتل، أو يترك إلى الهرم فيموت1.
والتشخيص هو أرقى أنواع الخيال، وصورته إنسانية من أقوى أنواع الصور فهو يجسد المعنى ويبعث الحياة في الصلب الجامد، ويوجد الرموز للمحسوسات، ويجسم الأفكار، التي تتخايل من وراء الصور، وتقوم الحيوية فيه مقام البرهان العقلي وهو الدليل الوجداني الناطق الذي لا يعرفه إلا الشعور، وغيرها من خصائص التشخيص الذي يقول فيه العقاد هو:"خلق الأشكال للمعاني المجردة أو خلق الرموز لبعض الأشكال المحسوسة"2.
والتشخيص يعتمد على دعائم أساسية في حيويته، وفي اللون والشكل والحركة، مما يزيد الصورة الأدبية روعة وسحرًا.
1 المرجع السابق: 306.
2 الديوان المخطوط ورقة ج4.
ج- نفي المبالغة -لا البلاغة- من الصورة:
والمبالغة عند العقاد تفقد الصورة الشعرية. لما فيها من الزيف. وإرادة المستحيل. والبعد عن الحقيقة الشعرية، وهي الصدق الفني فيه، فهي تكشف على الكذب في النفس، لا عن الوضوح والتقرير، وما كانت في صورة إلا أخذت بجمالها، وتعطلت عنه، ولكنه تدارك الأمر خشية أن يظن بعض المعاصرين أن الحقيقة في المنشودة في التصوير فحسب أو اجتناب المبالغة هي الصحة العلمية، والنظم في العلم والتحقيق لا في الخيال والأوهام فقلنا:"القائل العقاد" لهم: ليس هذا بالشعر المقصود ولو كانه لكانت ألفية ابن مالك أبلغ الشعر القديم والحديث، وقدوة الصادقين في النظم والبيان؛ لأنها منظومة في علم النحو والعلوم كلها سواء في الصدق والتحقيق"1.
بهذا وضح العقاد قصده من اجتناب المبالغة، وهي أن يكون الشاعر صادقًا مع نفسه حين يلعب الخيال في صوره، ويقصد في ذلك البلاغة لا المبالغة؛ لأنه يرى أن البلاغة إنسانية عامة لا عربية ولا فارسية فهي كما يقول:"وليست مزية لغوية ولكنها مزية نفسية"2.
وعلى الشاعر أن يصدق مع نفسه في صورته الشعرية، من غير تجشم للمبالغات، وطلب ما لا يكون فقد يكون مبالغًا مخالفًا لظاهر العلم، وأنه مع هذا الصادق في المبالغة قدير في الوصف، والإبانة يقول لحبيبه: إنه أبهى من الشمس لا تسره كما يسره حبيبه ولا تغمر نفسه بالضياء كما تغمرها طلعة ذلك الحبيب3.
فالمراد بالمبالغة -لا الكذب- هي التجلية والتقرير والتبيين، وهذا هو عين
1 ساعات بين الكتب: العقاد 123.
2 المرجع السابق: 121.
3 المرجع السابق 122.
البلاغة في الشعر وصدق الخيال في التصوير الأدبي، وكشف العقاد بما تقدم عن أصالته في فهم الصورة الأدبية، وعمقه في معناها ودقته في معالمها ثم مناقشته الخيال والتشخيص والمبالغة في التصوير، مما جعله يكشف عن حقيقة الصورة الأدبية كما ينبغي أن تكون فنًّا نابضًا بالحياة زاخرًا بالعواطف والمشاعر وصدق الخيال.
الدكتور محمد غنيمي هلال:
وهو من النقاد الذين تناولوا الصورة الأدبية حسب تنوع النظرة إليها في مختلف الفلسفات والمذاهب الأدبية الحديثة، ويرجع اختلاف المذاهب في تحديد مفهوم إلى أمرين:-
أحدهما: أن الاختلاف فيها يرجع إلى تباين النظرة في الصورة، من حيث علاقتها بالشيء المحسوس في الخارج من جهة، وعلاقتها بالفكر المجرد بعد أن انصهرت المحسوسات فيها من جهة أخرى1.
ثانيهما: اختلاف النظرة في تحديد مفهوم الخيال وأثره، ومكانه من الوهم "وكان المفهوم القديم للخيال عقبة في سبيل فهم الصورة، ولذلك حذر منه البعض ومدحه البعض؛ لأنه أعظم قوة في الإنسان2.
وقبل أن يحدد مفهوم الصورة الأدبية بناء على فهمه للمذاهب الأدبية الحديثة التي أثرت في شعرنا ونقدنا الحديثين. أراد تيسير المفهوم للصورة في الكشف عن طبيعتها فضرب لها مثلًا بالوردة التي يقع عليها النظر، فيقلب المتأمل نظره في شكلها وأوراقها وألوانها، وهي شيء خارجي مستقل عن ذاته، لا دخل له
1 المجلة عدد 31 ذو الحجة 1378هـ يوليو 1959 السنة الثالثة رقم 3050 مقال د. محمد غنيمي هلال.
2 النقد الأدبي الحديث: د. غنيمي هلال 417.
حينئذ في تعيير شيء من مقوماتها وخصائصها؛ لأنها منفصلة عن وعيه، ولكنه إذا حول نظره عنها إلى شيء آخر فإنها تغيب عن ناظره ولن تشغل وعيه، لكنها لا تفقد وجودها في نفسه، فإن أثارها بعد ذلك، فإنه يتمثلها بمقوماتها كما كانت موجودة، والذي يتمثله حينئذ هو صورتها التي تشغل وعيه، كما كانت الوردة تشغل نظره ووعيه قبل أن يفارقها، ولذلك أصبح للوردة وجودان، وجود لها في الخارج كصورة حقيقية ووجودها في وعيه كصورة ذهنية، وهذه تحتاج إلى جهد في النظر إليها، وأكثر إيجابية في الوعي، فيتحكم فيها وينميها ويطورها، ويغير وضعها ويمزجها بغيرها وينظمها في سلك مع صور أخرى لعلاقة من العلاقات وغير ذلك تصبح ملكًا لعالم الفكر، بعد أن كانت شيئًا من الأشياء، وهذه هي طبيعة الصورة الأدبية"1.
