المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه] - الضياء اللامع من الخطب الجوامع - جـ ٧

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌[الخطبة الثالثة في صفة الحج والعمرة]

- ‌[الخطبة الرابعة في محظورات الإحرام]

- ‌[الخطبة الخامسة في الأضحية]

- ‌[الفرع السادس في الأخلاق والآداب]

- ‌[الخطبة الأولى في شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الخلق]

- ‌[الخطبة الثانية في أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة]

- ‌[الخطبة الثالثة في شيء من سنن الفطرة]

- ‌[الخطبة الرابعة في جمل من الآداب]

- ‌[الخطبة الخامسة في بر الوالدين]

- ‌[الخطبة السادسة في صلة الأرحام]

- ‌[الخطبة السابعة في الحث على الصدق]

- ‌[الخطبة الثامنة في التحذير من الكذب]

- ‌[الخطبة التاسعة في التحذير من زلات اللسان]

- ‌[الخطبة العاشرة في التحذير من الغِيبة والنميمة]

- ‌[الخطبة الحادية عشرة في الحث على الأُلْفَة بين المسلمين والمودة]

- ‌[الخطبة الثانية عشرة في شيء من مفاسد الزنا]

- ‌[الفرع السابع في المعاملات]

- ‌[الخطبة الأولى في التحذير من آكل المال بغير حق]

- ‌[الخطبة الثانية في بيع ثمار النخيل]

- ‌[الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه]

- ‌[الخطبة الرابعة في التحذير من الربا في الذهب]

- ‌[الخطبة الخامسة في حكم بيع البيوت المرهونة]

- ‌[الخطبة السادسة في التحذير من التعدي على الغير في ماله]

الفصل: ‌[الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه]

[الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه]

الخطبة الثالثة

في الربا والتحيل عليه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.

أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه احذروا ما حذركم الله منه إن كنتم مؤمنين واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله تعالى ومقته إن الربا من أكبر الكبائر التي حذر الله تعالى عنها في كتابه وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في سنته وأجمع المسلمون على تحريمها. اسمعوا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279] اسمعوا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130 - 132] واسمعوا قول الله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275 - 276] اسمعوا هذه الآيات العظيمة وما تتضمن من التحذير من الربا والوعيد عليه اسمعوا هذه الآيات وافهموها وعوها ونفذوها فإن لم تفهموها فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أو طالعوا ما قاله المفسرون فيها إن كنتم تقدرون لقد قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسير الآية الثالثة: ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي من الجنون والصرع. ولقد صدق رحمه الله تعالى فإن المرابين كالمجانين لا يعون موعظةً ولا يرعوون عن معصية نسأل الله لنا ولهم الهداية.

ص: 535

أيها الناس اسمعوا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء؛ رواه مسلم، اسمعوا ما صح عنه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «رأى في منامه نهرًا من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان فجعل الرجل الذي في نهر الدم كلما جاء ليخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فيرجع كما كان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل الذي رآه في نهر الدم فقيل هذا آكل الربا» رواه البخاري. اسمعوا ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا» . واسمعوا ما جاء في الحديث:«الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه» رواه الحاكم وله شواهد.

أيها المسلمون: لقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته الربا أين يكون وكيف يكون بيانًا شافيًا واضحًا إلا لمن به مرض أو عمى لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه مسلم. وفي لفظ له «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» . لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصناف الستة إذا بيع الشيء منها بجنسه مثل أن يباع الذهب بالذهب فلا بد فيه من شرطين اثنين أحدهما أن يتساويا في الوزن والثاني أن يتقابض الطرفان في مجلس العقد فلا يتفرقا وفي ذمة أحدهما شيء للآخر فلو باع شخص ذهبًا بذهب يزيد عليه وزنًا ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام والبيع باطل ولو باع ذهبًا بذهب مثله في الوزن ولكن تفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصناف الستة إذا بيع أحدها بجنس آخر فلا بأس أن يكون أحدهما أكثر من الآخر ولكن لا بد من التقابض من الطرفين في مجلس العقد بحيث لا يتفرقان وفي ذمة أحدهما للآخر شيء. فلو باع ذهبًا بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل.

أيها الناس لقد كان التعامل سابقًا بالذهب والفضة وأصبح التعامل الآن بالأوراق

ص: 536

النقدية بدلًا عنها والبدل له حكم المبدل فلا يجوز التفرق قبل القبض إذا أبدلت أوراقًا نقديةً بجنسها أو بغير جنسها فلو قلت لشخص خذ هذه الورقة ذات المئة اصرفها لي بورقتين ذواتى خمسين فإنه يجب أن تسلم وتستلم قبل التفرق فإن تأخر القبض من الطرفين أو أحدهما فقد وقعا في الربا. ولقد صار من المعلوم عند الناس أنك لو أخذت من شخص مائة ريال من النقد الورقي بمئة وعشرة مؤجلة إلى سنة أو أقل أو أكثر لكان ذلك ربًا وهذا حق فإن هذه المعاملة من الربا الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة بين الربا المقصود والذريعة ولكن من المؤسف أن كثيرًا من المسلمين صاروا يتحيلون على هذا الربا بأنواع من الحيل. والحيلة أن يتوصل الشخص إلى الشيء المحرم بشيء ظاهره الحل فيستحل محارم الله بأدنى الحيل.