ويذكر المقصود من الصورة الأدبية عند المذاهب الحديثة ويرى أن الكلاسيكية لا تعطي أهمية للصورة؛ لأن عالم العقل والحقيقة عندهم يتضاد مع عالم الخيال والصور، وأن يظل الخيال تحت وصاية العقل، فليست الصورة المادية طريقًا للفكرة، فالفكرة هو ما يدركه العقل مباشرة، وقيمة اللغة تنحصر في دلالتها على الأفكار، لا على الصورة، حتى تخرج مقبولة لا تفجأ الجمهور، ولا تمس ما استقر لديه2.
والخيال عند الرومانتيكية هو القوة الحيوية في الصورة، التي تربط بين صور الطبيعة، وجواهر الأفكار والمشاعر، حتى أصبحت الصور الأدبية تمثل مشاعر
1 المجلة عدد 31 السنة الثالثة مقال الدكتور غنيمي هلال.
2 المرجع السابق نفس العدد.
وأفكارًا ذاتية، مما تجعلها دليلًا يكشف عن قائلها، ولذلك ردوا للعبقرية اعتبارها والمغالاة هذا المذهب في الخيال تشعبت منه مذاهب أخرى كالبرناسة والرمزية والسريالية والمذهب النفساني والتعبيري والوجودية1.
وعلى ذلك فالصورة عنده هي نقل التجربة الشعورية من عالمها المجرد إلى وسائل فنية، تتألف من جزئيات العمل الأدبي، التي تتألف منه وحدته في القصيدة الغنائية أو المسرحية والقصة، وهذه الوسائل إنما هي صور جزئية، ترتبط فيما بينها، وتتدرج في نمو، لتكون الصورة الكلية، والصورة الكلية إنما هي مظهر جديد من مظاهر النقد الحديث، وهي موطن الجمال في العمل الأدبي؛ لأنها لا توجد في الطبيعة، بينما توجد جزئياتها فيها، وفي الصورة الكلية يظهر الفن، وتبدو عبقرية الفنان المصور، والصورة الأدبية إنما هي نموذج حي للتجربة الشعورية التي يمر بها الشاعر في عمله وهي التمثيل الحي للخواطر والعواطف والمشاعر، ووسائلها اللغة والأسلوب والصور الجزئية، وعلى ذلك فالصورة لا ترجع للشكل وحده ولا للمضمون وحده، وإنما ترجع إلى العمل الفني كوحدة يمتزج فيها الشكل بالمضمون، فهي نموذج حي لا يعرف الفصل بينهما، والصورة والمحتوى شيء واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر، وهذا هو ما ذهب إليه عبد القاهر في نظرية النظم، وإن اتسمت عند د. غنيمي هلال بالعمق والسعة وتعدد الأجناس في الصور من شعر وقصة ومسرحية وذلك يرجع لاختلاف العصرين.
وبعد أن عرض المذاهب الأدبية الحديثة وموقفها من الصورة: "لنرى ما يطلب في الصورة من الشعر على حسب ما يؤخذ من هذه المذاهب جملة مما هو مشترك بينها، ولنعرف مبلغ ما اتخذنا من هذا التراث العالمي الفني الخالص بالصورة
1 النقد الأدبي الحديث: د. غنيمي هلال 418/ 448.
الأدبية في توجيه نقدنا وشعرنا وفي ضوء ما قدمنا نهتدي إلى النتائج الآتية:-
أولًا: وهو ما يعنينا أن الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة هي الصورة في معناها الجزئي والكلي. فما التجربة الشعرية كلها إلا صورة كبيرة، ذات أجزاء في بذورها صورة جزئية، تقوم من الصور الكلية مقام الحوادث الجزئية من الحدث الأساسي في المسرحية والقصة، إذن فالصورة جزء من التجربة. ويجب أن تتآزر مع الأجزاء الأخرى في نقل التجربة نقلًا صادقًا فنيًّا وواقعيًّا، وهذا قدر مشترك بين المذاهب الأدبية الحديثة. ولهذا كان محمودًا أن تمثل الصورة -حسيًّا- فكرة أو عاطفة ولو كان هذا التمثيل لأحاسيس تجريدية1.
وليس للصورة الأدبية من المصادر إلا مصدر واحد وهو الخيال، فهو رافدها القوي الأصيل ومجال الجمال فيها، ولا يضر الحقيقة أو يغض من قيمتها أن الشاعر يعبر عنها بالصور المحسوسة القريبة من النفس والعقل معًا. "ثم إن الصورة الأدبية كلية أو جزئية.. مصدرها الخيال وهو وحده مجال الجمال، مسلك المرء فيه مختلف عن مسلكه الواقعي أمام الأشياء في الوجود، وكل ما يجري في عالم الخيال لا يمس الحقيقة في جوهرها الواقعي النفعي الذي هو غير جميل في طبيعته2.
وعلى هذا يكون الخيال هو المنبع الخصب لتكوين وسائل الصورة الأدبية، فيختار به الأديب الألفاظ التي تناسب المعنى وإيقاعها وانسجام حروفها المتلائمة مع العاطفة، ثم يؤاخي بين هذه الألفاظ ويضع الخيال أيضًا -كل لفظ في مكانه ثم يوزع العبارات توزيعًا يحدث نغمًا يتفق مع الغرض العام من الصورة، ثم يؤلف -بالخيال كذلك- من الحقائق فيما بينها صورة لا دخل للخيال في مفرداتها، ولكن الخيال تظهر حيويته وقوته في تكوين صورة رائعة من ألفاظ الحقيقة
1 المرجع السابق: 449.
2 المرجع السابق: 448.
وهكذا فالخيال وحده مصدر هذا كله، وهي نظرية جديدة في مفهوم الصورة، حيث يعتمد كلية على الخيال، ولسنا معه في اتجاهه السابق في الخيال وتفرده بالصورة؛ لأن الاعتماد عليه وحده يمكن الشاعر من الشطط فيه، وتبعد الصورة حينئذ كل البعد عن الواقع ومظاهر الحياة ويترتب على ذلك انفصال الأدب عن المجتمع وموقفه السلبي منه كما كان الأمر في المذهب الابتداعي "الرومانتيكي" القائم على الخيال والإغراق فيه، فهبت المذاهب الأدبية الأخرى في وجهه والتي قامت على أنقاضه وأخذت ترميه بالجنون والهوس والشطط والبعد عن الواقع؛ لأن الأدب لا بد أن يعيش مع المجتمع ويشاركه آلامه وآماله ويحل مشاكله ومناقضاته، ولا يتم ذلك إلا إذا سار العقل مع الخيال جنبًا إلى جنب في تصوير الحقائق، والواقع وكل مظاهر الحياة.
ومغالطة أخرى في تسلط الخيال على العقل تسلطًا كاملًا، فإنه لو كان الخيال كذلك لأفسد العقل وشل تقدمه البناء، ورجعت البشرية قرونًا إلى الوراء، لتعيش في العصر البدائي الأول، يؤم أن كان الخيال هو العقل في الإنسان البدائي، ولما كانت أيضًا هذه الحضارة التي نعيشها؛ لأنها مزيج من الخيال والعقل على حد سواء، وهل يستطيع أحد أن ينكر جمال الصورة الآتية التي مصدرها الألفاظ الحقيقية. وقد نبعت من العقل مجردًا من الخيال حيث يقول الخطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد1
ولا عمل للخيال هنا، وأحكم العقل الصورة حتى صارت مثل صورة الخيال تمامًا، إن لم تفقه، وذلك لأن الشاعر صور المعنى على طريق الشرط والجزاء،
1 دلائل الإعجاز: الإمام عبد القاهر ص194.
واستعمل متى الزمانية، ليدل على عموم الفضل والنفع وبين الغرض من الإتيان في قوله:"تعشو" وهو الكرم، ثم ذلك التقسيم الجميل بين الكلمات في الشظر الأخير.
ثانيًا: ألا تكون الصورة برهانية عقلية، فالبرهان يخص المسائل العلمية والعقلية، وهو أساس النتائج الصحيحة في عالم التجريد، ويقابل التصوير الحسي، الذي هو من طبيعة الشعر، كما يتسم البرهان بالصراحة، التي لا تتفق مع الوحي في الصورة يقول:"ومما يضعف الصورة إذن أن تكون برهانية عقلية؛ لأن الاحتجاج أقرب إلى التجريد من التصوير الحسي الذي هو طبيعة الشعر. ثم إن الاحتجاج تصريح لا إيحاء فيه، والتصريح يقضي على الإيحاء الذي هو خاصة من خصائص التعبير الفني"1.
ثالثًا: ألا يقف الشاعر بصورته عند الحس الظاهر، ويقتصر فيها على الوصف، بل لا بد أن تشمل على مختلف الأحاسيس والعواطف والمشاعر، حتى تكون الصورة أكثر ارتباطًا بالشعور، ولا محصل فيها للتلاعب بالألفاظ والصور، من غير ارتباطها بتجربة الشاعر الشعورية، كتشبيه الخد بالتفاح أو الورد. يقول: وكلما كانت الصورة أكثر ارتباطًا بالشعور كانت أقوى صدقًا، وأعلى فنًّا، ولهذا كان مما يضعف الأصالة اقتصاد الشاعر في تصوير شعوره على حدود الصور المبتذلة، التي تقف عليها الحواس جميعًا، والتي هي صور تقليدية. وهو ما اتجه إليه العقاد تمامًا. وقد نبه د. غنيمي على ذلك بل رد حديث الشعور في الصورة2 إلى الإمام عبد القاهر الذي أشار إليه في قوله:"ولعل عبد القاهر قد تنبه إلى شيء من ذلك، حين استحسن في الصورة ظهورها من غير معدنها واجتلا بها من النيق البعيد3".
1 النقد الأدبي الحديث د. غنيمي هلال 449.
2 المرجع السابق ص453.
3 المرجع السابق ص552.
والدكتور غنيمي هلال حينما جعل وظيفة الصورة كلية أو جزئية نقل التجربة الشعرية، واعتز بالصورة ورفع من منزلتها، فجعل القصيدة صورة فحسب، مما دفع بعض النقاد المعاصرين للرد عليه لإهماله الفكرة في القصيدة مما يؤدي إلى إخراج طائفة من القصائد العربية الممتازة من النطاق الشعري، وبذلك يكون قد أعطى للصورة من العناية قدرًا كبيرًا يفوق الفكرة في القصيدة. وذهب آخر1 إلى أن الصورة الأساس الأول والأخير في الحكم على القصيدة فلا تكون إلا بالصورة، لذلك كله يقول مصطفى السحرتي وهو يرد على الناقدين السابقين:
"إن في هذا غلوًّا كبيرًا، وفيه إخراج لطائفة من القصائد العربية وغير العربية الممتازة من النطاق الشعري، إذ قد تحتوي القصيدة على فكرة وتخلو من الصورة الشعرية والشعر ليس صورة كلية في كل أنواعه، بل إن هناك أنواعًا من الشعر تعد من أرقى أنواعه وتعرى من الصور، وتعد نصرًا لقائلها، وليس معنى ذلك أننا ننكر النظر إلى القصيدة كصورة كلية، ولكننا ننكر هذه المغالاة التي سار عليها بعض الجامعيين في إعطاء الصورة الشعرية منزلة كبيرة القدر، حتى إن بعضهم زعم أنه يستطيع أن يقدر الفن الشعري بما فيه من صور وهو د. ماهر حسن فهمي في كتابه "المذاهب النقدية" على أن الصورة هي بنت التجربة والانفعال والفكرة، فالحكم على القصيدة لا يكون بالصورة، بل بالتجربة ومادتها وأدواتها، ومن أبرزها الصورة والإيقاعات الموسيقية"2.