وإن الحيلة على محارم الله تعالى خداع ومكر إنها خداع ومكر يخادع بها العبد ربه يخادع بها من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أفيظن هذا المخادع الذي لاذ بخديعته أن أمره سيخفى على الله أفلا يقرأ قول الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرم الله ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا ينطلي إلا على مثله ممن جعل الله على بصره غشاوة.

إن الحيل على الربا كثيرة ولكن أكثرها شيوعًا أن يجيء الرجل لشخص فيقول له إني أريد كذا وكذا من الدراهم فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر أو اثني عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه ثم يذهب الطرفان إلى صاحب دكان عنده بضاعة مرصوصة معدة لتحليل الربا قد يكون لها عدة سنوات إما خام أو سكر أو زر أو هيل أو غيرها مما يتفق عند صاحب الدكان أظن أن لو وجدا عنده أكياس سماد يقضيان بها غرضهما لفعلا فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراءً صوريًّا لا حقيقيًّا أقول شراءً صوريًّا لا حقيقيًّا لأنه لم يقصد السلعة من الأصل بل لو وجد أي سلعة يقضي بها غرضه لاشتراها ثم هو لا يقلب السلعة ولا يمحصها ولا يكاسر في الثمن وربما كانت السلعة معيبةً أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأرضة وهو لا يعلم ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها الصوري أيضًا فيعدها وهو بعيد عنها وربما أدرج يده عليها تحقيقًا للقبض كما يقولون ثم يبيعها على المدين بالربح الذي اتفقا عليه ولا أدري هل يتصدى المدين لقبضها ذلك القبض الصوري قبل بيعها على

ص: 537

صاحب الدكان فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 109 من كتاب إبطال التحليل لقد بلغني أن من الباعة من أعد بزًّا لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألف بألف ومائتين ذهب إلى ذلك المحلل فاشترى منه المعطي ذلك البز ثم يعيده للآخذ ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه وقال فيه أيضًا فيا سبحان الله العظيم أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره إلى أن يستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلًا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب وقد ذكر شيخ الإسلام هذه المسألة أيضًا في الفتاوى جمع ابن قاسم ص 441 ج 29 وقال هي من الربا الذي لا ريب فيه مع أنه ذكر في مسألة التورق قولين لأهل العلم هل تجوز أم لا تجوز.

أيها الإخوة المسلمون إن هذه الحيلة الربوية التي شاعت بين الناس تتضمن محاذير، الأول: أنها خداع ومكر وتحيل على محارم الله والحيلة لا تحلل الحرام ولا تسقط الواجب ولقد قال بعض السلف في أهل الحيل يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون.

المحذور الثاني: أنها توجب التمادي في الباطل فإن هذا المتحيل يرى أن عمله صحيح فيتمادى فيه أما من أتى الأمر الصريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع من ذنبه ويتوب إلى ربه.

المحذور الثالث: أن السلعة تباع في محلها بدون قبض ولا نقل وهذا معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع» يعني في المكان الذي اشتريت فيه حتى يحوزها التجار إلى رحالهم رواه أبو داود والدارقطني ويشهد له حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال «كان الناس يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه» رواه البخاري.

وقد يتعلل بعض الناس فيقول إن عد هذه الأكياس قبض لها فنقول إذا قدرنا أنه قبض فهل هو نقل وحيازة والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع حتى تحاز إلى الرحال ثم هل جاء في السنة أن مجرد العد قبض إن القبض هو أن يكون الشيء في قبضتك وذلك بحيازته إلى محلك

ص: 538

بالإضافة إلى عده أو كيله أو وزنه إن كان يحتاج إلى ذلك.

فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واحذروا التحيل على محارمه واعدلوا عن المعاملات الحرام إلى المعاملات الحلال إما بطريق الإحسان إلى المحتاجين بإقراضهم وإما بالسَّلَم الذي تسمونه الكتب تعطونه دراهم بسلعة في ذمته يسلمها لكم وقت حلولها وإما ببيع السلعة التي يحتاجها بعينها إذا كان يحتاج لسلعة معينة كفلاح يحتاج لمكينة وهي عندك فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرًا وكشخص محتاج لسيارة فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرًا.

والمعاملات البديلة عن تلك المعاملة المحرمة كثيرة ومن أراد استيضاحها فليسأل عنها أهل العلم. وفقني الله وإياكم للهدى والتقى والعفاف والغنى وحمانا مما يغضبه إنه جواد كريم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ص: 539