1 المذاهب النقدية ص203.
2 النقد الأدبي من خلال تجاربي: الأستاذ مصطفى السحرتي94.
الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي:
ويرى د. خفاجي "أن ما ذهب إليه د. غنيمي هلال في الصورة يؤدي إلى إهماله الفكرة من القصيدة أو من الصورة الكلية وهي كما نعلم عنصر أساسي من عناصر القصيدة، وركن ركين في بنائها الفني، بل يهمل بقية العناصر الأخرى من موسيقى وعاطفة وانفعال، وهذه مغالاة تؤدي إلى إهمال القيم النقدية التي يقوم عليها النص الأدبي، فيقول في هذا الرد:
"ويغالي بعض الكتاب فيجعل القصيدة صورة فقط، مهملًا الفكرة وغير ذلك من عناصر القصيدة كما فعل غنيمي هلال في كتابه المدخل حين ذهب إلى أن التجربة تكون بواسطة الصورة الكلية، أو الصورة الجزئية أي إن وسيلة التجربة هي الصورة"1.
وعلى ذلك يرى أن الصورة الأدبية هي التعبير بأسلوب جميل عن عاطفة الأديب سواء أكان عنصر الفكر هو العنصر البارز أو عنصر العاطفة هو الأوضح، والصورة هي الشكل في النص الأدبي وتقابل المضمون الذي هو الفكرة، وتشمل العبارة أي الأسلوب، والخيال الذي يلون العاطفة ويصورها2"، ثم يضع ميزانًا دقيقًا في المعادلة بين الشكل والمضمون حيث لا يطغى أحدهما على الآخر وإلا خرج الكلام من باب الأدب فيقول:-
"فيجب على الأديب أن يوازن بينهما موازنة دقيقة فلا يطغى المضمون على
1 دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي 293 طبعة أولى- المحمدية بالأزهر.
2 النقد العربي الحديث ومذاهبه: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ص46 الحلقة الثانية المحمدية.
الشكل أي الصورة، وإلا خرج الكلام من باب الأدب إلى باب العلم، ولا نطغى الصورة على المضمون وإلا كان الكلام أدبًا لفظيًّا لا قيمة له في باب الفكر"1.
ويحدد عناصر الصورة الأدبية في الدلالة المعنوية للفظ فيها والعبارة، ثم المؤثرات الأخرى في دلالتها من الإيقاع الموسيقي والصور والظلال، التي توحي بها العبارات ثم تناول الموضوع وحسن عرضه وتنسيقه، وروعة الخيال، ووحدة العمل الأدبي وأصالة الأديب، وظهور شخصيته في التصوير والوحي فيه، ويوضح هذه العناصر بالتفصيل واحدة واحدة مع إيراد الأمثلة التي تبرز هذه المعالم في الصورة، وتشخص العناصر فيها2، يقول:"تتكون عناصر الصورة من الدلالة للألفاظ والعبارات".
ويضاف إلى ذلك مؤثرات أخرى يكمل بها الأداء الفني، وهذه المؤثرات هي الإيقاع الموسيقي للكلمات والعبارات والصور والظلال، التي يشعها التعبير، ثم طريقة تناول الموضوع أي الأسلوب الذي تعرض به التجربة الأدبية والصورة المثيرة للالتفات، هي القادرة قدرة كاملة على التعبير عن تجارب الأديب ومشاعره، والتي تتجمع فيها روعة الخيال والموسيقى، ووحدة العمل الأدبي، وشخصية الأديب، وتخيره للألفاظ تخيرًا فنيًّا دقيقًا3.
ويرى أيضًا أن العلاقات التي تكون بين ألفاظ الصورة تعد عنصرًا أساسيًّا من عناصر التصوير، وهو ما يسميه عبد القاهر الجرجاني بالنظم يقول:
"العلاقات الأسلوبية بين الألفاظ هي في رأي عبد القاهر موطن البلاغة،
1 النقد العربي الحديث ومذاهبه الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ص46 الحلقة الثانية المحمدية.
2 المرجع: من ص46، 54.
3 المرجع: 4.
وهي ما عبر عنه بالنظم، وما يعبر النقاد عنه بالشكل أو الصورة، فمن مجموع العلاقات بين الألفاظ في النص الأدبي تتكون الصورة، وفيها تظهر البلاغة أو الجمالية، وهذه هي أساس نظرية التحليل اللغوي عند سوسيسر السويسرى، وهي نظرية سبق إليها عبد القاهر ناقدنا الكبير. فاللفظ والمعنى لا يمكن فصلهما عن بعض، إنهما وجه الصورة وعمادها وهذه نظرية الكثير من النقاد العالميين، وبخاصة النقاد الجماليون"1.
ويحدد معالم الصورة فيقول: "وأما الصور الشعرية فنعني بذلك أنك حين تقرأ للشاعر قطعة يكون الشيء كأنه مرسوم أمامك. بوضوح شديد ومجسم "بارز" تجاه بصرك2.
وما أشار إليه ووضحه هو ما عبر عنه الدكتور ناجي حيث يرى أن الشعر يجب أن يكون أسلوبه معبرًا بالصور أي يرسم الأسلوب مواقف الشاعر وأفكاره وتجاربه وانفعالاته رسمًا معبرًا قويًّا واضحًا بحيث تصبح فكرة الشاعر مصورة في صورة حقيقية تزخر بالعاطفة والتجربة والانفعال، ولا مجرد تصوير عادي ميت، وتصبح وكأنك أمام مناظر متحركة موحية مؤثرة3.
وهو ما ذكره د. خفاجي "في كتابيه""مذاهب الأدب" و"نداء الحياة" إثر ما كتبه بعض شباب الشعراء ممن ذهبوا إلى أن الشعر صورة فقط"4.
1 منهج عبد القاهر في كتابه دلائل الإعجاز تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ص20.
2 الأدب العربي الحديث ومدارسه. الحلقة الأولى: د. خفاجي ص270 المحمدية.
3 مجلة أبولو ديسمبر 1932م.
4 دراسات في النقد الأدبي: د. خفاجي ص294.
الدكتور شوقي ضيف:
ويرى د. شوقي ضيف أن الصورة هي نموذج العمل الفني المتكامل الذي يتفاعل مع المضمون والشكل، فقد يظن القارئ، أن الجمال يرجع إلى الشكل من الألفاظ والصور والإيقاع، ولكنه حينما يدقق النظر وينعم الفكر، يراها تدخل في المعاني التي تعبر عنها، وتنمو في كيان النفس الداخلي مع الخواطر والمشاعر والعواطف، فبعض الصفات التي ترجع إلى اللفظ في الظاهر كالجناس وانسجام الحروف إنما ترد في الحقيقة إلى المضمون؛ لأنها تعبر عنه وتتلاءم معه، فالصورة كالشجرة النامية، لا يستطيع الإنسان أن يميز لحاها عن هيكلها، ويفصلها عن مصادر الحياة فيها، والنمو الذي يسري في كل خلية من خلاياها، ولا يمكن فصل المعاني والأحاسيس إذا كانت في الذهن ومجردة، ولا عبرة لها، ما لم تأخذ قالبًا منفصلًا عن نفس الشاعر. "وإذن فلا فارق بين المعنى والصورة أو اللفظ في نموذج أدبي، إلا إذا جعلنا المعنى أو المضمون هو الأحاسيس الأولى عند الشاعر أو الكاتب قبل أن تستوي في الصورة الأدبية وهذا لا شأن لنا بها، إنما الشأن في المعاني التي يحتويها النموذج. ومعنى ذلك أن مادة الأدب وصورته لا تفترقان فهما كل واحد
…
كما تنمو الشجرة من ساق ضئيلة وتتشعب إلى فروع وأغصان كثيرة"1، فالشكل والمضمون لا ينفصل أحدهما عن الآخر، والصورة إنما هي نموذج لهما معًا تتخذ وسائلها من روافد عديدة وهي الأفكار المجردة والأحاسيس والمشاعر والعواطف، ثم الألفاظ والصور والموسيقى، التي تجسد هذه المعاني الذهنية والداخلية.
1 في النقد الأدبي: د. شوقي ضيف ص164.
وهو يتفق مع د. غنيمي هلال في اتجاهه؛ لأنهما قد استمداه من منبع واحد، وهو ما انتهت إليه المذاهب الأدبية الحديثة في الغرب، وأرى أن هذا الاتجاه جعل الأفكار والمشاعر رافدين من روافد الصورة كغيرها من الروافد الأساسية لها، ولا يأتيان تبعًا للروافد التي تقوم عليها الصورة مجردة من المضمون، حين دراستها مستقلة كقيمة من القيم الشعرية العديدة، لا ينبغي أن يطبق هذا على الصورة في الشعر الغنائي، ويتفق في رأينا مع بعض الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والمسرحية؛ لأن الأحداث والحكاية والفصول فيها تكون الشكل الفني لها، وهي في ذاتها مضمون القصة والمسرحية، بحيث لا يمكن الفصل بينهما أما الصورة في الشعر الغنائي فإن سلمنا بإمكان الفصل فيها بين اللفظ والمعنى، وهذا لا يتأتى إلا وهي في الذهن حينما تتشكل من الأفكار والمشاعر والتجربة الشعرية والصورة كلية قبل انفصالها عن الشاعر، إن سلمنا بذلك فلا نسلم بالفصل بينهما بعد تشكيل الصورة وبروزها إلى الخارج عن نفس الشاعر، ليتمكن الناقد من الفصل بين المضمون وبين الصورة، التي تتخذ نسيجها من مواقع الألفاظ في العمل الفني، وانسجام حروفها وألفاظها بعضها مع بعض، ثم التلاؤم الذي يتم بينها في ذاتها وبين ما يهدف إليه الكاتب، ثم ما توحي به من معان جديدة لم تكن لمفردات الألفاظ من قبل، وعلى ذلك فمن الممكن للناقد أن يتعرف على خصائص الشكل، ثم يتبع ذلك التعرف على خصائص الصورة، وما أضافته لتكوين العمل الفني من معان جديدة، وهي في ذاتها نبع العبقرية في أخص خصائص الصورة الأدبية، التي لم تأت عن طريق المضمون وحده ولا عن طريق الشكل وحده، بل جاء من تأليف النص الأدبي على مثال اختارته عبقرية الشاعر الملهمة في التصوير، ولذلك نستطيع أن نفرق بين شاعر مصور للدقائق التي لا تفلت منه،
وشاعر معبر بجميع الألفاظ من هنا وهناك، ليسلم له المعنى لا لخطأ في اختيار الألفاظ المعبرة، ولكن لعدم الإحسان في تنسيقها وإحكام النسج لها.
ولكن د. شوقي ضيف يختلف مع د. غنيمي في النظرة إلى الخيال فليس الخيال هو المصدر الفريد في تركيب الصورة كما عند الثاني، ولكنه يشترك مع غيره من الوسائل التي سبق ذكرها في بنائها، إلا أن الخيال عنده أقوى الوسائل، حتى من النظم، على عكس ما عند عبد القاهر، فيراه د. شوقي ضيف جوهر الأدب؛ لأنه يبتكر الصور ابتكارًا، ولا يعتمد المصور على الصور القديمة فحسب؛ لأن التكرار فيها والشطح بها، يفسدها ويحيلها وهمًا، تتحطم فيه حواجز الحس والعقل معًا، وتصبح الصورة هذرًا كهذيان المريض1، لذلك يرى أن الخيال البديع في الصورة هو ما يعينها على الوضوح واستقامة الفهم فيها، حتى لا تتحرك إلى ما يشبه الزئبق المتماوج بدرجات الحرارة المختلفة، ارتفعت أو انخفضت، ولا يأتي بالأوهام والمحالات وما لا يألفه الحس والعقل معًا بل الخيال الجيد ليس هو الذي يشطح ويشط ويأتي بالأوهام والمجالات، وإنما هو الذي يجمع طائفة من الحقائق: حقائق الوجدان وانفعالاته ويربط بين أشتاتها ربطًا محكمًا، لا ينكره الحس ولا العقل. أما إن تحول إلى صنع صور مبهمة شديدة الإبهام، فإنه يبتعد عنا وعن محيطنا وأرضنا2.
الدكتور عز الدين إسماعيل:
والصورة الأدبية في نظر د. عز الدين إسماعيل، لا تختلف في مفهومها عند من سبق من النقاد المحدثين إلا أنه تناولها بفلسفة نفسية أكثر، وهو يلتقي معهم في أنها تمثيل للتجربة الشعورية، وتقوم بعملية النقل للفكرة التي انفعل بها
1 المرجع السابق: ص172.
2 المرجع السابق: ص175.
الشاعر، بحيث يتخذ الشاعر الخيال وسيلة من وسائل التعبير عن تجربته على نحو مؤثر في الآخرين، كما يتخذ الناثر الألفاظ وسيلة لنقل أفكاره، وليس معنى ذلك أن التجربة خالية من الفكر، بل هي تتكون من فكرة وانفعال، ولا يمكن بحال فصل الصورة عن محتواها؛ لأنهما يمثلان شيئًا واحدًا وهو التجربة، وأن الألفاظ في الصورة حسية، لتكون أقرب إلى الحواس المدركة، وآكد للنشاط الفكري، ومن هذه الألفاظ تتكون الصور الجزئية ثم غيرها من الصور، لتكون القصيدة، وهي صورة كلية للتجربة التي مر بها الشاعر" وتقسيم القصيدة إلى فكرة وصورة موسيقية ينظر إليها على حدة خطأ ظاهر "لأن الواقع" أن الصورة الشعرية قد تنقل إلينا الفكرة التي "انفعل" بها الشعر.
ولما كانت الصورة دائمًا تعتمد على الألفاظ الحسية.. فإنها لذلك كانت أقرب شيء إلى إدراكنا والصورة كما تكون مجموعة من الألفاظ تكون لفظًا واحدًا. وبذلك يمكننا أن نقول: إن القصيدة مجموعة من الصور"1.
والخيال في الصورة عنده له دوره كما أن للعقل حسابه فيها، فهو يراها في الشعر الحديث رؤية واعية ليس بها شطط ولا هوس، وإنما يسير العقل بجوار الخيال، لذلك لم تكن رؤية حالمة. كما تتمثل في الشعر الحديث بأن نقرر أنها "رؤية"، ولكنها ليست رؤية حالمة. أنها رؤية واعية تلتقط وتسجل وتختار وتركب وتكون مشهدًا كاملًا"2.
ويرى أيضًا أن الصورة الكلية تمثيل للتجربة الشعورية في القصيدة، من حيث هي كل لا يتجزأ، ولا ينقسم ولا يتخلخل الموضوع الكلي، الذي يوحي
1 الأدب وفنونه د. عز الدين إسماعيل 116 ط ثانية 1958.
2 المرجع السابق: 122.
بالهدف من العمل الفني والغرض منه، سواء أكان هذا الهدف دينيًّا أو أخلاقيًّا أو تعليميًّا أو اجتماعيًّا أو نفسيًّا، فإذا قال ابن الرومي مثلًا:
لو غاص الماء بها غوصة
…
صاد بها حيتانها أجمعا
أو قابل الريح بها مرة
…
لم ينبعث في خطوه أصبعا1
فيرى عز الدين أن الصورة الكلية في بيتي الشاعر مثلًا هي ما توحي به من السخر والهزء والإضحاك ويسميها الصورة الثانية، وهي ما وراء السطح مما يفهم أو يحس ولم يفطن إليها إلا قليل من النقاد العرب القدامى2.
وأما الصورة الجزئية ويسميها الصورة الأولى، وتوجد في سطح العمل الفني مما يدعى بالسطح الجمالي، وتتكون من الصورة الزمانية، التي تبدو في تنسيق المسافات الصوتية فيها ومن الصورة المكانية وهي المرئية أو المفهومة من اللفظ الذي يدل على شيء في اللغة، وعلى الجملة فهي التنسيق والدلالة المفهومة معًا، واهتم العرب بهذه الصورة. وسمى عز الدين نقد الصورة على هذا النمط بالنقد الجمالي الذي يعتمد على قواعد معينة تكتسب بالذوق والروح3، وتتمثل الصور الجزئية في بيتي ابن الرومي السابقين عنده، في تشبيه البيت الأول، وكناية البيت الثاني، ويرد هذه القواعد في النقد القديم إلى قاعدتين عامتين هما: الإيقاع والعلاقات4.
يقول د. عز الدين: "فكل عمل فني له سطح هو ما يسمى بالسطح الجمالي، وهو المقصود بالصورة الأولى، ووراء هذا السطح شيء يفهم أو يحس، وهو
1 الديوان المصري الجزء الثالث مصور عن نسخة بمكتبة نور عثمانية: نسخ الأمير الكبير العالم العامل شهاب الدين أحمد بن الأمير الكبير عماد الدين بمعهد المخطوطات العربية.
2 الأسس الجمال د. عز الدين إسماعيل ص176 طـ 1955.
3 المرجع السابق 176.
4 المرجع السابق ص221-233.
المقصود بالصورة الثانية. كان طبيعيًّا أن يخيل إلينا أن الصورة الأولى في اللغة، لا بد أن تكون في تنسيقها الصوتي فحسب. ذلك أن الدلالة المكانية "أو المفهومة" للألفاظ هي المعاني التي تدل عليها هذه الألفاظ، ولكن الحقيقة وطبيعة اللغة كما رأينا تحتم أن يكون التنسيق الصوتي والدلالة المفهومة معًا يمثلان الصورة الأولى في العمل اللغوي، وتظل الصورة الثانية فيه هي ما يفهم أو يحس وراء هذه الصورة بعنصريها. ومثل لها بقوله: "وعندما نقول: باب النجار مكسور، فإن الصورة الأولى لهذه العبارة تتمثل في التنسيق الزمني للعبارة كلها، با-بن-جا-ر-مك-سو-رن، وفي الدلالة المكانية المفهومة للباب والنجار والكسر ومن ثم لا تكون الصورة الأولى في العمل اللغوي هي الصورة الصوتية فقط، بل إنها تشمل كذلك الصورة المكانية، ثم يحدد معنى الصورة الثانية في هذا المثال بقوله: وكانت الصورة الثانية هي المعنى الذي وراء هذه الصورة الأولى بعنصريها الزماني والمكاني، أي بصوتها الموسيقي ودلالتها المكانية، وليكن هذا المعنى هو السخرية مثلًا1، وهذا اتجاه حرفي في فهم الصورة وقد فسر به الناقد قضية اللفظ والمعنى وحل مشكلتها حيث جعل المعنى لا ينفصل عن اللفظ، وذلك في الصورة الأولى والمعنى يكون قائمًا مستقلًّا بنفسه في الصورة الثانية، وعلى ذلك فقد انتهت المشكلة على يديه، فالذين يربطون بين اللفظ والمعنى يقفون عند الصورة الأولى، والذي يعتنقون المعنى يقصدون الصورة الثانية2.
وما انتهى على يديه اليوم هو ما أراده الإمام عبد القاهر من المعنى ومعنى المعنى. وما أراده النقاد جميعًا من دلالة الصورة أولًا. وما توحي به ثانيًا وهم
1 المرجع السابق ص171-173.
2 المرجع السابق: 174.
جميعًا أقرب منه إلى فهم الصورة الأدبية وتقدير قيمتها الفنية والخلقية معا، واتجاه د. عز الدين إسماعيل هذا يقضي على القيمة الفنية للصورة بحيث تخلص للقيمة الخلقية؛ لأنها عنده هي المقصود من العمل الأدبي، وهي الصورة الثانية الناتجة عن القصيدة كلها، التي هي تمثيل للتجربة الشعورية في نفس الشاعر، فلو أداها بألفاظ علمية، لا خيال فيها ولا تعبير بالمحسات ولا اختيار للألفاظ حى يتحقق الإيقاع لأدى الشاعر تجربته بدقة وحقق الهدف منها وهو المقصود بالصورة الثانية عنده، وحينئذ فلا تتحقق القيمة الفنية اللازمة في الشعر، وهو خطر هذا التقسيم الحرفي.
والأمر الثاني في خطورة التقسيم الحرفي الذي أدى إلى درجة الاستحالة في الفصل بين الصورتين، أنه جعل المعنى المجرد كالسخرية صورة، ولا يتأتى أن يكون التجريد صورة إلا في الألفاظ والعبارات ولا جسم لها عنده، لانفصالها فيما وراء السطح؛ ولأنها تمثل التجربة وهي مضمرة في النفس، تحتاج إلى تشكيل لفظي لن يقع شيء من ذلك على هذه الصورة من التفتيت الحرفي.
ولو عبر الناقد على الصورة بالتنسيق الصوتي والدلالة اللفظية معًا لكان أقرب إلى الصواب؛ لأنها تمثل التجربة بمعنييها الأول والثاني، أي بالمعنى ومعنى المعنى، فالتجربة في عالم التجريد إنما هي صورة مكتملة بوسائلها، توحي بالمعنيين معًا قبل تجسيدها في عالم المحسات والمرئيات.
ولا نغمط الباحث حقه فيما عدا ذلك، فئقد كان على عمق كبير في التحليل النفسي للصورة الأدبية وفلسفتها، وهو جدير بالإعجاب والتقدير حيث ربط بين الصورة وبين نفسية الشاعر، فقسم الصورة إلى ركنين أساسيين، وهما: الصورة الزمانية "الموسيقية" وهي التجانس بين الحركات والسكنات في كل مقطع
والانتقال من مقطع إلى آخر يحتاج إلى حركة، وفي الحركة التجدد في الزمان كما في لفظ "إبراهيم" فنقول: إب -را- هي- مو، فكل مقطع له زمن عند النطق وحركة ننتقل منها إلى أخرى وهكذا.
والصورة المكانية: وهي دلالة اللفظ ومفهومه كدلالة إبراهيم على ذات وهي مرتبطة بالتنسيق الزمني السابق لا تنفصل عنه، والصورة الزمانية للفظ تعطي الشاعر صورة إيقاعية أو شحنة من النغم، تتفق مع الشعور، في اتساق تام بينه وبين الحركات والسكنات في اللفظ ثم في العبارة والبيت، ثم في القصيدة كلها، لذا يصبح "البناء الموسيقي للقصيدة هو الصورة الحسية لها"1 وواضح أن الصورة نبعت من الشعور النفسي للشاعر.
ومن هنا جاز للشعراء حديثًا عنده أن يجددوا في البناء الموسيقي للقصيدة والصورة، فقد اتجهوا إلى أنماط معينة من الإيقاع ما بين شعر مرسل، أو خفيف الوزن أو نظام المقطعات أو شعر التفعيلة إلى غير ذلك لتشكيل الصورة الإيقاعية للقصيدة التي تعبر "عن محاولة لتنسيق هذه الصورة وفقًا لحركات النفس التي تتجدد وتتلون مع كل عاطفة وكل شعور"2.
لذا كانت موسيقى الصورة الأدبية في الشعر الحديث تشكيلًا نفسيًّا قبل أن تكون تشكيلًا طبيعيًّا، متمثلًا في بحور الخليل بن أحمد وقوافيه المتوارثة3.
والصورة المكانية هي أن يقوم الشاعر فيها بخلق التوافق النفسي بينه وبين
1 التفسير النفسي: د. عز الدين إسماعيل 63 ط دار المعارف 1962.
2 المرجع السابق: ص65.
3 المرجع السابق: ص65.
ما في العالم الخارجي ومظاهر الطبيعة، وبناء على هذا التوافق يختار لفظًا يتلاقى فيه العالم الخارجي بالشعور النفسي، وتكون عملية إخضاع الطبيعية لحركة النفس وحاجتها1 هي نفسها تشكل الصورة الأدبية، وعلى هذا يصبح عالم الفكر المجرد في تجربة المشاعر واقعيًّا مرئيًّا، بعد أن كان قبل ذلك غير واقعي؛ لأنه تعانق مع مظاهر الطبيعة في النفس وبرز من خلالها عن طريق التوافق النفسي السابق.
وليست الصورة الأدبية واقعية بالمعنى الحرفي للفكر المجرد؛ لأنها في نفس الشاعر غير ما تناوله من مظاهر الواقع، ولذلك تكون الصورة أقرب إلى اللاواقعية من الواقعية؛ "لأن الصورة الفنية تركيبة عقلية تنتمي في جوهرها إلى عالم الفكرة أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع"2.
وبتجمع خيوط المعاني السابقة الصورة الزمانية والمكانية يتكون نسيج الصورة الأدبية "التي ينسجم فيها الإيقاع والدلالة مع الحالة الشعورية النفسية للشاعر وتكون تمثيلًا صادقًا لتجربته الشعورية".
وحين يحدد المفهوم الكلي لما يقول: "وهنا تلتقي الفلسفة النفسية للصورة الشعرية والتفسير النفسي للمكان، فنحن نقول: إن الشاعر يشكل "الصورة" وأنه يستمد في تشكيل لها عناصره من عينات ماثلة في المكان، وكأنه يصنع بذلك نسقًا خاصًا للمكان لم يكن له من قبل تمامًا كالنسق الزماني "الموسيقي" الخاص الذي صنع به الصورة الصوتية للقصيدة"3.
إلى هنا يكون الناقد واضحًا في تفسير الوصرة تفسيرًا عميقًا. وحين يغالي في هذا العمق، يتحول الجمال الفني فيها إلى ألغاز الفلسفة التي لها وجهها، ولا تنتمي
1 المرجع السابق: ص65.
2 المرجع السابق: ص66.
3 المرجع السابق: ص66.
إلى الفن الجميل بأي وجه فيرى "أن الصورة الشعرية تركيبة غريبة معقدة بل هي بلا شك أكثر تعقيدًا من أي صورة فنية أخرى"1.
ولذلك أعطى لها رمز "التوقيعة" التي تتناسب مع غموض الصورة، والقصيدة على ذلك تشتمل على عدة توقيعات لتشكيل الصورة الشعرية، والتوقيعة "هي الوحدة الحيوية في الشعر التي لا تقبل الاختصار"2 فهي رمز معقد لا يفهم ولا يعرف كنهه، وهو يريد بذلك أن يشيع الغموض في الصورة ظنًّا منه، أنه نوع من المهابة والحذر الذي يضفي على الشيء الجمال والجلال.
ولكن الحقيقة أن التوقيعة في فن القول ليست رمزًا كما يتصور الناقد؛ لأن كل توقيعة في الصورة لا بد أن تشمل التصوير الموسيقي للفظ، والمعنوي له، وتوافقهما مع الشعور، ومن هذه التوقيعات يتكون النظم الذي تتألف منه الصورة، وهكذا تتكون القصيدة، والأولى بهذا اللفظ أن يكون مصطلحًا للفن التشكيلي كالرسم والنحت والموسيقى والرقص لكونها توقيعات رمزية لا يستطيع فهمها، وإن كنا نطرب لها ونحس بجمالها، وعلى ذلك يكون الفرق ظاهرًا بين لغة الجماد الحي وبين لغة العقلاء؛ لأننا "نفكر بالألفاظ" أي أن الألفاظ هي مظهر إداركنا الفكري، وعمل الأديب تهيئة الجو الفني للألفاظ لتشع على قارئها وسامعها الظلال والإيقاع، وترسم الصور المعاني في رشاقة وحركة وتتابع وعذوبة3.
وبذلك تكون الصورة مثيرة للالتفات؛ لأنها هي القادرة قدرة كاملة على التعبير عن تجارب المتكلم ومشاعره، والتي تتجمع فيها روعة الخيال والنغم،
1 المرجع السابق ص75.
2 المرجع السابق ص76.
3 النقد العربي الحديث ومذاهبه: د. محمد عبد المنعم خفاجي 46، 47.
ووحدة العمل الأدبي، وتظهر فيه شخصية الأديب وتخيره للألفاظ تخيرًا دقيقًا كما يرى الدكتور خفاجي.
ومما تقدم من عرض لمفهوم الصورة الأدبية "عند نقادنا المعاصرين" في الشعر والنقد الحديث لعله يكون قدرًا كافيًا، ودليلًا واضحًا على ما اتجه إليه غيرهم من النقاد الذين لا يخرجون من محيط ما تقدم.
وبناء على ما سبق في النقد القديم والنقد الحديث، والمناقشة التي قدمناها تعقيبًا على اتجاهات النقاد في توضيح مفهوم الصورة الأدبية نخلص بعد ذلك إلى تحديد المفهوم على وجه التقريب لنفرق بين الصورة والأسلوب والرسم والموسيقى ومكانها من الشعر، والعناية منها ثم نحدد في إيجاز خصائصها ومنابعها وعناصرها.